مختصر الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة

ابن القيّم الجوزيّة

مختصر الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: رضوان جامع رضوان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٨٧

وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً) (الإسراء : ١٢).

واقتضت حكمته سبحانه في تدبيره أن فاوت بين مقادير الليل والنهار ولم يجعلهما دائما على حد سواء ولا أطول مما هما عليه وأقصر ، بل جاء استواؤهما وأخذ أحدهما من الآخر على وفق الحكمة ، حتى أن المكان الّذي يقصر أحدهما فيه جدا لا يتكون فيه حيوان ونبات ، كالمكان الذي لا تطلع عليه الشمس أو لا تغرب عنه ، فلو كان النهار مقدار مائة ساعة أو أكثر أو كان الليل كذلك لتعطلت المصالح التي نظمها الله بهذا المقدار في الليل. ثم تأمل الحكمة في إنارة القمر والكواكب في ظلمة الليل ، فإنه مع الحاجة إلى الظلمة لهدوء الحيوان وبرد الهواء لم تقتض المصلحة أن يكون الليل ظلمة داجية ولا ضياء فيها ، فلا يمكن فيها شيء من العمل ، وربما احتاج الناس إلى العمل بالليل لضيق الوقت عليهم في النهار ولإفراط الحر فيه ، فاحتاجوا إلى العمل في الليل في نور القمر من حرث الأرض وقطع الزرع وغير ذلك ، فجعل ضوء القمر في الليل معونة للناس على هذه الأعمال وجعل في الكواكب جزءا يسيرا من النور ليسد مسد القمر إذا لم يكن ، وجعلت زينة السماء ومعالم يهتدى بها في ظلمات البر والبحر ، ودلالات واضحات على الخلاق العليم ، وغير ذلك من الحكم التي بها انتظام هذا العالم ، وجعلت الشمس على حالة واحدة لا تقبل الزيادة والنقصان لئلا تتعطل الحكم المقصودة منها ، وجعل القمر يقبل الزيادة والنقصان لئلا تتعطل الحكم المقصودة من جعله كذلك ، وإن كان نوره من التبريد والتصلب ما يقابل ما في ضوء الشمس من التسخين والتحليل ، فتنضم المصلحة وتتم الحكمة من هذا في هذا التسخين والتبريد.

ثم تأمل اللطف والحكمة الإلهية في جعل الكواكب السيارات ومنازلها تظهر في بعض السنة وتحتجب في بعضها ، لأنها لو ظهرت دائما أو اختفت دائما

٣٠١

لفاتت الحكمة المطلوبة منها ، كما اقتضت الحكمة أن يظهر بعضها ويحتجب بعضها ، فلا تظهر كلها دفعة واحدة ، ولا تحتجب دفعة واحدة ، بل ينوب ظاهرها عن خفيها في الدلالة ، وجعل بعضها ظاهرا لا يحتجب أصلا بمنزلة الأعلام المنصوبة التي يهتدي بها الناس في الطرق المجهولة في البر والبحر ؛ فهم ينظرون إليها متى أرادوا ويهتدون بها حيث شاءوا.

ثم تأمل حال النجوم واختلاف مسيرها ، ففرقة منها لا تريم مراكزها من الفلك ولا تسير إلا مجتمعة كالجيش الواحد ، وفرقة منها مطلقة تنتقل في البروج وتتفرق في مسيرها ، وكل واحد منها يسير سيرين مختلفين. أحدهما عام مع الفلك نحو المغرب ، والآخر خاص لنفسه نحو المشرق ، وذلك من أعظم الدلالات على الفاعل المختار العليم الحكيم وعلى كمال علمه وحكمته.

وتأمل كيف صار هذا الفلك بشمسه وقمره ونجومه وبروجه يدور على هذا العالم هذا الدوران العظيم السريع المستمر بتقدير محكم لا يزيد ولا ينقص ولا يختل نظامه ، بل هو تقدير العزيز العليم ، كما أشار تعالى إلى أن ذلك التقدير صادر عن كمال عزته وعلمه ، قال تعالى : (فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (الأنعام : ٩٦).

وتأمل الحكمة في تعاقب الحر والبرد على هذا العالم وتعاورهما عليهما في الزيادة والنقصان والاعتدال ، وما فيهما من المصالح والحكم للأبدان والشجر والحيوان والنبات ولو لا تعاقبهما لفسدت الأبدان والأشجار وانتكست.

ثم تأمل دخول أحدهما على الآخر بهذا التدريج والترسل ، فإنك ترى أحدهما ينقص شيئا بعد شيء ، والآخر يزيد مثل ذلك ؛ حتى ينتهي كل واحد منتهاه في الزيادة والنقصان ولو دخل أحدهما على الآخر فجأة لأضر ذلك بالأبدان وأسقمها ؛ كما لو خرج الرجل من مكان شديد الحر إلى مكان مفرط في البرد وهلة ؛ فإن ذلك يضر به جدا ، ولو لا الحر لما نضجت هذه الثمار المرة العفة القاسية ، ولا كانت تلين وتطيب وتحسن وتصلح لأن يتفكه بها الناس رطبة ويابسة.

٣٠٢

وتأمل الحكمة في خلق النار على ما هى عليه ، فإنها لو كانت ظاهرة كالماء والهواء لكانت محرقة للعالم وما فيه ؛ ولو كانت كامنة لا سبيل إلى ظهورها لفاتت المصلحة المطلوبة منها ، فاقتضت الحكمة أن جعلت كامنة قابلة للظهور عند الحاجة إليها ولبطلانها عند الاستغناء عنها ، فجعلت مخزونة في محلها تخرج عند الحاجة وتمسك بالمادة من الحطب وغيره ما احتيج إلى بقائها ، تخبأ إذا استغنى عنها ، وخلقت على وضع وتقدير اجتمع فيه الانتفاع بها والسلامة من ضررها ، قال الله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ ، نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ) (الواقعة : ٧١ ـ ٧٣).

