علم اليقين في أصول الدين - ج ٢

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]

علم اليقين في أصول الدين - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]


المحقق: محسن بيدارفر
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: انتشارات بيدار
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
ISBN: 964-90800-3-1
الصفحات: ٨٧٨

وبإسناده (١) عنه عليه‌السلام قال : «إنّ الله ـ تعالى ـ أنزل في القرآن تبيان كلّ شيء حتّى والله ما ترك الله شيئا يحتاج إليه العباد ؛ حتّى لا يستطيع عبد يقول : لو كان هذا انزل في القرآن ـ إلّا وقد أنزله الله فيه».

وبإسناده (٢) عنه عليه‌السلام ـ قال : ـ «ما من أمر يختلف فيه اثنان إلّا وله أصل في كتاب الله ، ولكن لا تبلغه عقول الرجال».

وبإسناده (٣) عنه عليه‌السلام قال : «قد ولّدني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنا أعلم كتاب الله ، وفيه بدء الخلق وما هو كائن إلى يوم القيامة ، وفيه خبر السماء وخبر الأرض ، وخبر الجنة وخبر النار ، وخبر ما كان وما هو كائن ؛ أعلم ذلك كما أنظر إلى كفّي ، إنّ الله يقول : «فيه تبيان كلّ شيء» (٤).

وبإسناده (٥) عن مولانا الباقر عليه‌السلام قال : «إذا حدّثتكم بشيء

__________________

(١) ـ الكافي : كتاب فضل العلم ، باب الردّ إلى الكتاب والسنّة ، ١ / ٥٩ ، ح ١.

ومع فرق يسير في تفسير القمي : آخر الكتاب : ٢ / ٤٩٣ ـ ٤٩٤.

والمحاسن : الباب السابق ، ١ / ٢٦٧ ، ح ١. البحار : ٦٨ / ٢٣٧.

(٢) ـ الكافي : الباب السابق ، ١ / ٦٠ ، ح ٦. المحاسن : الباب السابق ، ٢٦٨ ، ح ٣٥٥.

عنه البحار : ٩٢ / ١٠٠ ، ح ٧١.

(٣) ـ الكافي : الباب السابق ، ١ / ٦١ ، ح ٨. بصائر الدرجات : الجزء الرابع ، باب (٨) في أن عليا علم كلما انزل على رسول الله ... ، ١٩٧ ، ح ٢. البحار : ٩٢ / ٩٨ ، ح ٦٨.

وجاء ما يقرب منه في الكافي أيضا : كتاب الإيمان والكفر ، باب الكتمان ، ح ٥ ، ٢ / ٢٢٣. عنه البحار : ٤٧ / ٣٧٢ ، ح ٩٢ و ٧٥ / ٧٤ ، ح ٢٢.

(٤) ـ إشارة إلى قوله تعالى : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) [١٦ / ٨٩].

(٥) ـ الكافي : ١ / ٦٠ ، ح ٥. المحاسن : الباب السابق ٢٦٩ ، ح ٣٥٨ مع اختلافات. الاحتجاج : ٢ / ١٦٩. البحار : ٤٦ / ٣٠٣ ، ح ٥٠. ٩٢ / ٨٢ ، ح ١٢. ٩٢ / ٩١ ، ح ٣٦.

٤١

فاسألوني من كتاب الله ، ثمّ قال في بعض حديثه : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن القيل والقال وفساد المال وكثرة السؤال».

فقيل له : «يا ابن رسول الله ـ أين هذا من كتاب الله»؟

قال : «إنّ الله ـ تعالى ـ يقول : (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) [٤ / ١١٤].

وقال : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) [٤ / ٥].

وقال : (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) [٥ / ١٠١].

وفي البصائر بإسناده (١) عنه عليه‌السلام قال : «ما يستطيع أحد أن يدّعي أنّه جمع القرآن (٢) كلّه ـ ظاهره وباطنه ـ غير الأوصياء».

وفي رواية اخرى (٣) : «ما ادّعى أحد من الناس أنّه جمع القرآن كلّه كما أنزل الله إلّا كذب ، وما جمعه وحفظه كما أنزله الله إلّا علي بن أبي طالب والأئمّة من بعده».

__________________

(١) ـ بصائر الدرجات : الجزء الرابع ، باب (٦) : ١٩٣ ، ح ١. الكافي : كتاب الحجة ، باب أنه لم يجمع القرآن كله إلا الأئمة ، ١ / ٢٢٨ ، ح ٢.

(٢) ـ الكافي : «أنّ عنده جميع القرآن».

