علم اليقين في أصول الدين - ج ٢

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]

علم اليقين في أصول الدين - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]


المحقق: محسن بيدارفر
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: انتشارات بيدار
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
ISBN: 964-90800-3-1
الصفحات: ٨٧٨

وعن زيد بن أرقم قال (١) : جاء رجل من أهل الكتاب إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : «يا أبا القاسم تزعم أنّ أهل الجنّة يأكلون ويشربون»؟

فقال : «نعم ـ والذي نفسي بيده ـ إنّ أحدهم ليعطى قوّة مائة رجل في الأكل والشرب والجماع».

قال : «فإنّ الذي يأكل له حاجة ، والجنّة طيّبة ليس فيها أذى»؟

قال : «حاجة أحدهم عرق كريح المسك».

وفي خبر آخر : «وتجامعه كما تجامع أهل الدنيا من الرجل وأهله حقبا ـ والحقب ثمانون سنة ـ لا يملّها ولا تملّه تلك الفراش».

وفي رواية (٢) : «كلّما أصابها وجدها عذراء».

وروي (٣) أنّ أدنى أهل الجنّة منزلة من له ثمانون ألف خادم ، واثنتان وتسعون درجة (٤) ، وتنصب له قبّة من لؤلؤ وزبرجد وياقوت كما بين الجابية وصنعا.

__________________

(١) ـ مع فرق يسير في المسند : ٤ / ٣٦٧. كنز العمال : ١٤ / ٤٨٤ ، ح ٣٩٣٥٩.

الدر المنثور : ١ / ١٠٠.

(٢) ـ في الدر المنثور (البقرة / ٢٥ ، ١ / ١٠١) : «أخرج البزاز والطبراني في الصغير وأبو الشيخ في العظمة عن أبي سعيد الخدري ـ قال : ـ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن أهل الجنّة إذا جامعوا نساءهم عادوا أبكارا. أخرج عبد بن حميد وأحمد في زوائد الزهد وابن المنذر عن عبد الله بن عمر وقال : إنّ المؤمن كلما أراد زوجته وجدها بكرا». راجع أيضا كنز العمال : ١٤ / ٤٧٠ ، ح ٣٩٢٩٦.

(٣) ـ الترمذي : ٤ / ٦٩٥ ، كتاب صفة الجنّة ، باب (٢٣) ما جاء ما لأدنى أهل الجنّة من الكرامة ، ح ٢٥٦٢. المسند : ٣ / ٧٦. كنز العمال : ١٤ / ٤٧٦ ، ح ٣٩٣٢٧. الدر المنثور ، قوله تعالى (وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ ...) ، ١ / ٩٨.

(٤) ـ في المصادر التي ذكرنا : اثنتان وسبعون زوجة.

٥٤١

وفي كتاب الحسين بن سعيد الأهوازي (١) ، عن أبي بصير ، عن أحدهما عليهما‌السلام ـ قال : ـ «إذا كان يوم الجمعة وأهل الجنّة في الجنّة وأهل النار في النار ، عرف أهل الجنّة يوم الجمعة لما يرون من تضاعف اللذة والسرور ؛ وعرف أهل النار يوم الجمعة ، وذلك أنّه تبطش بهم الزبانية».

وفيه (٢) عن أبي بصير ، عن أبي جعفر عليهما‌السلام قال : «إذا كان يوم القيامة نادت الجنّة ربّها ، فقالت : يا ربّ أنت العدل قد ملأت النار من أهلها كما وعدتها ولم تملأني كما وعدتني».

فيخلق الله خلقا لم يروا الدنيا فيملأ بهم الجنّة ـ طوبى لهم ـ.

وفي حديث آخر (٣) : «لم يروا هموم الدنيا ولا غمومها».

* * *

__________________

(١) ـ الزهد : باب أحاديث الجنة والنار ، ٩٩ ، ح ٢٦٨. عنه البحار : ٨ / ١٩٨ ، ح ١٩٣.

(٢) ـ نفس المصدر : ٩٩. وقد سقط من النسخة المطبوعة من المصدر «أبو بصير».

البحار : الصفحة السابقة.

(٣) ـ نفس المصدر : ١٠٣. تفسير القمي : ٢ / ٣٣٤ ، سورة ق.

٥٤٢

[١٥]

باب

صفة النار وأهلها

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [٦٦ / ٦]

فصل [١]

روى الصدوق ـ رحمه‌الله ـ (١) بإسناده عن مولانا الصادق عليه‌السلام قال : «بينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذات يوم قاعد إذ أتاه جبرئيل عليه‌السلام وهو كئيب حزين متغيّر اللون ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا جبرئيل ـ ما لي أراك كئيبا حزينا»؟

فقال : يا محمّد ـ فكيف لا أكون كذلك ، وإنّما وضعت منافيخ جهنّم اليوم».

