مختصر الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة

ابن القيّم الجوزيّة

مختصر الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: رضوان جامع رضوان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٨٧

عن حلها فهم يعلمون أنها قدح فيما علموه بالحس والاضطراب. فمن قدر على حلها وإلا لم يتوقف حزمه بما علمه بحسه واضطراره على حلها.

وكذلك الحال في الشبه التي عارضت ما أخبر به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم سواء ؛ فإن المصدق به وبما جاء به يعلم أنها لا تقدح في صدقه ولا في الإيمان به ، فإن عجز عن حلها فإن تصديقه بما جاء به الرسول ضروري. وهذه الشبهة عنده لا تزيل ما علمه بالضرورة ، فكيف إذا تبين بطلانها على التفصيل؟ يوضحه.

(موافقة صريح العقل لصحيح النقل)

الوجه الحادي والأربعون وهو : أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين مراده. وقد تبين أكثر مما تبين لنا كثير من دقائق المعقولات الصحيحة ، ومعرفتنا بمراد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كلامه فوق معرفتنا بتلك الدقائق إذا كانت صحيحة المقدمات في نفسها صادقة النتيجة غير كاذبة فكيف إذا كان الأمر فيها بخلاف ذلك؟ فتلك التي تسمى معقولات قد تكون خطأ ولكن لم يتفطن لخطئها. وأما كلام المعصوم صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد قام البرهان القاطع على صدقه ، ولكن قد يحصل الغلط في فهمه فيفهم منه ما يخالف صريح العقل فيقع التعارض بين ما فهم من النقل وبين ما اقتضاه صريح العقل فهذا لا يدفع. ولكن إذا تأمله من وهبه الله حسن القصد وصحة التصور تبين له أن المعارضة واقعة بين ما فهمه النفاة من النصوص وبين العقل الصريح ، وأنها غير واقعة بين ما دل عليه النقل وبين العقل.

ومن أراد معرفة هذا فليوازن بين مدلول النصوص وبين العقل الصريح ليتبين له مطابقة أحدهما للآخر ، ثم يوازن بين أقوال النفاة وبين العقل الصريح ، فإنه يتبين له حينئذ أن النفاة أخطئوا خطأين ، خطأ على السمع ، فإنهم فهموا منه خلاف مراد المتكلم ، وخطأ على العقل بخروجهم عن حكمه.

الثاني والأربعون : أن المعارضين بين العقل والنقل الذي أخبر به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد اعترفوا بأن العلم بانتفاء المعارض مطلقا لا سبيل إليه ، إذ ما من معارض نفسه إلا ويحتمل أن يكون له معارض آخر. وهذا مما اعتمد صاحب «نهاية العقول» وجعل السمعيات لا يحتج بها على العالم بحال.

١٤١

وحاصل هذا : أنا لا أعلم ثبوت ما أخبر به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى نعلم انتفاء ما يعارضه. ولا سبيل إلى العلم بانتفاء المعارض مطبقا لما تقدم ، وأيضا فلا يلزم من انتفاء العلم بالمعارض. ولا ريب أن هذا القول أفسد أقوال العالم ، وهو من أعظم أصول أهل الإلحاد والزندقة ، وليس في عزل الوحي عن رتبته أبلغ من هذا.

الثالث والأربعون : إن الله سبحانه قد أخبر في كتابه أن ما على الرسول إلا البلاغ المبين فقال تعالى : (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (العنكبوت : ١٨) وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) (المائدة : ٦٧) ، وقال تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل : ٤٤) وقد شهد الله له وكفى بالله شهيدا بالبلاغ الذي أمر به ، فقال : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) (الذاريات : ٥٤) ، وشهد له أعقل الخلق وأعلمهم وأفضلهم بأنه قد بلغ. فأشهد الله عليهم بذلك في أعظم مجمع وأفضله ، فقال في خطبته في عرفات في حجة الوداع «إنكم مسئولون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت : فرفع إصبعه إلى السماء مستشهدا بربه الذي فوق سماواته ، وقال : «اللهم اشهد» (١) فلو لم يكن عرف المسلمون وتيقنوا ما أرسل به وحصل لهم منه العلم واليقين ، لم يكن قد حصل منه البلاغ المبين ، ولما رفع عنه اللوم وغاية ما عند النفاة أنه يضمهم ألفاظا لا تفيدهم علما ولا يقينا. وأحالهم في طلب العلم واليقين على عقولهم وفطرهم وآرائهم ، لا على ما أوحى إليه ؛ وهذا معلوم البطلان بالضرورة.

الرابع والأربعون : أن عقل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكمل عقول أهل الأرض على الإطلاق فلو وزن عقله بعقولهم لرجحها وقد أخبر الله أنه قبل الوحى لم يكن يدري ما الإيمان ، كما لم يكن يدري ما الكتاب ، فقال الله تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ

__________________

(١) أخرجه البخاري (١٧٤٢ ، ٤٤٠٦) ، ومسلم (القسامة / ٣١) وغيرهما.

١٤٢

نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) (الشورى : ٥٢) وقال تعالى : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى ، وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى ، وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى) (الضحى : ٦ ـ ٨) وتفسير هذه الآية بالآية التي في آخر سورة الشورى. إذا كان أعقل الخلق على الإطلاق إنما حصل له الهدى بالوحى كما قال تعالى : (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) (سبأ : ٥٠) فكيف يحصل لسفهاء العقول واخفاء الأحلام ، الاهتداء إلى حقائق الإيمان بمجرد عقولهم دون نصوص الوحي ، حتى اهتدوا بتلك الهداية إلى المعارضة بين العقل ونصوص الأنبياء (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا. تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ ، وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا) (مريم : ٨٩ ـ ٩٠).

الوجه الخامس والأربعون : إن الله سبحانه إنما أقام الحجة على خلقه بكتابه ورسله فقال تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) (الفرقان : ١) وقال تعالى : (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) (الأنعام : ١٩) فكل من بلغه هذا القرآن فقد أنذر به وقامت عليه حجة الله وقال تعالى : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (النساء : ١٦٥) ، وقال تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (الإسراء : ١٥) ، وقال تعالى : (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ؟ قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ. وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ. فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) (الملك : ٨ ـ ١١) فلو كان كلام الله ورسوله لا يفيد اليقين والعلم ، والعقل معارض له ، فأى حجة تكون قد قامت على المكلفين بالكتاب والرسل؟ وهل هذا القول إلا مناقض لإقامة حجة الله بكتابه من كل وجه؟.

