مختصر الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة

ابن القيّم الجوزيّة

مختصر الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: رضوان جامع رضوان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٨٧

المعارضة والامتحان وحينئذ يتبين الصادق من الكاذب. قال تعالى : (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) (العنكبوت : ١ ـ ٣) ، وقال تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (آل عمران : ١٤٢) ، وقال تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا) (البقرة : ٢١٤) ، فالجنة لا ينالها المكلفون إلا بالجهاد والصبر ، فخلق الشياطين وأوليائهم وجندهم من أعظم النعم في حق المؤمنين. فإنهم بسبب وجودهم صاروا مجاهدين في سبيل الله ويحبون لله ويبغضون لله ، يوالون فيه ويعادون فيه ، ولا تكمل نفس العبد ولا يصلح لها الزكاة والفلاح إلا بذلك. وفي التوراة : إن الله تعالى قال لموسى «اذهب إلى فرعون فإني سأقسى قلبه لتظهر آياتى وعجائبي ويتحدث بها جيلا بعد جيل».

وتكذيب المشركين لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وسعيهم) في إبطال دعوته ومحاربته كانت من أعظم النعم عليه وعلى أمته ، وإن كان من أعظم النقم على الكافرين ، فكم حصل في ضمن هذه المعاداة والمحاربة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأصحابه ولأمته من نعمة ، وكم رفعت بها درجة؟ وكم قامت بها لدعوته من حجة وكم أعقب ذلك من نعيم مقيم وسرور دائم ، ولله كم من فرحة وقرة عين في مغايظة العدو وكبته؟ فما طاب العيش إلا بذلك ، فمعظم اللذة في غيظ عدوك ، فمن أعظم نعم الله على عباده المؤمنين أن خلق لهم مثل هذا العدو ، وأن القلوب المشرقة بنور الإيمان والمعرفة لتعلم أن النعمة بخلق هذا العدو ليست بدون النعمة بخلق أسباب اللذة والنعمة ، فليست بأدنى النعمتين عليهم ، وإن كانت مقصودة لغيرها. فإن الّذي يترتب (على ذلك) من الخير المقصود لذاته أنفع وأفضل وأجل من فواته.

فإن قيل : إذا كان خلق إبليس وجنوده من أعظم النعم على المؤمنين ؛ فأى حكمة ومصلحة حصلت لهؤلاء بخلقهم؟ فكيف اقتضت الحكمة أن خلقهم

٣٤١

لضررهم المحض لأجل منفعة أولئك؟ وإذا أثبتم اقتضاء الحكمة لذلك طولبتم بأمر هو أشكل عليكم من هذا ؛ وهو ما جعل من المضار وسيلة إلى حصول غيره إن لم تكن الغاية حاصلة منه ؛ وإلا كان تفويته أولى لما في تفويته من عدم الشر والفساد ، وهذه الوسيلة قد ترتب عليها دخول واحد من الألف إلى الجنة وتسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار. فأين الحكمة والمصلحة التى حصلت للمكلفين في خلق الشياطين؟ فهذان سؤالان فى هذا المقام لا يتم مقصودكم إلا بالجواب عنهما.

قيل : حاصل السؤالين أنه أي مصلحة في خلق الشياطين والكفرة لأنفسهم ، وأن مفسدة من خلقوا لمصلحته بهم أضعاف ما حصل لهم من المصلحة والجواب عنها من عدة مسالك.

المسلك الأول : إنا وإن عللنا أفعال الرب بالحكم فإنا لا نوجب عليه حكمة رعاية المصالح بل نقول : إن له في كل خلقه (من الحكمة ما) تعجز العقول عن الإحاطة بها. وحكمته أعلى وأعظم أن توزن بعقولنا. وقد بينا بعض الحكم في خلقهم وما يترتب عليها مما هو أحب إليه من فواته ، وهذا المحبوب له إن استلزم وجوده مفسدة في حق ذلك المخلوق ، فالحكمة الحاصلة بخلقه أعظم من تلك المفسدة وهذا كما أن المصلحة والمفسدة الحاصلة من ذبح القرابين والهدي والأنساك والضحايا وغيرها أعظم من المفسدة الحاصلة للحيوان بالذبح ، والكفار قرابين أهل الإيمان.

المسلك الثاني : إنا نعلل أفعاله سبحانه بالمصالح ، لكن لا على الوجه الذي سلكه أهل القدر والاعتزال من رعاية المصالح التى اقترحتها عقولهم وحكمت بأنه هو أصلح. وهذا مسلك باطل يقابل في البطلان مسلك خصومهم من الجبرية الذين ينكرون أن يفعل لغاية أو أن يكون لفعله علة البتة. فنقول : نعم في خلقهم أعظم المصالح التى هي فعل من ليس كمثله شيء ، في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله. بل هو منزه عن مشابهة خلقه في شيء من ذلك. ثم لنا في هذا المسلك طريقان : أحدهما أن نقول خلقوا لمصلحتهم ، من معرفته سبحانه

٣٤٢

وعبادته وطاعته ؛ وفطروا على ذلك وهيئوا له ومكنوا منه ، وجعل فيهم الاستعداد والقبول وبهذا قامت حجة الله عليهم وظهر عدله فيهم ، فلما أبوا واستكبروا أن ينقادوا لطاعته وتوحيده ومحبته كانوا هم الظالمين المعتدين المستحقين للعذاب ؛ فجعل تعذيبهم من تمام نعيم أوليائه ، ومصلحة محضة في حقهم ، فإنهم لما فوتوا المصالح التي خلقوا لأجلها واستحقوا عليها العقوبة صارت تلك العقوبة مصالح لأوليائه. وهذا بمنزلة ملك له عبيد ، هيأ كل واحد منهم لخدمته والقرب منه والحظوة بكرامته ، فأبى بعضهم ذلك ولم يرضى به ، فسلط الملك عبيده المطيعين له عليهم ، وقال أبحت لكم دماءهم وأموالهم ونسائهم ومساكنهم شكرا لكم على طاعتى ، وعقوبة لهم على استكبارهم عنها ، وأريتكم عظيم نعمتى عليكم بما أنزلت بهم من نقمتى. فإنكم لو عملتم مثل عملهم جعلتكم بمنزلتهم ، فكلما شاهدوا عقوبتهم ازدادوا محبة ورغبة وذكرا وشكرا للملك واجتهادا في طاعته وبلوغ مرضاته ؛ وتلك العقوبة التي نالتهم إنما هى بسبب أعمالهم ، لم يظلمهم الملك شيئا ، ولله المثل الأعلى والنعمة السابغة والحجة البالغة ، قال الله تعالى : (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ ، وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً) (النساء : ١٤٧).

