مختصر الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة

ابن القيّم الجوزيّة

مختصر الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: رضوان جامع رضوان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٨٧

وثابت إليه روحه بعد أن بلغت التراق. وقيل من راق. واستنقذ الله بعبده وجنوده بيت المقدس من أيدي عبدة الصليب. وأخذ كل من أنصار الله ورسوله من نصرة دينه بنصيب. وعلت كلمة السنة وأذن بها على رءوس الأشهاد ، ونادى المنادي يا أنصار الله لا تنكلوا عن الجهاد ، فأنه أبلغ الزاد ليوم المعاد.

فعاش الناس في ذلك النور مدة حتى استولت الظلمة على بلاد الشرق ، فقدموا الآراء والعقول والسياسة والأذواق على الوحي ، وظهرت فيهم الفلسفة والمنطق وتوابعهما. فبعث الله عليهم عبادا أولى بأس شديد فجاسوا خلال الديار وعاثوا في القرى والأمصار وكاد الإسلام أن يذهب اسمه وينمحي رسمه. وكان مشار هذه الفئة وعالمها الذي يرجع إليه وزعيمها المعول فيها عليه ، شيخ شيوخ المعارضين بين الوحي والعقل ؛ وإمامهم في وقته نصير الشرك والكفر (الطوسى) فلم يعلم في عصرة أحد عارض بين العقل والنقل معارضة رام بها إبطال النقل بالكلية مثله ، فإنه أقام الدعوة الفلسفية ، واتخذ الإشارات عوضا عن السور والآيات. وقال :

هذه عقليات قطعية برهانية قد قابلت تلك النقليات الخطابية ؛ واستعرض أهل الاسلام وعلماء أهل الإيمان والقرآن والسنة على السيف ؛ فلم يبق منهم إلا من قد أعجزه ، قصدا لإبطال الدعوة الإسلامية ، وجعل مدارس المسلمين وأوقافهم للنجسية السحرة والمنجمين والفلاسفة والملاحدة والمنطقيين ، ورأى ابطال الأذان وتحويل الصلاة إلى القطب الشمالى ، فحال بينه وبين ذلك من تكفل بحفظ الإسلام ونصره ، وهذا كله من ثمرة المعارضين بين الوحي والعقل.

ولتكن قصة شيخ هؤلاء القديم منك على ذكر كل وقت (١) ، فإنه أول من عارض بين العقل والنقل ، وقدم العقل ، فكان من أمره ما قص الله ، وورث الشيخ تلامذته هذه المعارضة. فلم يزل يجري على الأنبياء وأتباعهم منها كل

__________________

(١) يعني الشيطان لما عراض أمر الله له بالسجود لآدم عارض أمره سبحانه بقياس عقلي وتقدم بيان ذلك ونقض أرائه.

٢٤١

منحة وبلية وأصل كل بلية في العالم كما قال محمد الشهرستاني : من معارضة النص بالرأي وتقديم الهوى على الشرع. والناس إلى اليوم في شرور هذه المعارضة. ثم ظهر مع هذا الشيخ المتأخر المعارض أشياء لم تكن تعرف قلبه : حسيات العميدي ، وحقائق ابن عربي ، وتشكيكات الرازي وقام سوق الفلسفة والمنطق وعلوم أعداء الرسل.

ثم نظر الله إلى عباده وانتصر لكتابه ودينه ، وأقام جندا يغزو ملوك هؤلاء بالسيف والسنان ، وجندا يغزو علماءهم بالحجة والبرهان. ثم نبغت نابغة منهم في رأس القرن السابع فأقام الله لدينه شيخ الإسلام أبا العباس أحمد بن تيمية قدس الله روحه ، فأقام على غزوهم مدة حياته باليد والقلب واللسان ؛ وكشف للناس باطلهم وبين تلبيسهم وتدليسهم وقابلهم بصريح المعقول وصحيح المنقول ، وشفي واشتفى ، وبيّن تناقضهم ومفارقتهم لحكم العقل الذي به يدلون وإليه يدعون ، وإنهم أترك الناس لأحكامه ومفارقتهم لحكم العقل الذي به يدلون وإليه يدعون ، وإنهم أترك الناس لأحكامه وقضاياه ، فلا وحي ولا عقل ، فأرادهم في حفرهم ، ورشقهم بسهامهم ، وبين أن صحيح معقولاتهم خدم لنصوص الأنبياء ، فجزاه الله عن الإسلام وأهله خيرا.

الوجه التاسع والثلاثون : إنه قد ثبت بالعقل الصريح والنقل الصحيح ثبوت صفات الكمال للرب سبحانه. وإنه أحق بالكمال من كل ما سواه. وأنه يجب أن تكون القوة كلها لله ، وكذا العزة والعلم والقدرة والكلام ، وسائر صفات الكمال التام اثنان ، وأن الكمال التام لا يكون إلا لواحد ، وهاتان مقدمتان يقينيتان معلومتان بصريح العقل ، وجاءت نصوص الأنبياء مفصلة بما في صريح العقل إدراكه قطعا. فاتفق على ذلك العقل والنقل ، قال الله تعالى : (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) (البقرة : ١٦٥) وقد اختلف في تعلق قوله (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) بما ذا؟ فقالت طائفة : هو مفعول يرى أي فلو يرون أن القوة لله جميعا لما عصوه ولما كذبوا رسله وقدموا عقولهم على وحيه ، وقالت طائفة : بل المعنى لأن القوة لله جميعا ، وجواب لو

٢٤٢

محذوف على التقدير. أى ولو يرى هؤلاء حالهم وما أعد الله لهم إذ يرون العذاب لرأوا أمرا عظيما. ثم قال : (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) وقال (إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دعاء الاستفتاح «لبيك وسعديك والخير كله في يديك» (١) وفي الأثر الآخر «اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله ، وبيدك الخير كله ، وإليك يرجع الأمر كله» (٢).

فلله سبحانه كل صفة كمال وهو موصوف بتلك الصفات كلها. ونذكر من ذلك صفة واحدة يعتبر بها في سائر الصفات : وهو أنك لو فرضت جمال الخلق كلهم من أولهم إلى آخرهم لشخص واحد منهم ، ثم كان الخلق كلهم على جمال ذلك الشخص لكان نسبته إلى جمال الرب تبارك وتعالى دون نسبة سراج ضعيف إلى جرم الشمس (٣) ، وكذلك قوته سبحانه وعلمه وسمعه وبصره وكلامه وقدرته ورحمته وحكمته ووجوده وسائر صفاته وهذا مما دلت عليه آياته الكونية والسمعية ، وأخبرت به رسله عنه كما في «الصحيح» عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل النهار

__________________

(١) أخرجه مسلم (٧٧١).