١٤٣

الوجه السادس والأربعون : أنه سبحانه بين لعباده بأنه يبين لهم غاية البيان ، وأمر رسوله بالبيان. وأخبر أنه أنزل عليه كتابه ليبين للناس ولهذا قال الزهري : «من الله البيان وعلي الرسول البلاغ ، وعلينا التسليم» ؛ فهذا البيان الذي تكفل به سبحانه وأمر به رسوله إما أن يكون المراد به بيان اللفظ وحده ، أو المعنى وحده ، أو اللفظ المعنى جميعا. ولا يجوز أن يكون المراد بيان اللفظ دون المعنى ، فإن هذا لا فائدة فيه ، ولا يحصل به مقصود الرسالة.

وبيان المعنى وحده بدون دليله ، وهو اللفظ الدال عليه ، ممتنع ، فعلم قطعا أن المراد بيان اللفظ والمعنى ، فكما نقطع ونعلم أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين اللفظ فكذلك نتيقن أنه بين المعنى ، بل كانت عنايته ببيان المعنى أشد من عنايته ببيان اللفظ وهذا هو الذي ينبغي ، فإن المعنى هو المقصود ، وأما اللفظ فوسيلة إليه ، فكيف تكون عنايته بالوسيلة أهم من عنايته بالمقصود؟ وكيف يتيقن بيانه للوسيلة ولا يتيقن بيانه للمقصود؟ وهل هذا إلا من أبين المحال فإن جاز عليه أن لا يبين المراد من ألفاظ القرآن ، جاز أن لا يبين بعض ألفاظه. فلو كان المراد منها خلاف حقائقها وظواهرها دون مدلولاتها ـ وقد كتمه عن الأمة ولم يبينه لها. كان ذلك قدحا في رسالته وعصمته ، وفتحا للزنادقة من الرافضة وغيرهم باب كتمان بعض ما أنزل الله ، وهذا مناف للإيمان به وبرسالته ، يوضحه :

(الرد على من قال : أن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين)

الوجه السابع والأربعون : إن القائل بأن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين ، إما أن يقول : إنها تفيد ظنا أو لا تفيد علما ولا ظنا. فإن قال : لا تفيد علما ولا ظنا فهو مع مكابرته للعقل والسمع والفطرة الإنسانية من أعظم الناس كفرا وإلحادا.

وإن قال : بل تفيد ظنا غالبا وإن لم تفد يقينا ، قيل له : فالله تعالى قد ذم الظن المجرد وأهله ، فقال تعالى : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) فأخبر أن الظن لا يوافق الحق ولا يطابقه ، وقال تعالي : (إِنْ

١٤٤

يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) ، وقال أهل النار (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) ، فلو كان ما أخبر الله به عن أسمائه وصفاته واليوم الآخر ، وأحوال الأمم وعقوباتهم ، لا تفيد إلا ظنا ، لكان المؤمنون أن يظنون ظنا وما هم بمستيقنين ، ولكان قوله تعالى : (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) خبرا غير مطابق ، فإن علمهم بالآخرة إنما استفادوه من الأدلة اللفظية ، ولا سيما وجمهور المتكلمين يصرحون بأن المعاد إنما علم بالنقل ، فإذا كان النقل لا يفيد يقينا لم يكن في الأمة من يوقن بالآخرة ، إذا الأدلة العقلية لا مدخل لها فيها ، وكفى بهذا بطلانا وفسادا.

والله تعالى لم يكتف من عباده بالظن بل أمرهم بالعلم كقوله (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) (محمد : ١٩) ، وقوله : (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (المائدة : ٩٨) وقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) (البقرة : ٢٢٣) ونظائر ذلك.

وإنما يجوز اتباع الظن في بعض المواضع للحاجة ، كحادثة يخفي على المجتهد حكمها ، أو في الأمور الجزئية كتقويم السلع ونحوه. وأما ما بينه الله في كتابه على لسان رسوله فمن لم يتيقنه بل ظنه ظنا ، فهو من أهل الوعيد ليس من أهل الإيمان ، فلو كانت الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين لكان ما بينه الله ورسوله بالكتاب والسنة لم يتيقنه أحد من الأمة.

الثامن والأربعون : قوله إن العلم بمدلول الأدلة اللفظية موقوف على نقل اللغة : كلام ظاهر البطلان ، فإن دلالة القرآن والسنة على معانيها من جنس دلالة لغة كل قوم على ما يعرفونه ويعتادونه من تلك اللغة ، وهذا لا يختص بالعرب ، بل هو أمر ضروري لجميع بنى آدم ، إنما يتوقف العلم بمدلول ألفاظهم على كونهم من أهل تلك اللغة التي وقع بينهم بها التخاطب ، ولهذا لم يرسل الله رسولا إلا بلسان قومه ليبين لهم ، فتقوم عليهم الحجة بما فهموه من خطابه لهم فدلالة اللفظ هي العلم بقصد المتكلم به.

ويراد بالدلالة أمران : فعل الدال. وكون اللفظ بحيث يفهم معنى. ولهذا

١٤٥

يقول دله بكلامه دلالة. ودل الكلام على هذا دلالة ، فالمتكلم دال بكلامه ؛ وكلامه دال بنظامه ، وذلك يعرف من عادة المتكلم في ألفاظه. فإذا كانت عادته أنه يعني بهذا اللفظ هذا المعنى ، علمنا متى خاطبنا به أنه أراده من وجهين : أحدهما أن دلالة اللفظ مبناها على عادة المتكلم التي يقصدها بألفاظه ، وكذا على مراده بلغته التي عادته أن يتكلم بها. فإذا عرف السامع ذلك المعنى وعرف أن عادة المتكلم إذا تكلم بذلك اللفظ أن يقصده ، علم أنه مراده قطعا ، وإلا لم يعلم مراد متكلم أبدا ، وهو محال.