__________________

(١) ـ لم أعثر على رواية الصدوق ، ولكن روى ما يقرب منه القمي في تفسيره : ٢ / ٨١ ، سورة الحج / ٢٢. عنه البحار : ٨ / ٢٨٠ ، ح ١.

٥٤٣

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «وما منافيخ جهنّم ـ يا جبرئيل»؟

فقال : «إنّ الله تعالى أمر بالنار فاوقد عليها ألف عام حتّى احمرّت ، ثمّ أمر بها فاوقد عليها ألف عام حتّى ابيضّت ، ثمّ أمر بها فاوقد عليها ألف عام حتّى اسودّت وهي سوداء مظلمة ، فلو أنّ حلقة من السلسلة ـ التي طولها سبعون ذراعا ـ وضعت على الدنيا ، لذابت الدنيا من حرّها ، ولو أنّ قطرة من الزقّوم والضريع قطّرت في شراب أهل الدنيا ، مات أهل الدنيا من نتنها». ـ قال : ـ «فبكى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبكى جبرئيل عليه‌السلام ؛ فبعث الله إليهما ملكا فقال : «إنّ ربّكما يقرؤكما السّلام ويقول : «إنّي قد أمنتكما من أن تذنبا ذنبا اعذّبكما عليه».

وبإسناده (١) عن مولانا الباقر عليه‌السلام قال : لمّا نزلت هذه الآية : (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) [٨٩ / ٢٣] سئل عن ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال :

«أخبرني الروح الأمين أنّ الله لا إله غيره إذا جمع الأوّلين والآخرين أتى بجهنّم تقاد بألف زمام ، أخذ بكلّ زمام ألف ملك من الغلاظ الشداد ، لها هدّة وتغيّظ وزفير ، وإنّها لتزفر الزفرة ، فلولا أنّ الله أخّرهم إلى الحساب لأهلكت الجميع.

ثمّ يخرج منها عنق محيط بالخلائق ـ البرّ منهم والفاجر ـ فما خلق الله عبدا من عباده ـ ملك ولا نبيّ ـ إلّا ينادي : «يا ربّ ، نفسي نفسي» ، وأنت تقول : «يا ربّ أمّتي أمّتي» ـ الحديث وقد مضى تمامه (٢) ـ

__________________

(١) ـ أمالي الصدوق : المجلس ٣٣ ، ح ٤ ، ٢٤١. وفي تفسير القمي : ٢ / ٤٥١ ، مع فروق يسيرة.

البحار : ٧ / ١٢٥ ، ح ١. ٨ / ٦٥ ، ح ٢. و ٢٩٣ ، ح ٣٦.

(٢) ـ راجع ما مضى في الفصل الثاني من الباب التاسع.

٥٤٤

وعنه عليه‌السلام (١) قال : «إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا اسري به لم يمرّ بخلق من خلق الله إلّا رأى ما يحبّ من البشر واللطف والسرور ، حتّى مرّ بخلق من خلق الله ، فلم يلتفت إليه ولم يقل شيئا ، فوجده قاطبا عابسا ؛ فقال : «يا جبرئيل ـ ما مررت بخلق من خلق الله إلّا رأيت البشر واللطف والسرور منه إلّا هذا ، فمن هذا»؟

قال : «هذا مالك ، خازن النار [وهكذا خلقه ربّه»

قال : فإنّي احبّ أن تطلب إليه أن يريني النار] (٢)»؟

فقال له جبرئيل : «إنّ هذا محمّد رسول الله ، قد سألني أن أطلب إليك أن تريه النار».

ـ قال : ـ «فأخرج عنقا منها ، فرآها ؛ فما افترّ ضاحكا حتّى قبضه الله عزوجل».

وروى هذا الحديث الحسين بن سعيد الأهوازي في كتابه بأدنى تفاوت (٣).

وروى فيه (٤) عن زيد بن عليّ ، عن آبائه ، عن عليّ عليه‌السلام قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ ناركم هذه لجزء من سبعين جزءا من نار جهنّم ،

__________________

(١) ـ أمالي الصدوق : المجلس السابع والثمانون ، ح ٦ ، ٦٩٦ ـ ٦٩٧. عنه البحار : ٨ / ٢٨٤ ، ح ٩.

وجاء ما يقرب منه في كتاب الزهد عن الصادق عليه‌السلام كما سيشير إليه المؤلف.

وقد مضى أيضا ضمن أحاديث المعراج.

(٢) ـ الإضافة بين المعقوفتين من المصدر ولم تكن في النسخ.

(٣) ـ الزهد : باب أحاديث الجنّة والنار ، ٩٩ ، ح ٢٧١ ، عن الصادق عليه‌السلام.

عنه البحار : ٨ / ٢٨٤ ، ح ٩.

(٤) ـ الزهد : الباب المذكور ، ١٠١ ، ح ٢٧٥. عنه البحار : ٨ / ٢٨٨ ، ح ٢١. وجاء ما يقرب منه في مستدرك الحاكم : كتاب الأهوال : ٤ / ٥٩٣.