فتأمل ما تحت هذا الخطاب من العدل واللطف والرحمة ، وأنه سبحانه ليس له غرض في تعذيبكم ، ولا يعذبكم تشفيا ولا لحاجة به إلى ذلك ، ولا هو ممن يعذب سدى باطلا بلا موجب ولا سبب ، ولكن لما تركتم الشكر والإيمان واستبدلتم به الكفر والشرك وجحود حقه عليكم وإنكار كماله ، وأبدلتم نعمته كفرا ؛ أحللتم بأنفسكم جزاء ذلك وعقوبته وسعيتم بجهدكم إلى دار العقوبة ساعين في أسبابها ، بل دعاته ورسله تمسك بأيديكم ، وحجزكم عن الطريق الموصلة إلى محل عذابه ؛ وأنتم تجاذبونهم أشد المجاذبة وتتهافتون فيها. ولم يكفكم ذلك حتى بغيتم طريق رضاه ورحمته عوجا ؛ وصددتهم وعنها ونفرتم عباده عنها بجهدكم ، وآثرتم موالاة عدوه على موالاته وطاعته ، فتحيزتم إلى

٣٤٣

أعدائه متظاهرين عليه ، ساعين في إبطال دعوته الحق ، فما يفعل سبحانه بعذابكم لو لا أنكم أوقعتم أنفسكم فيه بما ارتكبتم.

وهذا المسلك ظاهر المصلحة والحكمة والعدل في حقهم وإن كانوا هم الذين فوتوا على أنفسهم المصلحة ، قال الله تعالى : (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (النحل : ١١٨) ، وهذا الأمر لا بد أن يشهدوه إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور ، ويقروا به ولا يبقى عندهم ريب ولا شك ، وتأمل قوله الحق (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) (التوبة : ٦٧) ، وقوله : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) (الحشر : ١٩) ، كيف عدل فيهم كل العدل بأن نسيهم كما نسوه وأنساهم حظوظ أنفسهم ونعيمها وكمالها ، وأسباب لذاتها وفرحها ، عقوبة لهم على نسيان المحسن إليهم بصنوف النعم ، المتحبب إليهم بآلائه ، فقابلوا ذلك بنسيان ذكره والإعراض عن شكره ، فعدل فيهم بأن أنساهم مصالح أنفسهم فعطلوها ، وليس بعد تعليل مصلحة النفس إلا الوقوع فيما تفسد به وتتألم بفوته غاية الألم.

ونحن فى هذا المسلك في غنية عن أن نقول إن تعذيبهم غير مصلحتهم كما قاله غير واحد من أرباب المقالات ، وكما حكاه عنهم الأشعرى وغيره ، فإن هؤلاء لم يثبتوا وجه المصلحة لهم في تعذيبهم. بل أرسلوا القول بذلك إرسالا ، وكأنهم حاموا حول أمر لم يمكنهم وروده ، وهو أن هؤلاء وإن كانوا به مشركين ولحقه جاحدين ، فإنهم إنما خلقوا على الفطرة السليمة التى هى دين الله ، ولكن عرض لهم ما نقلهم عنها حتى فسدت وبطل حكمها ، وصار الناقل لهم عنها هو الحاكم العامل فيهم. وهذا أمر خارج عن مقتضى الخلقة وأصل الفطرة ، كما أخبر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث الّذي رواه مسلم فى «صحيحه» عن عياض ابن حمار المجاشعى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يرويه عن ربه عزوجل أنه قال : «إني خلقت عبادي حنفاء كلهم ، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم ؛ وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا» (١).

__________________

(١) تقدم تخريجه.

٣٤٤

وفي «الصحيحين» من حديث أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ما من مولود يولد ألا على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه» (١) فأخبر أن أصل ولادتهم ونشأتهم على الفطرة ، وأن التهويد والتنصير والتمجيس طارئ طرأ على الفطرة وعارض عرض لها واقتضى هذا العارض الّذي عرض للفطرة أمورا استلزمت ترتيب آثارها عليها بحسب قوتها وضعفها فالآلام والعقوبات المترتبة على ذلك من جنس الآلام والعقوبات المترتبة على خروج البدن عن صحته ، وهو إنما خلق على الصحة والاعتدال فإذا استمر على ذلك لم يعرض له ألم ، وكذلك القلب فطر على الفطرة الصحيحة ، فلما عرض له الفساد ترتب على ذلك العارض أثره من الآلام والعقوبات ولا ريب أن ذلك العارض ليس في أصل الفطرة بحيث يستحيل زواله ، بل هو ممكن الزوال ، والناس في زواله فحين عاد إلى موجب الفطرة أجاب الداعى من غير توقف ، ومنهم من توقف لقوة العارض فاحتاج مع الدعوة إلى موعظة تتضمن ترهيبه وترغيبه ، ومنهم من غلبت عليه المادة الفاسدة فاحتاج مع ذلك إلى المجادلة. ومنهم من كان العارض أشد من ذلك فعدل معه إلى الجلاد والمحاربة ونوع من العقوبة ، فأزال ذلك تلك المادة وأعاد الفطر إلى صحتها. ومنهم من كان فساد فطرته قد استحكم وتمكن ، فصار له بمنزلة الصفة الثابتة. ولم يكن بد من أن يحتمى عنه ليزول ذلك الخبث ويتخلص منه ، ويعود على ما خلق عليه أولا.

ولهذا لما خرج خبث الموحدين من أهل الكبائر بسرعة تعجل خروجهم من النار وعاد إلى ما خلقوا عليه أولا من كمال النشأة وزوال موجب هذا العذاب ، فلم يبق لهم مصلحة في التعذيب بعد ذلك. وأما المشركون : فلما كان العارض استحكم فيهم وصار كالهيئة والصفة استمروا في النار تحمي عليهم أشد الحمو لقوة ذلك الخبث ولزومه لهم. ومعلوم أنه لو فارقهم في الدنيا وانسلخوا منه لهم

__________________

(١) تقدم تخريجه.

٣٤٥

يعذبوا ؛ فإذا فارقهم في النار وانسلخوا منه زال موجب العذاب ؛ فعمل مقتضى الفطرة عمله ، وأبدلوا ذلك بوجوه ، وهذا أحدها.