الثاني : أن المتكلم إذا كان قصده إفهام المخاطبين كلامه وعلم المخاطب السامع من طريقته وصفته أن ذلك قصده ، لا أن قصده التلبيس ، أفاده مجموع العلمين اليقين بمراده ؛ ولم يشك فيه ، ولو تخلف عنه العلم لكان ذلك قادحا في أحد العلمين ؛ إما قادحا في علمه في موضع ذلك اللفظ. وإما في علمه بعبارة المتكلم به وصفاته وقصده ، فمتى عرف موضوعه وعرف عادة المتكلم به أفاده ذلك القطع ، يوضحه :

التاسع والأربعون : إن السامع متى سمع المتكلم يقول لبست ثوبا ، وركبت فرسا ، وأكلت لحما ، وهو عالم بمدلول هذه الألفاظ من عرف المتكلم ، وعالم أن المتكلم لا يقصد بقوله لبست ثوبا معنى ذبحت شاة ، ولا من قوله ركبت فرسا معني لبست ثوبا ، علم مراده قطعا ؛ فإنه يعلم أن قصد خلاف ذلك عد ملبسا مدلسا لا مبينا مفهما. وهذا مستحيل على الله ورسوله أعظم استحالة وإن جاز على أهل التخاطب فيما بينهم.

فإذا إفادة كلام الله ورسوله اليقين فوق استفاده ذلك من كلام كل متكلم. وهذا أدل على كلام الله ورسوله من دلالة كلام غيره على مراده ، وكلما كان السامع أعرف بالمتكلم وقصده وبيانه وعادته ؛ كانت استفادته للعلم بمراده أكمل وأتم.

الخمسون : أن قوله : إن فهم الدلالة اللفظية موقوف على نقل النحو والتصريف» جوابه : أن القرآن قد نقل إعرابه كما نقلت ألفاظه ومعانيه ، ولا فرق في ذلك كله. فألفاظه متوافرة وإعرابه متواتر ؛ ونقل معانيه أظهر من نقل ألفاظه وإعرابه كما تقدم بيانه. ونقل جميع ذلك بالتواتر أصح من نقل كل لغة

١٤٦

نقلها ناقل على وجه الأرض وقواعد الأعراب والتصريف الصحيحة مستفادة منه ، مأخوذة من إعرابه وتصريفه ، وهو الشاهد على صحة غيرها مما يحتج له بها. فهو الحجة لها والشاهد ، وشواهد الإعراب والمعاني منه أقوى وأصح من الشواهد من غيره. حتى أن فيه من قواعد الإعراب وقواعد المعاني والبيان ما لم يشتمل عليه ضوابط النحاة وأهل علم المعاني. فبطل قول هؤلاء : إن الأدلة اللفظية تتوقف دلالتها على عصمة رواة مفردات تلك الألفاظ. يوضحه :

الحادي والخمسون : هب أنه يحتاج إلى نقل ذلك ، لكن عامة ألفاظ القرآن منقول معناه وإعرابها بالتواتر ، لا يحتاج الناس فيه إلى نقل عن عدول أهل العربية كالخليل ، وسيبويه ، والأصمعى ، وأبي عبيدة والكسائي ، والفراء ، حتى الألفاظ الغريبة في القرآن مثل (ابتلوا) (١) و (قسمة ضيزى) (٢) (وعسعس) (٣) ونحوها ، معانيها منقولة في اللغة بالتواتر لا يختص بنقلها الواحد والاثنان ، فلم تتوقف دلالتها على عصمة رواه معانيها. فكيف في الألفاظ الشهيرة كالشمس ، والقمر ، والليل ، والنهار ، والبر ، والبحر ، والجبل. فهذه الدعوى باطلة في الألفاظ الغريبة والشهيرة. يوضحه :

الوجه الثاني والخمسون : إن أصحاب هذا القانون قالوا : أظهر الألفاظ لفظ (الله) ، وقد اختلف الناس فيه أعظم اختلاف. هل هو مشتق أم لا؟ وهل هو مشتق من التأله أو من الوله أو من لاه إذا احتجب.

وكذلك اسم «الصلاة» ، وفيه من الاختلاف ما فيه ، هل مشتق من الدعاء

__________________

(١) يشير إلى قوله تعالى : (وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ ...) الآية (النساء : ٦) ، وابتلوا : يعني اختبروا (الجلالين).

(٢) يشير إلى قوله تعالى (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى ، تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) (النجم : ٢٢) وقسمة ضيزى : يعني جائرة من ضازه يضيزه إذا ظلمه وجار عليه (الجلالين).

(٣) في قوله تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ ، وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ ، إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) (التكوير : ١٧) ، ومعنى الليل إذا عسعس : أقبل بظلامه أو أدبر (الجلالين).

١٤٧

أو من الاتباع ، أو من تحريك الصلوين فإذا كان هذا في أظهر الأسماء ، فما الظن بغيره.

فتأمل هذا الوهم والإيهام ، واللبس والتلبيس ، فإن جميع أهل الأرض علمائهم وجهلائهم ، ومن يعرف الاشتقاق ومن لا يعرفه ، وعربهم وعجمهم يعلمون أن (الله) اسم لرب العالمين خالق السموات والأرض الذي يحيى ، وهو رب كل شيء ومليكه. فهم لا يختلفون في أن هذا الاسم يراد به هذا المسمى ، وهو أظهر عندهم وأعرف وأشهر من كل اسم وضع لكل مسمى ، وإن كان الناس متنازعين في اشتقاقه فليس ذلك بنزاع منهم في معناه.

وكذلك الصلاة لم يتنازعوا في معناها الذي أراده الله ورسوله وإن اختلفوا في اشتقاقها ؛ وليس هذا نزاعا في وجه الدلالة عليه. وكذلك قوله تعالى : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) (النساء : ١٧٦) يقدره البصريون كراهة أن تضلوا ، والكوفيون لئلا تضلوا.

وكذلك اختلافهم في التنازع وأمثال ذلك ، إنما هو نزاع في وجه دلالة اللفظ على ذات المعنى ، مع اتفاقهم على أن المعنى واحد ؛ وهذا اللفظ لا يخرج اللفظ عن إفادته السامع اليقين بمسماه.