٥٤٥

ولقد اطفئت سبعين مرّة بالماء ، ولو لا ذلك لما استطاع آدميّ أن يطفئها (١) إذا التهبت ، وإنّه لتؤتى بها يوم القيامة حتّى توضع على النار ، [فتصرخ صرخة] (٢) ما يبقى ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل إلّا جثا بركبتيه فزعا من صرخها (٣)».

وعن ابن بكير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٤) قال : «إنّ في جهنّم لواديا للمتكبّرين يقال له : سقر ؛ شكا إلى الله تعالى شدّة حرّه ، وسأله أن يأذن له أن يتنفّس؟ فأذن له ، فتنفّس ، فأحرق جهنّم».

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٥) : «لو كان في هذا المسجد مائة ألف أو يزيدون ، ثمّ تنفّس رجل من أهل النار فأصابهم نفسه لاحترق المسجد ومن فيه».

وعنه عليه‌السلام (٦) : إنّ في النار لحيّات مثل أعناق البخت ، يلسعن أحدهم اللسعة فيجد حموّتها أربعين خريفا ؛ وإنّ فيها لعقارب كالبغال

__________________

(١) ـ نسخة في المصدر : أن يطيقها.

(٢) ـ إضافة من المصدر.

(٣) ـ المصدر : صرختها.

(٤) ـ الكافي : كتاب الإيمان والكفر ، باب الكبر ، ٢ / ٣١٠ ، ح ١٠. تفسير القمي : الزمر / ٦٠ ، ٢ / ٢٥٣ ـ ٢٥٤. المحاسن : ١٢٣ ، ح ١٣٨.

عنها البحار : ٨ / ٢٩٤ ، ح ٣٨. ٧٣ / ١٨٩. ٧٣ / ٢٣٢ ، ح ٢٨.

(٥) ـ حلية الأولياء : ترجمة سعيد بن جبير : ٤ / ٣٠٧. رواه المنذري عن أبي يعلي : الترغيب والترهيب ، كتاب صفة الجنة والنار ، فصل في شدة حرها : ٦ / ٢٣٩. وقال الزبيدي (إتحاف السادة : ١٠ / ٥١٤) : رواه البزاز وأبو يعلي والبيهقي في البعث.

(٦) ـ ما يقرب منه في مستدرك الحاكم : كتاب الأهوال : ٤ / ٥٩٣. المسند : ٤ / ١٩١.

كنز العمال : ١٤ / ٥٢٦ ، ح ٣٩٥٠٣.

٥٤٦

المؤكفة ، يلسعن أحدهم فيجد حموّتها أربعين خريفا».

وفي الأخبار العاميّة : «إنّ الله ـ تعالى ـ أرسل جبرئيل إلى مالك بأن يأخذ من نار جهنّم فيأتي بها إلى آدم ، حتّى يطبخ بها طعاما.

قال مالك : «يا جبرئيل ـ كم تريد من النار»؟

قال : «اريد مقدار نملة من النار».

قال مالك : «لو أعطيتك مقدار نملة لذاب منها سبع سماوات وسبع أرضين من حرّها».

قال جبرئيل : «مقدار نصف نملة».

قال مالك : «لو أعطيتك نصف نملة منها لا ينزل من السماء قطرة ، ولم تنبت من الأرض نبات».

ثمّ نادى جبرئيل : «إلهي ـ كم آخذ من النار»؟

قال الله ـ تعالى ـ : «خذ مقدار ذرّة منها».

فأخذ مقدار ذرّة وغسلها في سبعين نهرا سبعين مرّة ، ثمّ جاء بها إلى آدم فوضعها على جبل شاخص من الجبال ، فذاب ذلك الجبل ورجع النار إلى مكانه ، وبقي دخانها في الأحجار والحديد إلى يومنا هذا ؛ فهذه النار من دخان تلك الذرّة ، فاعتبروها يا مؤمنون».

٥٤٧

فصل [٢]

روى الصدوق ـ رحمه‌الله ـ (١) بإسناده عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ـ قال : ـ «إنّ للنار سبعة أبواب : باب يدخل منه فرعون وهامان وقارون ، وباب يدخل منه المشركون والكفّار ممن لا يؤمن بالله طرفة عين ، وباب يدخل منه بنو اميّة ـ هو لهم خاصّة لا يزاحمهم فيه أحد أبدا ـ وهو باب لظى ، وهو باب سقر ، وهو باب الهاوية يهوي بهم سبعين خريفا ، فكلّما هوى بهم سبعين خريفا فار بهم فورة قذف بهم في أعلاها سبعين خريفا ، ثمّ هوى بهم كذلك سبعين خريفا ، فلا يزالون هكذا أبدا خالدين مخلّدين ، وباب يدخل منه مبغضونا ومحاربونا وخاذلونا ، وإنّه لأعظم الأبواب وأشدّها حرّا».