الوجه الخامس : إن الرب سبحانه له الكمال المطلق الذي يستحق عليه الحمد سبحانه ، لا يصدر منه إلا ما يحمد عليه ، وحمد الله على نوعين ، حمدا يستحقه لذاته وصفاته وأسمائه الحسنى ، وحمدا يستحقه على أفعاله التى مدارها على الحكمة والمصلحة والعدل والإحسان والرحمة ؛ فإذا كان محمودا على أفعاله كلها لم يكن فيها مناف للحكمة ؛ إذ لو كان فيها ما هو كذلك لم يكن محمودا عليه ، وهو سبحانه له الملك وله الحمد ، فحمده شامل لما شمله ملكه. ولا يخرج شيء عن حمده كما لا يخرج شيء عن ملكه ؛ يوضحه :

الوجه السادس : إن أدلة حكمته وحمده وأدلة ملكه وقدرته متلازمان لا ينفك أحدها عن الآخر وكل ما دل على عموم قدرته ومشيئته وملكه وتصرفه المطلق ؛ فهو دال على عموم حمده وحكمته. إذ إثبات قدرة وملك بلا حكمة ولا حمد ليس كمالا ؛ وكل ما دل على عموم حكمته وحمده فهو دال على ملكه وقدرته ، فإن الحمد والحكمة إن لم يستلزما كمال القدرة لم يكن فيهما كمال مطلق. وهذا برهان قطعى.

ثم يقال : إن جاز القدح في حكمته وحمده جاز القدح في ملكه وربوبيته بل هو عين القدح في الملك والربوبية. كما أن القدح في ملكه وربوبيته قدح في

٣٠٣

حمده وحكمته. وهذا ظاهر جدا وهذا شأن كل مثلين حين لا ينفك أحدهما عن الآخر.

الوجه السابع : إن هذه الأسئلة لا يتوجه إيرادها على العلم ولا على القدرة. وغاية ما تورد على العدل والحكمة. وأنها كيف تجامع عدله وحكمته فنقول : قد اتفق أهل الأرض والسماوات على أن الله تعالى عدل لا يظلم أحدا ، حتى أعداءه المشركين الجاحدين لصفات كماله ؛ فإنهم مقرون له بالعدل ومنزهون له عن الظلم ، حتى إنهم ليدخلون النار وهم معترفون بعدله كما قال تعالى : (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ) (الملك : ١١) ، وقال تعالى : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا؟ قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا ، وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) (الأنعام : ١٣٠) ، فهو سبحانه قد حرم الظلم على نفسه ؛ وأخبر أنه لا يهلك القرى بظلم وأهلها غافلون فلا يصح إيراد هذه الأسئلة مع اعترافهم بعدله ؛ يوضحه :

(تنزيه الله سبحانه عن الظلم في قضاءه)

الوجه الثامن : إن طرق الناس اختلفت في حقيقة الظلم الذي ينزه عنه الرب سبحانه وتعالى ؛ فقالت الجبرية هو المحال الممتنع لذاته ، كالجمع بين الضدين ، وكون الشيء موجودا معدوما. قالوا لأن الظلم إما التصرف في ملك الغير بغير إذنه ، وإما مخالفة الأمر ؛ وكلاهما في حق الله تعالى محال ، فإن الله مالك كل شيء ، وليس فوقه آمر تجب طاعته ، قالوا : وأما تصور وجوده وقدر وجوده فهو عدل كائنا ما كان ، وهذا قول جهم ومن اتبعه ، وهو قول كثير من الفقهاء أصحاب الأئمة والأربعة وغيرهم من المتكلمين.

وقالت القدرية : الظلم إضرار غير مستحق ، أو عقوبة العبد على ما ليس من فعله ، أو عقوبته على ما هو مفعول منه ونحو ذلك. قالوا فلو كان سبحانه

٣٠٤

خالقا لأفعال العبيد مريدا لها قد شاءها وقدرها عليهم ، ثم عاقبهم عليها كان ظالما ، ولا يمكن إثبات كونه سبحانه عدلا لا يظلم إلا بالقول فإنه لم يرد وجود الكفر والفسوق والعصيان ، ولا شاءها بل العباد فعلوا ذلك بغير مشيئته وإرادته ، كما فعلوه بغير إذنه وأمره ، وهو سبحانه لم يخلق شيئا من أفعال العباد لا خيرها ولا شرها ، بل هم أحدثوا أعمالهم بأنفسهم ولذلك استحقوا العقوبة عليها ، فإذا عاقبهم لم يكن ظالما لهم ، وعندهم أنه يكون ما لا يشاء ويشاء ما لا يكون فإن المشيئة عندهم بمعنى الأمر ، وهاتان الطائفتان متقابلتان غاية التقابل ، وكل منها تذم الأخرى ، وقد تكفرها وتسميها قدرية.

وقال أهل السنة والحديث ومن وافقهم : الظلم وضع الشيء في غير موضعه وهو سبحانه حكم عدل ، لا يضع الشيء إلا في موضعه الذي يناسبه ويقتضيه العدل والحكمة والمصلحة وهو سبحانه لا يفرق بين متماثلين ولا يساوى بين مختلفين ، ولا يعاقب إلا من يستحق العقوبة ، ويضعها موضعها في ذلك من الحكمة ، ولا يعاقب أهل البر والتقوى ، وهذا قول أهل اللغة قاطبة ، وتفسير الظلم بذينك التفسيرين اصطلاح حادث ووضع جديد.

وقال ابن الأنباري : الظلم وضع الشيء في غير موضعه ، يقال ظلم الرجل سقاءه إذا سقى منه قبل أن يخرج منه زبده. وقال الشاعر :

وصاحب صدق لم ينلني شكاية

ظلمت وفي ظلمتي له عامدا أجر

أراد بالصاحب : وطب اللبن ، وظلمه إياه أن يستقيه قبل أن يخرج زبده ، قال والعرب تقول : هو أظلم من حية ؛ لأنها تأتي الحفر الذي لم تحفره فتسكنه ، ويقال : قد ظلم الماء الوادي ، إذا وصل منه إلى مكان لم يكن يصل إليه فيما مضى ، وقال الحسن بن مسعود والفراء : أصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه. قال ومنه قولهم : من أشبه أباه فما ظلم. وقوله : من استرعى الذئب فقد ظلم. يعنون من أشبه أباه فما وضع لشبه في غير موضعه. وهذا القول هو الصواب المعروف في لغة العرب والقرآن والسنة. وإنما تحمل ألفاظهما على لغة القوم لا على الاصطلاحات الحادثة. فإن هذا أصل كل فسا وتحريف

٣٠٥

وبدعة. وهذا شأن أهل البدع دائما يصطلحون على معان يضعون لها ألفاظا من ألفاظ العرب ثم يحملون ألفاظ القرآن والسنة على تلك الاصطلاحات الحادثة (١).