الثالث والخمسون : أن يقول هذه الوجوه العشرة مدارها عل حرف واحد ، وهو : أن الدليل اللفظي يحتمل أزيد من معنى واحد فلا يقطع بإرادة المعنى الواحد.

فنقول : من المعلوم أن أهل اللغة لم يشرعوا للمتكلم أن يتكلم بما يريد به خلاف ظاهره إلا مع قرينة تبين المراد ؛ والمجاز إنما يدل على القرينة بخلاف الحقيقة ، فإنها تدل مع التجرد. وكذلك الحذف والإضمار لا يجوز إلا إذا كان في الكلام ما يدل عليه. وكذلك التخصيص ليس لأحد أن يدعيه إلا مع قرينة تدل عليه ، فلا يسوّغ العقلاء لأحد أن يقول : جاءني زيد ، وهو يريد ابن زيد إلا مع قرينة ، كما في قوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ). «وسئل العير» عند من يقول إنه من هذا الباب ، فإنه يقول : القرية والعير لا يسألان فعلم أنه أراد

١٤٨

أهلهما. ومن جعل القرية للسكان والمسكن ، والعير اسما للركبان والمركوب ، ولم يحتج إلى هذا التقدير.

وإذا كانت هذه الأنواع لا تجوز مع تجريد الكلام عن القرائن المبينة للمراد ، فحيث تجرد علمنا قطعا أنه لم يرد بها ذلك ؛ وليس لقائل أن يقول : قد تكون القرائن موجودة ولا علم لنا بها ، لأن من القرائن ما يجب أن يكون لفظيا كمخصصات الأعداد وغيرها. ومنها ما يكون معنويا كالقرائن الحالية والعقلية. والنوعان لا بد أن يكونا ظاهرين للمخاطب ليفهم مع تلك القرائن مراد المتكلم ، فإذا تجرد الكلام عن القرائن فإن معناه المراد عند التجرد ، وإذا اقترنا بتلك القرائن فهم معناه المراد عند الاقتران ، فلم يقع لبس في الكلام المجرد ولا في الكلام المقيد ؛ إذ كل من النوعين مفهم لمعناه المختص به. وقد اتفقت اللغة والشرع أن اللفظ المجرد إنما يراد به ما ظهر منه ، وإنما يقدر من احتمال مجاز أو اشتراك أو حذف أو إضمار ونحوه وإنما يقع مع القرينة ، أما مع عدمها فلا والمراد معلوم على التقديرين. يوضحه :

الرابع والخمسون : أن غاية ما يقال إن في القرآن ألفاظ استعملت في معان لم تكن العرب تعرفها ، وهي الأسماء الشرعية كالصلاة والزكاة والاعتكاف ونحوها ، والأسماء الدينية كالإيمان والإسلام والكفر والنفاق ونحوها. وأسماء مجملة لم يرد ظاهرها كالسارق والسارقة والزاني والزانية ونحوها ؛ وأسماء مشتركة كالقرء وعسعس ونحوهما ، فهذه الأسماء لا تفيد اليقين بالمراد منها.

فيقال : هذه الأسماء جارية في القرآن على ثلاثة أنواع : نوع بيانه معه ، فهو مع بيانه يفيد اليقين بالمراد منه ، ونوع بيانه في آيات أخرى ، فيستفاد اليقين من مجموع الآيتين ، ونوع بيانه موكول إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيستفاد اليقين من المراد منه ببيان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم نقل نحن ولا أحد من العقلاء : إن كل لفظ هو مفيد اليقين بالمراد منه بمجرده من غيره احتياج إلى لفظ آخر متصلا به أو منفصلا عنه ، بل نقول : إن مراد المتكلم يعلم من لفظه المجرد منه والمقرون تارة ، ومنه ومن لفظ آخر يفيدان اليقين بمراده تارة. ومنه ومن بيان آخر بالفعل أو القول يحيل

١٤٩

المتكلم عليه تارة ، وليس في القرآن خطاب أريد منه العلم بمدلوله إلا وهو داخل في هذه الأقسام. فالبيان المقترن كقوله تعالى : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) (البقرة : ٨٧) ، وكقوله تعالى (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) (النساء : ٩٥). وقوله (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) (العنكبوت : ١٤) ونظائر ذلك. والبيان المنفصل كقوله (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) (البقرة : ٢٣٣) وقوله (وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) (لقمان : ١٤) ، مع قوله : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) (الأحقاف : ١٥) ؛ فأفاد مجموع اللفظين البيان بأن مدة أقل الحمل ستة أشهر.

وكذلك قوله : (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ) (النساء : ١٢) ، ومع قوله : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) (النساء : ١٧٦) ، وأنه من لا ولد له وإن سفل ولا والد له وإن علا. وكذلك قوله : (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ) (الطلاق : ٦) ، مع قوله : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) (الطلاق : ٢) ، أفاد مجموع الخطابين في الرجعيات دون البوائن ، ومنه قوله تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) (التكوير : ١٧ : ١٨) ، مع قوله : (كَلَّا وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ) (المدثر : ٣٢ ـ ٣٤) ، فإن مجموع الخطابين يفيد أن العلم بأن الرب سبحانه أقسم بإدبار هذا وإقبال هذا أو إقبال كل منهما على قول من فسر أدبر النهار أي جاء في دبره وعسعس بأقبل. فعلى هذا القول يكون القسم بإقبال الليل وإقبال النهار ، وقد يقال : وقع الأقسام في الآيتين بالنوعين.

وأما البيان الذي يحيل المتكلم عليه ، فكلما أحال الله سبحانه على رسوله في بيان ما أمرهم به من الصلاة والزكاة والحج ، وفرائض الإسلام التي إنما علمت مقاديرها وصفاتها وهيئاتها من بيان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فلا يخرج خطاب القرآن عن

١٥٠

هذه الوجوه الأربعة. فصار الخطاب مع بيانه مفيدا لليقين بالمراد منه ، وإن لم يكن بيانه متصلا به.

