الوهابيّون والبيوت المرفوعة

الشيخ محمد علي بن الحسن الهمداني السنقري الكردستاني

الوهابيّون والبيوت المرفوعة

المؤلف:

الشيخ محمد علي بن الحسن الهمداني السنقري الكردستاني


المحقق: لجنة من العلماء
الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٢
الصفحات: ١٢٨

١
٢

٣

بسم الله الرحمن الرحيم

(فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ)

القرآن الكريم ، سورة النور (٢٤) ، الآيتان (٣٦ ـ ٣٧)

٤

المؤلّف والكتاب

المؤلّف :

ولد في السابع من جمادى الاولى عام ١٢٩٣ ، وكان والده من علماء مدينة همدان في غرب إيران ، فأخذ منه ومن جمع من علماء عصره وتعلّم اللّغات المختلفة منها «العبرية والسريانية ، عند أحد القساوسة الذي اعتنق الإسلام ، وهو فخر الإسلام صاحب (أنيس الأعلام) فكان يحاجج اليهود والنصارى ، بما في كتبهم ، وهدى الله جمعاً منهم إلى الإسلام على يديه وهاجر إلى المحاضر العلمية ، وأخذ منها ما يروي الغلة.

ثمّ استقر في مدينة (سنقر) الكردستانية في إيران ، لتبليغ الإسلام ، فكانت له محاضر ومجالس ضخمة ، وعلى يديه اهتدى جمع كثير من اصحاب المذاهب الاخرى لقوة حجّته وسلامة منطقه.

وتوفي في شهر محرم عام ١٣٧٨ ه‍ في زيارة له إلى العراق ، له مؤلّفات عديدة ، نشر بعضها.

٥

هذا الكتاب :

الّفه الشيخ العلامة السنقريّ ، لمّا قام اصحاب الفرقة بهدم بعض المساجد والبيوت المنسوبة إلى زوجات النبي امهات المؤمنين وبعض الصحابة الكرام ، وكذلك ما كان لأهل البيت النبويّ الطاهر وقرباه ، من البيوت والمشاهد والقباب التي كانت تظلّل قبورهم ، ويستظلّ بها الذين كانوا يصلون إلى هذه الأماكن لتجديد الذكرى بأصحابها.

مع أن القاصدين لهذه المواضع كانوا من طوائف المسلمين والمذاهب المختلفة وكلها تجوّز قصدها للتقرّب إلى الله عزوجل بتجديد العهد مع الله بمشاهدة تلك الأماكن التي وقعت فيها حوادث السيرة النبويَّة ، ووضعت فيها جثث شهداء الإسلام ، ومع أن الفقهاء للمذاهب يجوّزون زيارة تلك المواضع ، اعتماداً على أدلة الكتاب والسنّة والإجماع إلّا أن الدعاة حاولوا تحكيم رأيهم وفرض فتاواهم ، على سائر المسلمين ، ولقد قاموا بهدم تلك البيوت ، على فتاوى من علمائهم.

وقد ألّف علماء المسلمين في هذا كتباً قيّمة ، للاستدلال على بطلان تلك الفتاوى ومنها هذا الكتاب.

وقد احتوى على الإجابة عن كل الأدلّة التي ذكرها مؤسس الفرقة وإمامها في كتابه الموسوم ب (كشف الشبهات) وهو أهم كتبه في هذا الباب.

قدّم المؤلّف لكتابه مقدمة قصيرة ، مركّزاً على أهم ما قصدهُ في جوابه هذا.

ثمّ بناه على مقامات ثلاثة :

المقام الأول : في أنّ مجرّد دعاء شخصٍ لشخصٍ ، ليس عبادة من الداعي ، للمدعوّ ، فالعبادة تحتاج إلى أكثر من مجرّد الدعاء ، وهو قصد العبودية من الداعي والألوهية في المدعوّ :

فالاستغاثة بالأنبياء والأئمة والأولياء يجعلهم وسائط إلى الله ، لقربهم منه ، ليس عبادة لهم ، بل هو عبادة له ، لأنّه أمرنا بهذا.

٦

ومثل ذلك الاستشفاع بهؤلاء.

ثمّ أثبت الأدلة على ثبوت الشفاعة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأجاب عن أدلّة الوهابيّة في إنكارها وكل ذلك في المقام الثاني.