وقال العلامة الطباطبائي ـ قدس‌سره ـ في تعليقته عليه (ذيل الكافي) : «الجملة وإن كانت ظاهرة في لفظ القرآن ومشعرة بوقوع التحريف فيه ، لكن تقييدها بقوله : «ظاهره وباطنه» يفيد أن المراد هو العلم بجميع القرآن من حيث معانيه الظاهرة على الفهم العادي ومعانيه المستنبطة على الفهم العادي».

(٣) ـ نفس المصدرين وفيه فروق يسيرة.

٤٢

وفي رواية (١) : «لو وجدنا وعاء (٢) أو مستراحا لقلنا (٣) ـ والله المستعان».

وبإسناده (٤) عن مولانا الصادق عليه‌السلام قال : «ليحسبكم (٥) أن تقولوا نعلم علم الحلال والحرام وعلم القرآن وفصل ما بين الناس».

وفي رواية (٦) : «وأيّ شيء الحلال والحرام في جنب العلم؟ إنّما الحلال والحرام في آي يسيرة من القرآن».

وبإسناده (٧) عنه عليه‌السلام ـ قال : ـ «إنّ للقرآن تأويلا : فمنه ما قد جاء ، ومنه ما لم يجئ. فإذا وقع التأويل في زمان إمام من الأئمّة ، عرفه إمام ذلك الزمان».

وبإسناده (٨) عن مولانا الباقر عليه‌السلام قال : «تفسير القرآن على سبعة وجوه : منه ما كان ، ومنه ما لم يكن بعد يعرف ذلك الأئمّة» (٩).

__________________

(١) ـ بصائر الدرجات : الجزء الرابع باب (٧) ، ١٩٤ ، ح ١. البحار : ٢٣ / ١٩٤ ، ح ٢١.

الكافي : الباب السابق ١ / ٢٢٩ ، ح ٣.

(٢) ـ الكافي : أوعية.

(٣) ـ البصائر : لعلّمنا.

(٤) ـ بصائر الدرجات : الباب السابق : ١٩٥ ، ح ٤. عنه البحار : ٢٣ / ١٩٥ ، ح ٢٤.

(٥) ـ كذا في النسخ ، ولعل الصحيح : «لبحسبكم». وفي المصدر : «بحسبكم».

(٦) ـ نفس المصدر ، ح ٢. عنه البحار : ٢٣ / ١٩٥ ، ح ٢٢.

(٧) ـ نفس المصدر ، ح ٥. عنه البحار : ٩٢ / ٩٧ ، ح ٦٢.

(٨) ـ بصائر الدرجات : الباب السابق ، ١٩٦ ، ح ٨. عنه البحار : ٩٢ / ٩٨ ، ح ٦٥.

(٩) ـ في المصدر : «... على سبعة أحرف (نسخة : أوجه) منه ما كان ومنه ما لم يكن بعد ذلك تعرفه الأئمة».

٤٣

وفي الخبر النبويّ المشهور : «إنّ للقرآن ظهرا وبطنا وحدّا ومطّلعا» (١).

وفي رواية (٢) : «ما من القرآن آية إلّا ولها ظهر وبطن».

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم (٣) بإسناده عن مولانا الصادق عليه‌السلام :

«إنّ القرآن زاجر وآمر : يأمر بالجنّة ، ويزجر عن النار ؛ وفيه

__________________

(١) ـ قال أبو طالب المكي (قوت القلوب : الفصل السادس عشر ، ١ / ٥١) : «وفي الخبر عن ابن مسعود ، وبعض الرواة يرفعه ، وقد روينا مسندا من طريق ـ وهم خصوص العارفين من المحبين والخالصين ـ ... : إن للقرآن ظهرا وبطنا وحدا ومطلعا».

وأورده الغزالي بهذا اللفظ في الإحياء (كتاب آداب تلاوة القرآن ، الباب الرابع في فهم القرآن وتفسيره ... ، ١ / ٤٣٢) ، وبلفظ : «إنّ للقرآن ظاهرا وباطنا وحدا ومطلعا» فيه : كتاب قواعد العقائد ، الفصل الثاني : ١ / ١٤٧. وقال العراقي في تخريجه (المغني : ذيل الإحياء الطبعة القديمة. ١ / ٩٩) : «أخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث ابن مسعود بنحوه».