الخامس والخمسون : إن هذا القول الذي قاله أصحاب هذا القانون لم يعرف عن طائفة من طوائف بنى آدم ، ولا طوائف المسلمين ، ولا طوائف اليهود والنصارى ، ولا عن أحد من أهل الملل قبل هؤلاء ، وذلك لظهور العلم بفساده. فإنه يقدح فيما هو أظهر العلوم الضرورية لجميع الخلق. فإن بنى آدم يتكلمون ويخاطب بعضهم بعضا مخاطبة ومكاتبة ، وقد أنطق الله تعالى بعض الجمادات وبعض الحيوانات بمثل ما أنطق بنى آدم ، فلم يسترب سامع النطق في حصول العلم واليقين به ، بل كان ذلك عنده من أعظم العلوم الضرورية ، فقالت النملة لأمة النمل (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (النمل : ١٨) فلم يشك النمل ولا سليمان فى مرادها وفهموها يقينا. ولما علم سليمان مرادها يقينا تبسم ضاحكا من قولها. وخاطبه الهدهد ، فحصل للهدهد العلم واليقين بمراد سليمان من كلامه.

وأرسل سليمان الهدية والكتاب ـ وفعل ما حكى الله لما حصل له اليقين بمراد الهدهد من كلامه. وأنطق سبحانه الجبال مع داود بالتسبيح ، وعلّم سليمان منطق الطير ، وأسمع الصحابة تسبيح الطعام مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) ، وأسمع رسوله تسليم الحجر عليه (٢). أفيقول مؤمن أو عاقل إن اليقين لم يحصل للسامع بشيء من مدلول هذا الكلام.

السادس والخمسون : أن أرباب هذا القانون الذين منعوا استفادة اليقين من كلام الله ورسوله مضطرين في العقل الّذي يعارض النقل أشد الاضطراب. فالفلاسفة مع شدة اعتنائهم بالمعقولات أشد الناس اضطرابا في هذا الباب من طوائف أهل

__________________

(١) أخرجه البخاري (٣٥٧٩) من حديث عبد الله بن مسعود وفيه : «ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل».

(٢) أخرجه مسلم في (الفضائل / ٢٢٧٧) من حديث جابر بن سمرة بلفظ : «أنى لأعرف حجرا بمكة كان يسلم عليّ قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن».

١٥١

الملل ، ومن أراد معرفة ذلك فليقف على مقالاتهم في كتب أهل المقالات ، «كالمقالات الكبرى» للأشعرى ، «والآراء والديانات» للنوبختى ، وغير ذلك. وأما المتكلمون فاضطرابهم في هذا الباب من أشد اضطراب.

فتأمل اضطراب فرق الشيعة والخوارج والمعتزلة وطوائف أهل الكلام ، وكل منهم يدعي أن صريح العقل معه ، وأن مخالفه قد خرج عن صريح العقل ، ونحن نصدق جميعهم ، ونبطل عقل كل فرقهم بعقل الأخرى ثم نقول للجميع : بعقل من منكم يوزن كلام الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فما وافقه قبل وأقر عليه ، وما خالفه أول أو فوّض إلى عقولكم : أعقل أرسطو وشيعته : أم عقل أفلاطون أم فيثاغورس ، أم بقراط ، أم الفارابي ، أم ابن سينا ، أم محمد بن زكريا ، أم ثابت بن قرة ، أم جهم بن صفوان (١) ، أم النظام (٢) ، أم العلاف ، أم الجبائي ، أم بشر المريسي ، أم الإسكافي؟

__________________

(١) جهم بن صفوان : وإليه تنسب الجهمية ، الذي قال بالإجبار والاضطرار إلى الأعمال وأنكر الاستطاعات كلها ، وزعم أن الجنة والنار تفنيان وتبيدان ، وزعم أيضا أن الإيمان هو المعرفة بالله فقط ، وأن الكفر هو الجهل به فقط ، وقال : لا فعل ولا عمل لأحد غير الله تعالين ، وإنما تنسب الأعمال إلى المخلوقين على المجاز ، وقد تقدم في أول الكتاب الكلام عليه وعلى جماعته.

(٢) هو أبو إسحاق إبراهيم بن سيار المعروف بالنظّام ، وهو ابن أخت أبي الهذيل العلاف ، ومنه أخذ الاعتزال ، وهو شيخ الجاحظ ، وهو معدود من أذكياء المعتزلة وذوي النباهة فيهم ، وقد أداه ذكاؤه المتوقد وبيانه المتدفق واطلاعه على الكثير من كتب الفلاسفة الطبيعيين والإلهين إلى أن ذهب المذهب الذي أنكره عليه عامة المسلمين.

جمع بين مذاهب الثنوية وبدع الفلاسفة وشبه الملاحدة ودونه في دين الإسلام ، وأعجب بوقل البراهمة بإبطال النبوات ، وقد صنف كثير من أهل السنة بل والمعتزلة التصانيف في تكفيره والرد على زندقته.

وللمزيد انظر (الفرق بين الفرق / ٩٣ ، والنجوم الزاهرة : ٢ / ٢٣٤ ، واعتقادات فرق المسلمين / ص ٤١ ، وطبقات المعتزلة / ص / ٤٩).

١٥٢

أم توصون بعقول المتأخرين الذين هذبوا العقليات ، ومخضوا زبدتها واختاروا لأنفسهم ، ولم توصوا بعقول سائر من تقدم؟ فهذا أفضلهم عندكم محمد ابن عمر الرازي ، فبأى معقولاته تزنون نصوص الوحي وأنتم ترون اضطرابه فيها في كتبه أشد اضطراب ولا يثبت على قول؟ (١).

أم ترضون عقول القرامطة والباطنية والإسماعيلية ، أم عقول الاتحادية؟ فكل هؤلاء وأضعاف أضعافهم يدعى أن العقل الصريح معه. وأن مخالفيه خرجوا عن صحيح المعقول ، وهذه عقولهم تنادي عليهم ، ولو لا الإطالة لعرضناها على السامع عقلا ، وقد عرضها المعتنون بذكر المقالات. وهذه العقول إنما تفيد الريب والشك والحيرة والجهل المركب.

__________________

وعد ابن الجوزي النظامية من فرق القدرية وقال : تبعوا إبراهيم النظام في قوله : من زعم أن الله شيء فهو كافر.