وعن مولانا الباقر عليه‌السلام (٢) : «إنّ أهل النار يتعاوون كما يتعاوى الكلاب والذئاب مما يلقون من أليم العذاب ؛ ما ظنّك بقوم لا يقضى عليهم فيموتوا ، ولا يخفّف عنهم من عذابها ؛ عطاش فيها جياع ، كليلة أبصارهم ، صمّ بكم عمي ، مسودّة وجوههم ، خاسئين فيها نادمين ، مغضوب عليهم فلا يرحمون ، ومن العذاب لا يخفّف عنهم ، وفي النار يسجرون ، ومن الحميم يشربون ، ومن الزقّوم يأكلون ، وبكلاليب النار يحطمون ، وبالمقامع يضربون ، والملائكة الغلاظ الشداد لا يرحمون ، فهم في النار يسحبون على وجوههم ، ومع الشياطين يقرنون ، وفي الأنكال

__________________

(١) ـ الخصال : باب السبعة : ح ٥١ ، ٢ / ٣٦١. عنه البحار : ٨ / ٢٨٥ ، ح ١١.

(٢) ـ أمالي الصدوق : المجلس الثاني والثمانون ، ح ١٤ ، ح ٦٥١. عنه البحار : ٨ / ٢٨١ ، ح ٣.

٥٤٨

والأغلال يصفّدون ؛ إن دعوا لم يستجب لهم ، وإن سألوا حاجة لم يقض لهم ؛ هذه حال من دخل النار».

وفي الأخبار العاميّة (١) : «إنّ أهل النار يدعون مالكا فلا يرد لهم جوابا أربعين عاما ، ثمّ يردّ عليهم (إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) [٤٣ / ٧٧] ـ يعني دائمون أبدا ـ. ثمّ يدعون ربّهم : (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ) [٢٣ / ١٠٧] فلا يجيبهم مقدار ما كانت الدنيا مرّتين ، ثمّ يردّ عليهم : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) [٢٣ / ١٠٨]».

قال : «فو الله ما تيسّر القوم بكلمة (٢) ، وما كان بعد ذلك إلّا الزفير والشهيق في النار».

ـ تشبه أصواتهم بأصوات الحمير ، أوّله زفير وآخره شهيق ـ.

* * *

ويقال إنّ أهل النار يجزعون ألف سنة ، ثمّ يقولون : كنّا في الدنيا إذا صبرنا كان لنا فرج فيصبرون ألف سنة ولا يخفّف عنهم ، فيقولون : (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) [١٤ / ٢١] ، فيدعون الله ـ تعالى ـ ألف سنة الغيث ـ لما بهم من العطش وشدّة العذاب لكي يزول عنهم بعض الحرارة والعطش ـ فإذا تضرّعوا ألف سنة يقول الله ـ تعالى ـ لجبرئيل : «أيّ شيء يطلبون»؟

__________________

(١) ـ مع فروق يسيرة في المستدرك للحاكم : كتاب الأهوال ، ٤ / ٥٩٨. وفي الدر المنثور (المؤمنون / ١٠٨) حكى عن ابن أبي شيبة وهناد ، وعبد بن حميد ، وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد ، وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والطبراني والحاكم والبيهقي في البعث.

(٢) ـ المستدرك : ما ينبس القوم بكلمة.

٥٤٩

فيقول جبرئيل : «يا ربّ ـ أنت أعلم بهم ، يسألون الغيث» ، فيظهر لهم سحابة حمراء ، فظنّوا أنّهم يمطرون ، ويرسل عليهم عقارب كأمثال البغال ، فيلدغ واحد منهم فلا يذهب عنهم الوجع ألف سنة.

ثمّ يسألون الله ـ تعالى ـ ألف سنة أن يرزقهم الغيث ، فيظهر لهم سحابة سوداء ؛ فيقولون : «هذه سحابة المطر» ؛ فيرسل عليهم حيّات كأمثال الإبل ، كلّما لسع لسعة لا يذهب عنهم الوجع ألف سنة ؛ وهذا معنى قوله تعالى : (زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ) [١٦ / ٨٨] ، يعني بما كانوا يكفرون [و] يعصون الله ـ تعالى ـ (١)

__________________

(١) ـ كتب المصنف ما يلي ثم شطب عليه :

وقال منصور بن عمّار : بلغني أنّ لمالك النار أيد بعدد أهل النار ، ومع كلّ يد رجل يقومه ويقعده ويغلّه ويسلسله ، فإذا نظر إلى النار فيأكل النار بعضها بعضا من خوف المالك.

وحروف البسملة تسعة عشر ، وعدد الزبانية كذلك ؛ فمن قال : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ـ صدقا من قلبه ـ خلّصه الله ـ تعالى ـ يوم القيامة من الزبانية ببركته.