وقال الزبيدي (اتحاف السادة : ٤ / ٥٢٧) : «قال الفريابي : حدثنا سفيان عن يونس بن عبيد عن الحسن ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ظهر وبطن لكل آية ولكل حرف حد ولكل حد مطلع». وعند الديلمي من حديث عبد الرحمن بن عوف مرفوعا : «القرآن تحت العرش ، له بطن وظهر يحاج العباد». وعند الطبراني وأبي يعلي والبزاز ، عن ابن مسعود موقوفا بلفظ : «إن هذا القرآن ليس منه حرف إلا له حد ، ولكل حد مطلع».».

(٢) ـ عن الفضيل بن يسار ، قال سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن هذه الرواية : «ما في القرآن آية إلا ولها ظهر وبطن ، وما فيه حرف إلا وله حدّ ، ولكلّ حدّ مطّلع» ، ما يعني بقوله : «لها ظهر وبطن»؟

قال : ظهره [تنزيله] وبطنه تأويله ...».

أورده في بصائر الدرجات : الباب السابق ، ح ٧ ، ١٩٦. والعياشي : مقدمات تفسيره ، تفسير الناسخ والمنسوخ ... ، ح ٥ ، ١ / ١١. البحار : ٩٢ / ٩٧ ، ح ٦٤.

(٣) ـ تفسير القمي : آخر الكتاب ٢ / ٤٩٣.

٤٤

محكم ومتشابه : فأمّا المحكم ، فيؤمن به ويعمل به ويدين به (١) ؛ وأمّا المتشابه ، فيؤمن به ولا يعمل به ، وهو قول الله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) [٣ / ٧] آل محمد عليهم‌السلام».

فصل [٤]

[نعوت القرآن وألقابه]

قد ورد للقرآن ألقاب ونعوت في القرآن يدلّ على عظم شأنه وجلالته ، فمنها : النور(٢) ، والحكمة (٣) ، والخير (٤) ، والرّوح (٥) ، والحق (٦) ، والهدى (٧) ، والذكر (٨) ، والنبأ العظيم (٩) ، والشفاء والرحمة (١٠) ، والعليّ الحكيم (١١) ، والتنزيل (١٢) ، وذو الذكر (١٣) ،

__________________

(١) ـ كذا في النسخة. وفي المصدر : يدبر به.

(٢) ـ (قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) [٤ / ١٧٤].

(٣) ـ (ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ) [١٧ / ٣٩].

(٤) ـ (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً) [١٦ / ٣٠].

(٥) ـ (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) [٤٢ / ٥٢].

(٦) ـ (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُ) [١٣ / ١].

(٧) ـ (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ) [٧٢ / ١٣].

(٨) ـ (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [١٥ / ٩].

(٩) ـ (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ* أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) [٣٨ / ٦٧ ـ ٦٨].

(١٠) ـ (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) [١٧ / ٨٢].

(١١) ـ (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) [٤٣ / ٤].

(١٢) ـ (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ* نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ) [٢٦ / ١٩٣ ـ ١٩٤].

(١٣) ـ (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) [٣٨ / ١].

٤٥

والبشير والنذير (١) ، والبشرى (٢) ، والمنزّل (٣) ، والعظيم (٤) ، والمجيد (٥) ، والعزيز (٦) ، والموعظة الحسنة (٧) ، والنعمة (٨) ، والرزق (٩) ، والمبين (١٠) ، والميزان (١١) ـ وغير ذلك ـ وإنّما لم نذكر الآيات التي تدلّ على هذه الأسامي ووجه تسميته بها اكتفاء بشهرتها وظهوره.

وسئل الصادق عليه‌السلام عن القرآن والفرقان : «هما شيئان ، أم شيء واحد»؟ فقال(١٢) : «القرآن جملة الكتاب ، والفرقان المحكم الواجب العمل به».

فصل [٥]

[تمثّل القرآن في الآخرة]

روي في الكافي (١٣) بإسناده عن مولانا الباقر عليه‌السلام قال :

__________________

(١) ـ (كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ* بَشِيراً وَنَذِيراً) [٤١ / ٣ ـ ٤].

(٢) ـ (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) [١٦ / ٨٩]

(٣) ـ (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) [٦ / ١١٤].

(٤) ـ (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) [١٥ / ٨٧].

(٥) ـ (ق* وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) [٥٠ / ١].

(٦) ـ (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) [٤١ / ٤١].

(٧) ـ (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) [١٦ / ١٢٥].

(٨) ـ (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ) [٢ / ٢٣١].

(٩) ـ (وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) [٤٠ / ١٣].

(١٠) ـ (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ) [٥ / ١٥].

(١١) ـ (اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ) [٤٢ / ١٧].

(١٢) ـ معاني الأخبار : باب معنى القرآن والفرقان ، ١٨٩ ، ح ١.

