مختصر الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة

ابن القيّم الجوزيّة

مختصر الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: رضوان جامع رضوان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٨٧

فمن ذلك قوله تعالى : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) (النساء : ٦٤) رفع سبحانه توهم المجاز في تكليمه لكليمه بالمصدر المؤكد الذي لا يشك عربي القلب واللسان أن المراد به إثبات تلك الحقيقة كما تقول العرب : مات موتا ونزل نزولا ، ونظائره.

ونظيره التأكيد بالنفس والعين وكل وأجمع ، والتأكيد بقوله حقا ونظائره ومن ذلك قوله تعالى : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (المجادلة : ١) فلا يشك صحيح الفهم البته في هذا الخطاب أنه نص صريح لا يحتمل التأويل بوجه في إثبات صفة السمع للرب تعالى حقيقة وأنه بنفسه يسمع.

ومن ذلك قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (الأعراف : ٤٢) فرفع توهم السامع أن المكلف به عمل جميع الصالحات المقدورة والتجوز عنها يجوزه أصحاب تكليف ما لا يطاق رفع هذا التوهم بجملة اعترض بها بين المبتدأ وخبره تزيل الأشكال.

ونظيره (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) (الأنعام : ١٥٢) ومن ذلك قوله تعالى : (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) (النساء : ٨٤). فلما أمره بالقتال وأخبره أنه لا يكلف بغيره ، بل إنما يكلف بنفسه أتبعه بقوله (وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) لئلا يتوهم سامع أنه وإن لم يكلف بهم فإنه يهملهم ويتركهم.

ومن ذلك قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) (الطور : ٢١) فتأمل كم في هذا الكلام من رفع إيهام ، منها قوله : (وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ) لئلا يتوهم أن الاتباع في نسب أو تربية أو حرية أو رق أو غير ذلك ، ومنها قوله : (وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) لرفع توهم أن الآباء تحط إلى درجة الأبناء ليحصل الإلحاق والتبعية. فأزال هذا الوهم بقوله : (وَما

١٠١

أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ) أي ما نقصنا الآباء بهذا الاتباع شيئا من عملهم ، بل رفعنا الذرية إليهم قرة لعيونهم وإن لم يكن لهم أعمال يستحقون بها تلك الدرجة.

منها قوله : (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) فلا يتوهم متوهم أن هذا الاتباع حاصل في أهل الجنة وأهل النار ، بل هو للمؤمنين دون الكفار ، فإن الله سبحانه لا يعذب أحدا إلا بكسبه وقد يثيبه من غير كسبه.

ومنها قوله : (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً) (الأحزاب : ٣٢) فلما أمرهن بالتقوى التى شأنها التواضع ولين الكلام نهاهن عن الخضوع بالقول لئلا يطمع فيهن ذو القلوب المرضى ثم أمرهن بعد ذلك بالقول المعروف دفعا لتوهم الإذن في الكلام المنكر. لما نهين عن الخضوع بالقول.

ومنه قوله تعالى : (كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) (البقرة : ١٨٧) فرفع توهم فهم الخيطين من الخيوط بقوله (مِنَ الْفَجْرِ).

ومن ذلك قوله تعالى : (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) (التكوير : ٢٨) فلما أثبت لهم مشيئة فلعل متوهما يتوهم استقلالهم بها فأزال سبحانه ذلك بقوله (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) ونظير ذلك قوله تعالى : (كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) (المدثر : ٥٤ ـ ٦٥).

ومن ذلك قوله تعالى : (وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ) (التوبة : ١١١) فلعل متوهما أن يتوهما أن الله يجوز عليه ترك الوفاء بما وعد به فأزال ذلك بقوله : (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ) (التوبة : ١١١).

ومن ذلك قوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) (الأنعام : ١٥٨) فلما ذكر إتيانه سبحانه ربما توهم أن المراد إتيان بعض آياته أزال هذا الوهم ودفعه بقوله : (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) فصار الكلام مع هذا التقسيم والتنويع نصا صريحا في معناه لا يحتمل غيره.

١٠٢

وإذا تأملت أحاديث الصفات رأيت هذا لائحا على صفحاتها باديا على ألفاظها ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنكم ترون ربكم عيانا كما ترى الشمس في الظهيرة صحوا ليس دونها سحاب ، وكما نرى القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب» (١) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان يترجم له ولا حاجب يحجبه» (٢) فلما كان كلام الملوك قد يقع بواسطة الترجمان ومن وراء الحجاب أزال هذا الوهم من الأفهام.

وكذلك لما قرأ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وكان الله سميعا بصيرا» (٣) وضع إبهامه على أذنه وعينه رفعا لتوهم متوهم أن السمع والبصر غير العينين المعلومتين ، وأمثال ذلك كثير في الكتاب والسنة ، كما في الحديث الصحيح أنه قال : «يقبض الله سماواته بيده والأرض بيده الأخرى ، ثم جعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقبض يده ويبسطها» (٤) تحقيقا لإثبات اليد وإثبات صفة القبض.

__________________

(١) تقدم تخريجه في أول الكتاب وهو في «الصحيحين».

(٢) أخرجه البخاري (٦٥٣٩) ، ومسلم في (الزكاة / ١٠١٦).

(٣) (صحيح) أخرجه الحاكم (١ / ٢٤) وقال : حديث صحيح ولم يخرجاه ووافقه الذهبي وقال : على شرط مسلم ، ورواه ابن حبان في «صحيحه» (٢٦٥ ـ إحسان) من حديث أبي هريرة ورواه البيهقي في «الأسماء والصفات» ، وقال الحافظ في «الفتح» :

أخرجه أبو داود بسند قوى على شرط مسلم من رواية أبي يونس عن أبي هريرة : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرؤها : يعني قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) ـ إلى قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً) ويضع إصبعيه ، قال أبو يونس : وضع أبو هريرة إبهامه على أذنه والتى تليها على عينه.

قال البيهقي : وأراد بهذه الإشارة تحقيق إثبات السمع والبصر لله ببيان محلهما من الإنسان ، يريد أن له سمعا وبصرا لا أن المراد به العلم ، فلو كان كذلك لأشار إلى القلب لأنه محل العلم ، ولم يرد بذلك الجارحة فإن الله تعالى منزه عن مشابهة المخلوقين ثم ذكر البيهقي لحديث أبي هريرة شاهدا من حديث عقبة بن عامر : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول على المنبر : «إن ربنا سميع بصير» وأشار إلى عينيه» قال الحافظ : وسنده حسن أه انظر الفتح (١٣ / ٣٨٥).