الوجه الثاني : أن الله تعالى لم يخلق شيئا يكون شرا محضا من كل وجه ، لا خير فيه بوجه من الوجوه ، فإن هذا ليس في الحكمة بل ذلك لا يكون إلا عدما محضا ، والعدم ليس بشيء والوجود إما خير محض ، وإما أن يكون فيه خير من وجه وشر من وجه ، فأما أن يكون شرا من كل وجه ، فهذا ممتنع ؛ ولكن قد يظهر ما فيه من الشر ويخفي ما في خلقه من الخير. ولهذا قال تعالى للملائكة ؛ وقد سألوا عن خلق هذا القسم فقالوا : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ؟ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) (البقرة : ٣٠).

فإذا كانت الملائكة مع قربهم من الله وعلمهم بأسمائه وصفاته وما يجب له ويمتنع عليه لم يعلموا حكمته سبحانه في خلق من يفسد كما يعلمها الله ، بل هو سبحانه متفرد بالعلم الذي لا يعلمونه ، فالبشر أولى بأن لا يعلموا ذلك ، فالخير كله في يدى الرب والشر ليس إليه ، فلا يدخل في أسمائه ولا في صفاته ولا في أفعاله ، وإن دخل في مفعولاته بالعرض لا بالذات. وبالقصد الثاني لا الأول دخولا إضافيا. وأما الخير فهو داخل في أسمائه وصفاته وأفعاله ومفعولاته بالذات والقصد الأول ، فالشر إنما يضاف له مفعول لا فعله ، وفعله خير محض. وهذا من معانى أسمائه المقدسة ، كالقدوس والسلام والمتكبر ، فالقدوس الّذي تقدس عن كل عيب ، وكذلك السلام ، وكذلك المتكبر ، قال ميمون بن مهران : تكبر عن السوء والسيئات ، فلا يصدر منه إلا الخيرات ، والخيرات كلها منه فهو الذي يأتي بالحسنات ويذهب بالسيئات ، ويصلح الفاسد ولا يفسد الصالح ، بل ما أفسد إلا فاسدا ، وإن كان الظاهر الّذي يبدو للناس صالحا فهو يعلم منه ما لا يعلم عباده.

والمقصود إن هي الإعدام ولوازمها ؛ فالشر ليس إلا الذنوب وموجباتها وسيئات الأعمال وسيئات الجزاء وهى مترتبة على عدم الإيمان والطاعة وموجباتها فإذا أراد

٣٤٦

الله بعبده الخير أراد من نفسه سبحانه أن يوفقه له ويعينه عليه فيوجد منه ؛ فيترتب عليه من الأمور الوجودية ما فيه صلاحه وسعادته ، فإذا لم يرد به خيرا لم يرد من نفسه أن يعينه ويوفقه فيبقى مستمرا على عدم الخير والّذي هو الأصل ، فيترتب على هذا العدم فقد الخير وأسبابه وذلك هو الشر والألم ، فإذا بقيت النفس على عدم كمالها الأصلي وهى متحركة بالذات لم تخلق ساكنة تحركت في أسباب مضارتها وألمها ، فتعاقب بخلق أمور وجودية ، يريد الله سبحانه تكوينها عدلا منه في هذه النفس وعقوبة لها. وذلك خير من جهة كونه وعدلا وحكمة وعبرة ، وإن كان بالإضافة إلى المعذب والمعاقب فلم يخلق الله سبحانه شرا مطلقا بل الذي خلقه من ذلك خير في نفسه وحكمة وعدلا. وهو شر نسبى إضافى في حق من أصابه ، كما إذا أنزل المطر والثلج والرياح وأطلع الشمس كانت هذه خيرات في نفسها وحكم ومصالح وإن كانت شرا نسبيا إضافيا في حق من تضرر بها.

وبالجملة فالكلمة الجامعة لهذا هى الكلمة التي أثنى بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ربه حيث يقول : «والشر ليس إليك» فالشر لا يضاف إلى من الخير بيديه ، وإنما ينسب إلى المخلوق كقوله تعالى : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) (الفلق : ١ ، ٢) فأمره أن يستعيذ به من الشر الّذي في المخلوق ، فهو الذي يعيذ منه وينجى منه وإذا أخلى العبد قلبه من محبته والإنابة إليه وطلب مرضاته ، وأخلى لسانه من ذكره والثناء عليه ، وجوارحه من شكره وطاعته فلم يرد من نفسه ذلك ونسى ربه ، لم يرد الله سبحانه ان يعيذه من ذلك ، ونسيه كما نسيه وقطع الإمداد الواصل إليه منه كما قطع العبد العبودية والشكر والتقوى التي تناله من عباده قال تعالى (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) (الحج : ٣٧) فإذا أمسك العبد عما ينال ربه منه أمسك الرب عما ينال العبد من توفيقه. وقد صرح سبحانه بهذا المعنى بعينه في قوله تعالى : (وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (الأنعام : ١١٠) أي نخلي بينهم وبين نفوسهم التي ليس لهم منها إلا الظلم والجهل. وقال تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ

٣٤٧

فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) (الحشر : ١٩) ، قال تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) (المائدة : ٤١) فعدم إرادته تطهيرهم وتخليته بينهم وبين نفوسهم أوجب لهم من الشر ما أوجبه ، فالذى إلى الرب وبيديه ومنه هو الخير ، والشر كان منهم مصدره وإليهم كان منتهاه ؛ فمنهم ابتدأت أسبابه بخذلان الله تعالى لهم تارة وبعقوبته لهم به تارة ؛ وإليهم انتهت غايته ووقوعه ، فتأمل هذا الموضع كما ينبغى ، فإنه يحل عنك إشكالات حار فيها أكثر الناس ولم يهتدوا إلى الجمع بين الملك والحمد والعدل والحكمة.