(١) وقال الوزير محمد بن إبراهيم : وهذا الإمام الرازي سلطان العلماء وحجة الحكماء ، وفخر الملة وشعلة الذكاء ، فيلسوف الإسلام بعد أن انتهج الطرق الفلسفية وسلك المسالك الخفية ينشد في كتاب «النهاية» :

العلم للرحمن جل جلاله

وسواه في جهالاته يتغمغم

أين التراب من العلوم وإنما

يسعى ليعلم أنه لا يعلم

وينشد فيه أيضا :

نهايات أقدام العقول عقال

وأكثر سعي العالمين ضلال

ويقول في وصيته التي مات عليها : ولقد اجتربت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن العظيم ، ولأنه يسعى في تسليم العظمة والجلال بالكلية لله تعالى ، ويمنع من التعمق في إيراد المعارضات والمناقضات وما ذلك إلا للعلم بأن العقول البشرية تتلاشى وتضمحل في تلك المضايق العميقة والمناهج الخفية وقد قال بعضهم :

وكم في البرية من عالم

قوى الجدال دقيق الكلم

سعى في العلوم فلما يفد

سوى علمه أنه ما علم

١٥٣

فإذا تعارض النقل وهذه العقول أخذ بالنقل الصحيح ، ورمى بهذه العقول تحت الأقدام ، وحطت حيث حطها الله وأصحابها.

السابع والخمسون : إن أدلة القرآن والسنة نوعان : أحدهما يدل بمجرد الخبر. والثاني يدل بطريق التنبيه على الدليل العقلي. والقرآن مملوء من ذكر الأدلة العقلية التي هي آيات الله الدالة على ربوبيته ووحدانيته ، وعلمه وقدرته وحكمته ورحمته ، فآياته العيانية المشهورة في خلقه تدل على صدق النوع الأول وهو مجرد الخبر ، ولم تتجرد أخباره سبحانه عن آية تدل على صدقها ، بل قد بين لعباده في كتابه من البراهين الدالة على صدقه وصدق رسوله ما فيه هدى وشفاء.

فقول القائل : أن تلك الأدلة لا يفيد اليقين ، إن أراد به النوع المتضمن لذكر الأدلة العقلية. فهذا من أعظم البهت والوقاحة ، فإن آيات الله التي جعلها أدلة وحججا على وجوده ووحدانيته وصفات كماله إن لم تفد يقينين بمدلول واحد أبدا ، وإن أراد به النوع الأول بمجرد الخبر فقد أقام الله سبحانه الأدلة القطعية على ثبوته فلم يحل عباده فيه على خبر مجرد لا يستفيدون ثبوته إلا من الخبر المجرد نفسه دون الدليل والدال على صدق الخبر ، وهذا غير الدليل العام الدال على صدقه فيما أخبر به ، بل هو الأدلة على التوحيد وإثبات الصفات والنبوات والمعاد وأصول الإيمان ، فلا تجد كتابا قد تضمن من البراهين والأدلة العقلية على هذه المطالب ما تضمنه القرآن. فأدلته القطعية عقلية وإن لم تفد اليقين (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ؟) (الجاثية : ٦).

ففي هذا كسر الطاغوت الأول ، وهو قولهم : إن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين.

* * *

١٥٤

كسر الطاغوت الثاني

(وهو قولهم : إذا تعارض العقل والنقل وجب تقديم العقل)

لأنه لا يمكن الجمع بينهما ، ولا إبطالهما ، ولا يقدم النقل ، لأن العقل أصل النقل ، فلو قدمنا عليه النقل لبطل العقل ، وهو أصل النقل ، فلزم بطلان النقل ، فيلزم من تقديم النقل بطلان العقل والنقل ، فتعين القسم الرابع وهو تقديم العقل.

فهذا الطاغوت أخو ذلك القانون ، فهو مبني على ثلاث مقدمات :

الأولى : ثبوت التعارض بين العقل والنقل. الثانية : انحصار التقسيم في الأقسام الأربعة التي ذكرت فيه. الثالثة : بطلان الأقسام الثلاثة ليتعين ثبوت الرابع.

وقد أشفى شيخ الإسلام في هذا الباب بما لا مزيد عليه ، وبين بطلان هذه الشبهة وكسر هذا الطاغوت في كتابه الكبير (١) فنحن نشير إلى كلمات يسيرة هي قطرة من بحره تتضمن كسره ، وذلك يظهر من وجوه.

الوجه الأول : أن هذا التقسيم باطل من أصله ، والتقسيم الصحيح أن يقال إذا تعارض دليلان سمعيان أو عقليان ، أو سمعي وعقلي ، فأما يكونا قطعيين ، وإما أن يكونا ظنيين ، وإما أن يكون أحدهما قطعيا والآخر ظنيا. فأما القطعيان فلا يمكن تعارضهما في الأقسام الثلاثة ، لأن الدليل القطعي هو الذي يستلزم مدلوله قطعيا ولو تعارضا لزم الجمع بين النقيضين. وهذا لا يشك فيه أحد من العقلاء. وإن كان أحدهما قطعيا والآخر ظنيا تعين تقديم القطعي سواء كان عقليا أو سمعيا ، وإن كانا ظنيين صرنا إلى الترجيح ووجب تقديم الراجح منهما. وهذا تقسيم راجح (متفق) على مضمونه بين العقلاء. فأما إثبات التعارض بين الدليل العقلي والسمعي والجزم بتقديم العقلي مطلقا فخطأ واضح معلوم الفساد.

__________________

(١) وهو المسمى ب «موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول» لشيخ الإسلام ابن تيمية.

١٥٥

الوجه الثاني : إن قوله إذا تعارض العقل والنقل ، فإما أن يريد به القطعيين فلا نسلم إمكان التعارض ، وإما أن يريد به الظنيين فالتقديم الراجح مطلقا ، وإذا قدر أن العقلي هو القطعي كان تقديمه لأنه قطعي لا لأنه عقلي. فعلم أن تقديم العقلي مطلقا خطأ وأن جعل جهة الترجيح كونه عقليا خطأ ، وأن جعل سبب التأخير والاطراد كونه نقليا خطأ.