(٢) رواه البيهقي في «شعب الإيمان» (٤ / ٤٤٠٠).

(٣) وقال الشيخ في «الفوائد» بعد ما ذكر حديث : «إن الله جميل يحب الجمال» : وشرحه ثم قال : والمقصود أن هذا الحديث الشريف مشتمل على أصلين عظيمين : فأول معرفة ، وآخر سلوك ، فيعرف الله سبحانه بالجمال الذي لا يماثله فيه شيء ، ويعبد بالجمال الذي يحبه من الأقوال والأعمال والأخلاق فيحب من عبده أن يجمل لسانه بالصدق ، وقلبه بالإخلاص والمحبة والإنابة والتوكل ، وجوارحه بالطاعة ، وبدنه بإظهار نعمه عليه في لباسه وتطهيره له من الأنجاس والأحداث والأوساخ والشعور المكروهة ، والختان وتقليم الأظفار.

فيعرفه (سبحانه) بصفات الجمال ، ويتعرف عليه بالأفعال والأقوال والأخلاق الجميلة فيعرفه بالجمال الذي هو وصفه ، ويعبده بالجمال الّذي هو شرعه ودينه ، فجمع الحديث قاعدتين : المعرفة والسلوك أه.

٢٤٣

وعمل النهار قبل عمل الليل ، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهي إليه بصره من خلقه» (١).

فإذا كانت سبحات وجهه الأعلى لا يقوم لها شيء من خلقه ، ولو كشف حجاب النور عن تلك السبحات لأحرق العالم العلوي والسفلي ، فما الظن بجلال ذلك الوجه الكريم وعظمته وكبريائه وكماله وجلاله وجماله؟.

وإذا كانت السماوات مع سعتها وعظمتها يجعلها على إصبع من أصابعه والأرض على إصبع والبحار على إصبع والجبال على إصبع ، فما الظن باليد الكريمة التي هي صفة من صفات ذاته (٢) ، وإذا كان يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات بأقطار الأرض والسماوات فلا تشتبه عليه ولا تختلط عليه ولا يغلطه سمع عن سمع ويرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء تحت أطباق الأرض في الليلة الظلماء.

ويعلم ما تسره القلوب وأخفى منه. وهو ما لم يخطر لها إنه سيخطر لها. ولو كان البحر المحيط بالعالم مدادا ويحيط به من بعده سبعة أبحر كلها مداد وجميع أشجار الأرض. وهو كل نبت قام على ساقه مما يحصد ومما لا يحصد ، أقلام يكتب بها ، نفدت الأقلام والبحار ولم ينفد كلامه (٣).

وهذا وغيره بعض ما تعرف به إلى عباده من كماله ، وإلا فلا يمكن لأحد قط أن يحصى ثناء عليه ، بل هو كما أثنى على نفسه ، فكل الثناء وكل الحمد وكل المجد ، وكل الكمال له سبحانه. هو الذي وصلت إليه عقول أهل الإثبات

__________________

(١) أخرجه مسلم (١٧٩).

(٢) يشير إلى ما أخرجه البخاري (٧٤١٤ ـ ٧٤١٥) عن عبد الله بن مسعود أن يهوديا جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا محمد إن الله يمسك السماوات على إصبع والأرضين على إصبع والجبال على إصبع والشجر على إصبع والخلائق على إصبع ثم يقول : أنا الملك وتقدم الكلام عليه قريبا.

(٣) يشير لقوله تعالى (لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (لقمان : ٢٧).

٢٤٤

وتلقوه عن الرسل ولا يحتاجون في ثبوت علمهم وجزمهم بذلك إلى الجواب عن الشبه القادحة في ذلك ، وإذا وردت عليهم لم تقدح فيما علموه وعرفوه ضرورة من كون ربهم تبارك وتعالى كذلك وفوق ذلك.

فلو قال قائل : هذا الذي علمتموه لا يثبت إلا بالجواب عما عارضه من العقليات. قالوا ، لقائل هذه المقالة : هذا كذب وبهت : فإن الأمور الحسية والعقلية واليقينية قد وقع فيها شبهات كثيرة تعارض ما علم بالحس والعقل ، فلو توقف علمنا بذلك على الجواب عنها وحلها لم يثبت لنا ولا لأحد علم بشيء من الأشياء ، ولا نهاية لما تقذف به النفوس من الشبه الخيالية وهي من جنس الوساوس والخطرات والخيالات التي لا تزال تحدث في النفوس شيئا فشيئا ، بل إذا جزمنا بثبوت الشيء جزمنا ببطلان ما يناقض ثبوته. ولم يكن ما يقدر من الشبه الخيالية على نقيضه مانعا من جزمنا به ، ولو كانت الشبهة ما كانت ، فما من موجود يدركه الحس إلا ويمكن كثير من الناس أن يقيم على عدمه شبها كثيرة ويعجز السامع عن حلها. ولو شئنا لذكرنا لك طرفا منها تعلم أنه أقوى من شبه الجهمية النفاة لعلو الرب على خلقه وكلامه وصفاته.

وقد رأيت أو سمعت ما أقامه كثير من المتكلمين من الشبه على أن الإنسان تتبدل نفسه الناطقة في الساعة الواحدة أكثر من ألف مرة ، وكل لحظة تذهب روحه وتفارقه وتحدث له روح أخرى غيرها أبدا ، وما أقاموا من الشبه على أن السماوات والأرض والجبال والبحار تتبدل كل لحظة ويخلفها غيرها ، وما أقاموا من الشبه على أن روح الإنسان ليست فيه ولا خارجة عنه ، وزعموا أن هذا أصح المذاهب في الروح ، وما أقاموا من الشبه أن الإنسان إذا انتقل من مكان إلى مكان لم يمر على تلك الأمكنة الأخرى التي من مبدأ حركته ونهايتها ولا قطعها ولا حاذاها ، وهي مسألة طفرة النظام ؛ وأضعاف أضعاف ذلك.

وهؤلاء طائفة الملاحدة من الاتحادية كلهم يقولون إن ذات الخالق هي عين ذات المخلوق ولا فرق بينهما البتة ، وإن الاثنين واحد ، وإنما الحس والوهم يغلط في التعدد ويقيمون على ذلك شبها كثيرة قد نظمها ابن الفارض في «قصيدته» ،

٢٤٥

وذكرها صاحب «الفتوحات» في فصوصه وغيرها ، وهذه الشبه كلها من واد واحد ، وهي خزنة الوساوس ولو لم نجزم بما علمناه إلا بعد العلم برد تلك الشبهات لم يثبت لنا علم أبدا ، فالعاقل إذا علم أن هذا الخبر صادق علم أن كل ما عارضه فهو كذب ، ولم يحتج لأن يعرف أعيان الأخبار المعارضة له ولا وجوها ، والله المستعان.