فأما الجبرية فعندهم : لا حقيقة للظلم الذي نزه الرب نفسه عنه البتة. بل هو المجال لذاته الذي لا يتصور وجوده. وكل ممكن عندهم فليس بظلم حتى إنه لو عذب رسله وأنبياءه وأولياءه أبد الآبدين. وأبطل جميع حسناتهم وحملهم أوزار غيرهم وعاقبهم عليها. وأثاب أولئك على طاعات غيرهم وحرم ثوابها فاعلها. لكان ذلك عدلا محضا. فإن الظلم من الأمور الممتنعة لذاتها في حقه وهو غير مقدور له. بل هو كقلب المحدث قديما والقديم محدثا ، واحتج هؤلاء بأن الظلم التصرف في غير الملك أو مخالفة الآمر قالوا : ويدل على هذا الحديث الّذي رواه الإمام أحمد في «مسنده» عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما أصاب العبد قط هم ولا حزن فقال : اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ، ناصيتي بيدك ، ماض في حكمك عدل في قضاؤك ، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي وغمي إلا أذهب الله همه وغمه وأبدله مكانا. فرحا ، قالوا يا رسول الله أفلا نتعلمهن؟ قال بلى : ينبغى لمن سمعهن أن يتعلمهن» (٢) فأخبر أن جميع أقضيته في عبده عدل منه ، وهذا يعم قضاء المصائب وقضاء المعايب وقضاء العقوبات على الجرائم ، ولهذا قال العارفون بالله «كل نعمة منه فضل ، وكل نقمة منه عدل».

وقال عمران بن حصين لأبي الأسود الدؤلي : «أرأيت ما يكدح الناس اليوم

__________________

(١) راجع في تعريف الإلحاد هامش ص (١٨٥).

(٢) تقدم تخريجه وهو صحيح.

٣٠٦

ويعلمون فيه؟ أشيء قضى عليهم ، ومضى من قدر قد سبق ؛ أو فيما يستقبلون فيما أتاهم به نبيهم فأخذت عليهم به الحجة؟ قال : فهلا يكون ذلك ظلما؟ قال : ففزعت من ذلك فزعا شديدا ، وقلت إنه ليس شيء إلا وهو خلق لله وملك يده ، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون. فقال : سددك الله ؛ إني والله ما سألتك إلا لأحرز عقلك» (١) قالوا : ويكفي في هذا قوله تعالى : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) (الأنبياء : ٢٣) وقالوا ونحن نرى في الشاهد أن السيد إذا أمكن عبيده من الفساد وهو قادر على منعهم وكفهم عن ذلك فلم يفعل ، بل خلى بينهم وبين ذلك ومكنهم منه وأعانهم عليه ، وأعطاهم أسبابه ثم عاقبهم على ذلك كان ظالما لهم ، والله تعالى قد فعل ذلك بعبيده هو أعدل العادلين وليس بظلام للعبيد ؛ فعلمنا أن الظلم المنزه عنه هو المحال بذاته وأنه غير مقدور.

وأصحاب هذا القول إنما نزهوا الله عن المستحيل لذاته الّذي لا يتصور وجوده ، ومعلوم أن هذا التنزيه يشترك فيه كل أحد ، ولا يمدح به أحد أصلا فإنه لا مدح في كون الممدوح منزها عن الجمع بين النقيضين ، والله تعالى قد تمدح بعدم الظلم ، وأنه لا يريده ومحال أن يتمدح بكونه لا يريد الجمع بين النقيضين ، وأنه لا يريد قلب الحادث قديما ، ولا قلب القديم حادثا ، ولا جعل الشيء موجودا معدوما في آن واحد.

وأيضا فإنه سبحانه قال : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً) (طه : ١١٢) قال المفسرون من السلف والخلف قاطبة : الظلم أن يحمل عليه سيئات غيره ، والهضم أن ينقص من حسنات ما عمل ، وعند الجبرية أن هذا لو وقع لم يكن ظلما ، ومن المعلوم أن الآية لم ترفع عنه خوف المحال لذاته ، وأنه لا يخاف الجمع بين النقيضين ، فإنه لا يخاف ذلك ، ولو أتى بكل كفر وإساءة ، فلا يجوز تحريف كلام الله بحمله على هذا. فإن الخوف من الشيء يستلزم تصور وجوده وإمكانه ، وما لا يمكن وجوده يستحيل خوفه. وأيضا فإنه لا يحسن أن ينفى الجمع بين الضدين في السياق الّذي نفي

__________________

(١) رواه مسلم (٢٦٥٠) مطولا ، والإمام أحمد (٤ / ٤٣٨) ، وغيرهما.

٣٠٧

الله فيه الظلم كقوله تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (فصلت : ٤٦) فلا يحسن بوجه أن يقال عقيب هذه الجملة : وما ربك بجامع للعبيد بين الوجود والعدم في آن واحد ، وإنما الظلم المنفى هو خلاف ما اقتضاه قوله : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) ، وكذلك قوله : (وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) (النساء : ٧٧) ، (وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) (النساء : ١٢٤) (وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) (مريم : ٦٠) ؛ أي لا يترك من أعمالهم ما هو بقدر الفتيل والنقير ، فيكون ظلما ، وعند الجبرية تجوز أن يترك ثواب جميع أعمالهم من أولها إلى آخرها بغير سبب يقتضي تركها إلا مجرد المشيئة والقدرة ، ولا يكون ذلك ظلما. وكذلك قوله : (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) (الزخرف : ٧٦) ، (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) (هود : ١٠١) بين أنه لم يعاقبهم بغير جرم فيكون ظالما لهم بل عاقبهم بظلمهم أنفسهم (١).

والمعنى عند الجبرية : إنا تصرفنا فيهم بقدرتنا ومشيئتنا وملكنا فلم نظلمهم وإن كانوا مؤمنين محسنين ، وليست الأعمال والسيئات والكفر عندهم

__________________

(١) قال الإمام الشهرستاني في «الملل والنحل» باب الجبرية : الجبر هو نفى الفعل حقيقة عن العبد وإضافته إلى الرب تعالى ، والجبرية أصناف : فالجبرية الخالصة هي التي لا تثبت للعبد فعلا ولا قدرة على الفعل أصلا ، والجبرية المتوسطة أن تثبت للعبد قدرة غير مؤثرة فأما من اثبت للقدرة الحادثة أثرا ما في الفعل وسمى ذلك كسبا فليس بجبرى ... الخ كلامه.