ويسمّون بذلك لأنّهم يعملون بأرجلهم كما يعملون بأيديهم ، فيأخذ أحد منهم عشرة آلاف من الكفّار بيد واحدة ، وعشرة آلاف بإحدى رجليه ، وعشرة آلاف بيد اخرى وبالرجل الآخر ، فيعذّب أربعين آلاف كافرا بمرّة واحدة بما فيه من قوّة وشدّة.

أحدهم مالك ، خازن النار ، وثمانية عشر مثله ؛ وهم رؤساء الملائكة تحت كلّ منهم من الخزنة ما لا يحصى عددهم ، أعينهم كالبرق الخاطف ، أسنانهم كصياصي قرون البقر ، يخرج لهب النار من أفواههم ، ما بين كتفي كلّ واحد مسيرة سنة واحدة ، لم يبق الله في قلوبهم من الرأفة والرحمة مقدار ذرّة ؛ يهوى أحدهم في بحار الدنيا مقدار أربعين سنة ، فلا تضرّه النار ـ لأنّ النور أشدّ من حرّ النار ـ نعوذ بالله من شرّ النار.

٥٥٠

فصل [٣]

روى العامّة بإسنادهم عن يزيد الرقاشي ، عن أنس بن مالك ، قال : جاء جبرئيل إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في ساعة ما كان يأتيه فيها ـ متغيّر اللون ؛ فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما لي أراك متغيّر اللون».

فقال : «يا محمّد ـ جئتك في الساعة التي أمر الله ـ تعالى ـ بمنافخ النار أن ينفخ فيها ، ولا ينبغي لمن يعلم أنّ جهنّم حقّ ، وأنّ عذاب الله أكبر ، أن يقرّ عينه حتّى يأمنها».

فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «صف لي النار ـ يا جبرئيل»؟

فقال : «نعم يا محمّد ـ صلّى الله عليك ـ إنّ الله تعالى لمّا خلق جهنّم اوقد عليها ألف سنة فاحمرّت ، ثمّ اوقد عليها ألف سنة فابيضّت ، ثمّ اوقد عليها ألف سنة فاسودّت ؛ فهي سوداء مظلمة ، لا يضيء لهبها ولا حمرتها (١).

والذي بعثك بالحقّ [نبيّا] (٢) ، لو أنّ مثل خرم إبرة وقع منها لأحرق أهل الدنيا عن آخرهم ؛ والذي بعثك بالحق نبيّا ، لو أنّ ثوبا من ثياب أهل النار علّق بين السماء والأرض لماتوا عن آخرهم لما يجدون من نتنها ؛ والذي بعثك بالحقّ نبيّا لو أنّ زرا (٣) من السلسلة التي ذكرها الله ـ عزوجل ـ في كتابه وضع على جبل لذاب حتّى يبلغ الأرضين السابعة ؛

__________________

(١) ـ يحتمل القراءة : جمرتها.

(٢) ـ أضفناها ليلائم السياق مع ما يأتي.

(٣) ـ كذا يقرأ في النسخة ، وهو من الثوب ما يوضع فيه العروة. وفي نسخة ع : «ذرّا» ويحتمله القراءة أيضا. ولعل الصحيح : ذرّا.

٥٥١

والذي بعثك بالحقّ ، لو أنّ رجلا بالمغرب يعذّب لاحترق الذي بالمشرق من شدّة عذابها ؛ حرّها شديد ، وقعرها بعيد ، وحليها حديد ، وشرابها الحميم والصديد ، وثيابها مقطّعات النيران : (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) [١٥ / ٤٤] من الرجال والنساء».

فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أهي كأبوابنا هذه»؟

فقال : «لا ، ولكنّها مفتوحة بعضها أسفل من بعض ، من باب إلى باب مسيرة سبعين سنة ، كلّ باب منها أشدّ حرّا من الذي يليه سبعين ضعفا ، يساق أعداء الله إليها ، فإذا انتهوا إلى أبوابها ، استقبلتهم الزبانية بالأغلال والسلاسل ، فتسلك السلسلة في فيه وتخرج من دبره ، وتغلّ يده اليسرى إلى عنقه ، وتدخل يده اليمنى في فؤاده وتنزع من بين كتفيه ويشدّ بالسلاسل ، ويقرن كلّ آدميّ مع شيطان في سلسلة ويسحب على وجهه ، فتضربه الملائكة بمقامع من حديد ، (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها) [٣٢ / ٢٠].

* * *

فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من سكّان هذه الأبواب»؟

قال : «فأمّا الباب الأسفل ففيه المنافقون ، ومن كفر من أصحاب المائدة ، وآل فرعون ، واسمها الهاوية.

والباب الثاني ففيه المشركون واسمه الجحيم.

والباب الثالث ففيه الصابئون ، واسمه سقر.

والباب الرابع ففيه إبليس ومن تبعه والمجوس ، واسمه لظى.

والباب الخامس ففيه اليهود واسمه الحطمة.