الوجه الثالث : قوله إن قدمنا النقل لزم الطعن في أصله ـ ممنوع ـ فإن قوله : العقل أصل النقل ، إما أن يريد به أنه أصل في ثبوته في نفس الأمر ، وأصل في علمنا بصحته ؛ فالأول لا يقوله عاقل ، فإنما هو ثابت في نفس الأمر ، ليس موقوفا على علمنا به ، فعدم علمنا بالحقائق لا ينافي ثبوتها في نفس الأمر ، فما أخبر به الصادق المصدوق هو ثابت في نفسه سواء علمناه بعقولنا أم لم نعلمه ، وسواء صدقه الناس أو لم يصدقوه ، كما أنه رسول الله حقا وإن كذبه من كذبه ، كما أن وجود الرب تعالى وثبوت أسمائه وصفاته حق ، سواء علمناه بعقولنا أم لم نعلمه ، فلا يتوقف ذلك على وجودنا فضلا عن علومنا وعقولنا فالشرع المنزل من عند الله مستغن في علمنا وعقلنا. ولكن نحن محتاجون إليه وإلى أن نعلمه. فإذا علم العقل ذلك حصل له كمال لم يكن له قبل ذلك ، وإذا فقده كان ناقصا جاهلا.

وأما إن أراد أن العقل أصل في معرفتنا بالسمع ودليل على صحته وهذا هو مراده ، فيقال له : أتعني بالعقل القوة الغريزية التي فينا ، أم العلوم المستفادة بتلك الغريزة؟ فالأول لم يرده ، ويمتنع إرادته. لأن تلك الغريزة ليست علما يمكن معارضته للنقل ، وإن كانت شرطا في كل علم عقلي أو سمعي ، وما كان شرطا في الشيء امتنع أن يكون منافيا له. وإن أردت العلم والمعرفة الحاصلة بالعقل ، قيل لك : ليس كل ما يعرف بالعقل يكون أصلا للسمع ودليلا على صحته. فإن المعارف العقلية أكثر من أن تحصر. والعلم بصحة السمع غايته يتوقف على ما به يعلم صدق الرسول من العقليات ، وليس كل العلوم العقلية

١٥٦

يعلم بها صدق الرسول ، بل ذلك بالآيات والبراهين الدالة على صدقه ، فعلم أن جميع المعقولات ليست أصلا للنقل لا بمعنى توقف العلم بالسمع عليها ؛ لا سيما وأكثر متكلمي أهل الإثبات كالأشعري في أحد قوليه ، وأكثر أصحابه يقولون : إن العلم بصدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند ظهور المعجزات الحادثة ضروري فما يتوقف عليه العلم بصدق الرسول من العلم العقلي سهل يسير ، مع أن العلم بصدقه له طرق كثيرة متنوعة وحينئذ فإن كان المعارض للسمع من المعقولات ما لا يتوقف العلم بصحة السمع عليه ، لم يكن القدح فيه قدحا في أصل السمع ، وهذا بحمد الله بين واضح. وليس القدح في بعض العقليات قدحا في جميعها ، كما أنه ليس القدح في بعض السمعيات قدحا في جميعها. فلا يلزم من صحة المنقولات التي تبني عليها معرفتنا بالسمع صحة غيرها من المعقولات ، ولا من فساد هذه فساد تلك. فلا يلزم من تقديم السمع على ما يقال إنه معقول في الجملة القدح في أصله.

الرابع : أن يقال : إما أن يكون عالما بصدق الرسول وثبوت ما أخبر به في نفس الأمر وإما ألّا يكون عالما بذلك ؛ فإن لم يكن عالما امتنع التعارض عنده ، لأن المعقول إن كان معلوما لم يتعارض معلوم ومجهول ، وإن لم يكن معلوما لم يتعارض مجهولان ، وإن كان عالما بصدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم امتنع ألا يعلم بثبوت ما أخبر به في نفس الأمر ، وإذا علم أنه أخبر به وهو عالم بصدقه لزم ضرورة أن يكون عالما بثبوت مخبره. وإذا كان كذلك استحال أن يقع عنده دليل يعارض ما أخبر به ويكون ذلك المعارض واجب التقديم ؛ إذ مضمون ذلك أن يقال : لا تعتقد ثبوت ما علمت أنه أخبر به. لأن هذا الاعتقاد ينافي ما علمت من أن المخبر صادق ؛ وحقيقة ذلك ، لا تصدقه في هذا الخبر ، لأن تصديقه يستلزم عدم تصديقه ، فيقول : وعدم تصديقي له فيه هو عين اللازم المحذور ، فإذا قيل لي لا تصدقه لئلا يلزم عدم تصديقه ، كان كما لو قيل كذبه لئلا يلزم تكذيبه. فهكذا حال من أمر الناس أن لا يصدقوا الرسول فيما علمه لأنه أخبر به بعد علمهم أنه رسول لئلا يفضي تصديقهم إلى عدم تصديقه. يوضحه :

١٥٧

الوجه الخامس : وهو أن المنهي عنه من قبول هذا الخبر وتصديقه فيه هو عين المحذور ، فيكون واقعا في المنهي عنه سواء أطاع أو عصى ، ويكون تاركا للمأمورية سواء أطاع أو عصى ، ويكون وقوعه في المحذور على تقدير الطاعة أعجل وأسبق منه على تقدير المعصية ، المنهى عنه على هذا التقدير هو التصديق ، المأمور به هو التكذيب ، وحينئذ فلا يجوز النهى عنه سواء كان محذورا أو لم يكن ، فإن لم يكن محذورا لم يجز أن ينهي عنه ، وإذا كان محذورا فلا بد منه على التقديرين.

الوجه السادس : أنه إذا قيل له : لا تصدقه في هذا كان آمرا له بما يناقض ما علم به صدقه ، فكان آمرا بما يوجب أن لا يثق بشيء من غيره ، فإنه متى جوز كذبه أو غلطه في خبر جوز ذلك في غيره. ولهذا أفضي الأمر بمن سلك هذا الطريق إلى أنهم لا يستفيدون من جهة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا من الأمور الخبرية المتعلقة بصفات الرب سبحانه وتعالى وأفعاله : بل ولا باليوم الآخر عند بعضهم. لاعتقادهم أن هذه الأخبار على ثلاثة أنواع : نوع يجب رده وتكذيبه ، ونوع يجب تأويله وإخراجه عن حقيقته ، ونوع يقر ، وليس لهم في ذلك أصل يرجعون إليه ، بل يقول : ما أثبته عقلك فاثبته ؛ وما نفاه عقلك فانفه ، وهذا يقول : ما أثبته كشفك فاثبته وما لا فلا. ووجود الرسول عندهم كعدمه في المطالب الإلهية ومعرفة الربوبية ، بل على قولهم وأصولهم : وجوده أضر من عدمه ، لأنهم لا يستفيدون من جهته علما بهذا الشأن ، واحتاجوا إلى دفع ما جاء به ، إما بتكذيب ، وإما بتأويل ، وأما بإعراض وتفويض.