وقال ابن حزم في «الفصل في الملل والنحل» : من قال بالإجبار فإنهم احتجوا فقالوا : لما كان الله تعالى فعالا وكان لا يشبهه شيء من خلقه وجب أن لا يكون أحد فعالا غيره وقالوا أيضا : معنى إضافة الفعل إلى الإنسان إنما هو كما يقول : مات زيد ، وإنما أماته الله تعالى ، وقام البناء ، وإنما أقامه الله تعالى ... ثم قال : وخطأ هذه المقالة ظاهر بالحس والنص وباللغة التي بها خاطبنا الله تعالى ، وبها نتفاهم :

فأما النص : فإن الله عزوجل قال في غير موضع من القرآن : (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) وقال : (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) ، وقال : (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فنص تعالى على أننا نعمل ونفعل ونصنع ، وأما الحس : فإن بالحواس وبضرورة العقل وببديهة علمنا يقينا علما لا ـ

٣٠٨

أسبابا للهلاك ولا مقتضية له ، وإنما هو محض المشيئة ، والقرآن يكذب هذا القول ويرده كقوله : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) (النساء : ١٦٠) ، وقوله : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) (النساء : ١٥٥) ، وقوله : (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ) (آل عمران : ١١) (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) (الأنعام : ٦) ، (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً) (نوح : ٢٥) (وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا) (النمل : ٨٥) ، (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى : ٣٠) ، والقرآن مملوء من هذا.

فالظلم الذي أثبت الله لهم وجعله نفس فعلهم وسبب هلاكهم نفوه ، وقالوا ليس من فعلهم ولا سبب إهلاكهم. والظلم الذي نفاه عن نفسه وهو عقوبتهم بلا سبب أثبتوه له وقالوا ليس بظلم ، فإنه مقدور ممكن ، فنزهوه عما عابهم به ووصفوه بما نزه نفسه عنه ، واعتقدوا بذلك أنهم به عارفون ولأهل السنة ناصرون ، ولا يليق به سبحانه أن ينفى عنه الجمع بين النقيضين ، فإن ما لا يمكن تعلق القدرة به لا يمدح الممدوح بعدم إرادته ، وإنما يكون المدح بترك ما يقدر الممدوح على فعله وتركه تنزيها عما فعله ، وإلا فكيف يمدح الموتى بترك الأفعال

__________________

ـ يخالج فيه الشك أن بين الصحيح الجوارح وبين من لا صحة بجوارحه فرقا لائحا لجوارحه ، لأن الصحيح الجوارح يفعل القيام والقعود وسائر الحركات مختارا لهان دون مانع ، والذي لا صحة لجوارحه لو رام ذلك جهده لم يفعله أصلا ولا بيان أبين من هذا الفرق. والمجبر في اللغة هو الذي يقع الفعل منه بخلاف اختياره وقصده ، فأما من وقع فعله باختياره وقصده فلا يسمى في اللغة مجبرا ، وإجماع الأمة كلها على لا حول ولا قوة إلا بالله مبطل قول المجبرة ووجب أن لنا حولا وقوة ، ولكن لم يكن لنا ذلك إلا بالله تعالى ، ولو كان ما ذهب إليه الجهمية لكان القول : لا حول ولا قوة إلا بالله لا معنى له ، وكذلك قوله تعالى (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) فنص تعالى على أن لنا مشيئة إلا أنها لا تكون منا ، إلا أن يشاء الله كونها ، وهذا نص قولنا والحمد لله رب العالمين ا ه.

٣٠٩

القبيحة؟ وكيف يمدح الزمن (١) بترك طيرانه إلى السماء؟ وأيضا فإنه سبحانه يمدح نفسه بتحريمه الظلم على نفسه كما في الحديث الإلهي «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسى» (٢) أن أخلق مثلي ، أو أجمع بين النقيضين ، أو أقلب القديم حادثا الحادث قديما ونحو ذلك من الممتنع لذاته. وهذا لا يجوز أن ينسب التكلم به إلى آحاد العقلاء فضلا عن رب العالمين.

وغاية ما يقال في تأويل ذلك على هذا القول بعد تحسين العبارة وزخرفتها إني أخبرت عن نفسي أن ما لا يكون مقدورا أو يكون مستحيلا لا يقع منى. وهذا مما يقطع من له فهم عن الله ورسوله أنه غير مراد وأنه يجب تنزيه الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن إرادة هذا المعنى الّذي لا يليق التمدح والتعرف إلى عباده بمثله.

فإن قيل : حاصل هذا أنه لا يعقل التمدح بترك ما يستحيل وقوعه ، وهذا فاسد ، فقد حمد سبحانه نفسه وتمدح بعدم اتخاذ الولد وعدم الشريك والولي من الذل ، وهذه الأشياء مستحيلة في حقه ، فهكذا حمد نفسه على تنزهه من الظلم وإن كان مستحيلا غير مقدور.

قيل : الفرق بين ما هو محال لذاته في نفس الأمر وبين ما هو ممكن أو واقع لكن يستحيل وصف الرب به ونسبته إليه. فالأول لا يتمدح به ، بل العبد لا يرضى أن يمدح به نفسه ، فلا يتمدح عاقل بأنه لا يجمع بين النقيضين ولا يجعل الشيء متحركا ساكنا. وأما الثاني فإنه ممكن واقع لكن يستحيل اتصاف من له الكمال المطلق به كالولد والصاحبة والشريك. فإن نفى هذا من خصائص الربوبية ؛ فنفى سبحانه عن نفسه ما هو ثابت لخلقه ، وهم متصفون به لمنافاته لكماله ، كما نزه نفسه عن السنة والنوم واللغوب والنسيان والعجز والأكل والموت ، وغير ذلك مما هو مستحيل عليه ممتنع في حقه. ولكنه واقع من العباد فكان في تنزيهه عنه ما يبين انفراده بالكمال وعدم مشابهته لخلقه ، بخلاف ما لا يتصور وقوعه في نفس الأمر وهو مستحيل في نفسه ، كجعل المخلوق خالقا ؛

__________________

(١) الزمانة : آفة في الحيوانات ، ورجل زمن : أى مبتلى بين الزمانة. (مختار الصحاح).

(٢) رواه مسلم (٢٥٧٧).

٣١٠

وجعل الخالق مخلوقا. فإن هذا لا يتمدح سبحانه بنفيه. ولهذا لا يتمدح به مخلوق عن الخالق.