٥٥٢

والباب السادس ففيه النصارى واسمه السعير ـ ثم أمسك جبرئيل عليه‌السلام».

فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ألا تخبرني من سكّان الباب السابع»؟

قال : «يا محمّد ـ لا تسألني عنه».

فقال : «بلى يا جبرئيل ـ أخبرني عن الباب السابع».

فقال : «فيه أهل الكبائر من أمّتك ، الذين ماتوا ولم يتوبوا».

فخرّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مغشيّا عليه. فوضع جبرئيل عليه‌السلام رأسه في حجره حتّى أفاق ، فلمّا أفاق ، قال : «يا جبرئيل ـ عظمت مصيبتي واشتدّ حزني ؛ أويدخل من أمّتي النار»؟

قال : «نعم ـ أهل الكبائر من أمّتك».

ثمّ بكى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبكى جبرئيل ، ودخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منزله واحتجب عن الناس ؛ فكان لا يخرج إلّا إلى الصلاة ، يصلّي ويدخل ، ولا يكلّم أحدا ، ويأخذ في الصلاة ويبكي ويتضرّع إلى الله ـ تعالى ـ.

فلمّا كان من اليوم الثالث أقبل أبو بكر حتّى وقف بالباب ، فقال : «السّلام عليكم يا أهل بيت الرحمة ـ هل إلى رسول الله من سبيل»؟ فلم يجبه أحد ، وتنحّى باكيا.

فأقبل عمر فصنع مثل ذلك ، فلم يجبه أحد فتنحّى وهو يبكي.

وأقبل سلمان الفارسي ـ رضي الله عنه ـ فوقف بالباب ، فقال : «السّلام عليكم يا أهل بيت الرحمة ـ هل إلى مولاي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من سبيل»؟ فلم يجبه أحد ، فأقبل مرّة يبكي ويقع مرّة ويقوم اخرى حتّى أتى بيت فاطمة عليها‌السلام ، فوقف بالباب ، ثمّ قال : «السّلام عليكم يا أهل

٥٥٣

بيت المصطفى ـ صلى الله عليهم ـ» ـ وكان عليّ عليه‌السلام غائبا ـ فقال سلمان : «يا بنت رسول الله ـ إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم احتجب عن الناس ، فليس يخرج إلّا إلى الصلاة ، ولا يكلّم أحدا ولا يأذن لأحد أن يدخل عليه».

فاشتملت فاطمة بعباءة قطرانيّة ، وأقبلت حتّى وقفت على باب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ سلّمت وقالت : «يا رسول الله ـ أنا فاطمة» ؛ ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ساجد يبكي ، فرفع رأسه فقال : «ما بال قرّة عيني فاطمة حجبت عنّي ؛ افتحوا لها الباب» ؛ ففتح الباب. فلمّا نظرت إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكت بكاء شديدا لما رأت من حاله مصفرّا ، متغيّرا لونه ، مذاب لحم وجهه من البكاء والحزن.

فقالت : «يا رسول الله ـ ما الذي نزل عليك»؟

فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «جاءني جبرئيل عليه‌السلام ووصف لي أبواب جهنّم وأخبرني بأن في أعلى بابها أهل الكبائر من أمّتي ، فذلك الذي أبكاني وأحزنني».

* * *

قالت : «يا رسول الله ـ أولم تسأله كيف يدخلونها»؟

قال : «تسوقهم الملائكة إلى النار ، ولا تسودّ وجوههم ولا تزرق عيونهم ولا يختم على أفواههم ، ولا يقرنون مع الشياطين ، ولا يوضع عليهم السلاسل والأغلال».

قالت : «يا رسول الله ـ كيف تقودهم الملائكة»؟

قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أمّا الرجال ، فباللحى ؛ وأمّا النساء فبالذوائب والنواصي. فكم من ذي شيبة من أمّتي قد قبض على شيبته يقاد إلى النار ، وهو ينادي : «وا شيبتاه ، وا ضعفاه» ؛ وكم من شابّ من أمّتي

٥٥٤

يقبض على لحيته يقاد إلى النار ، وهو ينادي : «وا شباباه ، واحسن صورتاه» ؛ وكم من امرأة من أمّتي تقبض على ناصيتها تقاد إلى النار ، وهي تنادي : «وا فضيحتاه ، وا هتك ستراه».

حتّى ينتهى بهم إلى مالك ، فإذا نظر إليهم مالك قال للملائكة : «ما هؤلاء»؟ فما ورد عليّ من الأشقياء أعجب من هؤلاء ، لم تسودّ وجوههم ، ولم توضع السلاسل والأغلال في أعناقهم»؟!.

فيقول الملائكة : «هكذا امرنا أن نأتيك بهم على هذه الحال».