الوجه الأربعون : إن الطريق التي سلكها نفاة الصفات والعلو والتكلم من معارضة النصوص الإلهية بآرائهم هي بعينها الطريق التي سلكها إخوانهم من الملاحدة في معارضة نصوص المعاد بآرائهم وعقولهم ومقدماتهم ؛ ثم نقلوها بعينها إلى ما أمروا به من الأعمال كالصلوات الخمس والزكاة والحج والصيام ، فجعلوها للعامة دون الخاصة ، فآل الأمر بهم إلى أن ألحدوا في الأصول الثلاثة التي اتفق عليها جميع الملل وجاءت بها جميع الرسل ؛ وهي الإيمان بالله واليوم الآخر ، والأعمال الصالحة قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة : ٦٢) الآية.

فهؤلاء الملاحدة يحتجون على نفاة الصفات بما وافقهم عليه من الإعراض عن نصوص الوحي ونفي الصفات ؛ كما ذكر ابن سينا في رسالته الأضحوية ، فإنه قال فيها ، لما ذكر حجة من أثبت معاد البدن ؛ وأن الداعي لهم إلى ذلك ما ورد به الشرع من بعث الأموات. فقال : وأما أمر الشرع فينبغي أن يعلم فيه قانون واحد ، وهو أن الملة الآتية على لسان نبي من الأنبياء يرام بها خطاب الجمهور كافة. ثم من المعلوم الواضح أن التحقيق الذي ينبغي أن يرجع إليه في صحة التوحيد من الإقرار بالصانع موحدا مقدس عن الكم والكيف والأين ومتى والوضع والتغيير ؛ حتى يصير الاعتقاد به أنه ذات واحدة لا يمكن أن يكون لها شريك في النوع ، أو يكون جزء وجودي كمي أو معنوي ، ولا يمكن أن تكون خارجة عن العالم ولا داخلة فيه ، ولا حيث تصح الإشارة إليها بأنها هنا أو هناك ، وهذا ممتنع إلقاؤه إلى الجمهور. ولو ألقى هذا على هذه الصورة إلى

٢٤٦

العرب العاربة والعبرانيين الأجلاف لسارعوا إلى العناد ، واتفقوا على أن الإيمان المدعو إليه إيمان بمعدوم لا وجود له أصلا ، ولهذا [كل ما ورد] في «التوراة» تشبيها كله ، ثم أنه لم يرد في «الفرقان» من الإشارات إلى هذا الأمر الاهم شيء ، ولا إلى تصريح ما يحتاج إليه في التوحيد بيان مفصل ، بل أتى بعضه على سبيل التشبيه في الظاهر ، وبعضه جاء تنزيها مطلقا عاما جدا لا تخصيص ولا تفسير له. وأما الآحاد التشبيهية فأكثر من أن تحصى ولكن أبى القوم إلا أن يقبلوها.

فإذا كان الأمر في التوحيد هذا ؛ فكيف بما بعده من الأمور الاعتقادية؟

ولبعض الناس أن يقول : إن للعرب توسعا في الكلام ومجازا ، وإن الألفاظ التشبيهية مثل الوجه واليد والإتيان في ظل الغمام ، والمجيء والذهاب والضحك والحياء صحيحة ولكن مستعملة استعارة ومجازا. قال : ويدل على استعمالها غير مجازية ولا مستعارة أن المواضع التي يوردونها حجة في أن العرب تستعمل هذه المعاني بالاستعارات والمجاز على غير معانيها الظاهرة مواضع مثلها يصلح أن تستعمل على غير هذا الوجه ولا يقع فيه تلبيس.

وأما قوله في (فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) ، وقوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) (الأنعام : ١٥٨) على القسمة المذكورة وما جرى مجراه ـ فليس تذهب الأوهام فيه البتة إلى أن العبارة مستعارة أو مجازية ، فإن كان أريد فيها ذلك إضمارا فقد رضي بوقوع الغلط والتشبيه والاعتقاد المعوج بالإيمان بظاهرها تصريحا.

وقوله : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) (الفتح : ١٠) وقوله : (ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) (الزمر : ٥٦) فهو موضع الاستعارة والمجاز والتوسع في الكلام ، ولا يشك في ذلك اثنان من فصحاء العرب ، ولا تلبيس على ذي معرفة في لغتهم ، كما تلتبس في تلك الأمثلة ، فإن هذه الأمثلة لا يقع شبهة أنها مستعارة مجازية ، كذلك في تلك لا يقع شبهة في أنها ليست استعارية ولا مجازية ، ولا يراد فيها شيء غير الظاهر.

ثم هب أن هذه كلها موجودة على الاستعارة ، فأين التوكيد والعبارة المشيرة

٢٤٧

بالتصريح إلى التوحيد المحض الذي يدعو إليه حقيقة هذا الدين المعترف بجلالته على لسان حكماء العالم قاطبة؟

ثم قال في ضمن كلامه : إن الشريعة الجائية على لسان نبينا جاءت أفضل ما يمكن أن تجيء بمثله الشرائع وأكمله. ولهذا صلحت أن تكون خاتمة الشرائع وآخر الملل. قال : وأين الإشارة إلى الدقيق من المعاني الميسرة إلى علم التوحيد ، مثل إنه عالم بالذات ، أو عالم بعلم ، قادر بالذات ، أو قادر بقدرة ، واحد بالذات على كثرة الأوصاف أو قابل للكثرة ، تعالى عنها بوجه من الوجوه ، متحيز الذات أو منزه عن الجهات ، فإنه لا يخلو إما أن تكون هذه المعاني واجبا تحققها وإتقان المذهب الحق فيها ، أو يسع الصدوف عنها وإغفال البحث والروية فيها ، فإن كان البحث فيها معفوا عنه وغلط الاعتقاد الواقع فيها غير مأخوذ به ، فجل مذهب هؤلاء القوم المخاطبين بهذه الجملة تكلف وعنه غنية ، وإن كان فرضا محكما فواجب أن يكون بما صرح به في الشريعة ، وليس التصريح المعمى أو الملبس أو المقتصر بالإشارة والإيماء ، بل التصريح المستقصي فيه والمنبه عليه والموفي حق البيان والإيضاح والتعريف على المعانى ، فإن المبرزين المنفقين أيامهم ولياليهم وساعات عمرهم على تمرين أذهانهم وتذكية أفهامهم وترشيح نفوسهم لسرعة الوقوف على المعانى الغامضة يحتاجون في تفهم هذه المعاني إلى فضل وشرح عبادة فكيف غتم العبرانيين وأهل الوبر من العرب؟ لعمري لو كلف الله رسولا من الرسل أن يلقي حقائق هذه الأمور إلى الجمهور من العامة الغليظة طباعهم ، والمنغلقة بالمحسوسات الصرفة أوهامهم ، ثم سامه أن يستنجز منهم الإيمان والإجابة غير متمهل فيه ، وسامه أن يتولى رياضة نفوس الناس قاطبة حتى تستعد للوقوف عليها ، لكلفه شططا ، وأن يفعل ما ليس في قوة البشر. اللهم إلا أن تدركهم حالة إلهية ، وقوة علوية ، وإلهام سماوي ، فتكون حينئذ وساطة الرسول مستغني عنها وتبليغه غير محتاج إليه.