وأثبت أنّ الاستشفاع يتحقّق في الحيّ والميّت بلا فرق ، لورود ذلك في الأدعية والزيارات المأثورة ، كما عليها سيرة الأمة الإسلامية ، مدى العصور والقرون الاولى التي هي خير القرون ، وعلى طول الأعوام المتعاقبة.

ولأنّ الذين يزورهم المسلمون : أحياء في قبورهم يرزقون ، بنصّ الكتاب والسنّة.

وفيه الردّ على التفريق بين الحياة والموت في شأن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتوسّل به.

وكذا الدعوى على المسلمين كافة ، بقصد الشرك وغيره من الباطل ، رجماً بالغيب وافتراء وبهتاناً.

وفي المقام الثالث : أتيت الأوامر الشرعيّة بالتوسل والاستغاثة وزيارة الأموات وبناء الضرائح والقباب.

والجواب عن الشبهات بدعوى أن البناء تصرّف في الأرض المسبلة والوقف.

وإثبات أنّ قباب آل البيت في البقيع ، كانت ملكاً لهم ، لا وقفاً مُسبّلاً.

والإجابة عن شبهة تسنيم القبور ، وعن حرمة زيارة القبور.

وفيه شيء من انتهاك اولئك لحرمات الأموال والدماء عند ما سيطروا على الحرمين والطائف.

وفي الخاتمة : أورد المؤلّف الأحاديث النبوية التي دلّت على ظهور هذه الفرقة ، وحذّرت منها ، وهي من (دلائل النبوّة ومعاجزها).

إن المؤلّف العلامة ، عرض جميع هذه المواضيع ، بشكل هادئ ، ومستند وقويّ ، وأوجز في العرض بشكل رائع وواضح.

وناقش بحججٍ علمية متينة ، ممّا دلّ على امتلاكه لأزمّة العلم والتحقيق.

٧

عملنا :

وقد قمنا بإخراج الكتاب في حلّة حديثة ، مع التعريف بالمؤلّف ، وتوزيع الكتاب بشكل فنّي ، ووضع العناوين اللازمة في مواقعها بين المعقوفتين.

كما قمنا بتخريج الأحاديث المهمة للتسهيل والتوثيق.

وعملنا فهارس للآيات والأحاديث والألفاظ تسهيلاً على المراجعين.

والحمد لله على إحسانه ونسأله الرضا عنا بجلاله وإكرامه إنّه ذو الجلال والإكرام.

لجنة التحقيق

٨

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[المقدّمة]

الحمدُ لله الذي توحيدُه في تنزيهه ، وغاية معرفته في تقديسه. تفرّد بالكبرياء والأحَديّة ، وتسربل بالعظمة والمعبوديّة.

والصلاة والسلام على من اصطفاه الله واختاره واجتباه ، ختم به النبوّة ، وحباه بالوسيلة والشفاعة ، فصدع بأمره في أُمّته ، وقَرَنَ بين كتاب الله وعترته ، بعد أن اختصّهم بفرض المودّة واتّباع الأُمّة.

محمّد وآله الذين صلّى الله عليهم وسلّم تسليماً ، وأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.

وبعدُ : فإنّي بعد ما أسلفتُ شطراً من الكلام في الجواب عمّا كان قد نسجته أوهام ابن تيميّة في شبهاته ، وأورده في «منهاج سُنّته» فقد ظفرت اليوم برسالة اخرى للمقتفي آثاره مرجع الوهّابيّين «محمد بن عبد الوهاب» الموسومة ب «كشف الشبهات» في التشكيك بالمتشابهات.

فمحصّل الجواب عمّا نسجه بوهمه وتشكيكه في رسالته لمعنى العبادة والشرك ؛ بأنّ دعاء الغير عبادة له ، والتوسّل به عبوديّة له ، منافية لتوحيد الله والإخلاص به.

٩

[الفرق بين الدعاء ، والعبادة]

هو أنّه لا ريب في أنّ مطلق الدعاء للغير ليس عبادة له ولا مطلق الاستغاثة والاستعانة به عبوديّة له ؛ ضرورة افتقار العباد في حاجاتهم ونيل أمورهم في عاديّاتهم ، بل وفي عباديّاتهم ، كما أمر الله تعالى بالتعاون على البرّ والتقوى.

وكذا لا شبهة في أنّ مطلق الخضوع والانقياد وخفض الجناح لغيره تعالى ، ليس بعبادة له ، ومنافية لتوحيد الله والإخلاص له تعالى.