فيقول لهم : «يا معشر الأشقياء ـ من أنتم»؟

ـ وفي رواية اخرى أنّهم لمّا قادتهم الملائكة فتنادون : «وا محمّداه» ، فلمّا رأوا مالكا نسوا اسم محمّد من هيبته ، فيقول لهم : «من أنتم»؟ ـ

فيقولون : «نحن ممّن انزل علينا القرآن ، ونحن ممّن نصوم شهر رمضان». فيقول مالك : «ما نزل القرآن إلّا على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم».

فإذا سمعوا اسم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صاحوا ، فقالوا : «نحن من أمّة محمّد».

فيقول لهم مالك : «ما كان لكم في القرآن زاجر عن معاصي الله».

فإذا وقف بهم على شفير جهنّم ونظروا إلى النار وإلى الزبانية ، فقالوا : «يا مالك ائذن لنا نبكي على أنفسنا ، فيبكون الدموع حتّى لم يبق لهم الدموع ، فيبكون دما».

فيقول مالك : «ما أحسن هذا لو كان في الدنيا ، فلو كان هذا البكاء في الدنيا من خشية الله ـ تعالى ـ ما مسّكم النار اليوم».

فيقول مالك للزبانية : «ألقوهم في النار».

فنادوا بأجمعهم : «لا إله إلّا الله» ، فترجع عنهم النار.

فيقول مالك : «يا نار ـ خذيهم».

٥٥٥

فتقول النار : «وكيف آخذهم وهم يقولون : لا إله إلّا الله».

فيقول مالك : «نعم. بذلك أمر ربّ العرش» ، فتأخذهم ؛ فمنهم من تأخذه إلى قدميه ، ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه ، ومنهم من تأخذه إلى حقويه ، ومنهم من تأخذه إلى حلقه.

ـ قال : ـ «فإذا أهوت النار إلى وجهه قال مالك : «لا تحرقي وجوههم ، فطال ما سجدوا للرحمن في الدنيا ، ولا تحرقي قلوبهم فطال ما عطشوا في شهر رمضان». فيبقون ما شاء الله فيها فينادون : «يا أرحم الراحمين ، يا حنّان ، يا منّان».

* * *

فإذا أنفذ الله ـ تعالى ـ حكمه قال : «يا جبرئيل ـ ما فعل العاصون من أمّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم»؟

فيقول : «إلهي ـ أنت أعلم بهم».

فيقول : «انطلق فانظر ما حالهم»؟

فينطلق جبرئيل إلى المالك ـ وهو على سرير من نار في وسط جهنّم ـ فإذا نظر مالك إلى جبرئيل عليه‌السلام قام تعظيما له ، فيقول : «يا جبرئيل ـ ما أدخلك هذا الموضع»؟

فيقول : «ما فعلت العصابة العاصية من أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم»؟

فيقول مالك : «ما أسوأ حالهم وأضيق مكانهم ، قد أحرقت النار أجسامهم وأكلت لحومهم ، وبقيت وجوههم وقلوبهم يتلألأ فيها الإيمان».

فيقول جبرئيل : «ارفع الطبق عنهم حتّى أنظر إليهم».

ـ قال : ـ يأمر مالك الخزنة فيرفعون الطبق ، فاذا نظروا إلى جبرئيل

٥٥٦

وإلى حسن خلقه ، علموا أنّه ليس من ملائكة العذاب ، فيقولون : «من هذا العبد الذي لم نر شيئا قطّ أحسن وجها منه»؟

فيقول مالك : «هذا جبرئيل الكريم على الله ـ تعالى ـ الذي كان يأتي محمّداصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالوحي».

فإذا سمعوا بذكر محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صاحوا بأجمعهم ، وقالوا : «يا جبرئيل ـ أقرئ محمّدا منّا السّلام ، وأخبره أنّ معاصينا فرّقت بيننا وبينك ؛ وأخبره بسوء حالنا».

* * *

فينطلق جبرئيل حتّى يقوم بين يدي الله ـ تعالى ـ فيقول الله ـ عزوجل ـ : «كيف رأيت أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم»؟

فيقول : «يا ربّ ـ ما أشدّ حالهم وأضيق مكانهم».

فيقول : «هل سألوك شيئا»؟

فيقول : «نعم يا ربّ ـ سالوني أن أقرأ على نبيّهم السّلام ، واخبره بسوء حالهم».

فيقول الله ـ جلّ جلاله ـ : «انطلق وأبلغه».

فيدخل جبرئيل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وهو في خيمة من درّة بيضاء ، لها أربعة ألف باب ، ولها مصراعان من ذهب ـ فيقول : «يا محمّد ـ جئتك من عند العصابة العصاة من أمّتك يعذّبون بالنار ؛ وهم يقرءونك السّلام ويقولون : «ما أسوأ حالنا وأضيق مكاننا».

فيأتي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند العرش ، فيخرّ ساجدا ، ويثني على الله ثناء لم يثنه أحد مثله ؛ فيقول الله ـ عزوجل ـ : «ارفع رأسك ، واسأل تعط ، واشفع تشفّع».