(٤) تقدم تخريجه وهو في «الصحيحين».

١٠٣

ومن هذا إشارته إلى السماء حين استشهد ربه تبارك وتعالى على الصحابة أنه بلغهم تحقيقا لإثبات صفة العلو ، وأن الرب الذي استشهده فوق العالم مستو على عرشه.

* * *

فصل

في بيان أنه لا يأتي المعطل للتوحيد العلمي الخبري بتأويل ،

إلا أمكن المشرك المعطل للتوحيد العملي أن يأتي بتأويل من جنسه.

وقد اعترف حذاق الفلاسفة وفضلاؤهم فقال أبو الوليد ابن رشد في كتاب «الكشف عن مناهج الأدلة» القول في الجهة. وأما هذه الصفة فلم يزل أهل الشريعة يثبتونها لله سبحانه وتعالى حتى نفتها المعتزلة ؛ ثم اتبعهم على نفيها متأخروا الأشعرية كأبي المعالي ومن اقتدى بقوله وظواهر الشرع كلها تقتضى إثبات الجهة ، مثل قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (طه : ٥) ، ومثل قوله : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) (البقرة : ٢٢٥) ، ومثل قوله تعالى : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) (الحاقة : ١٧) ومثل قوله : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) (المعارج : ٤) مثل قوله : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ) (الملك : ١٦) إلى غير ذلك من الآيات التى إن سلط التأويل عاد الشرع كله متأولا ، وإن قيل فيها إنها من المتشابهات ، عاد الشرع كله متشابها ، لأن الشرائع كلها مبينه أن الله في السماء ، ومنه تنزل الملائكة إلى النبيين بالوحي ، وأن من السماء نزلت الكتب ، وإليها كان الإسراء بالنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى قرب من سدرة المنتهى ، وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله والملائكة في السماء كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك.

والشبهة التي قادت نفاة الجهة إلى نفيها هي أنهم اعتقدوا أن إثبات الجهة يوجب إثبات المكان ، وإثبات المكان يوجب إثبات الجهة. ونحن نقول : إن إثبات هذا كله غير لازم ، فالجهة غير المكان ، وذلك أن الجهة : إما سطوح الجسم نفسه المحيط به وهي ستة وبهذا نقول : إن للحيوان فوقا ، وأسفل ،

١٠٤

ويمينا ، وشمالا ، وأماما ، وخلفا ، وإما سطوح جسم آخر يحيط بالجسم ذي الجهات الست. فأما الجهات التى هى سطوح الجسم نفسه فليست بمكان للجسم نفسه أصلا وأما سطوح الأجسام المحيطة فهي له مكان مثل سطوح الهواء المحيط بالإنسان ، وسطوح الفلك المحيط بسطوح الهواء هي أيضا مكان هواء. وهكذا الأفلاك بعضها محيطة ببعض ومكان له ، وأما سطح الفلك الخارج فقد تبرهن أنه ليس خارجه جسم ، لأنه لو كان كذلك لوجب أن يكون خارج ذلك الجسم جسم آخر ، ويمر إلى غير نهاية. فإذن سطح آخر أجسام العالم ليس مكانا أصلا إذ ليس يمكن أن يوجد فيه جسم ، فإذن إن قام البرهان على وجود موجود في هذه الجهة فواجب أن يكون غير جسم. والذي يمنع وجوده هناك هو عكس ما ظنه القوم ، وهو موجود هو جسم لا موجود ليس بجسم.

وليس لهم أن يقولوا : إن خارج العالم خلاء ، وذلك أن الخلاء قد تبين في العلوم النظرية امتناعه ، لأن ما يدل عليه اسم الخلاء ليس هو شيئا أكثر من أبعاد ليس فيها جسم ، أعني طولا وعرضا وعمقا ، لأنه إن رفعت الأبصار عنه عاد عدما. وإن فرضت الخلاء موجودا لزم أن يكون اعراضا موجودة في غير جسم ، وذلك أن الأبعاد هي أعراض في باب الكمية ولا بدّ ، ولكنه قيل في الآراء السالفة القديمة والشرائع الغابرة : إن ذلك الموضع ليس بمكان ولا يحويه زمان ، وكذلك إن كان كل ما يحويه المكان والزمان فاسدا فقد يلزم أن يكون ما هنالك غير فاسد ولا كائن. وقد بين هذا المعنى ما أقوله. وذلك أنه لما لم يكن هاهنا شيء إلا هذا الموجود المحسوس أو العدم ، وكان من المعروف بنفسه أن الموجود شيء أنما ينسب إلى الوجود. أعنى أنه يقال : موجودا أي في الوجود ، إذ لا يمكن أن يقال : إنه موجود في العدم ، فإن كان موجود هو أشرف الموجودات فواجب أن ينتسب من الموجود المحسوس إلى الحيز الأشرف وهي السماوات ، ولشرف هذا الحيز قال تعالى : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (غافر : ٥٧) وهذا كله يظهر على التمام للعلماء الراسخين في العلم.

١٠٥

فقد ظهر لك من هذا إثبات الجهة واجب بالشرع والعقل ، وأنه الذي جاء به الشرع وابتنى عليه. فإن إبطال هذه القاعدة إبطال للشرائع ، وإن وجه العسر في تفهم هذا المعنى مع نفي الجسمية هو أنه ليس في المشاهد مثال له ، فهو بعينه السبب في أنه لم يصرح الشرع بنفي الجسم عن الخالق سبحانه وتعالى ، لأن الجمهور إنما يقع لهم التصديق بحكم الغائب متى كان ذلك معلوم الوجود في الشاهد ، مثل العلم بالصانع ، فإنه لما كان في الشاهد شرطا في وجوده كان شرطا في وجود الصانع الغائب ، وأما متى كان الحكم الذي في الغائب غير معلوم الوجود في الشاهد عند الأكثر ، ولا يعلمه إلا العلماء الراسخون كان الشرع يزجر عن طلب معرفته إن لم يكن بالجمهور حاجة إلى معرفته. مثل العلم بالنفس لم يضرب له مثال في الشاهد ، إذ لم يكن بالجمهور حاجة إلى معرفته في سعادتهم.

والشبهة الواقعة في نفي الجهة عند الذين نفوها ليس يتفطن الجمهور إليها. لا سيما إذا لم يصرح لهم بأنه ليس بجسم ، فيجب أن يتمثل في هذا كله فعل الشرع ، وأن لا يتأول ما لم يصرح الشرع بتأويله.