فلو كان مطلق التعاون والاستعانات والاستغاثات والتوسّلات شِركاً ، لكان الوهابيّون بذلك أوّل المشركين. ولو كان مطلق الخضوع والانقياد والخفض للغير شركاً في عبادة الله ، لما أمر الله تعالى به ، ولكان الأمر بالسجدة في قوله تعالى لملائكته : (اسْجُدُوا لِآدَمَ) أمراً بالشرك؟!

وكان لإبليس أن يعترض عليه سبحانه في ذلك ، فيقول :

يا ربِّ لِمَ تأمُرني بالسجودِ لِغيرِك ، وهو الشرك المنافي لتوحيدك والإخلاص لك!

ولكان الاستدلال بذلك أولى من استدلاله بالقياس الفاسد.

ولكان إبليس بامتناعه هذا من السجدة أوّل الموحّدين ، كما زعمه جمع من الصوفيّة ، وقاله بعضهم في «فصوص حكمه» ، وتبعه أتباعه في شروحهم عليه ، فالمدار على الحقائق دون الصور!

فلو كان مطلق الخضوع شركاً وعبادة للغير ، لكان خضوع العبيد للموالي والرعايا للرؤساء والملوك ، والزوجات للأزواج والتلميذ للمعلّم ، كلّها خضوعاً لغير الله وشركاً به وعبادة لغيره!

ولم يقل به أحد ، ومعه لا يقوم حجر على حجر.

ولو كان ذلك شِرْكاً في عبادته ، لكان تقبيل الحجر الأسود واستلامه عبادته!

ولكان مسّ الأركان والتبرّك بها عبادتها!

١٠

ولكان أمر الله لبني إسرائيل في أريحا يوم دخول القرية بالخضوع لباب حطّة.

وأمر الله نبيّه بخفض الجناح لمن اتّبعه من المؤمنين.

وأمر الله عباده بالخفض للوالدين ، والزوجة للزوج. كل ذلك أمراً بالشرك؟!

ولكان يعقوب وولده بسجودهم ليوسف حين خرّوا له ساجدين ، وكلُّ من أُولئك في خضوعهم المأمورين به مشركين؟!

وذلك لوضوح أنّ كلّ هذا إنّما هو عبادة الآمر بها ، لا عبادتها إيّاها.

سبحان الله.

ما أجهل المعترضين على الآيات ، وما أغفلهم عن البيّنات.

وما أشدّ إعراضهم عن المحكمات إلى المتشابهات.

[حقيقة العبادة]

فليس ذلك إلّا لأنّ العبادة ليس المراد منها معناها اللغوي ـ أعني مطلق الطاعة والدعاء ـ. بل إنّما حقيقة العبادة هي مجرّد الطاعة والامتثال لأمر الله الواجب وجوده ، العظيم لذاته ؛ ونفسُ الانقياد وإتباعه بكلّ ما أمر به دعاءً كان أو نداءً أو خضوعاً أو سجدة أو توسّلاً أو استشفاعاً إلى غير ذلك ، ممّا يرجع إليه بالاعتبار اللفظي أو العقلي أو العادي. وتدور العبادة والشرك ـ وجوداً وعدماً ـ مدار الطاعة والانقياد بقصد الامتثال والاستقلال في المألوهية ؛ بمعنى أنّ العبادة هي ما قُصد به الامتثال بداعي الأمر بها مطلقاً.

[حقيقة الشرك]

وأمّا الشرك : فهو تشريك الغير بالاستقلال في المعبوديّة ، واتّخاذه دون الله أو مع الله بالألوهية. فما هذا التمويه والمغالطة؟! وما هذا الخلط الظاهر وخبط

١١

العشواء؟! وما أغفلهم عن كلمات الله؟! وليتهم تعلّموا من إبليس ؛ حيث إنّه لم يَرَ الأمر بالسجدة للغير شرْكاً بالله منافياً لتوحيده تعالى.

بل ، ودرى بها ـ من حيث إنّها مأمور بها ـ عين توحيده وعبوديّته ، فلم يردّ على الله بشيء من ذلك ، إلّا باختياره عصيانه ومخالفته ، وسلوكه مسلك الاستكبار بحسده وعُتُوّه وكِبْره وغُلُوّه ، ولذلك طغى وعصى وتمرّد وأدبر واستكبر فكفر.

[منكرو الشفاعة]

وأمّا الذين ينكرون ويجحدون ما جاء في مأثور السُّنّة ؛ من الاستشفاع إلى الله بالأنبياء والأولياء ، فحق أن يُتلى فيهم قوله تعالى : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً).