(١٣) ـ الكافي : كتاب فضل القرآن ، ح ١١ ، ٢ / ٦٠١.

٤٦

«يجيء القرآن يوم القيامة في أحسن منظور إليه صورة ، فيمرّ بالمسلمين ، فيقولون : «هذا رجل منّا» ، فيجاوزهم إلى النبيّين ، فيقولون : «هو منّا» ، [فيجاوزهم إلى الملائكة المقرّبين فيقولون : «هو منّا»] (١) ـ حتّى ينتهي إلى ربّ العزّة ـ عزوجل ـ فيقول: «يا ربّ فلان بن فلان ، أظمأت هواجره (٢) وأسهرت ليله في دار الدنيا ، وفلان بن فلان لم أظمأ هواجره ولم أسهر ليله».

فيقول ـ تعالى ـ : «أدخلهم الجنّة على منازلهم».

فيقوم ، فيتبعونه ، فيقول للمؤمنين : «اقرأ وارقه» ـ قال : ـ فيقرأ ، ويرقا حتّى يبلغ كلّ رجل منهم منزلته التي هي له ، فينزلها».

وفي معناه روايات اخرى ، وفي بعضها (٣) : «فكلما قرء آية صعد درجة».

وفي حديث سعد الخفّاف (٤) قلت : «يا أبا جعفر ـ وهل يتكلّم القرآن»؟

فتبسّم ثمّ قال : «رحم الله الضعفاء من شيعتنا ، إنّهم أهل تسليم» ثمّ

__________________

(١) ـ ما بين المعقوفتين إضافة من المصدر.

(٢) ـ الهواجر : جمع هاجرة. وهي شدة حرّ النهار.

(٣) ـ الكافي : كتاب فضل القرآن ، ح ١٢ ، ٢ / ٦٠٢.

(٤) ـ الكافي : كتاب فضل القرآن ، ح ١ : ٢ / ٥٩٨.

قال الشيخ ـ قدس‌سره ـ (رجال الشيخ ، أصحاب السجاد عليه‌السلام ، ٩٢ ، رقم ١٧) : «سعد بن طريف الحنظلي الإسكاف ، مولى بني تميم ، الكوفي ، ويقال : سعد الخفاف ، روى عن الأصبغ بن نباتة ، وهو صحيح الحديث». وعده في أصحاب الباقر والصادق عليهما‌السلام أيضا (ص ١٢٤ ، ٢٠٣). راجع معجم الرجال : ٨ / ٦٧ ـ ٧٢.

٤٧

قال : «نعم ـ يا سعد ـ والصلاة تتكلّم ، ولها صورة وخلق تأمر وتنهى».

قال سعد : فتغيّر لذلك لوني وقلت : «هذا شيء لا أستطيع أتكلّم به في الناس».

فقال أبو جعفر عليهما‌السلام : «وهل الناس إلّا شيعتنا؟ فمن لم يعرف الصلاة فقد أنكر حقّنا» ثمّ قال : «يا سعد ، اسمعك كلام القرآن»؟

ـ قال سعد : ـ فقلت : «بلى ـ صلى الله عليك ـ».

فقال : «(إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) [٢٩ / ٤٥] ؛ فالنهي كلام ، والفحشاء والمنكر رجال ، ونحن ذكر الله ، ونحن أكبر».

وبإسناده (١) عن مولانا الكاظم عليه‌السلام ـ قال : ـ «من مات من أوليائنا وشيعتنا ـ ولم يحسن القرآن ـ علّم في قبره ، ليرفع الله به درجته ، فإنّ درجات الجنّة على قدر آيات القرآن ، يقال له : اقرأ وارق. فيقرأ ثمّ يرقا».

وبإسناده (٢) عن مولانا الصادق عليه‌السلام ـ قال : ـ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «حملة القرآن عرفاء أهل الجنّة ، والمجتهدون قوّاد أهل الجنّة ، والرسل سادة أهل الجنّة».

* * *

__________________

(١) ـ الكافي : باب فضل حامل القرآن ، ح ١٠ ، ٢ / ٦٠٦.

(٢) ـ نفس المصدر : ح ١١.