والناس في هذه الأشياء في الشرع على ثلاث مراتب : صنف لا يشعرون بالشكوك العارضة في هذا المعنى خاصة ، متى تركت هذه الأشياء على ظاهرها في الشرع. وهؤلاء هم الأكثرون وهم الجمهور ، وصنف عرفوا حقيقة الأشياء وهم العلماء الراسخون في العلم ، وهؤلاء هم الأقل من الناس. وصنف عرضت لهم في هذه الأشياء شكوك ولم يقدروا على حلها ، وهؤلاء فوق العامة دون العلماء. وهذا الصنف هم الذين يوجد في حقهم التشابه في الشرع ، وهم الذين ذمهم الله. وأما عند العلماء والجمهور فليس في الشرع تشابه. فعلى هذا المعني ينبغي أن يفهم التشابه.

ومثال ما عرض لهذا الصنف مع الشرع ما يعرض في خبز البر مثلا الذي هو الغذاء النافع لأكثر الأبدان أن يكون لأقل الأبدان ضارا وهو نافع للأكثر. وكذلك التعليم الشرعي هو نافع للأكثر ، وربما ضرر للأقل. وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) (البقرة : ٢٦).

١٠٦

لكن هذا إنما يعرض في آيات الكتاب العزيز في الأقل منه وللأقل من الناس ، وأكثر ذلك هي الآيات التي تتضمن الأعلام في أنه الغائب ليس لها مثال في الشاهد : فيعبر عنه بالشاهد الذي هو أقرب الموجودات إليها وأكثرها شبها بها ، فيعرض لبعض الناس أن يأخذ الممثل به هو المثال نفسه ، فيلزمه الحيرة والشك ، وهو الذي سمى متشابها في الشرع. وهذا ليس يعرض للعلماء ولا للجمهور ، وهم صنفا الناس في الحقيقة ، لأن هؤلاء هم الأصحاء وأما أولئك فمرضى ، والمرضى هم الأقل ، ولذلك قال الله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) (البقرة : ٢٦) وهؤلاء أهل الكلام.

وأشد ما عرض على الشريعة من هذا الصنف أنهم يؤولون كثيرا مما ظنوه ليس على ظاهره ، فقالوا أن هذا التأويل هو المقصود به إنما أتى الله به في صورة المتشابه ابتلاء لعباده واختبارا لهم ، فنعوذ بالله من هذا الظن بالله. بل نقول : إن كتاب الله العزيز إنما جاء معجزا من جهة الوضوح والبيان ، فإذا ما أبعده عن مقصد الشرع من قال فيما ليس بمتشابه أنه متشابه ، ثم أول ذلك المتشابه بزعمه ، وقال لجميع الناس : إن فرضكم اعتقاد هذا التأويل من مثل ما قالوه في آيات الاستواء على العرش وغير ذلك ، مما قالوا ان ظاهره متشابه.

وبالجملة فأكثر التأويلات التي زعم القائلون بها أنها المقصود من الشرع إذا تؤملت وجدت ليس يقوم عليها برهان ، ولا يعقل فعل الظاهر في قبول الجمهور لها وعملهم بها فإن المقصود الأول بالعلم في حق الجمهور إنما هو العمل ، فما كان أنفع في العمل كان أجدر ، وأما المقصود بالعلم في حق العلماء فهو الأمران جميعا ، أعنى العلم والعمل.

مثال من أول شيئا من الشرع وزعم أن الذي أوله هو الذي قصده الشرع وصرح بذلك التأويل للجمهور مثال من أتى إلى دواء قد ركبه طبيب ماهر ليحفظ صحة جميع الناس أو الأكثر ، فجاء رجل فلم يلائمه ذلك الدواء المركب الأعظم ، لرداءة مزاج كان به ليس يعرض إلا للأقل من الناس ، فزعم أن بعض الأدوية الذي صرح باسمه الطبيب الأول في ذلك الدواء العام المنفعة المركب ، لم يرد به ذلك الدواء الذي جرت العادة في اللسان أن يدل ذلك الاسم عليه.

١٠٧

وإنما أراد به دواء آخر مما يمكن أن يدل عليه ذلك باستعارة بعيدة. فأزال الدواء الأول من ذلك المركب الأعظم وجعل بدله الدواء الّذي ظن أنه قصده الطبيب ، وقال للناس : هذا هو الذي قصده الطبيب الأول فاستعمل الناس ذلك الدواء المركب على الوجه الذي تأوله عليه ذلك المتأول ، ففسدت به أمزجة كثيرة من الناس ، فجاء آخرون فشعروا بإفساد أمزجة الناس من ذلك الدواء المركب فراموا إصلاحه بأن أبدلوا بعض أدويته بدواء آخر غير الدواء الأول ، فعرض للناس نوع من المرض غير النوع الأول. فجاء ثالث فتأول في أدوية ذلك المركب غير التأويل الأول والثاني ، فعرض للناس نوع ثالث من المرض غير النوعين المتقدمين. فجاء متأول رابع فتأول دواء آخر غير الأدوية المتقدمة فعرض للناس نوع رابع من الأمراض غير الأمراض المتقدمة ، فلما طال الزمان بهذا الدواء المركب الأعظم وسلط الناس التأويل على أدويته وغيرها وبدلوها ، عرض للناس أمراض شتى حتى فسدت المنفعة المقصودة بذلك الدواء المركب في حق أكثر الناس.

وهذه هى حال الفرقة الحادثة في الشريعة مع الشريعة. وذلك أن كل فرقة منهم تأولت في الشريعة تأويلا غير التأويل الذي تأولته الفرقة الأخرى ، وزعمت أنه الذي قصده صاحب الشرع ، حتّى تمزق الشرع كل ممزق وبعد عن موضوعه الأول.

ولما علم صاحب الشرع صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن هذا سيعرض في شريعته قال : «ستفترق أمتى على ثلاث وسبعين فرقة ، كلها في النار إلا واحدة» (١).

__________________

(١) (حسن الإسناد وهو صحيح لغيره) ورد هذا الحديث من عدة طرق فقد أخرجه أبو داود (٤٥٩٧) ، والإمام أحمد (٤ / ١٠٢) ، والدارمي (٢ / ٢٤١) ، والحاكم (١ / ١٢٨) ، والآجرى في «الشريعة» (١٨) ، الإلكائى في «شرح الاعتقاد» عن معاوية رضي الله عنه ، ورواه ابن ماجه (٣٩٩٣) ، والآجرى (ص ١٦) عن أنس ، ورواه أيضا ابن ماجه (٣٩٩٢) ، وابن أبي عاصم (٦٣) ، واللالكائي (١٤٩) عن عوف بن مالك الأشجعى ، ورواه الترمذي (٢٧٧٨) ، والآجرى (ص ١٥) ، وابن حبان (١٨٣٤ ـ موارد) ، والحاكم (١ / ١٢٨) عن أبي هريرة.