* * *

المسلك الثالث : مسلك الرحمة فإنها هى المسئولية الشاملة العامة للموجودات كلها وبها قامت الموجودات ، فهي التي وسعت كل شيء والرب وسع كل شيء رحمة وعلما فوصلت رحمته إلى حيث وصل علمه ، فليس موجود سوى الله تعالى إلا وقد وسعته رحمته وشملته وناله منها حظ ونصيب. ولكن المؤمنون اكتسبوا أسبابا استوجبوا بها تكميل الرحمة ودوامها ، والكفار اكتسبوا أسبابا استوجبوا بها صرف الرحمة إلى غيرهم ، فأسباب الرحمة متصلة دائمة لا انقطاع لها لأنها من صفة الرحمة ، والأسباب التي عارضتها مضمحلة زائلة لأنها عارضة على أسباب الرحمة طارئة عليها ، وإذا كان كل مخلوق قد انتهت إليه الرحمة ووسعته فلا بد أن يظهر أثرها فيه آخرا كما ظهر أثرها فيه أولا. فإن أثر الرحمة ظهر فيه أول النشأة ثم اكتسب ما يقتضي آثار الغضب ، فإذا ترتب على الغضب أثره عادت الرحمة فاقتضت أثرها آخرها كما اقتضته أولا لزوال المانع وحصول المقتضي في الموضعين.

ومما يوضح هذا المعنى أن الجنة مقتضى رحمته ومغفرته ، والنار من عذابه ، وهو مخلوق منفصل عنه ، ولهذا قال تعالى (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) (الحجر : ٣٩ ، ١٨٧) ، وقال : (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (المائدة : ٩٨) ، قال تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (الأعراف : ١٨٧).

٣٤٨

فالنعم موجب أسمائه وصفاته ، وأما العذاب فإنه من مخلوقاته المقصودة لغيرها بالقصد الثاني ، فهو سبحانه إذا ذكر الرحمة والإحسان والعفو نسبه إلى ذاته ، وأخبر أنه من صفاته. وإذا ذكر العقاب نسبه إلى أفعاله ولم يتصف به. فرحمته من لوازم ذاته ، وليس غضبه وعقابه من لوازم ذاته ، فهو سبحانه لا يكون إلا رحيما ، كما أنه لا يكون إلا حيا ، عليما قديرا سميعا ؛ وأما كونه لا يكون إلا غضبانا معذبا ، فليس ذلك من كماله المقدس ؛ ولا هو مما أثنى به على نفسه وتمدح به.

يوضح هذا المعنى أنه كتب على نفسه الرحمة ، ولم يكتب عليها الغضب وسبقت رحمته غضبه وغلبته ، ولم يسبقها الغضب ولا غلبها ، ووسعت رحمته كل شيء ، ولم يسع غضبه وعقابه كل شيء ، وخلق الخلق ليرحمهم لا ليعاقبهم ، والعفو أحب إليه من الانتقام ، والفضل أحب إليه من العدل ، والرحمة آثر عنده من العقوبة ، لهذا لا يخلد في النار من في قلبه أدني مثقال ذرة من خير ، وجعل جانب الفضل الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة وجانب العدل : السيئة فيه بمثلها وهي معرضة للزوال بأيسر شيء ، وكل هذا ينفي أن يخلق خلقا لمجرد عذابه السرمدي الذي لا انتهاء له ولا انقضاء ؛ لا لحكمة مطلوبة إلا لمجرد التعذيب والألم الزائد على الحد فما قدر الله حق قدره من نسب إليه ذلك ، بخلاف ما إذا خلقهم ليرحمهم ويحسن إليهم وينعم عليهم ، فاكتسبوا ما أغضبه وأسخطه فأصابهم من عذابه وعقوبته بحسب ذلك العارض الذي اكتسبوا ثم اضمحل سبب العقوبة وزال وعاد مقتضى الرحمة. فهذا هو الذي يليق برحمة أرحم الراحمين وحكمة أحكم الحاكمين.

ومما يبين هذا أن الجنة لا يدخلها من لم يعمل خيرا قط ؛ ويدخلها من ينشئه الله تعالى فيها ؛ ويدخلها من دخل النار أولا ويدخلها الأبناء بعمل الآباء ، وأما النار فذلك كله منتف فيها ، ولا يدخلها من لم يعمل شرا قط ، ولا يثنى الله تعالى فيها خلقا يعذبهم من غير جرم ، ولا يدخلها من يدخل الجنة أولا ولا يدخلها الذرية بكفر الآباء وعملهم ، وهذا يدل على أنها خلقت لمصلحة من

٣٤٩

دخلها الذيب (١) فضلاته وأوساخه وأدرانه ، وتطهره من خبثة ونجاسته ؛ كالكير الذي يخرج خبث الجواهر المنتفع بها ، ولمصلحة من يدخلها ليردعه ذكرها والخبر عنها عن ظلمه وغيه ، فليست الداران عند الله سواء في الأسباب والغايات والحكم والمصالح.

يوضح ذلك أن الله تعالى لا يعذب أحدا إلا لحكمة ، ولا يضع عذابه إلا في المحل الذي يليق به ، كما اقتضى شرعه العقوبات الدنيوية بالحدود التى أمر بإقامتها لما فيها من المصالح والحكم في حق صاحبها وغيره ، وكذلك ما يقدره من المصائب والآلام ؛ فيها من الحكم ما لا يحصيه إلا الله ، من تزكية النفوس وتطهيرها ، والردع والزجر ، وتعريف قدر العاقبة ، وامتحان الخلق ، ليظهر من يعبده على السراء والضراء ممن يعبده على حرف إلى أضعاف ذلك من الحكم وكيف يخلو أعظم العقوبات عن حكمة ومصلحة ورحمة ، إن مصدرها عن تقدير أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين والجنة طيبة لا يدخلها إلا طيب. ولهذا يدخل النار من أهل التوحيد من فيه خبث وشر حتى يتطهر فيها ويطيب ، ومن كان فيه دون ذلك حبس على قنطرة بين الجنة والنار ؛ حتى إذا هذب ونقى أذن له بالدخول ، ومعلوم أن النفوس الشريرة الظالمة المظلمة الأثيمة لا تصلح لتلك الدار التي هي دار الطيبين. ولو ردت إلى الدنيا قبل العذاب لعادت لما نهيت عنه فلا تصلح لدار السلام التى سلمت من كل عيب وآفة ، فاقتضت الحكمة تعذيب هذه النفوس عذابا يطهر نفوسهم من ذلك الشر والخبث ؛ ويكون مصلحة لهم ، ورحمة بهم ذلك العذاب وهذا معقول في الحكمة. أما خلق النفوس لمجرد العذاب السرمدي لا لحكمة ولا لمصلحة فتأباه حكمة أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين.

__________________

(١) كذا بالأصل ولعل الألف زائدة فتكون الجملة : لذيب فضلاته وأوساخه ... الخ ، ذاب : الشحم والثلج ونحوها ـ ذوبا ، وذوبانا : سال عن جمود ، وأذاب الشيء جعله يذوب (الوجيز) بتصرف.