يوضحه : أن ما تمدح به سبحانه فهو من خصائصه التى لا يشركه فيها أحد وسلب فعله المستحيل الّذي لا يدخل تحت القدرة ولا يتصور وقوعه ليس من خصائصه ولا هو كمال في نفسه ولا يستلزم كمالا ، فإذا مدح نفسه بكونه لا يجمع بين النقيضين كان كل أحد مشاركا له في هذا المدح ؛ بخلاف ما إذا مدح نفسه بكونه لا يأكل ولا يشرب ولا ينام ولا يموت ولا ينسى ولا تخفى عليه شيء ولا يظلم أحدا ، وهو سبحانه يثنى على نفسه بفعل ما لو ترك كان تركه نقصا ، وبترك ما لو فعله كان فعله نقصا ، وهذا لا حقيقة له عند الجبرية ، والاعتبار عندهم بكون المفعول والمتروك ممكنا فقابلتهم القدرية فجعلوا الظلم الذي تنزه سبحانه عنه مثل الظلم الّذي يكون من العباد ، وشبهوا فعله بفعل عبيده فتسلط عليهم الجبرية بأنواع المناقضات والمعارضات وكان غاية ما عند كل واحد من الفريقين مناقضة الآخر وإفساد قوله ، فكفوا أهل السنة مئونتهم.

* * *

فصل

أما ما احتج به الجبرية من قوله تعالى : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) فدليل حق استدل به على باطل ، فإن الآية إنما سيقت لبيان توحيده سبحانه وبطلان إلهية ما سواه ، وأن كل من عداه مربوب مأمور منهي مسئول عن فعله ، وهو سبحانه ليس فوقه من يسأله عما يفعله قال تعالى : (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ. لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا ، فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) (الأنبياء : ٢١ ـ ٢٣) فلم تكن الآية مسوقة لبيان أنه لا يفعل بحكمة ولا لغاية محموة مطلوبة بالفعل ، وأنه يفعل ما يفعله بلا حكمة ولا سبب ولا غاية ، بل الآية دلت على نقيض ذلك ، وأنه لا يسأل عما يفعل لكمال حكمته وحمده وأن أفعاله صادرة عن تمام الحكمة والرحمة والمصلحة ، فكمال علمه وحكمته وربوبيته ينافى اعتراض المعترضين عليه وسؤال السائلين له. وهم حملوا الآية على أنه لا يسأل عما يفعله لقهره وسلطانه.

٣١١

ومعلوم أن هذا ليس بمدح من كل وجه وإن تضمن مدحا من جهة القدرة والسلطان ، وإنما المدح التام أن يتضمن ذلك حكمته وحمده ووقوع أفعاله على أتم المصالح ، ومطابقته للحكمة والغايات المحمودة. فلا يسأل عما يفعله لكمال ملكه وكمال حمده ، فله الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. فاستدلال نفاة الحكمة بهذه الآية كاستدلال نفاة الصفات بقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (الشورى : ١١) والآيتان دالتان على ضد قول الطائفتين ؛ فليس كمثله شيء لكمال صفاته التى بكمالها وقيامها به لم يكن كمثله شيء ولا يسأل عما يفعل لكمال حكمته وحمده.

* * *

فصل

(قضاء الله كله عدل)

وأما قوله في حديث ابن مسعود «ماض في حكمك ، عدل في قضاؤك» (١)

__________________

(١) [حديث صحيح] أخرجه الإمام أحمد (١ / ٣٩١) ، وأبو يعلى (٢ / ٢٤٦) ، والبزار (١ / ٣٠٤) ، وابن حبان في «صحيحه» (٢٣٧٢) ، والحاكم (١ / ٥٠٩) وقال : صحيح على شرط مسلم إن سلم من إرسال عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه فإنه مختلف في سماعه عن أبيه ، وتعقبه الذهبى بقوله : أبو سلمة لا يدرى من هو ، ولا رواية له في الكتب الستة ا ه.

والحديث ذكره الألباني في «الصحيحة» (١٩٩) وتكلم في رفع الجهالة عن أبي سلمة هذا بكلام الحافظ في «تعجيل المنفعة» ، والشيخ شاكر فى تحقيق «المسند» ، ثم تكلم عن وصل الحديث وإثبات سماع عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه وصححه فانظره ، وانظر «الكلم الطيب» بتحقيقه (١٢٣).

وذكره أيضا الحافظ الهيثمى في «المجمع» (١٠ / ١٣٦ ، ١٨٧) وقال : ورجال أحمد وأبي يعلى رجال الصحيح غير أبي سلمة الجهنى وقد وثقه ابن حبان ا ه.

وقوله : «ماض في حكمك ، عدل في قضاؤك». تضمن هذا الكلام أمرين :

أحدهما : مضاء حكمه في عبده.

والثاني : يتضمن حمده وعدله وهو سبحانه له الملك وله الحمد.

٣١٢

__________________

ـ وهذا معنى قول نبي الله هود (ع) : «ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها» ثم قال :

«إن ربي على صراط مستقيم» : أى مع كونه مالكا قاهرا متصرفا في عباده نواصيهم بيده ، فهو على صراط مستقيم ، وهو العدل الّذي يتصرف به فيهم ، فهو على صراط مستقيم في قوله وفعله وقضائه وقدره وأمره ونهيه ، وثوابه وعقابه ، فخبره كله صدق وقضاؤه كله عدل ، وأمره كله مصلحة ، والّذي نهى عنه كله مفسدة ، وثوابه لمن يستحق الثواب بفضله ، ورحمته وعقابه لمن يستحق العقاب بعدله وحكمته.

وفرق بين [الحكم ، والقضاء] وجعل المضاء للحكم ، والعدل للقضاء :

فإن حكمه سبحانه يتناول حكمه الديني الشرعي وحكمه الكونى القدرى ، والنوعان نافذان في العبد ، ماضيان فيه ، وهو مقهور تحت الحكمين ، قد مضيا فيه ، ونفذا فيه شاء أم أبى ، لكن الحكم الكوني لا يمكنه مخالفته ، وأما الدينى الشرعى فقد يخالفه ولما كان القضاء هو الإتمام والإكمال ، وذلك إنما يكون بعد مضيه ونفوذه.

قال : «عدل في قضاءك» أى الحكم الذي أكملته وأتممته ونفذته في عبدك عدل منك فيه وأما الحكم فهو ما يحكم به سبحانه ، وقد يشاء تنفيذه وقد لا ينفذه ، فإن كان حكما دينيا فهو ماض في العبد ، وإن كان كونيا فإن نفذه سبحانه مضى فيه ، وإن لم ينفذه اندفع عنه ، فهو سبحانه يمضى ما يقضى به وغيره قد يقضى بقضاء ويقدر أمرا ولا يستطيع تنفيذه ، وهو سبحانه يقضى ويمضى فله القضاء والإمضاء.