٤٨

فصل [٦]

[التأويل]

قال بعض العلماء (١) :

«ما من كلمة من القرآن إلّا وتحتها رمز وإشارة إلى معنى خفيّ يدركها من يدرك الموازنة والمناسبة بين عالم الملك والشهادة ، وبين عالم الغيب والملكوت ؛ فما من شيء في عالم الحسّ والشهادة إلّا وهو مثال لأمر روحانيّ من عالم الملكوت ؛ فإنّه هو في روحه ومعناه ، وليس هو في صورته وقالبه ، والمثال الجسمانيّ من عالم الشهادة مرقاة إلى المعنى الروحاني من ذلك العالم ، ولذلك كانت الدنيا منزلا من منازل الطريق إلى الله ـ تعالى ـ ضروريّا في حقّ الإنس ، إذ كما يستحيل الوصول إلى اللبّ إلّا من طريق القشر ، فيستحيل الترقّي إلى عالم الأرواح إلّا من مثال عالم الأجسام ، ولا نعرف هذه الموازنة إلّا بمثال :

فانظر إلى ما ينكشف للنائم في نومه من الرؤيا الصحيحة التي هي جزء من ستّة وأربعين جزء من النبوّة (٢) ، وكيف ينكشف بأمثلة خياليّة ؛ فمن يعلّم الحكمة غير أهله يرى في المنام

__________________

(١) ـ الغزالي : جواهر القرآن ، الفصل الخامس ، ٢٠. وأورده صدر المتألهين أيضا اقتباسا في مفاتيح الغيب : ٩٥ ، وتفسير آية الكرسي : ٤ / ١٧٣.

(٢) ـ البخاري : التعبير ، باب الرؤيا الصالحة ، ٩ / ٣٩. المسند : ٣ / ١٢٦ و ١٤٩.

كنز العمال : ١٥ / ٣٦٦ ـ ٣٦٨ ، ح ٤١٤٠٠ و ٤١٤٠٨ و ٤١٤١١.

٤٩

أنّه يعلّق الدرّ في أعناق الخنازير ، ورأى بعضهم كأنّ في يده خاتما يختم به فروج النساء وأفواه الرجال ، فقال له ابن سيرين : «أنت رجل تؤذّن في رمضان قبل الصبح» ؛ فقال : «نعم». ورأي آخر كأنّه يصبّ الزيت في الزيتون ؛ فقال : «إن كان تحتك جارية فهي أمّك قد سبيت وبيعت ، واشتريتها أنت ولا تعرف». فكان كذلك.

فانظر كيف كان ختم الأفواه والفروج مشاركا للأذان قبل الصبح في روح الختم ـ وهو المنع ـ وإن كان مخالفا له في صورته ؛ وقس على ما ذكرته ما لم أذكره.

واعلم أنّ القرآن والأخبار يشتمل على كثير من هذا الجنس ، فانظر إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) : «قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن» فإنّ روح الإصبع القدرة على سرعة التقليب ، وإنّما قلب المؤمن بين لمّة الملك ولمّة الشيطان (٢) ، هذا يغويه وهذا يهديه ، والله ـ تعالى ـ بهما يقلّب قلوب العباد كما أنت تقلّب الأشياء بإصبعك ؛ فانظر كيف شارك نسبة الملكين المسخّرين إلى الله ـ تعالى ـ إصبعيك في روح الإصبعيّة ، وخالف في الصورة. ولتستخرج من هذا سائر الآيات والأحاديث الموهمة عند الجهّال للتشبيه ، فالذكيّ يتنبه بمثال واحد ، والبليد لا يزيده التكثير إلّا تحيّرا.

__________________

(١) ـ مضى في : ٣٨٨.

(٢) ـ مضى في : ٣٩٢.

٥٠

ومهما عرفت معنى «الإصبع» أمكنك الترقّي إلى القلم واليد واليمين والوجه والصورة وأخذت جميعها روحانيّا لا جسمانيّا ، فتعلم أنّ روح القلم وحقيقته التي لا بدّ من تحقيقها إذا ذكرت حدّ القلم هو «الذي يكتب به» وإن كان في الوجود شيء يسطر بواسطته نقش العلوم في ألواح القلوب فأخلق به أن يكون هو القلم ، فإنّ الله (عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) [٩٦ / ٥]

وهذا القلم روحانيّ ، إذ وجد فيه روح القلم وحقيقته. ولم يعوزه إلّا قالبه وصورته ؛ وكون القلم من خشب أو قصب ليس من حقيقة القلم ، ولذلك لا يوجد في حدّه الحقيقي ؛ ولكلّ شيء حدّ وحقيقة هي روحه ، فإذا اهتديت إلى الأرواح صرت روحانيّا ، وفتحت لك أبواب الملكوت واهّلت لمرافقة الملأ الأعلى (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) [٤ / ٦٩].