٣٥٠

(من دخل الجنة لا يخرج منها بعكس النار)

يوضحه : أن الله تعالى قيد دار العذاب ووقتها بما لم يقيد به دار النعيم وبوقتها ؛ فقال تعالى في دار العذاب : (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) (النبأ : ٢٣) وقال : (النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام : ١٢٨) ، فقيدها بالمشيئة وأخبر أن ذلك صادر عن حكمته وعلمه وقال تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ ، إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) (هود : ١٠٦ ـ ١٠٧) وأما الجنة فأنه أخبر ببقاء نعيهما ودوامه وأنه لا نفاد له ولا انقطاع ؛ فقال : (أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها) (الرعد : ٣٥) ، وقال : (إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ) (ص : ٥٤) ، وأما النار فغاية ما أخبر به عنها أن أهلها لا يخرجون منها ، وأنهم خالدين فيها ما هم منها بمخرجين ، وهذا مجمع عليه بين أئمة الإسلام ، وهو معلوم بالضرورة أن الرسول جاء به ، ولكن الكلام في مقام آخر أن النار أبدية لا تفنى أصلا ، كما أن الجنة كذلك ؛ فهذا الذي تكلم فيه الصحابة والتابعون ومن بعدهم.

قال حرب في «مسائله» : سألت إسحاق عن قول الله تعالى : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) قال : أتت هذه الآية على كل وعيد في القرآن. قال إسحاق : حدثنا عبد الله بن معاذ حدثنا معتمر بن سليمان قال : قال أبي : حدثني أبو نضرة عن جابر وأبي سعيد أو بعض أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : هذه الآية تأتي على القرآن كله (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) (هود : ١٧٠) قال المعتمر قال أبى : كل وعيد في القرآن. وقال ابن جرير في «تفسيره» : حدثنا الحسن بن يحيى حدثنا عبد الرزاق حدثنا ابن التميمي عن أبيه عن أبي نضرة عن جابر وأبي سعيد. وعن رجل من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله تعالى : (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) قال : هذه الآية تأتي على القرآن كله حيث يقول في القرآن (خالِدِينَ فِيها) تأتى عليه.

٣٥١

قال ابن جرير حدثت عن ابن المسيب عمن ذكره عن ابن عباس قال : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) قال : أمر النار تأكلهم ، قال : وقال ابن مسعود : «ليأتين على جهنم زمان تخفق أبوابها ، ليس فيها أحد ، وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقابا».

وقال أحمد : حدثنا ابن حميد حدثنا جرير عن إسحاق عن الشعبي قال : جهنم أسرع الدارين عمرانا وأسرعها خرابا. وقال حرب عن إسحاق بن راهويه : حدثنا عبد الله بن معاذ حدثنا أبى ، حدثنا شعبة عن أبي بلج : سمع عمرو بن ميمون يحدث عن عبد الله بن عمرو قال : «ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد ، وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقابا» ، وقال إسحاق : حدثنا عبيد الله بن معاذ ؛ حدثنا أبي ؛ حدثنا شعبة عن يحيى بن أيوب عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال : «ما أنا بالذى أقول إنه سيأتى على جهنم يوم لا يبقى فيها أحد وقرأ : (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ).

* * *

فصل

ومن عدله سبحانه أنه لا يزيد أحدا في العذاب على القدر الّذي يستحقه ، وهذا يشهده أهل النار في النار ؛ ومدة الكفر والشرك منقطعة ، فكيف يكون العذاب على المنقطع سرمدا أبدا الآبدين لا انقطاع له البتة؟ بخلاف النعمة ، فإنه محض فضله ؛ فدوامه لا ينافي الحكمة.

فإن قيل : لما كان من نيته أن يستمر على الشرك والكفر ، ولو عاش أبدا كان عقابه موافقا لهذه النية والإصرار ، فالجواب : إن العقوبة الدائمة إما أن تكون مصالحة للمعاقب ؛ أو للمعاقب أو لهما ، أو غيرهما ، أو لا مصلحة فيها البتة. والأقسام كلها باطلة. أما المعاقب فإنه إنما تكون العقوبة مصلحة في حقه إذا كان محتاجا إليها لشفاء غيظه وإطفاء نار غضبه التي يتأذى ببقائها. والله تعالى منزه

٣٥٢

عن ذلك كله ؛ فلم يبلغ العباد ضره فيضروه ، ولا نفعه فينفعوه ، ولو أن أول خلقه وآخرهم ، وإنسهم وجنهم ، كانوا على أفجر قلب رجل منهم ما ضره ذلك شيئا ولا نقصه من ملكه شيئا (١). وأما أنه لا مصلحة للمعاقب ولا لغيره في ذلك فظاهر. فتعين القسم الأخير وهو أنه مصلحة فيها ، ودون ذلك فهو عبث يتعالى الله عنه ، سبحانه أن يخلق باطلا أو سدى أو عبثا أو خاليا عن مصلحة وحكمة ؛ وهذا بخلاف ما إذا قيل : وضعت العقوبة لمصلحة ، وتقدرت بقدرها ، فإذا حصلت الحكمة والغاية المطلوبة منها وترتب المصلحة التى قصدت بها عاد الأمر إلى الرحمة والجود.

ثم إن هذه النفوس الظالمة الكافرة لها بداية وتوسط ونهاية فهي في بدايتها قابلة للحق والعدل ، ولهذا لم يعذبها الله في هذه الحال وإن علم منها أنها إنما تختار الكفر ، وأما في حال توسطها من حيث عقلت وقامت عليها الحجة فإنها استحقت العذاب حينئذ لأن العقوبة مع الجناية ؛ فاقتضت الحكمة تأخيرها إلى دار الجزاء لعلها أن تراجع الحق فضرب لها مدة الحياة أجلا وأمدا تتمكن فيه الرجوع إلى الحق واستدراك الفارض فلما لم تفعل ذلك ختم عليها العقوبة ،

__________________

(١) روى مسلم فى «صحيحه» عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال : «يا عبادى أني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ، يا عبادى كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم ، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعمونى أطعمكم ، يا عبادى كلكم عار إلا من كسوته فاستكسونى أكسكم ، يا عبادى انكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم ، يا عبادى انكم لن تبلغوا ضرى فتضرونى ولن تبلغوا نفعى فتنفعونى.