وقوله : «عدل في قضاؤك» يتضمن جميع أقضيته في عبده من كل الوجوه :

«من صحة وسقم ، وغنى وفقر ، ولذة وألم ، وحياة وموت ، وعقوبة وتجاوز ، وغير ذلك قال تعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) (الشورى : ٣٠).

وقال سبحانه (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ) (الشورى : ٤٨). فكل ما يقضى على العبد فهو عدل فيه.

فإن قيل : فالمعصية عندكم بقضائه وقدره! فما وجه العدل في قضائهما؟! فإن العقوبة عليها غير ظاهر؟!. قيل هذا سؤال له شأن ، ومن أجله زعمت طائفة أن العدل هو المقدور ، والظلم ممتنع لذاته ، قالوا : لأن الظلم هو التصرف في ملك الغير والله سبحانه له كل شيء ، فلا يكون تصرفه في خلقه إلا عدلا.

وقالت طائفة : بل العدل أنه لا يعاقب على ما قضاه وقدره ، فلما حسن منه العقوبة على الذنب علم أنه ليس بقضائه وقدره ، فيكون العدل هو جزاؤه على الذنب بالعقوبة ـ

٣١٣

__________________

ـ والذم ، إما في الدنيا وإما في الآخرة ، وصعب على هؤلاء الجمع بين العدل وبين القدر ، فزعموا أن من أثبت القدر لم يمكنه أن يقول بالعدل ، ومن قال بالعدل لم يمكنه أن يقول بالقدر ، كما صعب عليهم الجمع بين التوحيد وإثبات الصفات ، فزعموا أنهم لا يمكنهم إثبات التوحيد إلا بإنكار الصفات ، فصار توحيدهم تعطيلا ، وعدلهم تكذيبا بالقدر.

وأما أهل السنة فهم مثبتون للأمرين ، والظلم عندهم هو وضع الشيء في غير موضعه كتعذيب المطيع ومن لا ذنب له ، وهذا قد نزه الله نفسه عنه في غير موضع من كتابه وهو سبحانه وإن أضل من شاء ، وقضى بالمعصية والغي على من شاء ، فذلك محض العدل فيه ، لأنه وضع الإضلال والخذلان في موضعه اللائق به ، كيف ومن أسمائه الحسنى العدل الّذي كل أفعاله وأحكامه سداد وصواب وحق ، وهو سبحانه قد أوضح السبل وأرسل الرسل وأنزل الكتب وأزاح العلل ، ومكن من أسباب الهداية والطاعة بالأسماع والأبصار والعقول ، وهذا عدله ، ووفق من شاء بمزيد عناية ، وأراد من نفسه أن يعينه ويوفقه ، فهذا فضله ، وخذل من ليس بأهل لتوفيقه وفضله وخلىّ بينه وبين نفسه ، ولم يرد سبحانه من نفسه أن يوفقه فقطع عنه فضله ولم يحرمه عدله ، وهذا نوعان :

أحدهما ما يكون جزاء منه للعبد على إعراضه عنه ، وإيثار عدوه في الطاعة والموافقة عليه وتناسى ذكره وشكره ، فهو أهل أن يخذله ويتخلى عنه.

والثاني : أن لا يشاء له ذلك ابتداء لما يعلم منه أنه لا يعرف قدر نعمة الهداية ولا يشكره عليه ، ولا يثني عليه بها ، ولا يحبه فلا يشاؤها له لعدم صلاحية محله قال تعالى : (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا ، أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) (الانفال : ٥٣) وقال : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) (الانفال : ٢٣) فإذا قضى الله سبحانه على هذه النفوس بالضلال والمعصية كان ذلك محض العدل ، كما إذا قضى على الحية بأن تقتل ، وعلى العقرب وعلى الكلب العقور ، كان ذلك عدلا فيه وإن كان مخلوقا على هذه الصفة ، وقد استوفينا الكلام في هذا في كتابنا الكبير في القضاء والقدر ، والمقصود أن قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ماض في حكمك ، عدل فى قضاؤك» : رد على الطائفتين القدرية : الذين ينكرون عموم أقضية الله في عبده ، ويخرجون أفعال العباد عن كونها بقضائه وقدره ، ويردون القضاء إلى الأمر والنهى. ـ

٣١٤

فعند أهل السنة الجميع قضاؤه والجميع عدل منه في عبده ، لا بمعنى كونه متصرفا فيه بمجرد القدرة والمشيئة ، بل بوضع القضاء في موضعه وإصابة محله ،

__________________

ـ وعلى الجبرية : الذين يقولون : كل مقدور عدل ، فلا يبقى لقوله «عدل في قضاؤك» فائدة ، فإن العدل عندهم كل ما يمكن فعله ، والظلم هو المحال لذاته ، فكأنه قال : ماض ونافذ في قضاؤك ، وهذا هو الأول بعينه.

وقوله : «أسألك بكل اسم» ... إلى آخره ، توسل إليه سبحانه بأسمائه ، ما علم العبد منها وما لم يعلم ، وهذه أحب الوسائل إليه فإنها وسيلة بصفاته وأفعاله التى هى مدلول أسمائه.

وقوله : «أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري» ، الربيع : المطر الّذي يحيى الأرض شبه القرآن به الحياة القلوب به ، وكذلك شبهه الله بالمطر ، وجميع بين الماء الّذي تحصل به الحياة والنور الّذي تحصل به الإضاءة والإشراق ، كما جمع بينهما سبحانه في قوله : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ) (الرعد : ١٧). وفي قوله : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) (البقرة ١٧) ثم قال : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) (البقرة : ١٩) وفي قوله : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ ...) الآيات (النور : ١٧) ثم قال : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) (النور : ٤٣).

فتضمن الدعاء أن يحيى قلبه بربيع القرآن ، وأن ينور به صدره ، فتجتمع له الحياة والنور ، قال تعالى (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ ، وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) (الأنعام : ١٢٢).

ولما كان الصدر أوسع من القلب كان النور الحاصل له يسرى منه إلى القلب لأنه قد حصل لما هو أوسع منه ، ولما كانت حياة البدن والجوارح كلها بحياة القلب تسرى الحياة منه إلى الصدر ، ثم إلى الجوارح ، سأل الحياة له بالربيع الذي هو مادتها ، ولما كان الحزن والهم والغم يضاد حياة القلب واستنارته ، سأل أن يكون ذهابها بالقرآن فإنها أحرى أن لا تعود ، وأما إذا ذهبت بغير القرآن من صحة أو دنيا أو جاه أو زوجة أو ولد فإنها تعود بذهاب ذلك ، والمكروه الوارد على القلب إن كان من أمر ماض أحدث الحزن ، وإن كان في مستقبل أحدث الهم ، وإن كان من أمر حاضر أحدث الغم ، والله أعلم.