وهب أن الكتاب العزيز جاء على لغة العرب وعادة لسانهم في الاستعارة والمجاز ، فما قولهم في الكتاب العبراني ، كله من أوله إلى آخره تشبيه صرف؟

٢٤٨

وليس لقائل أن يقول ذلك الكتاب محرف ، وأنى يحرف كلية كتاب منتشر في الأمم لا يطاق تعدادهم؟ وبلادهم متباينة وأوهامهم متباينة ، منهم يهودي ونصراني ، وهم أمتان متعاديتان فظاهر من هذا كله أن الشرائع واردة بخطاب الجمهور بما يفهمون ، مقربة ما لا يفهمون بالتمثيل والتشبيه ، ولو كان غير ذلك لما أغنت الشرائع البتة ، قال : فكيف يكون ظاهر الشرائع حجة في هذا الباب ، يعني أمر المعاد؟ لو فرضنا الأمور الأخروية روحانية غير مجسمة كان بعيدا عن إدراك بداهة الأذهان تحقيقها ، ولم يكن سبيل للشرائع إلى الدعوة إليها والتحذير عنها إلا بالتعبير عنها بوجوه من التمثيلات المقربة إلى الأفهام ، فكيف يكون وجود شيء آخر لو لم يكن الشيء الآخر على الحالة المفروضة لكان الشيء الأول على حالته؟ فهذا هو الكلام على تعريف من طلب أن يكون خاصا من الناس لا عاما أن ظاهر الشرائع غير محتج به في مثل هذه الأبواب.

فتأمل هذا الملحد ، بل رأس ملاحدة الملة ، ودخوله في الإلحاد من باب نفي الصفات ، وتسلطه في إلحاده على المعطلة النفاة بما وافقوا عليه من النفي ، وإلزامه لهم أن يكون الخطاب بالمعاد جمهوريا أو مجازا أو استعارة ، كما قالوا في نصوص الصفات التي اشترك هو وهم في تسميتها تشبيها وتجسيما ، مع أنها أكثر تنوعا وأظهر معنى وأبين دلالة من نصوص المعاد فإذا ساغ لكم أن تصرفوها عن ظاهرها بما لا تحتمله اللغة فصرف هذه عن ظواهرها أسهل.

ثم زاد هذا الملحد عليهم باعترافه بأن نصوص الصفات لا يمكن حملها كلها على الاستعارة والمجاز ، وأن يقال إن ظاهرها غير مراد ، وأن لذلك الاستعمال مواضع تليق به حيث يكون دعوى ذلك في غيرها غلطا محضا كما في مثل قوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) (الأنعام : ٥٨) فمع هذا التقسيم والتنويع يمتنع المجاز ؛ فإنما أريد ما دل اللفظ عليه ظاهرا. ومع هذا فقد ساعدتم على امتناعه لقيام الدليل العقلي عليه. فهكذا نفعل نحن في نصوص المعاد سواء. فهذا حاصل كلامه وإلزامه ودخوله

٢٤٩

إلى الإلحاد من باب نفي الصفات والتجهم.

وطريق الرد المستقيم في إبطال قوله وقول المعطلة جميعا أن يقال : لا يخلو إما يكون الرسول يعرف ما دل عليه العقل بزعمكم من إنكار علو الله على خلقه واستوائه على عرشه. وتكليمه لرسله وملائكته. أو لم يعرف ذلك؟ فإن قلتم لم يكن يعرفه. كانت الجهمية المعطلة والملاحدة والمعتزلة والقرامطة والباطنية والنصيرية والإسماعيلية وأمثالهم (١) أعلم بالله وأسمائه وصفاته. وما يجب له ويمتنع عليه من رسله وأتباعهم ، وإن كان يعرفه امتنع أن لا يتكلم به يوما من الدهر مع أحد من خاصته وأهل سره.

ومن المعلوم قطعا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يتكلم مع أحد بما يناقض ما أظهر للناس. ولا كان خواص أصحابه يعتقدون فيه نقيض ما أظهر للناس. بل كل من كان به أخص وبحاله أعرف كان أعظم موافقة له وتصديقا له على ما أظهره وبينه وأخبر به. فلو كان الحق في الباطن خلاف ما أظهره لزم أحد الأمرين : إما أن يكون جاهلا به. أو كاتما له عن الخاصة والعامة ومظهرا خلافه للخاصة والعامة. وهذا من أعظم الأمور امتناعا. ومدعيه في غاية الوقاحة والبهت. ولهذا لما علم هؤلاء أنه يستحيل كتمان ذلك عن خواصه وضعوا أحاديث بينوا فيها أنه كان له خطاب مع خاصته غير الخطاب العامي. مثل الحديث المختلق المفترى عن عمر أنه قال «كان رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتحدث مع أبي بكر وكنت كالزنجي بينهما» (٢) ومثل ما يدعيه الرافضة أنه كان عند علي علم خاص يخالف هذا الظاهر.

ولما علم الله تعالى أن ذلك يدعي في على وفق من سأله : هل عندكم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيء خصكم به دون الناس؟ فقال «لا. والذي فلق الحبة وبرأ

__________________

(١) تقدم التعريف بتلك الفرق.

(٢) (موضوع) وذكره الشوكاني في «الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة» في (مناقب الصحابة / ١٧) وقال : قال ابن تيمية : موضوع أه وانظره بتحقيقنا ط نزار الباز ـ مكة المكرمة.

٢٥٠

النسمة ما أسر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلينا شيئا كتمه عن غيرنا إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه وما في هذه الصحيفة ، وكان فيها العقول والديات وفكاك الأسير ، وأن لا يقتل مسلم بكافر (١) ، وهذا الحديث في «الصحيحين».