قال الحاكم : هذه أسانيد تقام بها الحجة في تصحيح هذا الحديث ووافقه الذهبي أه وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» : إسناده حسن أه ، وذكره الألباني في «الصحيحة» (٢٠٤) وله فيه بحث جيد فقها ومصطلحا فليراجع.

١٠٨

سلكت ظاهر الشرع ولم تؤوله ، وأنت إذا تأملت ما عرض في هذه الشريعة في هذا الوقت من الفساد العارض فيها قبل تبينت أن هذا المثال صحيح.

وأول من غير هذا الدواء الأعظم الخوارج (١) ، ثم المعتزلة (٢) بعدهم ثم الأشعرية ثم الصوفية (٣) ، ثم جاء أبو حامد فطم الوادي على القرى ، وذكر كلاما بعد متعلقا يكتب ليس لنا غرض في حكايته ـ أه.

__________________

(١) قال الإمام ابن الجوزي : أول الخوارج وأقبحهم حالة ذو الخويصرة. ثم ساق بسنده عن أبي سعيد الخدري قال : بعث على من اليمن إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذهب في أديم مقروظ لم تخلص من ترابها فقسمها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين أربعة ... الحديث وفيه : ثم أتاه رجل غائر العينين ، مشرف الوجنتين ، ناتئ الجبهة ، كثّ اللحية ، مشمر الإزار محلوق الرأس ، فقال : اتق الله يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فرفع رأسه إليه وقال : «ويحك أليس أحق الناس أن يتقي الله أنا» ... ثم قال : ثم نظر إليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو مقف فقال : «إنه سيخرج من ضئضئ هذا قوم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» ... الحديث رواه البخاري ومسلم.

قال الشيخ : فهذا أول خارجى خرج في الإسلام ، وآفته أنه رضي برأى نفسه ، ولو وقف لعلم أنه لا رأى فوق رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأتباع هذا الرجل هم الذين قاتلوا على رضى الله عنه.

وقال : ومن آرائهم : أنه لا تختص الإمامة بشخص إلا أن يجتمع فيه العلم والزهد ، فإذا اجتمعا كان إماما نبطيا أ. ه (تلبيس إبليس) بتصرف وإيجاز.

(٢) قال ابن الجوزي : أحدث المعتزلة التحسين والتقبيح إلى العقل ، وأن العدل ما يقتضيه ، (ومن رءوسهم) واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد وأبي الهذيل العلاف والنظام ومعمر والجاحظ وطالعوا كتب الفلاسفة في زمان المأمون واستخرجوا منها ما خلطوه بأوضاع الشرع مثل لفظ : الجوهر والعرض والزمان والمكان والكون.

وأول مسألة أظهروها : القول بخلق القرآن وحينئذ سمى هذا الفصل ، فصل علم الكلام ، وتلت هذه المسألة مسائل الصفات مثل : العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر ، فقال قوم : هى معان زائدة على الذات ، ونفتها المعتزلة وقالوا : عالم لذاته ، قادر لذاته أ ، ه (المصدر السابق) بتصرف.

(٣) قال الإمام ابن الجوزي : كانت النسبة من زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الإيمان والإسلام ، فيقال مسلم ومؤمن ، ثم حدث اسم : زاهد وعابد ، ثم نشأ أقوام تعلقوا بالزهد والتعبد

١٠٩

فصل

في انقسام الناس في نصوص الوحي إلى : أصحاب تأويل ،

وأصحاب تخييل ، وأصحاب تمثيل ، وأصحاب تجهيل ، وأصحاب

سواء السبيل

الصنف الأول : أصحاب التأويل ، وهم أشد الناس اضطرابا إذ لم يثبت لهم قدم في الفرق بين ما يتأول وما لا يتأول ولا ضابط مطرد منعكس يجب مراعاته

__________________

فتخلوا عن الدنيا وانقطعوا إلى العبادة واتخذوا في ذلك طريقة تفردوا بها ، وأخلاقا تخلقوا بها ، .... ثم ذكر النقول في سبب هذه التسمية «الصوفية» ونسبتها.

وقال : والتصوف طريقة كان ابتداؤها : الزهد الكلى ثم ترخص المنتسبون إليها بالسماع والرقص ، فمال إليهم طلاب الآخرة من العوام لما يظهرونه من التزهد ، ومال إليهم طلاب الدنيا لما يرونه عندهم من الراحة واللعب أه (تلبيس إبليس) بتصرف.

وفي «دائرة المعارف الإسلامية» (٩ / ٣٤٦) : والغلاة من متأخرى المتصوفة المتكلمين بالمواجد خلطوا مسائل الكلام والفلسفة الإلهية بفنهم ، مثل كلامهم في النبوات والاتحاد والحلول ووحدة الوجود.

ولما كانت حكمة الإشراق أو الحكمة الذوقية هى من الفلسفة بمنزلة التصوف من العلوم الإسلامية ، وكان السالكون طريقة الرياضة والمجاهدة لمعرفة المبدأ والمعاد إن وافقوا في رياضتهم أحكام الشرع فهم الصوفية والا فهم الحكماء الشرقيون.

لما كان الأمر كذلك سهل التدانى بين التصوف والفلسفة وتفتحت له الأبواب في هذا الدور.

وفيه أيضا : ولما نشأ البحث في العقائد والتماس الإيمان من طريق النظر أو النصوص المقدسة ، وتوجهت همم المسلمين إلى التماس المعرفة على أساليب المتكلمين ، أصبح الكمال الديني التماس الإيمان والمعرفة من طريق التصفية والمكاشفة ، وأصبح عبارة عن بيان هذه الطريق وسلوكها.

وشاعت بعد ذلك أقاويل الفلاسفة والمتكلمين في الصانع وصدور الموجودات عنه وما إلى ذلك من عوالم الأرواح وشئون الآخرة ، فتكلم الصوفية في كل على منهجهم الذي لا يعتمد على نظر ولا على نص ولا معرفة إلا من ذاق ما ذاقوا ، وهم يرون ما تكلموا به حق اليقين الذي لا يقبل شكا ولا يلحقه بطلان ولا يدركه إلا من بلغ رتبة العرفان أه.

١١٠

وتمتنع مخالفته ، بخلاف سائر الفرق فإنهم جروا على ضابط واحد ، وإن كان فيهم من هو أشد من أصحاب التأويل.