ولا تستبعد أن يكون في القرآن إشارات من هذا الجنس ، فإن كنت لا تقوي على احتمال ما يقرع سمعك من هذا النمط ما لم تستند التفسير إلى الصحابة ـ فإنّ التقليد غالب عليك ـ فانظر إلى تفسير قوله ـ تعالى ـ على ما قاله المفسّرون : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ) ـ الآية ـ وأنّه كيف مثّل العلم بالماء ، والقلب بالأودية والينابيع ، والضلال بالزبد ، ثمّ نبّهك في آخرها فقال : (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) [١٣ / ١٧]. ويكفيك هذا القدر من هذا [القدر] ، فلا تطيق أكثر منه.

٥١

وبالجملة ـ فاعلم أنّ ما لا يحتمل فهمك فإنّ القرآن يلقيه إليك على الوجه الذي كنت في النوم مطالعا بروحك للوح المحفوظ ، ليمثّل لك بمثال مناسب ، وذلك يحتاج إلى التعبير.

واعلم أنّ التأويل يجري مجرى التعبير ، فلذلك قلنا : «يدور المفسّر على القشر» ، إذ ليس من يترجم معنى الخاتم والفروج والأفواه ، كمن يدرك أنّه أذان قبل الصبح».

ـ ثمّ قال : ـ «لعلّك تقول : «لم ابرزت هذه الحقائق في هذه الأمثلة ، ولم تكشف صريحا ، حتّى ارتبك الناس في جهالة التشبيه وضلالة التمثيل»؟

فاعلم أنّ هذا تعرفه إن عرفت أنّ النائم لم ينكشف له الغيب من اللوح المحفوظ بالمثال ـ دون الكشف الصريح ـ كما حكيت لك المثل ، وذلك يعرفه من يعرف العلاقة الخفيّة التي بين عالمي الملك والملكوت.

ثمّ إذا عرفت ذلك ، عرفت أنّك في هذا العالم نائم ـ وإن كنت متيقّظا ـ «فالناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا» (١) ، فينكشف لهم عند الانتباه بالموت حقائق ما سمعوا بالمثال وأرواحها ، ويعلمون أنّ تلك الأمثلة كانت قشورا وأصدافا لتلك الأرواح ، ويتيقّنون صدق آيات القرآن وصدق قول الرسول ، كما تيقّن ذلك المؤذّن صدق قول ابن سيرين وصحّة تعبيره للرؤيا.

وكلّ ذلك ينكشف على الاتّصال بالموت ، وربّما انكشف

__________________

(١) ـ راجع الفصل التاسع من الباب الأول من المقصد الرابع.

٥٢

بعضها في سكرات الموت ، وعند ذلك يقول الجاحدون والغافل (١) : (يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) [٣٣ / ٦٦].

(يا لَيْتَنا نُرَدُّ) [٦ / ٢٧](فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) [٧ / ٥٣].

(يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً) [٢٥ / ٢٨].

(يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) [٧٨ / ٤٠].

(يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها) [٦ / ٣١].

(يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) [٣٩ / ٥٦].

(رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ) [٣٢ / ١٢].

وإلى هذا يشير آيات القرآن المتعلّقة بشرح المعاد والآخرة فافهم من هذا أنّك لمّا كنت نائما في هذه الحياة وإنّما يقظتك بعد الموت ، وعند ذلك تصير أهلا لمشاهدة صريح الحقّ كفاحا ، وقبل ذلك فلا تحتمل الحقائق إلّا مصبوبة في قالب الأمثال الخياليّة ؛ ثمّ لجمود نظرك على الحسّ تظنّ أنّه لا معنى له إلّا التخييل ، وتغفل عن الروح كما تغفل عن روح نفسك ولا تدرك إلّا قالبك»

ـ انتهى كلامه قدّس سره ـ (٢).

__________________

(١) ـ كذا.

(٢) ـ جواهر القرآن : ٢٣.

٥٣

فصل [٧]

[اصول مباحث القرآن الكريم]

قد دريت في مباحث المعجزات أنّ أعلى وجوه إعجاز القرآن عند اولي البصائر إنّما هو اشتماله على المعارف والحكم ، وانطواؤه على جوامع الكلم ؛ فاعلم أنّ الغرض الأصلي من إنزاله إنّما هو دعوة العباد إلى الله ـ سبحانه ـ كما اشير إليه في غير آية منه.

فلذلك انحصرت سوره وآياته في ستّة أنواع ـ كما ذكره بعض العلماء (١) ـ :

ثلاثة منها هي الاصول والمهمّات :

أحدها : تعريف المدعوّ إليه ؛ وهو يشتمل على معرفة ذات الحقّ ومعرفة صفاته ومعرفة أفعاله.