وما ذكره ابن سينا من أنه لم يرد في القرآن من الإشارة إلى توحيده شيء ، فكلام غير صحيح. وهذا دليل على أنه باطل لا حقيقة له ، وأن من وافقهم عليه فهو جاهل ضال. وكذلك ما ذكره من أن من المواضع التي ذكرت فيها الصفات ما لا يحتمل اللفظ فيه إلا معنى واحدا كما ذكره في قوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) فهو حجة على من نفى حقيقة ذلك ومدلوله من المعطلة نفاة الصفات وهو حجة عليه وعليهم جميعا ، وموافقتهم له على التعطيل لا تنفعه ، فإن ذلك (حجة) جدلية لا علمية ، إذ تسليمهم له (ذلك) لا يوجب على غيرهم أن يسلم ذلك له. فإذا تبين بالعقل الصريح ما يوافق النقل الصحيح دل ذلك على فساد قوله وقولهم جميعا.

(توحيد الملاحدة)

وكذلك قوله : هب أن هذه كلها موجودة على الاستعارة فأين التوحيد ، والدلالة والتصريح على التوحيد المحض الذي تدعو إليه حقيقة هذا الدين القيم المعترف بجلالته على لسان حكماء العالم قاطبة؟ كلام صحيح لو كان ما قاله النفاة حقا ، فإنه على قولهم لا يكون هذا الدين القيم قد بين التوحيد الحق أصلا. وحينئذ فنقول : إن التوحيد الذي دعا إليه هؤلاء الملاحدة هو من أعظم الإلحاد في أسماء الرب وصفاته وأفعاله ، وهو حقيقة الكفر وتعطيل العالم عن صانعه. وتعطيل الصانع الذي أثبتوه عن صفات كماله. فشرك عباد الأصنام والأوثان والشمس والقمر والكواكب خير من توحيد هؤلاء بكثير ، فإنه شرك في الإلهية مع إثبات صانع العالم وصفاته وأفعاله وقدرته ومشيئته وعلمه بالكليات

__________________

(١) تقدم تخريجه.

٢٥١

والجزئيات ، وتوحيد هؤلاء تعطيل لربوبيته وإلهيته وسائر صفاته ، وهذا التوحيد ملازم لأعظم أنواع الشرك ، ولهذا كلما كان الرجل أعظم تعطيلا كان أعظم شركا.

وتوحيد الجهمية والفلاسفة مناقض لتوحيد الرسل من كل وجه ، فإن مضمونه إنكار حياة الرب وعلمه وقدرته وسمعه وبصره وكلامه واستوائه على عرشه ، ورؤية المؤمنين له بأبصارهم عيانا من فوقهم يوم القيامة ، وإنكار وجهه الأعلى ، ويديه ومجيئه وإتيانه ومحبته ورضاه وغضبه وضحكه. وسائر ما أخبر به الرسول عنه. ومعلوم أن هذا التوحيد هو نفس تكذيب الرسول بما أخبر به عن الله ، فاستعار له أصحابه اسم التوحيد (١).

ثم يقال : لو كان الحق فيما يقوله هؤلاء النفاة المعطلون لكان قبول الفطر له أعظم من قبولها للإثبات الذي هو ضلال وباطل عندهم ، فإن الله تعالى نصب على الحق الأدلة والأعلام الفارقة بين الحق والباطل ، وجعل فطر عباده مستعدة لإدراك الحقائق. ولو لا ما في القلوب من الاستعداد لمعرفة الحقائق لم يمكن النظر والاستدلال والخطاب والكلام والفهم والإفهام. كما أنه سبحانه جعل الأبدان مستعدة للاغتذاء بالطعام والشراب ولو لا ذلك لما أمكن تغذيتها وتربيتها ، فكما أن في الأبدان قوة تفرق بين الغذاء الملائم والمنافي ، ففي القلوب قوة تفرق بين الحق والباطل أعظم من ذلك ، وخاصية العقل التفريق بين الحق والباطل ، كما أن خاصة السمع التفريق بين الأصوات حسنها وقبيحها ، وخاصة البصر التمييز بين المرئيات وأشكالها وألوانها ومقاديرها فإذا ادعيتم على العقول أنها لا تقبل الحق ، وأنها لو صرح لها به لأنكرت ولم تذعن إلى الإيمان. فقد سلبتم العقول خاصتها وقلبتم الحقيقة التي خلقها الله وفطرها عليها ، وكان نفس ما ذكرتم أن الرسل لو خاطبت به الناس لنفروا عن الإيمان من أعظم الحجج عليكم : وأنه مخالف للعقل والفطرة ، كما هو مخالف للسمع والوحي.

__________________

(١) راجع في ذلك (ص ١٩٠).

٢٥٢

فتأمل هذا الوجه فإنه كاف في إبطال قولهم. ولهذا إذا أراد أهله أن يدعوا الناس إليه ويقبلوه منهم وطئوا إليه توطيئات ، وقدموا له مقدمات يثبتوها في القلب درجة بعد درجة ، ولا يصرحون به أولا ؛ حتى إذا أحكموا ذلك البناء استعاروا له ألفاظا مزخرفة ، واستعاروا المخالفة ألفاظا شنيعة ، فتجمع تلك تلك المقدمات التي قدموها ، وتلك الألفاظ التي زخرفوها : وتلك الشناعات التي على من خالفهم شنعوها. فهنالك إن لم يمسك الإيمان من يمسك السماوات والأرض أن تزولا. وألا ترحل عن القلب ترحل الغيث استدبرته الريح.

الوجه الحادي والأربعون : إن لوازم هذا القول معلومة البطلان بالضرورة من دين الإسلام ؛ وهي من أعظم الكفر ؛ وبطلان الإلزام يستلزم بطلان ملزومه ؛ فإن من لوازمه أنه لا يستفاد من خبر الرسول عن الله في هذا الباب علم ولا هدى ، ولا بيان الحق في نفسه ، ومن لوازمه أن يكون كلامه متضمنا لضد ذلك في ظهره وحقيقته. ومن لوازمه القدح في معرفته وعلمه ، أو في فصاحته وبيانه أو في فصحه وإرادته كما تقدم تقريره مرارا. ومن لوازمه أن يكون المعطلة النفاة أعلم بالله منه أو أنصح. ومن لوازمه أن يكون أشرف الكتب وأشرف الرسل قد قصر في هذا الباب غاية التقصير ؛ وأفرط في التجسيم والتشبيه غاية الإفراط. وتنوع في غاية التنوع. فمرة يقول «أين الله؟» ومرة يقر عليها من سأله ولا ينكرها ، ومرة يشير بإصبعه ومرة يضع يده على عينه وأذنه حين يخبر عن سمع الرب وبصره. ومرة يصفه بالمجيء والنزول والإتيان والانطلاق والمشي والهرولة. ومرة يثبت. له الوجه والعين واليد والأصبع والقدم والرجل والضحك والفرح والرضا والغضب والكلام والتكليم والنداء بالصوت والمناجاة ورؤيته مواجهة عيانا بالأبصار من فوقهم ومحاضراته لهم محاضرة ورفع الحجاب بينه وبينهم. وتجليه لهم واستدعاءهم لزيارته وسلامه عليهم سلاما حقيقيا (قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) (يس : ٥٨) واستماعه وأذنه لحسن الصوت إذا تلا كلامه. وخلقه ما يشاء بيده. وكتابته كلامه بيده. ويصفه بالإرادة والمشيئة والقدرة والقوة والحياء. وقبض السماوات وطيها بيده والأرض بيده الأخرى. ووضعه السماوات على إصبع والأرض