يا عبادى لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكى شيئا ، يا عبادى لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكى شيئا ، يا عبادى لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندى إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر ، يا عبادى إنما هى أعمالكم أحصيها لكم ، ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.

٣٥٣

ومعلوم أنها إنما استمرت في مدة الحياة على غيها وكفرها لقيام الأسباب التي زينت لها ذلك لو لا تلك الأسباب لآثرت رشدها فإنه مقتضى فطرتها ، ولا ريب أن تلك الأسباب تبطل وتضمحل في الآخرة ولا سيما في دار العذاب ، بل إنما وضعت تلك الدار لإزالة تلك الشرور وكيف تدوم تلك الأسباب وقد ذاقوا عقوبتها وألمها الشديد ، وتيقنوا أنها كانت أضر شيء عليهم وندموا عليها أعظم الندم ، وليس في الطبيعة الإنسانية الإصرار على تلك الأسباب وإيثارها بعد طول التألم الشديد بها ؛ نعم العذاب باق ما بقيت فإذا قدر زوالها وتبدلها وإقرار أصحابها على أنفسهم أنهم كانوا ظالمين وأن الله تعالى إنما عذبهم بعدله ، وشهدوا على أنفسهم أنهم لا يصلح لهم غير ما هم فيه من العقوبة وأن حمده سبحانه أنزلهم تلك الدار ؛ فقام بقلوبهم حمده وشكره والثناء عليه بموجب أسمائه وصفاته التي كانت في فطرهم أولا وحمدوه حمد محب معترف بالجناية وآثروا رضاه على كل شيء فلو قام هذا بقلوبهم حقيقة وعلمه الله منهم لصارت النار بردا وسلاما عليهم ، كما في الأثر المرفوع الّذي ذكره ابن أبي الدنيا في كتاب «حسن الظن بالله» : «أن رجلين ممن دخلا النار اشتد صياحهما. فقال تعالى : اخرجوهما فأخرجا ؛ فقال : لأى شيء اشتد صياحكما؟ قالا : فعلنا ذلك لترحمنا. فقال رحمتى بكما أن تنطلقا فتلقيا أنفسكما حيث كنتما من النار. قال : فينطلقان فيلقى أحدهما نفسه فيه فيجعلها الله بردا وسلاما عليه ، ويقوم الآخر فلا يلقى نفسه فيقول له الرب : ما منعك أن تلقى نفسك كما ألقى صاحبك؟ فيقول : رب إن أرجو ألا تعيدني فيها بعد ما أخرجتني. فيقول الرب : لك رجاؤك. فيدخلان جميعا الجنة» (١) وذكر ابن أبي الدنيا أيضا حديثا آخر مرفوعا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يؤمر بإخراج رجلين من النار ، فإذا أخرجا وقفا. قال الله لهما : كيف وجدتما من مقيلكما وسوء مصيركما؟ فيقولان شر مقيل وأسوأ

__________________

(١) [ضعيف] وأخرجه الترمذي (٢٥٩٩) ، وابن أبي الدنيا في «حسن الظن بالله» وقال الترمذي : إسناد هذا الحديث ضعيف ، لأنه عن رشدين بن سعد ورشدين بن سعد هو ضعيف عند أهل الحديث عن ابن أنعم وهو الإفريقى ، والإفريقى : ضعيف عند أهل الحديث ا ه وضعفه الألباني في «ضعيف الترمذي».

٣٥٤

مصير سار إليه العباد. فيقول لهما : بما قدمت أيديكم وما أنا بظلام للعبيد ، قال فيأمر بصرفهما إلى النار ؛ قال : فأما أحدهما فيعدو في أغلاله وسلاسله حتى يقتحمها وأما الآخر فتلكأ فيؤمر بردهما ، فيقول للذي عدا في أغلاله وسلاسله حتى اقتحمها : ما حملك على ما صنعت وقد خبرتها؟ فيقول إني (قد) خبرت من وبال المعصية ما لم أكن لأتعرض لسخطك ثانية ، فيقول الله للثاني : ما حملك على ما صنعت؟ قال : حسن ظني بك حين أخرجتني ألا تردني إليها ، فرحمهما‌الله تعالى وأمر بهما إلى الجنة» وفي رواية «إنه يقول للأول : لو حذرتني مثل حذرك في الآخرة لم أدخلك النار ، ويقول للآخر : لو أحسنت ظنك بي في الدنيا مثل حسن ظنك بي اليوم ما أدخلتك الجنة» (١).

وفي «المسند» وغيره من حديث الذين يدلون على الله بالحجة يوم القيامة : المعتوه ، والأصم والمتوفى في الفترة. وأن الله تعالى يؤجج لهم نارا ويقول : اقتحموها ، فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما ، ومن امتنع جر إليها (٢).

فهؤلاء لما آثروا مرضاته بالعذاب على مرضاة أنفسهم وقام بقلوبهم أن رضاه في تعذيبهم أحب إليه من رضاهم في خلافه استحالت النار في حقهم وانقلبت بردا وسلاما وهذا أمر مشاهد في الواقع بين الناس ، وهو في اقتضاء التوبة بدفعها فإن المذنب لو بلغت ذنوبه عنان السماء إذا ألقي نفسه بفناء من أساء إليه ، وتوسد عتبة بابه ؛ فوضع خده عليها ، مستسلما مسلما نفسه إليه ليقضى فيها ما أراد ، راضيا بما يقضيه فيه ، حامدا له عليه ، عالما أن الحق له ، وقد سلم إليه محل الحق يستوفيه منه فإنه متى فعل ذلك أذهب ما في قلب من أساء إليه من الحنق والغيظ ، وعاد مكان الغضب عليه رقة ورحمة ، هذا مع حاجته وبلوغ آذاه ووصوله إليه وقلة صبره وضعف احتماله فكيف بالغني الحميد الذي لن يبلغ العباد ضره ولا نفعه ، فلا تزيد عقوبتهم في ملكه شيئا وهو أرحم الراحمين.

__________________

(١) [ضعيف الإسناد] رواه ابن أبي الدنيا في «حسن الظن بالله» وإسناده منقطع وفيه ضعيف.

(٢) [صحيح الإسناد] أخرجه الإمام أحمد (٤ / ٢٤) ، وابن حبان (٧٣١٣ ـ إحسان) ، والبيهقى في «الاعتقاد» وقال : إسناده صحيح ا ه أفاده ابن كثير في «تفسيره» (٣ / ٣١).