٣١٥

فكل ما قضاه على عبده فقد وضعه موضعه اللائق به وأصاب به محله الذي هو أولى به من غيره فلم يظلمه به (١).

أما العقوبات والمصائب فالأمر فيها ظاهر ، إذ هى عدل محض كما قال تعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) (الشورى : ٣٠).

وأما الآلام التى تصيب العبد بغير ذنب : كالآلام التى تنال غير المكلفين كالأطفال والمجانين والبهائم ، فقد خاض الناس في أسبابها وحكمها قديما وحديثا وتباينت طرقهم فيها بعد اتفاقهم على أنها عدل ، وإن اختلفوا في وجه كونها عدلا.

فالجبرية : تثبت ذلك على أصولها في أن كل واقع أو ممكن عدل.

والقدرية : جعلت وجه كونه عدلا وقوعها بسبب جرم سابق أو عوض لاحق ؛ ثم منهم من يعتبر مع ذلك أن يشتمل على غيره قالوا فوقوعها على وجه العقوبة بالجرم والتعويض بخروجها عن كونها ظلما. وبقصد العبرة تخرج كونها سفها.

__________________

(١) وقال الإمام عبد القاهر البغدادي : وقالوا (يعنى أهل السنة والجماعة) : الركن السادس وهو الكلام في عدل الإله سبحانه وحكمته إن الله سبحانه خالق الأجسام والأعراض خيرها وشرها ، وإنه خالق أكساب العباد ، ولا خالق غير الله.

وهذا خلاف قول من زعم من القدرية أن الله تعالى لم يخلق شيئا من أكساب العباد وخلاف قول الجهمية : إن العباد غير مكتسبين ولا قادرين على أكسابهم ، فمن زعم أن العباد خالقون لأكسابهم فهو قدرى مشرك بربه ، لدعواه أن العباد يخلقون مثل خلق الله من الأعراض التي هى الحركات والسكون فى العلوم والإرادات والأقوال والأصوات ، وقد قال الله عزوجل في ذم أصحاب هذا القول : (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ؟! قُلِ : اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ، وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ).

ومن زعم أن العبد لا استطاعة له على الكسب وليس هو بفاعل ولا مكتسب فهو جبرى ، والعدل خارج عن الجبر والقدرة ، ومن قال : إن العبد مكتسب لعمله والله سبحانه خالق لكسبه ، فهو سنى عدلى منزه عن الجبر والقدر ا ه (الفرق بين الفرق) مختصرا.

٣١٦

وأما الفلاسفة : فإنهم جعلوا ذلك من لازم الخلقة فيه ومقتضيات النشأة الحيوانية. وقالوا ليس في الإمكان إلا ذلك. ولو فرض غير ذلك لكان غير هذا العالم ، فإن تركيب الحيوان الّذي يكون ويفسد يقتضي أن تعرض له الآلام كما يعرض له الجوع والعطش والضجر ونحوها. وقالوا رفع هذا بالكلية إنما يكون برفع أسبابه ، والخير الّذي في أسبابه أضعاف أضعاف الشر الحاصل بها ، فاحتمال الشر القليل الجزئي في جنب المصلحة العامة الكلية أولى من تعطيل الخير الكثير لما يستلزمه من المفسدة اليسيرة الجزئية. قالوا ومن تأمل أسباب الآلام وجد ما في ضمنها من الملذات والخيرات والمصالح أضعاف أضعاف ما في ضمنها من الشرور كالحر والبرد والمطر والثلج والريح وتناول الأغذية والفواكه وأنواع الأطعمة. وصنوف المناكح ، وأنواع الأعمال والحركات ، فإن الآلام إنما تتولد غالبها عن هذه الأمور مصالحها ولذتها وخيراتها أكثر من مفاسدها وشرورها وآلامها.

وهذه الطرق الثلاثة سلكها طوائف من المسلمين ، وفي كل طريق منها حق وباطل ، فإذا أخذت من طريق حقها ورميت باطلها كنت أسعد الناس بالحق ، وأصحاب المشيئة المحضة أصابوا في إثبات عموم المشيئة والقدرة ، وأنه لا يقع في الكون شيء إلا بمشيئته ، فخذ من قولهم هذا القدر وألق منه إبطال الأسباب والحكم والتعليل ومراعاة مصالح الخلق.

والقدرية أصابوا في إثبات ذلك وأخطئوا في مواضع ، أحدها : إخراج أفعال عباده عن ملكه وقدرته ومشيئته.

الثاني : تعطيلهم عود الحكمة والغاية المطلوبة إلى الفاعل ، وإنما أثبتوا أنواع حكمة تعود إلى المفعول لا إلى الفاعل ، والثالث : أنهم شبهوا الله بخلقه فيما يحسن منهم وما يقبح فقاسوه في أفعاله على خلقه ، واعتبروا حكمته بالحكمة التي لعباده ، فخذ من قولهم إنه حكيم لا يفعل إلا لمصلحة وحكمة ، وأنه لا يفعل الظلم مع قدرته عليه ، بل تنزه عنه لغناه وكماله ، وأنه لا يعاقب أحدا بغير ذنب ولا يعاقبه بما لا يفعله. فضلا عن أن يعاقبه بفعل هو فعله فيه أو فعل

٣١٧

غيره فيه وأنه جعل الأسباب مقتضيات لغاياتها ، وألق من قولهم إنكارهم خلقه لأفعال عباده وإنكار عود الحكمة إليه وقياس أفعاله على أفعال عباده.

والفلاسفة فيما أصّلوه من أن تعطيل أسباب الخيرات والمصالح العظيمة لما في ضمنها من الشرور والآلام الجزئية مناف للحكمة ، فهذا أصل في غاية الصحة لكن أخطئوا في ذلك أعظم خطأ ، وهو جعلهم ذلك من لوازم الطبيعة المجردة من غير أن تكون متعلقة بفاعل مختار قدر ذلك بمشيئته وقدرته واختياره ، ولو شاء لكان الأمر على خلاف ذلك كما يكون في الجنة ، فإنها مشتملة على الخيرات المحضة البريئة من هذه العوارض من كل وجه ، فاقتضت حكمته أن تكون هذه الدار على ما هى عليه ؛ ممزوجا خيرها بشرها ، ولذاتها بآلامها ، وأن تكون دار القرار خالصة من شوائب الآلام والشرور خلاصا تاما ، وأن تكون دار الشقاء خالصة للآلام والشرور ، وإذا جمعت حق هذه الطائفة وأثبت لله تعالى صفات الكمال ، وأنه يحب ويحب ، ويفرح بتوبة عباده وطاعتهم ويرضى بها ، ويضحك ، ويثنى عليهم بها ويحب أن يثنى عليه ويحمد ويشكر ، ويفعل ما له في فعله غاية وحكمة يحبها ويرضاها ، فيفعل لأجلها ، كنت أسعد بالحق من هؤلاء.