٢٥٣

على إصبع والجبال على إصبع والشجر على إصبع. إلى أضعاف ذلك مما إذا سمعه المعطلة سبحوا الله ونزهوه جحودا وإنكارا ، لا إيمانا وتصديقا ، كما ضحك منه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعجبا وتصديقا لقائله وما شهد لقائله بالإيمان شهد له هؤلاء بالكفر والضلال ، وما أوصى بتبليغه إلى الأمة وإظهاره ، يوصى هؤلاء بكتمانه وإخفائه ، وما أطلقه على ربه لئلا يطلق عليه ضده ونقيضه ، يطلق عليه هؤلاء ضده ونقيضه ، وما نزه ربه عنه من العيوب والنقائص ، يمسكون عن تنزيهه عنه. وإن اعتقدوا أنه منزه عنه ، ويبالغون في تنزيهه عما وصف به نفسه. فتراهم يبالغون أعظم المبالغة في تنزيهه عن استوائه على عرشه وعلوه على خلقه ، وتكلمه بالقرآن حقيقة ؛ وإثبات الوجه واليد والعين له ، ما لا يبالغون مثله ولا قريبا منه في تنزيهه عن الظلم والعبث ؛ والفعل لا لحكمة ، والتكلم بما ظاهره ضلال ومحال. وتراهم إذا أثبتوا ؛ أثبتوا مجملا لا تعرفه القلوب ولا تميز بينه وبين العدم ؛ وإذا نفوا نفوا نفيا مفصلا يتضمن تعطيل ما أثبته الرسول حقيقة.

فهذا وأضعاف أضعافه من لوازم قول المعطلة. ومن لوازمه أن القلوب لا تحبه ولا تريده ولا تبتهج له ولا تشتاق إليه ، ولا تلتذ بالنظر إلى وجهه الكريم في دار النعيم ، صرحوا بذلك كله. وقالوا. هذا كله إنما يصح تعلقه بالمحدث لا بالقديم. قالوا : وإرادته ومحبته محال. لأن الإرادة إنما تتعلق بالمعدوم لا بالموجود ، والمحبة إنما تكون لمناسبة بين المحب والمحبوب ؛ ولا مناسبة بين القديم والمحدث.

ومن لوازمه أعظم العقوق لأبيهم آدم ، فإن من خصائصه أن الله يخلقه بيده ، فقالوا إنما خلقه بقدرته ، فلم يجعلوا له مزية على إبليس في خلقه.

ومن لوازمه ـ بل صرحوا به ـ جحدهم خلة إبراهيم الخليل ، وقالوا : هي حاجته وفقره وفاقته إلى الله ، فلم يثبتوا له بذلك مزية على أحد من الخلق ، إذ كل أحد فقير إلى الله بالذات وإن غاب شعوره بفقره عن قلبه أحيانا ، فهو يعلم أنه فقير إليه في كل نفس وطرفة عين.

ومن لوازمه ـ بل صرحوا به ـ أن الله تعالى لم يكلم موسى تكليما ، وإنما

٢٥٤

خلق كلاما في الهواء أسمعه إياه فكلمه في الريح لا أنه أسمعه كلامه الذي هو صفة من صفاته قائم بذاته ، لا يصدق الجهمي بهذا أبدا.

ومن لوازمه ـ بل صرحوا به ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يعرج به إلى الله حقيقة ولم يدن من ربه حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى ، ولم يرفع من عند موسى إلى عند ربه مرارا يسأله التخفيف لأمته. فإن من ، وإلى ، عندهم في حق الله تعالى محال ، فإنها تستلزم المكان ابتداء وانتهاء.

ومن لوازمه أن الله تعالى لم يفعل شيئا (ولا يفعل شيئا) فإن الفعل عندهم عين المفعول ، هو غير قائم بالرب ، فلم يقم به عندهم فعل أصلا ، وسموه فاعلا من غير فعل يقوم به ؛ كما سموه مريدا من غير إرادة تقوم به ، وسموه متكلما من غير كلام يقوم به ، وسماه زعيمهم المتأخر عند الله وعند عباده عالما من غير علم يقول به حيث قال : العلم هو المعلوم كما قالوا الفعل هو المفعول.

ومن لوازمه أنه لا يسمع ولا يبصر ، ولا يرضى ولا يغضب ، ولا يحب ولا يبغض ؛ فإذا ذلك من مقولة : أن ينفك ، وهذه المقولة لا تتعلق به وهي في حقه محال ؛ كما نفوا علوه على خلقه واستواءه على عرشه بكون ذلك من مقولة الأين وهي ممتنعة عليه ، كما نفوا استواءه على عرشه. لأن ذلك من مقولة الوضع المستحيل ثبوتها له. ولوازم قولهم اضعاف اضعاف ما ذكرناه.

الوجه الثاني والأربعون : إن هؤلاء المعارضين للوحي بآرائهم جعلوا كلام الله ورسوله من الطرق الضعيفة المزيفة التي لا يتمسك بها في العلم واليقين.

قال الرازي في «نهايته» : الفصل السابع في تزييف الطرق الضعيفة وهي أربع : نذكر نفي الشيء انتفاء دليله ، وذكر القياس ، وذكر الإلزامات. ثم قال : الرابع هو التمسك بالسمعيات. وهذا تصريح بأن التمسك بكلام الله ورسوله من الطرق الضعيفة المزيفة ، وأخذ في تقرير ذلك فقال : المطالب على أقسام ثلاثة : منها ما يستحيل العلم بها بواسطة السمع ومنها ما يستحيل العلم بها إلا السمع ومنها ما يصح حصول العلم بها من السمع تارة ومن العقل أخرى.

٢٥٥

قال : أما القسم الأول فكل ما يتوقف العلم بصحة السمع على العلم بصحته استحال تصحيحه بالسمع من قبل العلم بوجود الصانع ، وكونه مختارا وعالما بكل المعلومات وصدق الرسول. قال : وأما القسم الثاني فهو ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر إذا لم يجده الإنسان من نفسه ولا يدركه بشيء من حواسه ، وفإن حصول غراب على قلة جبل قاف إذا كان جائز الوجود والعدم مطلقا ، وليس هناك ما [يقتضي] وجوب أحد طرفيه أصلا وهو غائب عن الحس والنفس استحال العلم بوجوده إلا من قول الصادق.