فلا يُغرّنّك الانتساب إلى التوحيد ، ولا تلاوة آيات الله المجيد.

ولا تحكُمْ بأوّلِ ما تراهُ

فأوّلُ طالعٍ فجرٌ كذوبُ

هاهنا مقامات

الأوّل : بيان جواز مطلق الدعاء للغير والاستعانة بالغير ، وأنّها لا تكون شركاً بالله وعبادة لغيره.

الثاني : ثبوت الشفاعة ـ من حيث الكبرى ـ للشافعين من الأنبياء والمرسلين ، بل وغيرهم من المؤمنين ، وأنّها تعمّ الأحوال والنشئات دنياً أو آخرة ؛ حيّاً كان الشفيع أو ميّتاً.

الثالث : ثبوتها ـ من حيث الصغرى ـ بالعمومات الواردة في الاستشفاعات والتوسّلات ؛ كتاباً وسُنّة وإجماعاً وعقلاً.

١٢

المقام الأوّل

[أن مطلق الدعاء ليس عبادةً ولا شركاً]

قد ظهر ممّا تقدّم في معنى العبادة والشرك ما يُعرف به فساد ما ادّعاه المتكلّف.

[هل الدعاء عبادة؟]

فقوله : «والدعاء مخّ العبادة ...» إلى آخره.

تمويه في استدلاله بالمغالطة الواضحة ، وما اكتفى به حتّى بنى عليها قذفه لعباد الله وموحّديه بالشرك والارتداد ، وسعى في خراب العباد والبلاد ، فهاك فصيح الجواب عنها بالإشارة إلى موضع تمويهه :

أمّا قوله : «فإنّ الدعاء مُخّ العبادة».

فمسلّم ، كما هو المرويّ عن أئمّتنا ـ سلام الله عليهم ـ لكن هذه المغالطة غير مُجدية لدعواه ، فإنّه إن جعلها صُغرى لقياسه ؛ بأن يقول : الدعاء مُخّ العبادة ، وكلّ

١٣

عبادة لغير الله شِرك.

قلنا : وهل يخفى على أحد أنّ قوله ذلك لا يصحّ منه إلّا قضيّة شخصيّة ، وهي دعاء الله ، فإنّ دعاءه يكون مخّ عبادته ؛ من حيث معرفته والالتجاء إليه ، والاعتراف بأنّه الإله لواحد القادر المطلق.

وأين هذا من دعائي ولدي ، وأقول : يا فلان أعطني كذا ، أو توسّط لي عند فلان بكذا.

هذا ، وإن زعم أنّها كلّيّة ؛ بمعنى : أنّ كلّ دعاء من كلّ أحد لكلّ أحد في كلّ عنوان ، هو عبادة له ومخّ العبادة.

فهذا الزعم واضح البطلان ، فلينظر إلى أصحابه وعلمائه وأُمرائه ، فكم يدعو وينادي الرجل منهم غيره ، ويستعين به في حوائجه في حَلّهم وارتحالهم ، وسلمهم وحربهم ، وقضائهم وسياستهم.

فهل كلّ هذا عبادة لغير الله وشِرْك به؟! وهل كلٌّ منهم مشركون؟!

[الاستغاثة بالوسائط]

وأمّا قوله فيما استشهد به من قول الله في سورة القصص : (فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ).

فقد دلّت الآية على جواز الاستغاثة بالمخلوق في إبقاء الحياة ؛ وحفظ النفس من الهلكة ؛ أو لغير ذلك من الغايات ، كما استشهد به هو لذلك ، وناقض به دعواه الأولى.

وأمّا دعواه جواز حصرها في أمر الدنيا وفيما هو المقدور للعباد من الأحياء بزعمه وقياسه.

فإنّما تردّها الآيات المطلقة التي استدلّ بها على دعواه ؛ حسبما ادّعاه على أنّ مطلق الاستعانة بالغير والابتهال إليه والتضّرع لديه شرْك به تعالى.

١٤

على أنّه يردّها قوله تعالى في غير موضع من القرآن (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ).

حيث دلّت الآية على لزوم الدعاء إلى الله في قضاء الحاجات ، والنجاة من الهلكات منه سبحانه تعالى ، وأنّ ما عداه شِرْك مُنافٍ للإخلاص.

وعليه يلزم التناقض بين الآيتين.