الصنف الثاني : أصحاب التخييل ، وهم الذين اعتقدوا أن الرسل لم يفصحوا للخلق بالحقائق ، إذ ليس في قواهم إدراكها ، وإنما أبرزوا لهم المقصود في صورة المحسوس ، قالوا : ولو دعت الرسل أممهم إلى الإقرار برب لا داخل العالم ، ولا خارجه ، ولا محايثه ، ولا مباينا له ، ولا متصلا به ، ولا منفصلا عنه ، ولا فوقه ، ولا تحته ، ولا عن يمينه ولا عن يساره ، لنفرت عقولهم من ذلك ، ولم تصدق بامكان هذا الوجود ، فضلا عن وجوب وجوده ، وكذلك لو أخبرهم بحقيقة كلامه ، وأنه فيض فاض من المبدأ الأول على العقل الفعال ؛ ثم فاض من ذلك العقل على النفس الناطقة الزكية المستعدة لم يفهموا ذلك ولو أخبروهم عن المعاد الروحاني بما هو عليه لم يفهموه ، فقربوا لهم الحقائق المعقولة بإبرازها ذي الصور المحسوسة ، وضربوا لهم الأمثال بقيام الأجساد من القبور في يوم العرض والنشور ومصيرها إلى جنة فيها أكل وشرب ولحم وخمر وجوار حسان ، أو نار فيها أنواع العذاب ، تفهيما للذات الروحانية بهذه الصورة وللألم الروحانى بهذه الصورة.

وهكذا فعلوا في وجود الرب تعالى وصفاته وأفعاله ، ضربوا لهم الأمثال بموجود عظيم جدا أكبر من كل موجود ، وله سرير عظيم وهو مستو على سريره ، يسمع ويبصر ويتكلم ويأمر وينهي ويرضى ويغضب ، ويأتي ويجيء ، وينزل ، وله يدان ووجه ويفعل بمشيئة ، وإذا تكلم العباد سمع كلامهم ، وإذا تحركوا رأى حركاتهم ، وإذا هجس في قلب أحد منهم هاجس علمه. وأنه ينزل كل ليلة إليهم إلى سمائهم هذه فيقول : «من يسألنى فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له» (١) إلى غير ذلك مما نطقت به الكتب الإلهية ، قالوا : ولا يحل لأحد أن يتأول ذلك على خلاف ظاهره للجمهور لأنه يفسد ما وضعت له الشرائع والكتب الإلهية. وأما الخاصة فإنهم يعلمون أن هذه أمثال مضروبة

__________________

(١) حديث النزول تقدم تخريجه أكثر من مرة.

١١١

لأمور عقلية تعجز عن إدراكها عقول الجمهور ، فتأويلها جناية على الشريعة والحكمة.

وحقيقة الأمر عند هذه الطائفة أن الذي أخبرت به الرسل عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله وعن اليوم الآخر لا حقيقة له تطابق ما أخبروا به ، ولكنه أمثال وتخييل وتفهيم بضرب الأمثال. وقد ساعدهم أرباب التأويل على هذا المقصد في باب معرفة الله وأسمائه وصفاته ، وصرحوا في ذلك بمعنى ما صرح به هؤلاء في باب المعاد وحشر الأجساد بل نقلوا كلماتهم بعينها إلى نصوص الاستواء والفوقية ، ونصوص الصفات الخبرية ، لكن هؤلاء أوجبوا أو سوغوا تأويلها بما يخرجها عن حقائقها وظواهرها ، وظنوا أن الرسل قصدت ذلك من المخاطبين تعريضا لهم إلى الثواب الجزيل ببذل الجهد في تأويلها واستخراج معاني تليق بها ، وأولئك حرموا التأويل ورأوه عائدا على الشريعة بالإبطال والطائفتان متفقتان على إبطال حقائقها المفهومة منها في نفس الأمر.

والصنف الثالث : أصحاب التجهيل الذين قالوا : نصوص الصفات ألفاظ لا تعقل معانيها ولا يدرى ما أراد الله ورسوله منها ، ولكن نقرؤها ألفاظا لا معاني لها ونعلم أن لها تأويلا لا يعلمه إلا الله ، وهي عندنا بمنزلة (كهيعص) (وحم ـ عسق) و (المص). فلو ورد علينا منها ما ورد لم نعتقد فيه تمثيلا ولا تشبيها. ولم نعرف معناه ، وننكر على من تأوله ، ونكل علمه إلى الله تعالى. وظن هؤلاء أن هذه طريقة السلف وأنهم لم يكونوا يعرفون حقائق الأسماء والصفات ، ولا يفهمون معنى قوله : (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) ، وقوله : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) (الزمر : ٦٧) ، وقوله : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (طه : ٥) وأمثال ذلك من نصوص الصفات.

وبنوا هذا المذهب على أصلين (أحدهما) أن هذه النصوص من المتشابه. (الثاني) أن للمتشابه تأويلا لا يعلمه إلا الله ، فنتج من هذين الأصلين استجهال السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وسائر الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأنهم كانوا يقرءون هذه الآيات المتعلقة بالصفات ولا يعرفون معنى ذلك ولا ما

١١٢

أريد به. ولازم قولهم : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يتكلم بذلك ولا يعلم معناه ثم تناقضوا أقبح تناقض فقالوا : تجري على ظواهرها. وتأويلها بما يخالف الظواهر باطل. ومع ذلك فلها تأويل لا يعلمه إلا الله. فكيف يثبتون لها تأويلا ويقولون تجري على ظواهرها ، ويقولون الظاهر منها مراد ، والرب منفرد بعلم تأويلها ، وهل في التناقض أقبح من هذا؟

وهؤلاء غلطوا في المتشابه وفي جعل هذه النصوص من المتشابه. وفي كون المتشابه لا يعلم معناه إلا الله. فأخطئوا في المقدمات الثلاث واضطرهم إلى هذا : التخلص من تأويلات المبطلين وتحريفات المعطلين وسدوا على نفوسهم الباب. وقالوا لا نرضى بالخطإ ، ولا وصول لنا إلى الصواب. فتركوا التدبير المأمور به والتعقل لمعانى النصوص. وتعبدوا بالألفاظ المجردة التي أنزلت في ذلك ، وظنوا أنها أنزلت للتلاوة والتعبد بها دون تعقل معانيها وتدبرها والتفكر فيها وأولئك جعلوها عرضة للتأويل والتحريف كما جعلها أصحاب التخييل أمثالا لا حقيقة لها.