وأما القسم الثالث : فهو معرفة وجوب الواجبات وإمكان الممكنات واستحالة المستحيلات الذي يتوقف العلم بصحة السمع على العلم بوجوبها وإمكانها واستحالتها مثل مسئلة الرؤية والصفات ، والوحدانية وغيرها. ثم عدد أمثلة.

ثم قال : إذا عرفت ذلك فنقول. أما إن الأدلة السمعية لا يجوز استعمالها في الأصول في القسم الأول فهو ظاهر ، وإلا وقع الدور ، وإما أنه يجب استعمالها في القسم الثاني فهو ظاهر كما سلف. وأما الثالث فنفي جواز استعمال الأدلة السمعية فيه إشكال ، وذلك لأنا لو قدرنا قيام الدليل القاطع العقلي على خلاف ما أشعر به ظهر الدليل السمعي فلا خلاف بين أهل التحقيق بأنه يجب تأويل الدليل السمعي لأنه إذا لم يمكن الجمع بين ظاهر النقل وبين مقتضى الدليل العقلي ، فإما أن يؤول النقل ، فإن كذبنا العقل مع أن النقل مع أن لا يمكن إثباته إلا بالعقل فإن الطريق إلى إثبات الصانع ومعرفة النبوة ليس إلا العقل ، فحينئذ تكون صحة النقل متفرقة على ما يجوز فساده وبطلانه ، فإذا لا يكون العقل مقطوع الصحة ، فإذا تصحيح النقل يرد العقل ويتضمن القدح في النقل. وما أدى ثبوته إلى انتفائه كان باطلا ، وتعين تأويل النقل ، فإذا الدليل السمعي لا يفيد اليقين بوجود مدلوله إلا بشرط أم لا يوجد دليل عقلي على خلاف ظاهره. فحينئذ لا يكون الدليل النقلي مفيدا للمطلوب إلا إذا تبين انه ليس في العقل ما يقتضي خلاف ظاهره ، ولا سبيل لنا إلى إثبات ذلك إلا من وجهين : إما أن نقيم دلالة عقلية على صحة ما أشعر به ظاهر الدليل النقلي

٢٥٦

وحينئذ يصير الاستدلال بالنقل فضله غير محتاج إليه ، وإما بأن نتزيف أدلة المنكرين لما دل عليه ظاهر النقل ، وذلك ضعيف ، لما بينا من أنه لا يلزم من فساد ما ذكروه إلا أن يكون هنالك معارض أصلا ، إلا أن نقول أنه لا دليل على هذه المعارضات ، فوجب نفيه لكنا زيفنا هذه الطريقة ، يعني انتفاء الشيء لانتفاء دليله أو نقيم دلالة قاطعة على أن المقدمة الفلانية غير معارضة لهذا النص ولا المقدمة الأخرى ، وحينئذ يحتاج إلى إقامة الدلالة على أن كل واحدة من هذه المقدمات التي لا نهاية لها غير معارضة لهذا الظاهر.

فثبت أنه لا يمكن حصول اليقين بعدم ما يقتضي خلاف الدليل النقلي ، وثبت أن الدليل النقلي تتوقف إفادته لليقين على مقدمة غير يقينية : وهي عدم دليل عقلي. وكل ما تنبئ صحته على ما لا يكون يقينا لا يكون هو أيضا يقينيا ، فثبت أن الدليل النقلي من هذا القسم لا يكون مفيدا لليقين.

قال : وهذا بخلاف الأدلة العقلية فإنها مركبة من مقدمات لا يكتفي منها بأن لا يعلم فسادها ، بل لا بد وأن يعلم بالبديهة صحتها إذ يعلم بالبديهة لزومها مما علم صحته بالبديهة ، ومتى كان ذلك استحال أن يوجد ما يعارضه لاستحالة التعارض في العلوم البديهية. ثم قال : فإن قيل : إن الله سبحانه لما أسمع المكلف الكلام الذي يشعر ظاهره بشيء. فلو كان في العقل ما يدل على بطلان ذلك الشيء وجب عليه سبحانه أن يخطر ببال المكلف ذلك الدليل. وإلا كان ذلك تلبيسا من الله تعالى وأنه غير جائز.

قلنا : هذا بناء على قاعدة الحسن والقبح ، وإنه يجب على الله سبحانه شيء ، ونحن لا نقول بذلك سلمنا ذلك ، فلم قلتم إنه يجب على الله أن يخطر ببال المكلف ذلك الدليل العقلي؟ وبيانه : إن الله تعالى إنما يكون ملبسا على المكلف لو اسمعه كلاما يمتنع عقلا أن يريد به إلا ما أشعر به ظاهره وليس الأمر كذلك ، لأن المكلف إذا سمع ذلك الظاهر فتقدير أن يكون الأمر كذلك ، لم

٢٥٧

يكن مراد الله من ذلك الكلام ما أشعر به الظاهر ، فعلى هذا إذا أسمع الله المكلف ذلك الكلام فلو قطع المكلف بحمله على ظاهره مع قيام الاحتمال الذي ذكرناه كان ذلك التقصير واقعا من المكلف. لا من قبل الله تعالى. حيث قطع لا في موضع القطع ، فثبت أنه لا يلزم من عدم إخطار الله تعالى ببال المكلف ذلك الدليل العقلي المعارض للدليل السمعي أن يكون مكلفا ملبسا. قال فخرج بما ذكرنا أن الدلالة النقلية لا يجوز التمسك بها في باب المسائل العقلية ، نعم يجوز التمسك بها في المسائل النقلية تارة لإفادة اليقين كما في مسئلة الإجماع وخبر الواحد وتارة لإفادة الظن كما في الأحكام الشرعية ـ انتهى كلامه.

فليتدبر المؤمن هذا الكلام أوله على آخره وآخره على أوله ليتبين له ما ذكرناه عنهم من العزل التام للقرآن والسنة من أن يستفاد منهما علم أو يقين في باب معرفة الله وما يجب له وما يمتنع عليه. وأنه لا يجوز أن يحتج بكلام الله ورسوله في شيء من هذه المسائل. وإن الله تعالى يجوز عليه التدليس والتلبيس على الخلق وتوريطهم في طرق الضلال. وتعريضهم لاعتقاد الباطل والمحال ، وإن العباد مقصرون غاية التقصير إذا حملوا كلام الله ورسوله على حقيقته ، ونطقوا بمضمون ما أخبر به حيث لم يشكوا في ذلك ، أو قد يكون في العقل ما يعارضه ويناقضه ، وإن غاية ما يمكن بكلام الله ورسوله عليه من الجزئيات ما كان مثل الإخبار بأن على قمة جبل قاف غربا صفته كيت وكيت ؛ أو على مسألة الإجماع وخبر الواحد ، وإن مقدمات أدلة القرآن والسنة غير معلومة ولا متيقنة الصحة ، ومقدمات أدلة أرسطو صاحب المنطق والفارابي وابن سينا وإخوانهم قطعية معلومة ولا متيقنة الصحة ، وإنه لا طريق لنا إلى العلم بصحة الأدلة في باب الإيمان بالله وأسمائه وصفاته البتة ؛ لتوقفها على انتفاء ما لا طريق لنا إلى العلم بانتفائه. وأن الاستدلال بكلام الله ورسوله في ذلك فضله لا يحتاج إليها ، بل هى مستغنى عنها إذا كان موافقا للعقل.