ودفعه لا يكون إلّا بدعوى : أنّ الاستعانة بالغير على وجه الاستقلال والاستبداد ـ بإلغاء ذي الواسطة ـ فيكون شركاً مُنافياً للعبادة والخلوص ، كما تقدّم في معنى الشرك.

وهذا من غير فرق بين جعل الواسطة في الأُمور المتعلّقة بهذه النشأة أو غيرها ؛ حيث إنّ الشرك حرام شرعاً وقبيح عقلاً ، وحكم العقل ليس قابلاً للتخصيص ولا التبعيض ، وقد قَبِله الشرع مع اتّحاد المناط في الحرمة.

[أدلة المنع من الاستشفاع]

فدعوى المتكلّف : أنّ الاستشفاع بغير الله شرك ، مستدلّا :

تارة بقوله : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ).

وأخرى بقوله تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى).

ومرّة بقوله تعالى في سورة سبأ :

(وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ).

وتارة بقوله تعالى في سورة طه : (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا). (مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً).

وأُخرى بقوله تعالى : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى).

إلى آخر ما استشهد به لدعواه.

١٥

[الردّ على ذلك]

فقد يردّها : أنّ الشفاعة من المعاني النسبيّة القائمة بالطرفين ، نظير العقود والمعاملات القائمة بالموجب والقابل ، فمتى لم يرضَ المُشفِّع ، كما لو لم يشفع الشفيع ، تقع الشفاعة لغواً.

فعدم الشفاعة تارة لفقد المقتضي ، أعني قابليّة الشفيع للشفاعة ، أو المشفَّع له.

أو لوجود مانع هناك ؛ أعني بلوغ المعصية إلى حدّ تمنع عنها حسبما نراه في المتعارفات الخارجية.

[الأدلة على جواز الشفاعة]

مضافاً إلى دلالة غير واحد من الآيات عليه ، مثل قوله : (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) الآية ، حيث نهى الله نبيّه من الشفاعة في ولده ؛ لأنّه قد بلغ في المعصية والمخالفة ما لا تصحّ معها الشفاعة له.

ومثله قوله تعالى : أمّا في المنافقين ففي موضعين من القرآن :

أحدهما : في سورة البراءة : (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ).

والأُخرى : في سورة المنافقين قوله تعالى : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ).

وأمّا في المشركين فقوله تعالى في سورة البراءة : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) ، فتأمّل في قوله (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ) ولا تغفل.

وقال بعض المفسّرين في قوله تعالى في سورة المدثّر : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) : إنّ معناه لا شافع ولا شفاعة ، فالنفي راجع إلى الموصوف والصفة معاً ، والآية من باب (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) من حيث إنّها سالبة بانتفاء الموضوع.

١٦

بل ، وإذا اشتدّ المانع تجافى الشفيع عن الشفاعة.

وربّما ينقلب الشفيع خصيماً ، كما في سورة نوح قوله تعالى : رَبِ (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) ، وهذا معنى قوله : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) وقوله : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) ، فمتى صحّ الإذن صحّت الشفاعة ، ومتى لم يأتِ الإذن تقع الشفاعة لغواً ، والطلب من المشفَّع له باطلاً.

وهذا لا دخل له بحديث الشرك وتضمّن بعض الآيات غايتها الدالة على أنّ العبادة للشفيع بإزاء شفاعته يكون شركاً باطلاً ، لا أنّ جعل الشفيع يكون كفراً وارتداداً.

بل يكون أمراً راجحاً يحكم به ضرورة العقل ، فضلاً عن الشرع ، كما سيجيء بيانه في المقام الثاني.

[استدلال آخر لنفي الشفاعة]

وأمّا الجواب عن [استدلاله ب] قوله تعالى في سورة مريم : (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً).

فليس في ظاهر الآية أنّ المقصود منها خصوص أنّ المجرمين لا يملكون الشفاعة لغيرهم ، أو خصوص أنّهم لا يملكون شفاعة غيرهم لهم.

لأنّ المصدر كما يجوز ويحسن إضافته إلى الفاعل ، كذلك يجوز ويحسن إضافته إلى المفعول.

إلّا أن نقول : إنّ حمل الآية على الوجه الثاني أولى ؛ لأنّ حملها على الوجه الأوّل يجري مجرى إيضاح الواضحات ، فإنّ كلّ أحد يعلم أنّ المجرمين الذين يُساقون إلى جهنّم وِرْداً ، لا يملكون الشفاعة لغيرهم ، فتعيّن حملها على الوجه الثاني.