٣٥٥

فهذا القدر من وجده في قلبه في الدنيا لم يدخل دار الشقاء إلا تحلة القسم ، ومن لم يظهر له هذا في الدنيا فإنه سيعلمه في الآخرة كما قال تعالى : (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ) (الملك : ١١) ، وقال : (فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ) (القصص : ٧٥) ، وقال تعالى : (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) (غافر : ١١) فلا شيء أنفع لهم في عذابه من حمده والثناء عليه ، ومحبته على كمال عدله فيهم ، وقولهم : إن كان هذا رضاك فلا نطلب غيره ، ويشتد غضبهم على نفوسهم ، ومقتهم لها ، موافقة لغضب ربهم ومولاهم ، ولكن هذا القدر لا تسمح به النفوس اللئيمة الجاهلة الظالمة اختيارا فإذا عوقبت بما تستحق وبلغ منها العذاب مبلغه وكسرها وأذلها ، فإن أراد بها خيرا أشهدها ذلك وجعله حاضرا عندها ، فالرحمة حينئذ أدنى إليها من العقوبة ، والعفو أقرب إليها من الانتقام ، فإذا أراد بها بارئها وفاطرها أن يرحمها ألهمها ذلك فانتقلت به من حال إلى حال فإن شاء أنشأها بعد ذلك نشأة أخرى ؛ وطبعها على غير طبيعتها الأولى ، فهو على كل شيء قدير ؛ وهو الحكيم العليم ؛ فلا يظن به من ساء فهمه أن هذا يناقض ما أخبر الله ورسوله به ، واتفق عليه سلف الأمة أنهم مخلدون في النار ؛ وما هم منها بمخرجين : وكلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها ، فمن رد كذلك وكذبه فهو كافر جاحد لما علم بالاضطرار أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبر به ؛ فليس في هذا نظر ولا شك ، وإنما الشأن في كون النار أبدية كالجنة لا تفنى أبدا وإلا فمتى دامت نارا فهم فيها خالدون.

* * *

فصل

ولنرجع إلى المقصود ، وهو أن الذين قالوا : عذب الكفار مصلحة لهم ورحمة لهم حاموا حول هذا المعنى ، ولم يقتحموا لجته ، وإلا فأى مصلحة لهم في عذاب لا ينقطع ، وهو دائم بدون الرب تعالى ، فتأمل هذا الوجه حق التأمل واعطه حقه من النظر ، واجمع بين ذلك وبين معانى أسمائه وصفاته ؛ وما

٣٥٦

دل عليه كلام الله وكلام رسوله ؛ وما قاله الصحابة ومن بعدهم ، ولا تبادر إلى القول بلا علم ولا إلى الإنكار ؛ فإن أسفر لك صبح الصواب ؛ وإلا فرد الحكم إلى ما رده الله إليه بقول : (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) (هود : ١٠٧) وتمسك بقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وقد ذكر دخول أهل الجنة وأهل النار النار ، وصف حالهم ثم قال «ويفعل الله بعد ذلك ما يشاء».

الوجه الرابع : إن الذي يخلقه الله سبحانه ويقدره من الأمور نوعان : غايات ووسائل وقد اقتضت حكمته أن الوسائل تضمحل وتبطل إذا حصلت غايتها كما يبطل السفر عند بلوغ المنزل ، ويزول الأكل والشرب عند حصول الشبع والري ، والخيرات والمنافع هي الغايات المقصودة لنفسها ، والشرور والآلام إنما تقصد قصد الوسائل ؛ لإفضائها إلى الخيرات والمنافع. وما كان مقصودا لنفسه فإن بقاءه ودوامه هو مقتضى الحكمة ، وأما إذا كان مقصودا لغيره ؛ فإذا حصل ذلك المقصود به لم يكن في دوامه وبقائه حكمة ولا مصلحة ، والله تعالى خلق النار سوطا يسوق بها عباده إلى رحمته وجنته ، ويخوفهم بها من معصيته ويطهر بها من اكتسب من عباده خبثا ونجاسة ، ولا يصلح إلا بها لمساكنته في جنته وعقوبته يعاقب بها أعداءه على مقادير جرائمهم ، وهذه كلها أمور مقصودة لغيرها مفضية إلى مصالح مقصودة لنفسها.

يوضحه الوجه الخامس : أن الله سبحانه جعل الشدائد والآلام والشرور في هذه الدار بتراء لا دوام لها جعل الشدة بين فرجين : فرج قبلها وفرج بعدها ، والعسر بين يسرين ، والبلاء بين عافيتين ، فليس عنده شدة دائمة ولا بلاء دائم ولا كرب دائم في هذه الدار التي هي دار ظلم وبلاء وخيراتها ممزوجة بشرورها ، وذلك أن الآلام والشدائد شرور ، والشرور ليس إلى الله بخلاف الخيرات والنعم ، فإنها من مقتضى صفاته ، فهى دائمة بدوامه ومعلوم أن الدار التي هي حق من كل وجه أولى أن يكون الدوام لخيراتها ولذاتها ومسراتها ، وأن تكون شرورها إلى اضمحلال وزوال.

٣٥٧

ويوضحه الوجه السادس : أن القضاء الإلهي خير كله ، فإن مصدره علم الله وحكمته وكماله المقدس ، فهو خير كله ومصلحة وحكمة وعدل ورحمة ، ودخول الشر فيه بالعرض لا بالذات كالشر العارض في الحر والبرد والمطر ، والأكل والشرب والأعمال النافعة ، وأما العرض لا يقصد لذاته فلا يجب دوامه كدوام ما يقصد لذاته من الخيرات والمنافع.

* * *

الوجه السابع : إنك إذا اعتبرت هذه الآلام والشدائد ، والنعمة والرحمة حشوها فظاهرها نقمة وباطنها نعمة فكم نقمة جلبت نعمة ، وكم من بلاء جلب عافية ، وكم من ذل جلب عزا ، وكسر جلب جبرا ، إذا اعتبرت أكثر الخيرات والمسرات واللذات وجدتها إنما ترتبت على الآلام والمشاق ، وأعظم اللذة وأجلها ما كان سببه أعظمه ألما ومشقة. وهذه مشاهد في هذه الدار بالعيان ، لما كانت أعلى الدرجات درجة أهل الجهاد كان أشق شيء على النفوس وأكرهه إليها. قال الله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ، وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ : وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ ، وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (البقرة : ٢١٦) ولهذا قيل :

وربما كان مكروه النفوس إلى

محبوبها سببا ما مثله سبب

فلا يوصل إلى الراحة واللذة إلا على جسر التعب والألم ، وهذا يريك أن المصائب والآلام حشوها نعم ولذات ومسرات ، وهذا لأن الرحمة لها سبق والغلبة فما في طى النقم والعقوبات من الرحمة أسبق من العقوبة وهى الغاية للغضب ، فلا بد أن يغلب أثرها أثر الغضب. كما غلبت الصفة للصفة.