وقابلهم الصنف الرابع وهم صنف التشبيه والتمثيل. ففهموا منها مثل ما للمخلوقين وظنوا أن لا حقيقة لها إلا ذلك. وقالوا : محال أن يخاطبنا الله بما لا نعقله. ثم يقول : (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ، (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) ، (لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ) فهذه الفرق لا يزال يبدع بعضهم بعضا ويضلله ويجهله ، وقد تصادمت كما ترى. فهم كزمرة من العميان تلاقوا فتصادموا ، كما قال أعمى البصيرة منهم :

ونظيري في العلم مثل اعمى

فكلانا في حندس نتصادم

وهدى الله أصحاب سواء السبيل للطريقة المثلى ، فأثبتوا حقائق الأسماء والصفات ، ونفوا عنها مماثلة المخلوقات ، فكان مذهبهم مذهبا بين مذهبين ، وهدى بين ضلالتين ، يثبتون له الأسماء الحسنى والصفات العليا بحقائقها ، ولا يكيفون شيئا منها ، فإن الله تعالى أثبتها لنفسه. وإن كان لا سبيل لنا إلى معرفة كنهها وكيفيتها. فإن الله تعالى لم يكلف كل عباده بذلك ولا أراده منها ولا جعل

١١٣

لهم إليه سبيلا. بل كثير من مخلوقاته أو أكثرها لم يجعل لهم سبيلا إلى معرفة كنهه وكيفيته. وهذه أرواحهم التي هي أدنى إليهم من كل دان ، قد حجبت عنهم معرفة كنهها وكيفيتها.

وقد أخبرنا سبحانه عن تفاصيل يوم القيامة وما في الجنة والنار ، فقامت حقائق ذلك في قلوب أهل الإيمان وشاهدته عقولهم ، ولم يعرفوا كنهه. فلا يشك المسلمون أن في الجنة أنهارا من خمر وأنهارا من عسل ، وأنهارا من لبن ، ولكن لا يعرفون كنه ذلك ومادته وكيفيته ، إذ كانوا لا يعرفون في الدنيا الخمر إلا ما اعتصر من الأعناب ، والعسل إلا ما قذفت به النحل في بيوتها ، واللبن إلا ما خرج من الضروع ، والحرير إلا ما خرج من دود القز ، وقد فهموا معاني ذلك في الجنة من غير أن يكون مماثلا لما في الدنيا ، كما قال ابن عباس «ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء والصفات» (١) ولم يمنعهم عدم النظير في الدنيا من فهم ما أخبروا به من ذلك.

فهكذا الأسماء والصفات لم يمنعهم انتفاء نظيرها ومثالها من فهم حقائقها ومعانيها ، بل قام بقلوبهم معرفة حقائقها. وانتفاء التمثيل والتشبيه عنها وهذا هو المثل الأعلى الذي أثبته الله تعالى لنفسه في ثلاثة مواضع من القرآن ، أحدها قوله تعالى : (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ ، وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (النحل : ٦٠) الثاني قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الروم : ٢٧) ، الثالث قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) فنفي سبحانه وتعالى المثل عن هذا المثل الأعلى ، وهو ما في قلوب أهل سماواته وأرضه من معرفته والإقرار بربوبيته وأسمائه وصفاته وذاته.

فهذا المثل الأعلى هو الذي آمن به المؤمنون ، وأنس به العارفون : وقامت

__________________

(١) ذكره المنذري في «الترغيب» (١ / ٥٦٠) وقال : رواه البيهقي موقوفا بإسناد جيد.

١١٤

شواهده في قلوبهم بالتعريفات الفطرية المكملة الإلهية المضبوطة بالبراهين العقلية ، فاتفق على الشهادة بثبوته العقل والسمع والفطرة. فإذا قال المثبت : يا الله ، قام بقلبه رب قيوم قائم بنفسه. مستو على عرشه. مكلم. متكلم. سامع. قدير. مريد. فعال لما يريد. يسمع دعاء الداعين ، ويقضي حاجات السائلين ، ويفرج عن المكروبين ، ترضيه الطاعات ، وتغضبه المعاصى. تعرج الملائكة بالأمر إليه ، وتنزل بالأمر من عنده.

وإذا شئت زيادة تعريف بهذا المثل الأعلى فعد قوى جميع المخلوقات اجتمعت لواحد منهم ، ثم كان جميعهم على قوة ذلك الواحد ، فإذا نسبت قوتهم إلى قوة الرب تعالى لم تجد نسبة إليها البتة ؛ كما لا تجد نسبة بين قوة البعوضة وقوة الأسد ، وإذا قدرت علوم الخلائق واجتمعت لواحد ثم قدرت بهذه المثابة كانت علومهم بالنسبة إلى علمه تعالى كنقرة عصفور في بحر وكذا في حكمته وكماله. وقد نبهنا سبحانه وتعالى على هذا المعنى بقوله (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (لقمان : ٢٧) فقدر البحر المحيط بالعالم مدادا ووراءه سبعة أبحر تحيط به كلها مدادا يكتب به كلمات الله ، نفذت البحار ونفذت الأقلام التى لو قدرت جميع أشجار الأرض من حين خلقت إلى أخر الدنيا ولم تنفذ كلمات الله.

وقد أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أن السموات السبع في الكرسي كحلقة ملقاة بأرض فلاة ، والكرسي في العرش كحلقة ملقاة في أرض فلاة ، والعرش لا يقدر قدره إلا الله» (١) وهو سبحانه فوق عرشه يعلم ويري ما عباده عليه.

فهذا هو الذي قام بقلوب المؤمنين المصدقين العارفين به سبحانه المثل الأعلى

__________________

(١) (ضعيف الإسناد وهو صحيح لغيره) أخرجه البيهقي في «الأسماء» (٢٩٠) بسند ضعيف ، ورواه ابن جرير الطبري في «التفسير» (٥ / ٣٩٩) ، وقال الشيخ الألباني في «مختصر العلو» : وهذا إسناد رجاله ثقات لكنى أظن أنه منقطع أه وانظر «الصحيحة» (١٠٩).