١٧

[الآية صريحة في إثبات الشفاعة]

بل الآية صريحة في الاستدلال بها للشفاعة لأهل الكبائر لقوله تعالى : (إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ) فكلّ من اتّخذ عند الرحمن عهداً بالتوحيد والإسلام أو الإيمان بالله ، فهو ممّن يجب أن يكون داخلاً تحت هذه الآية ، فالآية بظاهرها حجّة عليهم ، لا لهم.

[التقرّب بالأصنام]

وأمّا قوله تعالى عن المشركين في سورة زمر : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى).

فلوضوح أنّ المذمّة واللوم لم تكن على اعتقاد الشفاعة أو التقرّب إلى الله زُلفى ، بل على العبادة الحقيقيّة منهم لأصنامهم ، بأنّ لهم مع الله تعالى التصرّف الاستقلالي في الأكوان ، وعلّلوها : بأنّا لا نقدر على عبادة الله ، فنكتفي بعبادة هؤلاء الأصنام.

[الآيات المانعة عن الاستشفاع خاصة]

وأمّا الجواب عن [الاستدلال ب] سائر الآيات كلّها :

أنّها مختصّة بالكفّار ؛ جمعاً بينها وبين الأدلّة.

فإنّها بين ما سيقت لذلك ، ولدفع توهّم الاستقلال بالشفاعة ، مع بيان عظمة الله وكبريائه ، وأنّه لا يُدانيه أحد ليقدر على تغيير ما يريده شفاعة وضراعة ؛ فضلاً عن أن يدافعه عناداً أو مناصبة.

كما في قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ).

فالآية مُثبتة للشفاعة ، ونظيرها الآيات السابقة التي استدلّ بها المتكلّف.

وتؤكّدها الاستثناءات الكاشفة عن ثبوتها.

قال الرازي في قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ) : استفهام معناه الإنكار

١٨

والنفي ، أي لا يشفع عنده أحد إلّا بأمره ، وذلك أنّ المشركين كانوا يزعمون أنّ الأصنام تشفع لهم ، وقد أخبر الله عنهم : أنّهم يقولون : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا) ، (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى.)

فأخبر الله أنّه لا شفاعة عنده لأحد إلّا من استثناه الله بقوله : (إِلَّا بِإِذْنِهِ).

ونظيره قوله في سورة النبأ : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) انتهى.

وفي سورة النجم : (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى).

وبين ما نزلت ردّاً للمشركين من عَبَدة الأصنام ، ورغماً عمّا كانوا يزعمونه من الشفاعة لآلهتهم.

كما في سورة بني إسرائيل : (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً).

وكما في سورة السبأ في قوله تعالى : (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) إلى قوله : (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا).

وَكَما في قوله تعالى في سورة الزمر : (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ* قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ).

والعجب من المتكلّف حيث أعجبه التمسّك بهذه الآية في منع الاستشفاعات في غير موضع من كتابه.

وهي كما ترى ، والمغالطة في إسقاطهم لصدر الآية كما عرفت.

ومثلها ما في سورة يونس : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ).

وفي سورة الروم : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ

١٩

شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ).

وفي سورة الأعراف : (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا).

وفي سورة الكهف : (وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً).

وفي سورة الأنعام (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ ...) إلى قوله : (وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ) إلى غيرها فانها صريحة وافية للمقام.

وبين ما سيقت للردّ على مقالة اليهود ؛ حيث قالوا : نحن أبناء الأنبياء ، وآباؤنا يشفعون لنا.

فأجابهم الله بقوله تعالى في سورة البقرة : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ).

وقال تعالى في هذه السورة : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ).

قال المفسّرون : إنّ حكم هذه الآيات مختصّ باليهود ؛ حيث قالوا : نحن أبناء الأنبياء وآباؤنا يشفعون لنا ، فآيسهم الله من ذلك ، فخرج الكلام مخرج العموم ، والمراد به الخصوص.

أقول : وهب أنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوصيّة السبب ، إلّا أنّ تخصيص مثل هذا العامّ بمثل هذا السبب المخصوص ، ممّا يكفي فيه أدنى دليل ؛ وكيف بالدلائل القطعيّة القائمة للشفاعة؟! فيخصّص بها قطعاً.

فسقط الاستدلال بالنكرة في سياق النفي تارة.

وبعدم الانتصار اخرى.

٢٠