ويوضحه الوجه الثامن : أن الرحمة سبقت إلى هذا المعاقب وظهر أثرها فيه فوجد بها وعاش وسمع وأبصر بها ، وبطش بها ومشى وتحرك بها ، وإلا لو لا أنها سبقت إليه لم يكن له قيام ولا حياة ، بل إنما استظهر على معاصى الرب ومخالفته بالرحمة التي سبقت إليه ووسعته فغلبت أسبابا هلاكه وتلفه فلما تمكنت

٣٥٨

أسباب التلف والهلاك واقتضت الرحمة أن جعل لها أسبابا في مقابلتها من موجبها ومقتضاها تزيلها ومحو أثرها ليخلص موجب الرحمة فيظهر أثره ، ودوام العذاب بدوام تلك الأسباب فلو زالت لزال العذاب.

يوضحه الوجه التاسع : إن هذه النفوس فيها ما يقتضي الرحمة من إقرارها بفاطرها وربوبيته. وعلمه وقدرته ، وسمعه وبصره ومحبته ، وتعظيمه وإجلاله وسؤاله وفيها ما يقتضي الغضب والعقوبة كالشرك به وإيثار هواها على طاعته ومرضاته ولما كان مقتضى العقوبة فيها أقوى كان الحكم له ، ومعلوم أن العقوبة إن لم تذهب الأسباب المقتضية لها ولم تزلها بالكلية فإنها تخففها وتضعفها. فإما أن تقاوم أسباب وإما أن تترجح عليها وعلى التقديرين يبطل أثرها. قال الله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) (لقمان : ٢٥) وقال تعالى : (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ؟ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) (المؤمنون : ٨٤ ، ٨٥) إلى آخر الآيات فهم يعلمون أن الأرض ومن فيها له وأنه رب السموات والأرض ورب العرش العظيم ، وأن بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه ، وإذا مسهم الضر في البر والبحر تضرعوا إليه وفزعوا إليه وقالوا : إنما نعبد من دونه هذه الآلهة لتقربنا إليه وتشفع لنا عنده وهو يملكها ونواصيها بيده ، ويحبونه ويقصدون التقرب إليه ، وهذا مما وضعه فيهم برحمته ونعمه ، فعلم فيهم ما يقتضي رحمته ونعمته ولكن لمت غلبت أسباب النقمة كان الحكم للغالب ، ذلك لا يمنع اقتضاء المغلوب أثره وترتبه عليه.

وقد ثبت في «الصحيح» إن الله يقول للملائكة : أخرجوا من النار من في قلبه من الخير ما يزن ذرة أو برة (١) وأنها تخرج منها من في قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان» ، فانظر هذا الجزء اللطيف جدا كيف غلب تلك الأسباب الكثيرة القوية وأبطلها وعاد الحكم له. وثبت في «الصحيحين» «أنه يخرج منها من لم يعمل خيرا قط» (٢) ولكن هذا إخراج منها وهى باقية على حقيقتها وناريتها ، فأخرج منها

__________________

(١) أخرجه البخارى (٤٤) وفي عدة أماكن أخرى في «صحيحه» ، ورواه مسلم فى (الإيمان / ٣٢٥).

(٢) رواه البخارى (٣٤٧٨) ، ومسلم (٢٧٦٦).

٣٥٩

بهذا الجزء اليسير. ومعلوم أن أعداءه المشركين لن تخلوا قلوبهم من الإيمان به. قال الله تعالى : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (يوسف : ١٠٦) فأثبت لهم إيمانا مع الشرك ، وهذا الإيمان وإن لم يؤثر في إخراجهم من النار ، كما أثر إيمان أهل التوحيد ، بل كانوا معه خالدين فيها بشركهم وكفرهم فإن النار إنما سعرها عليهم الشرك والظلم فلا يمتنع في الرحمة والحكمة والعدل أن يطفئها ويذهبها بعد أخذ الحق منهم ، فيجتمع ضعف أسباب تسعيرها وقوة أسباب زوالها. فهذا غير ممتنع في الحكمة الإلهية ، ولم يخبر الرسول بامتناعه ، وأنه لا يكون في موضع واحد ، ولا دل على ذلك نقل ولا عقل. بل الّذي دل عليه النقل والإجماع أنهم خالدون فيها أبدا. وأنهم ليسوا بخارجين منها. ولا يموتون فيها ولا يحيون وهذا متفق عليه بين المسلمين. وإنما الشأن في أمر آخر.

والوجه العاشر : أن أسباب العذاب من النفس وغاياتها اتباع أهوائها. وأما أسباب الخير فمن ربها وفاطرها ، وهو الغاية والمقصود بها ، فهى به وله. قال الله تعالى : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ. وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) (النساء : ٧٩) ، فالحسنات مصدرها من الله غايتها منتهية إليه. والسيئات من النفس وهى غايتها. قال الله تعالى : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) (النحل : ٥٣) ، فليس للحسنات سبب إلا مجرد فضل الله ومنته ، والأعمال الصالحة وإن كانت أسباب النعم والخيرات فمن وفقه لها وأعانه عليها وشاءها له سواه؟ فالنعم وأسبابها من الله ؛ وأما السيئات التي أسلفها العبد فمن نفسه ، وسببها جهله وظلمه ؛ فإذا ترتبت عليها سيئات الجزاء كان السبب والمسبب من نفسه ، فليس للجزاء السيئ في الدنيا والآخرة سبب إلا ذنوب العبد التي من نفسه ، فالشر كله من نفسه والخير كله من ربه ، فإن أكثره ليس للعبد فيه مدخل. فإن الله هو الذي أنعم عليه به ، ولهذا قال بعض السلف «لا يرجون عبد إلا ربه ولا يخافن إلا ذنبه» ولهذا قال تعالى : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) (النساء : ٧٩) فخص بالخطاب تنبيها على الأدنى ، ولم يخرجه في صورة العموم لئلا يتوهم متوهم أنه عام

٣٦٠