٥٥٧

فيقول : «يا ربّ ، الأشقياء من أمّتي ، قد أنفذت فيهم حكمك».

فيقول الله ـ عزوجل ـ : «قد شفّعتك فيهم ، فأت النار وأخرج منها من قال : «لا إله إلّا الله». فينطلق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإذا نظر مالك إلى محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قام تعظيما له ، فيقول : «يا مالك ـ ما حال أمّتي الأشقياء»؟

فيقول مالك : «ما أسوأ حالهم وأضيق مكانهم».

فيقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «افتح الباب ، وارفع الطبق ، فإذا نظروا أهل النار إلى محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صاحوا بأجمعهم ، فيقولون : «قد أحرقت النار جلودنا ، وأحرقت أكبادنا». ويخرجهم جميعا ، وقد صاروا فحما قد أكلتهم النار ، فينطلق بهم إلى نهر بباب الجنّة يسمّى الحيوان ، فيغتسلون فيه ، فيخرجون منه شبابا جردا مردا مكحّلين ، وجوههم مثل القمر مكتوب على جباههم : «جهنّميّون عتقاء الرحمن من النار».

فيدخلون الجنّة ، فإذا رأى أهل النار أنّ المسلمين قد اخرجوا منها ، قالوا : «يا ليتنا كنّا مسلمين ، وكنّا نخرج من النار» ، وهو قوله تعالى : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) [١٥ / ٢].

أقول : إن صحّ هذا الحديث فلعلّ التوفيق بينه وبين ما يأتي من الأخبار من أنّه «لا يعذّب أهل التوحيد بالنار» : أن تحمل «الامّة» في هذا الحديث على ما عدا الشيعة من فرق الإسلام ، ويخصّ ما يأتي بالشيعة ، كما يستفاد من بعضها.

٥٥٨

[١٦]

باب

مذنبي أهل التوحيد والناقصين

(قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [٣٩ / ٥٣]

فصل [١]

[غفران الذنوب]

روى الصدوق ـ رحمه‌الله ـ (١) بإسناده عن ابن عبّاس ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «والذي بعثني بالحقّ بشيرا ـ لا يعذّب الله بالنار موحّدا أبدا ، وإنّ أهل التوحيد ليشفعون فيشفّعون».

ـ ثمّ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «إذا كان يوم القيامة أمر الله ـ تعالى ـ بقوم لسيّئات أعمالهم في دار الدنيا إلى النار ، فيقولون : «يا ربّ ـ كيف

__________________

(١) ـ التوحيد : باب ثواب الموحّدين ، ٢٩ ، ح ٣١. أمالي الصدوق : المجلس التاسع والأربعون ، ح ١٠ ، ٣٧٢. عنهما البحار : ٣ / ١ ، ح ١.

٥٥٩

تدخلنا النار وقد كنّا نوحّدك في دار الدنيا؟ وكيف تحرق بالنار ألسنتنا وقد نطقت بتوحيدك في دار الدنيا؟ وكيف تحرق قلوبنا وقد عقدت على أن لا إله إلّا أنت؟ أم كيف تحرق وجوهنا وقد عفّرناها لك في التراب؟ أم كيف تحرق أيدينا وقد رفعناها بالدعاء إليك»؟

فيقول الله ـ تعالى ـ : «عبادي ـ ساءت أعمالكم في دار الدنيا ، فجزاؤكم نار جهنّم».

فيقولون : «يا ربّنا ـ عفوك أعظم أم خطيئتنا»؟

فيقول : «بل عفوي».

فيقولون : «رحمتك أوسع أم ذنوبنا»؟

فيقول عزوجل : «بل رحمتي».

فيقولون : «إقرارنا بتوحيدك أعظم أم ذنوبنا»؟

فيقول ـ عزوجل ـ : «بل إقراركم بتوحيدى أعظم».

فيقولون : «ربّنا فليسعنا عفوك ورحمتك التي وسعت كلّ شيء»؟

فيقول الله ـ تعالى ـ : «ملائكتي ـ وعزّتي وجلالي ـ ما خلقت خلقا أحبّ إليّ من المقرّين لي بتوحيدي ، وأن لا إله غيري ، وحقّ عليّ أن لا أصلي بالنار أهل توحيدي ؛ أدخلوا عبادي الجنّة».

وبإسناده (١) عن إبراهيم بن العبّاس (٢) ، قال : كنّا في مجلس الرضا عليه‌السلام فتذاكروا الكبائر ، وقول المعتزلة فيها «إنّها لا تغفر» ، فقال الرضا

__________________

(١) ـ التوحيد : باب الأمر والنهي والوعد والوعيد ، ح ٤ ، ٤٠٦.

(٢) ـ لعله إبراهيم بن العباس الصولي ، الذي مدح الرضا عليه‌السلام مع دعبل الخزاعي ، راجع تنقيح المقال : ١ / ٢١ ، رقم ١٣٣.

٥٦٠