فتأمل على البناء الذي بنوه ، هل في قواعد الإلحاد أعظم هدما منه لقواعد الدين ، وأشد مناقضة منه لوحي رب العالمين؟ وبطلان هذا الأصل معلوم بالاضطرار من دين جميع الرسل ؛ وعند جميع أهل الملل.

٢٥٨

وهذه الوجوه المتقدمة التي ذكرناها هى قليل من كثير مما يدل على بطلانه ، ومقصودنا من ذكره اعترافهم به بألسنتهم لا بإلزامنا لهم به وتمام إبطاله أن نبين فساد كل مقدمة من مقدمات الدليل الذي عارضوا به النقل أنها مخالفة للعقل كما هي مناقضة للوحي.

والوجه الثالث والأربعون : إن السمع حجة الله على خلقه ؛ وكذلك العقل ، فهو سبحانه أقام عليهم حجته بما ركبه فيهم من العقل ؛ وإن ما أنزل إليهم من السمع ما لا يدفعه العقل فإن العقل الصريح لا يتناقض في نفسه ، كما أن السمع الصحيح لا يتناقض في نفسه. وكذلك العقل مع السمع ، فحجج الله وبيناته لا تتناقض ولا تتعارض ؛ ولكن تتوافق وتتعاضد ، وأنت لا تجد سمعا صحيحا عارضه معقول مقبول عند كافة العقلاء أو أكثرهم ، بل العقل الصريح يدفع المعقول المعارض للسمع الصحيح ؛ وهذا يظهر بالامتحان في كل مسألة عورض فيها السمع بالمعقول. ونحن نذكر من ذلك مثالا واحدا يعلم به ما عداه فنقول.

قال الفرقة الجامعة بين التجهم ونفي القدر ، معطلة الصفات : صدق الرسول موقوف على قيام المعجزة الدالة على صدقه ، وقيام المعجزة الدالة على صدقه ؛ موقوف على العلم بأن الله لا يؤيد الكذاب بالمعجزة الدالة على صدقه. والعلم بذلك موقوف على العلم بقبحه وعلى أن الله تعالى لا يفعل القبيح ؛ وتنزيهه عن فعل القبيح موقوف على العلم بأنه غني عنه عالم بقبحه ، والغني عن القبيح العالم بقبحه لا يفعله ؛ وغناه عنه موقوف على أنه ليس بجسم ؛ وكونه ليس بجسم موقوف على عدم قيام الأعراض والحوادث به ؛ وهي الصفات والأفعال ، نفي ذلك موقوف على ما دل عليه حدوث الأجسام ؛ والذي دلنا على حدوث الأجسام أنها لا تخلو عن الحوادث ، وما لا تخلو عن الحوادث لا يسبقها ، وما لا يسبق الحوادث فهو حادث. وأيضا فإنها لا تخلو عن الأعراض ، والأعراض لا تبقى زمانين ، فهي حادثة ، فإذا لم تخل الأجسام عنها لزم حدوثها. وأيضا فإن الأجسام مركبة من الجواهر الفردة ؛ والمركب مفتقر إلى جزئه وجزؤه غيره ، وما افتقر إلى غيره لم يكن إلا حادثا مخلوقا ، فالأجسام متماثلة ، كل ما صح

٢٥٩

على بعضها صح على جميعها وقد صح على بعضها التحليل والتركيب والاجتماع والافتراق فيجب ان يصح على جميعها.

قالوا : وبهذا الطريق أثبتنا حدوث العالم ونفي كون الصانع جسما وإمكان المعاد. فلو بطل الدليل الدال على حدوث الجسم بطل الدليل الدال على ثبوت الصانع وصدق الرسول. فصار العلم بثبوت الصانع وصدق الرسول وحدوث العالم وإمكان المعاد موقوفا على نفي الصفات ، فإذا جاء السمع ما يدل على إثبات الصفات والأفعال لم يكن القول بموجبه ؛ ويعلم أن الرسول لم يرد إثبات ذلك. لأن إرادته للإثبات تنافي تصديقه. ثم إما إن كان يكذب الناقل ، وإما أن يتأول المنقول. وإما أن يعرض عن ذلك جملة ويقول لا يعلم المراد.

فهذا أصل ما بنى عليه القوم دينهم وإيمانهم. ولم يقيض لهم من يبين لهم فساد هذا الأصل ومخالفته لصريح العقل ، بل قيض لهم من المنتسبين إلى السنه من وافقهم عليه. ثم أخذ يشنع عليهم القول بنفي الصفات والأفعال وتكليم الرب لخلقه ورؤيتهم له في الدار الآخرة وعلوه على خلقه واستوائه على عرشه ونزوله إلى سماء الدنيا. فأضحكهم عليه وأغراهم به. ونسبوه إلى ضعف العقل والحشو والبله. والمصيبة مركبة من عدوان هؤلاء ونفيهم. وتقصير أولئك وموافقتهم لهم في الأصل ثم تكفيرهم وتبديعهم.

وهذا الطريق. من الناس من يظنها من لوازم الإيمان وأن الإيمان لا يتم إلا بها. ومن لم يعرف ربه بهذه الطريق لم يكن مؤمنا به ولا بما جاء به رسوله. وهذا يقوله الجهمية والمعتزلة متأخر والأشعرية بل أكثرهم وكثير من المنتسبين إلى الأئمة الأربعة وكثير من أهل الحديث والصوفية. ومن الناس من يقول : ليس الإيمان موقوفا عليها ولا هي من لوازمه. وليست طريق الرسل. ويحرم سلوكها لما فيها من الخطر والتطويل وإن لم يعتقد بطلانها. وهذا قول أبي الحسن الأشعري نفسه. فإنه صرح بذلك في رسالته إلى أهل الثغر ، وبين أنها طريق خطرة مذمومة محرمة وإن كانت غير باطلة ، ووافقه على هذا جماعة من أصحابه من أتباع الأئمة.

٢٦٠