ولمّا كان معرفة الذات أضيقها مجالا وأعسرها مقالا وأعصاها على الفكر وأبعدها عن قبول الذكر : لم يرد فيه منها إلّا تلويحات وإشارات يرجع أكثرها إلى ذكر التقديس المطلق ، كقوله ـ تعالى ـ : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [٤٢ / ١١] ، وكسورة الإخلاص ؛

وإلى التعظيم المطلق ، كقوله سبحانه : (تَعالى عَمَّا يَصِفُونَ) [٦ / ١٠٠]. (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [٢ / ١١٧].

وأمّا الصفات : فالمجال فيها أفسح ونطاق النطق فيها

__________________

(١) ـ الغزالي في جواهر القرآن : الفصل الأول : ٦ ـ ١٣.

٥٤

أوسع ، ولذلك تكثر الآيات المشتملة على ذكر العلم والقدرة والحياة والحكمة والكلام والسمع والبصر وغيرها.

وأمّا الأفعال : فبحر متّسع أكنافه ، ولا تنال بالاستقصاء أطرافه ، بل ليس في الوجود إلّا الله وأفعاله ـ وكل ما سواه فعله ـ لكن القرآن يشتمل على الجليّ منها والواقع في عالم الشهادة ، كذكر السماوات والكواكب والأرض والجبال والبحار والحيوان والنبات وإنزال الماء الفرات ، وساير أسباب النبات والحياة ، وهي التي ظهرت للحسّ.

وأشرف أفعاله وأعجبها وأدلّها على جلالة صانعها ما لا يظهر للحسّ ، بل هو من عالم الملكوت ، وليس في القرآن منه إلّا إشارات ورموز ، لقصور إدراك أكثر الخلق عن فهمها ؛ وهذا النوع بأقسامه هو زبدة القرآن وقلبه ولبابه وسرّه.

* * *

والنوع الثاني : تعريف طريق السلوك إلى الله ـ تعالى ـ.

وهو يشتمل على ما يوجب الإقبال إلى الله والإعراض عما سواه ؛ وترجمته قول : «لا إله إلّا الله». قال تعالى : (اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً) [٣٣ / ٤١] ، (لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) [٦٣ / ٩] ، (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) [٧٣ / ٨] ، (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها* وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) [٩١ / ٩ ـ ١٠](قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى* وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) [٨٧ / ١٤] ـ وأمثال ذلك ـ وهو بحر عميق من بحار القرآن.

* * *

٥٥

والثالث تعريف الحال عند الوصول إليه سبحانه :

وهو يشتمل على ذكر الروح والنعيم الذي يلقاه الواصلون والعبارة الجامعة لأنواعها : «الجنّة».

وعلى ذكر الخزي والعذاب الذي يلقاه المحجوبون عنه بإهمال السلوك ، والعبارة الجامعة لأصنافها : «الجحيم».

وعلى ذكر مقدمات أحوال الفريقين ، وعنها يعبّر بالحشر والنشر والحساب والميزان والصراط ؛ ولها ظواهر جليّة تجري مجرى الغذاء لعموم الخلق ، وأسرار غامضة تجري مجرى الحياة لخصوص الخلق.

ولعلّ ثلث القرآن وسوره يرجع إلى تفصيل ذلك ، وللفكر فيه مجال رحب.

* * *

وثلاثة أنواع هي التوابع والمتمّمات :

أحدها : تعريف أحوال المحبّين للدعوة ولطائف صنع الله ـ تعالى ـ فيهم ، كقصص الأنبياء والأولياء والملائكة عليه‌السلام ؛ وتعريف أحوال الناكبين والناكلين عن الإجابة وكيفية قمع الله ـ تعالى ـ لهم وتنكيله بهم ؛ وفائدة هذا القسم الترغيب والترهيب والتنبيه والاعتبار ، ويشتمل على أسرار ورموز وإشارات محوجة إلى التفكّر الطويل.

وثانيها : حكاية أقوال الجاحدين ومحاجّتهم ، وإيضاح مخازيهم وكشف فضائحهم وردّ أباطيلهم وتخاييلهم ، من ذكر

٥٦

الله ـ سبحانه ـ بما لا يليق به ، كقولهم : «إنّ الملائكة بناته ، وإنّ له ولدا ، وله شريكا ، وإنّه ثالث ثلاثة» ـ ومن ذكر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه ساحر وكاهن وكذّاب ، وإنكار نبوّته ، وأنّه بشر فلا يستحقّ أن يتّبع ، ومن إنكار الآخرة وجحد البعث والنشور والجنّة والنار وإنكار عاقبة الطاعة والمعصية.