١١٥

فعرفوه به وعبدوه به وسألوه به ، فأحبوه وخافوه ورجوه ، وتوكلوا عليه وأنابوا إليه ؛ واطمأنوا بذكره وأنسوا بحبه بواسطة هذا التعريف. فلم يصعب عليهم بعد ذلك معنى استوائه على عرشه ؛ وسائر ما وصف به نفسه من صفات كماله. إذ قد أحاط علمهم بأنه لا نظير لذلك ولا مثيل له ولم يخطر بقلوبهم مماثلة شيء من المخلوقين وقد أعلمهم الله سبحانه علي لسان رسوله «أنه يقبض سماواته بيده والأرض باليد الأخرى ثم يهزهن» (١) «وأن السماوات السبع والأرضين السبع في كفه كخردلة في كف أحدكم» (٢) «وأنه يضع السموات على إصبع ، والأرضين على إصبع ، والجبال على إصبع ، والشجر على إصبع ، وسائر المخلوقات على إصبع» (٣) فأى يد للخلق وأى إصبع تشبه هذه اليد وهذه الإصبع حتى يكون إثباتها تشبيها وتمثيلا؟

فقاتل الله أصحاب التحريف والتبديل ، ما ذا حرموه من الحقائق الإيمانية والمعارف الإلهية ، وما ذا تعرضوا به من زبالة الأذهان ؛ ونخالة الأفكار؟ وما أشبههم بمن كان غذاؤهم المن والسلوى بلا تعب فآثروا عليه الفوم والعدس والبصل. وقد جرت عادة الله سبحانه أن يذل من آثر الأدنى على الأعلى ، ويجعله عبرة للعقلاء.

فأول هذا الصنف إبليس لعنه الله ، ترك السجود لآدم كبرا فابتلاه الله تعالى بالقيادة لفساق ذريته (٤) ، وعباد الأصنام لم يقروا بنبي من البشر ورضوا بآلهة

__________________

(١) أخرجه البخاري (٤٨١٢ ، ٦٥١٩ ، ٧٣٨٢ ، ٧٤١٣) ، ومسلم في (المنافقين / ١٩).

(٢) (ضعيف الإسناد) رواه ابن جرير في «التفسير عن ابن عباس موقوفا بسند ضعيف.

(٣) أخرجه البخاري (٤٨١١ ، ٧٤١٤ ـ ٧٤١٥ ، ٧٤٥١ ، ٧٥١٣) ، ومسلم في (المنافقين / ٢٧٨٦).

(٤) كما قال الشاعر :

عجبت من إبليس في تمرده

وقبح ما أظهر من نخوت

تاه على آدم في سجدة

وصار قوادا لذريته

١١٦

من الحجر ، والجهمية نزهوا الله عن عرشه لئلا يحويه مكان ، ثم قالوا : هو في الآبار والأنجاس وفي كل مكان ، وهكذا طوائف الباطل لم يرضوا بنصوص الوحي فابتلوا بزبالة أذهان المتحيرين ، وورثة الصابئين (١) وأفراخ الفلاسفة الملحدين.

__________________

(١) قال الإمام ابن الجوزي في «التلبيس» : أصل هذه الكلمة ـ أعنى الصابئين ـ من قولهم : صبأت ، إذا خرجت من شيء إلى شيء ، وصبأت النجوم : إذا ظهرت ، وصبأ به : إذا خرج ، والصابئون : الخارجون من دين إلى دين.

وللعلماء في مذاهبهم عشرة أقوال : أحدها : أنهم بين النصارى والمجوس ، (رواه سالم عن سعيد بن جبير ، وليث عن مجاهد) ، والثاني : أنهم بين اليهود والمجوس ، (رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد) ، والثالث : أنهم بين اليهود والنصارى (رواه القاسم بن أبي بزة عن مجاهد) ، والرابع : أنهم صنف من النصارى ألين قولا منهم (رواه أبو صالح عن ابن عباس) ، والخامس : أنهم قوم من المشركين ، لا كتاب لهم (رواه القاسم أيضا عن مجاهد) ، والسادس : أنهم كالمجوس (قاله الحسن) ، والسابع : أنهم فرقة من أهل الكتاب ، يقرءون الزبور (قاله أبو العالية) ، والثامن : أنهم قوم يصلون إلى القبلة ويعبدون الملائكة ويقرءون الزبور (قاله قتادة ومقاتل) ، والتاسع أنهم طائفة من أهل الكتاب (قاله السدى) ، والعاشر : أنهم كانوا يقولون لا إله إلا الله ، وليس لهم عمل ، ولا كتاب ولا نبي إلا قول لا إله إلا الله (قاله ابن زيد).

ثم قال : أما المتكلمون فقالوا : مذهب الصابئين مختلف فيه ، فمنهم من يقول : إن هناك هيولى كان لم يزل ، ولم يزل يصنع العالم من ذلك الهيولى.

ومن أقوالهم : العالم ليس بمحدث ، وسموا الكواكب «ملائكة» ، وسماها قوم منهم آلهة وعبدوها ، وبنوا لها بيوت عبادات ، وهم يدعون أن بيت الله الحرام واحد منها ، وهو بيت زحل ، وزعم بعضهم أنه لا يوصف الله إلا بالنفي دون الإثبات ويقال : ليس بمحدث ولا موات ولا جاهل ولا عاجز ، قالوا لئلا يقع تشبيه ، ولهم تعبدات في شرائع منها :

أنهم زعموا أن عليهم ثلاث صلوات في كل يوم ، أولها : ثمان ركعات وثلاث سجدات. في كل ركعة ، وانقضاء وقتها عند طلوع الشمس ، والثاني : خمس ركعات ، والثالثة كذلك.

وعليهم صيام شهر ، أوله الثمان ليال يمضين من آذار ، وسبعة أيام أولها التسع

١١٧

فصل

(أسباب قبول التأويل الباطل)

قبول التأويل له أسباب : منها أن يأتي به صاحبه مموها بزخرف من القول ، مكسوا حلة الفصاحة والعبارة الرشيقة فتسرع العقول الضعيفة إلى قبوله واستحسانه قال الله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) (الأنعام : ١١٢) فذكر سبحانه أنهم يستعينون على مخالفة أمر الأنبياء بما يزخرفه بعضهم لبعض من القول ، ويفتريه الأغمار وضعفاء العقول. فذكر السبب الفاعل وهو ما يغر السامع من زخرف القول فلما أصغت إليه ورضيته اقترفت ما تدعو إليه من الباطل قولا وعملا.

فتأمل هذه الآيات وما تحتها من هذا المعنى العظيم القدر الذي فيه بيان أصول الباطل والتنبيه على مواقع الحذر منها ؛ وإذا تأملت مقالات أهل الباطل رأيتهم قد كسوها من العبارات المستحسنة ما يسرع إلى قبوله كل من ليس له بصيرة نافذة ؛ فيسمون أم الخبائث أم الأفراح ، ويسمون اللقمة الملعونة التي هي الحشيشة : لقيمة الذكر والفكر التي تثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن ، ويسمون مجالس الفجور : المجالس الطيبة حتى إن بعضهم لما عدل عن شيء من ذلك قالوا له ؛ ترك المعاصى والتخوف منها إساءة ظن برحمة الله وجراءة على سعة عفوه ومغفرته ، وفانظر ما تفعل هذه الكلمة في قلب ممتلئ بالشهوات ، ضعيف العلم والبصيرة.