فإذا قيل : لا يمكن أنه يعلم أنه أخبر بما ينافي العقل فإنه منزه عن ذلك وممتنع عليه ذلك.

قيل : فهذا إقرار باستحالة معارضة العقل للسمع واستحالة المسألة ، وعلم أن جميع أخباره لا تناقض العقل.

قعد النقل سالما من مناف

واسترحنا من الصداع جميعا

١٥٨

فإن قيل : بل المعارضة ثابتة بين العقل وبين ما يفهمه ظاهر اللفظ ، وليست ثابتة بين العقل وبين نفس ما أخبر به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فالمعارضة ثابتة بين العقل وبين ما يظن أنه دليل وليس بدليل ، أو يكون دليلا ظنيا لتطرق الظن إلى بعض مقدمات إسناده أو امتناعا؟

قيل : وهذا رفع صورة المسألة ويجليها بالكلية ، ويصير صورتها هكذا : إذا تعارض الدليل القولي وما ليس بدليل صحيح وجب تقديم العقل ، وهو كلام لا فائدة فيه ولا حاصل له ، وكل عاقل يعلم أن الدليل لا يترك لما ليس بدليل.

ثم يقال : إذا فسرتم الدليل السمعي بما ليس بدليل في نفس الأمر بل اعتقاد دلالته جهل ، أو بما يظن أنه دليل وليس بدليل ، فإن كان السمع في نفس الأمر كذلك لكونه خبرا مكذوبا أو صحيحا. ولكن ليس فيه ما يدل على معارضته العقل بوجه ، وأبيتم التعارض والتقديم بين هذين النوعين فساعدناكم عليه وكنا أسعد بذلك منكم ، فأنا أشد منكم نفيا للأحاديث المكذوبة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأشد إبطالا لما تحمله من المعاني الباطلة ، وإن كان الدليل السمعي صحيحا في نفسه ظاهر الدلالة بنفسه على المراد ، لم يكن ما عارضه من العقليات إلا خياليات فاسدة.

السابع : أن يقال : لو قد عارض العقل للشرع لوجب تقديم الشرع ، لأن العقل قد صدق الشرع ، ومن ضرورة تصديقه له قبول خبره ، والشرع لم يصدق العقل في كل ما أخبر به ، ولا العلم بصدق الشرع موقوف على كل ما يخبر به العقل. ومعلوم أن هذا المسلك إذا سلك أصح من مسلكهم كما قال بعض أهل الإيمان ، يكفيك من العقل أن يعرفك صدق الرسول ومعاني كلامه ثم يخلي بينك وبينه ، وقال آخر : العقل سلطان ولي الرسول ثم عزل نفسه ، ولأن العقل دل على أن الرسول يجب تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر ، ولأن العقل يدل على صدق الرسول دلالة عامة مطلقة ، ولا يدل على صدق

١٥٩

قضايا نفسه دلالة عامة ، ولأن العقل يغلط كما يغلط الحس. وأكثر من غلطه بكثير ، فإذا كان حكم الحس من أقوى الأحكام ويعرض فيه من الغلط ما يعرض ، فما الظن بالعقل.

الثامن : إن الدليل الدال على صحة الشيء أو ثبوته أو عدالته أو قبول قوله لا يحب أن يكون أصلا له ، بحيث إذا قدم قول المشهود له والمدلول عليه على قوله يلزم إبطاله. وهذا لا يقوله من يدري ما يقول. غايته أن العلم بالدليل أصل العلم بالمدلول ، فإذا حصل العلم بالمدلول لم يلزم من ذلك تقديم الدليل عليه في كل شيء. فإذا شهد الناس لرجل بأنه خبير بالطب أو التقويم أو القيافة دونهم ، ثم تنازع الشهود المشهود له في ذلك وجب تقديم قول المشهود له. فلو قالوا : نحن شهدنا لك وزكيناك وبشهادتنا ثبتت أهليتك فتقديم قولك علينا والرجوع إليك دوننا يقدح في أصل الذي ثبت به قولك؟ قال لهم : أنتم شهدتم بما علمتم إني أهل لذلك دونكم وأن قولي فيه مقبول دونكم. فلو قدمت أقوالكم على قولي فيما اختلفنا فيه لكان ذلك قدحا في شهادتكم وعلمكم بأني أعلم منكم.

وحينئذ فهذا (وجه تاسع) مستقل بكسر هذا الطاغوت. وهو أن تقديم العقل على الشرع يتضمن القدح في العقل والشرع ، لأن العقل قد شهد الشرع والوحي بأنه أعلم منه ، وأنه لا نسبة له إليه ، وأن نسبة علومه ومعارفه إلى الوحي أقل من خردلة بالإضافة إلى جبل ، فلو قدم حكم العقل عليه لكان ذلك قدحا في شهادته ، وإذا بطلت شهادته بطل قبول قوله فتقديم العقل على الوحي يتضمن القدح فيه وفي الشرع ، وهذا ظاهر لا خفاء به.

يوضحه : الوجه العاشر : وهو أن الشرع مأخوذ عن الله بواسطة الرسولين الملك والبشر بينه وبين عباده ، مؤيدا بشهادة الآيات وظهور البراهين على ما يوجبه العقل ويقتضيه تارة ويستحسنه تارة ، ويجوز تارة ويضعف عن دركه تارة ، فلا سبيل له إلى الإحاطة به ، ولا بد له من التسليم له والانقياد لحكمه والإذعان والقبول ـ وهناك يسقط (لم) ويبطل (كيف) وتزول (هلا) وتذهب

١٦٠