* * *

(فصل)

ذوو الأرواح الذين يلحقهم اللذة والآلام أربعة أصناف : الإنس ، والجن

والبهائم ، والملائكة ، عند من يقول أن فيهم من يعصى ويعاقب.

فأما الإنس والجن : فالمكلفون منهم يحصل لهم بالطاعات والمعاصى لذات وآلام تناسبها. وأما الأطفال والمجانين فنوعان : نوع يدخلون الجنة إما بطريق التبعية أو بعد التكليف يوم القيامة. كما جاءت به الآثار ، فهؤلاء إذا حصل لهم آلام يسيرة منقطعة كانت مصلحة لهم ورحمة ونعمة في جنب ما ينالهم من

٣١٨

السعادة العظيمة والنعيم المقيم. فما ينالهم من الآلام يجرى مجرى إيلام الأب الشفيق لولده الطفل ، بكى أو بط أو قطع سلعة يعقبه كمال عافية وانتفاعه بنفسه وحياته ، فهذا الإيلام محض الإحسان إليه وما يقدر من حصول النعيم واللذة في الجنة بدون هذه الآلام فهو نوع آخر غير النوع الحاصل بعد الآلام ، ولهذا كانت اللذة الحاصلة بالأكل والشرب بعد شدة الجوع والظمأ أضعاف اللذة الحاصلة بدون ذلك ، وكذلك لذة الوصل بعد الهجران والبعاد المؤلم والشوق الشديد أعظم من اللذة الحاصلة بدونه. ووجود الملزوم بدون لازمه محال. ولا ريب أن لذة آدم بعوده إلى الجنة بعد أن خرج منها إلى دار التعب أعظم من اللذة التي كانت حاصلة له أولا.

وأما غير المكلفين من الحيوانات فقد يقال إنه ما من حيوان إلا ويحصل له من اللذة والخير والنعيم ما هو أعظم مما يحصل له من الألم بأضعاف مضاعفة فإنه يلتذ بأكله وشربه ونومه وحركته وراحته وجماعه الأنثى وغير ذلك. فنعيمه ولذته أضعاف أضعاف ألمه ، وحينئذ فالأقسام أربعة : إما أن يعطل الجميع بترك خلق الحيوان لئلا يحصل له الألم ، أو يخلق على ونشأة لا يلحقه بها ألم ، أو على صفة لا ينال بها لذة ، أو على هذه الصفة والنشأة التى هو عليها.

فالقسم الأول : ممتنع لمنافاته للحكمة ، فإنه يستلزم تعطيل الكثير والنفع العظيم لما يستلزمه من مفسدة قليلة ، كتعطيل الأمطار والثلوج والرياح والحر والبرد لما يتضمنه من الآلام ولا ريب أن الحكمة والرحمة والمصلحة تأبى ذلك ، فترك الخير الكثير لأجل ما فيه من الشر القليل شر كثير.

وأما القسم الثاني : فكما أنه ممتنع في نفسه إذ من لوازم إنشائه في هذا العالم أن يكون عرضة للحر والبرد والجوع والعطش والكلال والتعب وغيرها. فإنه منشأ من هذا العالم الّذي مزج خيره بشره. والمنشأ خير منه كذلك ، فالحكمة تأبى إنشاءه لذلك في هذا العالم الّذي مزج رخاؤه بشدته. وبلاؤه بعافيته ،

٣١٩

وألمه بلذته ، وسروره بغمه وهمه ، فلو اقتضت الحكمة تخليص نوع الحيوان من ألمه لكان الإنسان الّذي هو خلاصته وأفضله أولى بذلك ، ولو فعل ذلك سبحانه لفاته مصلحة العبرة والدلالة على الآلام العظيمة الدائمة في الدار الآخرة. فإن الله تعالى أشهد عباده بما أعد لهم من أنواع اللذات والآلام في الدار الآخرة بما أذاقهم إياه فى هذه الدار فاستدلوا بالشاهد على الغائب واشتاقوا بما باشروه من اللذات إلى ما وصف لهم هناك منها واحتموا بما ذاقوا من الآلام هاهنا عما وصف لهم منها هناك. ولا ريب أن هذه المصلحة العظيمة أرجح من تفويتها بما فيها من المفسدة اليسيرة.

أما القسم الثالث : فلا ريب أنه مفسدة خالصة أو راجحة فلا تقتضيه حكمة الرب سبحانه ، ولا يكون إيجاده مصلحة فلم يبق إلا القسم الرابع : وهو خلقه على هذه النشأة.

فإن قيل : فقد ظهرت الحكمة في إيلام غير المكلفين ، فتعذيب المكلفين على ذنوبهم كيف تستقيم الحكمة فيه على قولكم بأن الله تعالى خلقها فيهم؟ فأين العدل في تعذيبهم على ما هو فاعله وخالقه فيهم؟ وإنما يستقيم ذلك على قول القدرية وأصولهم ، فإن العدل في ذلك ظاهر ، فإنه إنما يعذبهم على ما أحدثوه وكان بمشيئتهم وقدرته.

قيل : هذا السؤال لم يزل مطرقا بين العالم ، واختلف الناس فيه ، فطائفة أخرجت أفعالهم عن ملك الرب وقدرته. وطائفة أنكرت الحكمة والتعليل وسدت باب السؤال ، وطائفة أثبتت كسبا لا يعقل ، وجعلت الثواب والعقاب عليه ، وطائفة التزمت لأجله وقوع مقدور بين قادرين ، ومفعول بين فاعلين وطائفة التزمت الجبر وأن الله يعذبهم على ما لا يقدرون عليه.

والجواب الصحيح عنه أن يقال : إن ما يبتلى به العبد من الذنوب والوجودية وإن كانت خلقا لله تعالى فهى عقوبة له على ذنوب قبلها ، فالذنب

٣٢٠