__________________

يبقين من كانون الأول ، وسبعة أيام أولها الثمان ليال يمضين من شباط ، ويختمون صيامهم بالصدقة والذبائح.

وحرموا لحم الجزور في خرافات يضيع الزمان بذكرها ، وزعموا أن الأرواح الخيرة تصعد إلى الكواكب الثابتة وإلى الضياء ، وأن الشريرة تنزل إلى أسفل الأرضين وإلى الظلمة.

وبعضهم يقول هذا العالم لا يفنى وأن الثواب والعقاب في التناسخ ، ومثل هذه المذاهب لا يحتاج إلى تكلف في ردها إذ هي دعاوى بلا دليل أه.

١١٨

(السبب الثاني) أن يخرج المعنى الذي يريد إبطاله في صورة مستهجنة تنفر عنها القلوب ، وتنبوا عنها الأسماع ، فيسمى عدم الانبساط إلى الفساق : سوء خلق ، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فتنة وشرا وفضولا ، ويسمون إثبات الصفات لكمال الله تعالى تجسيما وتشبيها وتمثيلا ويسمون العرش حيزا وجهة ويسمون الصفات أعراضا ، والأفعال حوادث ، والوجه واليدين أبعاضا ، والحكم والغايات التي يفعل لأجلها أعراضا ، فلما وضعوا لهذه المعاني الصحيحة ، تلك الألفاظ المستكرهة تم لهم تعطيلها ونفيها على ما أرادوا.

فقالوا لضعفاء العقول : اعلموا أن ربكم منزه عن الأعراض ، والأغراض ، والأبعاض ، والجهات والتركيب ، والتجسيم ، والتشبيه ، ولم يشك أحد لله في قلبه وقار وعظمة في تنزيه الرب تعالى عن ذلك. وقد اصطلحوا على تسمية سمعه وبصره وعلمه وقدرته وإرادته وحياته أعراضا. وعلى تسمية وجهه الكريم ويديه المبسوطتين أبعاضا. وعلى تسمية استوائه على عرشه وعلوه على خلقه تحيزا. وعلى تسمية نزوله إلى سماء الدنيا وتكليمه بقدرته ومشيئته إذا شاء ، وغضبه بعد رضاه ، ورضاه بعد غضبه : حوادث. وعلى تسمية الغاية التي يتكلم ويفعل لأجلها : غرضا. واستقر ذلك في قلوب المبلغين عنهم ، فلما صرحوا لهم بنفي ذلك بقى السامع متحيرا أعظم حيرة بين نفي هذه الحقائق التي أثبتها الله لنفسه وأثبتها له جميع رسله وسلف الأمة بعدهم ، وبين إثباتها. وقد قام معه شاهد نفيها بما تلقاه عنهم.

فأهل السنة هم الذين كشفوا زيف هذه الألفاظ وبينوا زخرفها وزغلها ، وأنها ألفاظ مموهة بمنزلة طعام طيب الرائحة في إناء حسن اللون والشكل ، ولكن الطعام مسموم ، فقالوا ما قاله أمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه‌الله «لا نزيل عن الله صفة من صفاته لا جل شناعة المشنعين».

ولما أراد المتأولون المعطلون تمام هذا الغرض اخترعوا لأهل السنة ألقابا قبيحة ، وسموهم حشوية ، ومحيزة ؛ ومجسمة ، ومشبهة. ونحو ذلك. فتولد من

١١٩

تسميتهم لصفات الرب ؛ وأفعاله ، ووجهه ؛ ويديه بتلك الأسماء ، وتلقيب من أثبتها له بهذه الألقاب ، ولعن أهل الإثبات من أهل السنة ، وتبديعهم ، وتضليلهم ، وتكفيرهم ، وعقوبتهم. ولقوا منهم ما لقى الأنبياء وأتباعهم من أعدائهم. وهذا الأمر لا يزال حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

(السبب الثالث) أن يعزو المتأول تأويله إلى جليل القدر نبيل الذكر من العقلاء أو من آل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو من حصل له في الأمة ثناء جميل ولسان صدق ؛ ليحليه بذلك في قلوب الجهال. فإنه من شأن الناس تعظيم كلام من يعظم قدره في نفوسهم ، حتى أنهم ليقدمون كلامه على كلام الله ورسوله. ويقولون هو أعلم بالله منا ، وبهذا الطريق توصل الرافضة (١) والباطنية

__________________

(١) الرافضة : أصل الكلمة جاءت من الشيعة الذين طلبوا من زيد بن على رضى الله عنهما أن يتبرأ من الشيخين (أبي بكر وعمر رضى الله عنهما) فقال : لقد كانا وزيري جدى فلا أتبرأ منهما فرفضوه وتفرقوا عنه.

وقد يطلق بعض الناس اسم الرفض على كل من يتولى أهل البيت ، قال عبد القاهر البغدادى وجميع فرق الغلاة منهم خارجون عن فرق الإسلام ، فأما فرق الزيدية وفرق الإمامية فمعدودون في فرق الأمة أه (الفرق بين الفرق) بتصرف.

قال الإمام ابن الجوزي : وهم اثنتى عشرة فرقة : «العلوية» ، قالوا : إن الرسالة كانت إلى على وإن جبريل أخطأ ، «والأمرية» قالوا : إن عليا شريك محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أمره ، «والشيعة» قالوا : إن عليا رضي الله عنه وصى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووليه من بعده وأن الأمة كفرت بمبايعة غيره ، «والإسحاقية» قالوا : إن النبوة متصلة إلى يوم القيامة وكل من يعلم علم أهل البيت فهو نبى ، «والناووسية» قالوا : إن عليا أفضل الأمة ، فمن فضل غيره عليه فقد كفر ، «والإمامية» قالوا : لا يمكن أن تكون الدنيا بغير إمام من ولد الحسين ، وإن الإمام يعلمه جبرائيل فإذا مات بدل مكانه مثله ، «واليزيدية» قالوا : إن ولد الحسين كلهم أئمة في الصلوات ، فمتى وجد منهم أحد لم تجز الصلاة خلف غيره ، برهم ، وفاجرهم ، «والعباسية» زعموا : أن العباس كان أولى بالخلافة من غيره ، و «المتناسخة» قالوا : إن الأرواح تتناسخ فمتى كان محسنا خرجت روحه فدخلت في خلق تسعد بعيشه ، ومن كان مسيئا دخلت روحه في خلق تشقى بعيشه ، و «الرجعية» زعموا : أن

١٢٠