وفي محاجّة الله ـ تعالى ـ إيّاهم بالحجج لطائف وحقائق.

وثالثها : تعريف منازل الطريق وكيفيّة التأهّب للزاد والاستعداد بإعداد السلاح التي يدفع سرّاق المنازل وقطّاعها وأسباب الدفع لمفسداتهما ، وقد شرح ذلك كلّه في آيات الحلال والحرام وحدود الأحكام.

وقد مرّ بيان ذلك مفصّلا في باب الاضطرار إلى الشرائع ، من احتياج أمر التبتّل والانقطاع إلى الله إلى بقاء البدن والنسل ، واحتياجهما إلى الأموال والاناث وقوانين الاختصاص بهما.

وتحت هذه الآيات سياسات وحكم وفوائد يدركها المتأمّل في محاسن الشريعة المثبتة لحدود الأحكام الدنيويّة ؛ وقد أشرنا إلى طرف منها في بيان أسرار التكاليف.

* * *

فهذه ستّة أنواع يشتمل عليها مقاصد القرآن ولو جمعتها مع شعبها المقصودة في سلك واحد ألفيتها عشرة أنواع : ذكر الذات ، وذكر الصفات ، وذكر الأفعال ، وذكر المعاد ، وذكر الصراط المستقيم ـ أعني جانبي التزكية والتحلية ـ وذكر

٥٧

أحوال الأولياء ، وذكر أحوال الأعداء ، وذكر محاجّة الكفّار ، وذكر حدود الأحكام(١). هذا ملخّص ما أفاده بعض العلماء (٢)

أقول : وإلى هذه العشرة المفصّلة يرجع ما اشير إليه إجمالا فيما رواه في الكافي (٣) بإسناده عن الأصبغ بن نباتة ، قال : سمعت أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول : «نزل القرآن أثلاثا : ثلث فينا وفي عدوّنا ، وثلث سنن وأمثال ، وثلث فرائض وأحكام».

وبإسناده (٤) عن مولانا الباقر عليه‌السلام قال : «نزل القرآن أربعة أرباع : ربع فينا وربع في عدوّنا وربع سنن وأمثال وربع فرائض وأحكام».

وبإسناده (٥) عن مولانا الصادق عليه‌السلام قال : «إنّ القرآن نزل أربعة أرباع : ربع حلال ، وربع حرام ، وربع سنن وأحكام ، وربع خبر ما كان قبلكم ونبأ ما يكون بعدكم وفصل ما بينكم».

__________________

(١) ـ الأنواع المذكورة تسعة ، إلا أن يحسب ذكر الصراط المستقيم قسمين باعتبار اشتماله على التزكية والتحلية. واستدرك هنا في هامش المصدر «وذكر أحوال الأنبياء ـ صح» وظني أنه من إضافة بعض النساخ ، لخلو نسخة الفيض ـ قدس‌سره ـ عنه ، وأنه داخل تحت ذكر أحوال الأولياء.

(٢) ـ هو الغزالي كما ذكرنا في أول الفصل.

(٣) ـ الكافي : فضل القرآن ، باب النوادر ، ٢ / ٦٢٧ ، ح ٢. العياشي : ١ / ٩. عنه البحار : ٩٢ / ١١٤ ، ح ٢. وجاء في تفسير الفرات (١٣٨ ، سورة الأنعام / ١٥٨ ، ح ١٢) عن الباقر عليه‌السلام : «... يا خيثمة ـ إن القرآن نزل (نزلت ـ نسخة) أثلاثا : فثلث فينا وثلث في عدونا ، وثلث فرائض وأحكام ...». عنه البحار : ٢٤ / ٣٢٨ ، ح ٤٦.

(٤) ـ الكافي : الباب السابق ، ٢ / ٦٢٨ ، ح ٤. ومثله في العياشي : ١ / ٩ مع تقديم وتأخير ، وأضاف في آخره : «... ولنا كرائم القرآن».

(٥) ـ الكافي : الباب السابق ، ٢ / ٦٢٧ ، ح ٣.

٥٨

فصل [٨]

[صون القرآن عن التحريف]

المستفاد (١) من كثير من الروايات من طريق أهل البيت عليهم‌السلام أنّ القرآن الذي بين أظهرنا ليس بتمامه كما انزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ بل منه ما هو خلاف ما أنزل الله ، ومنه ما هو محرّف مغيّر ، وقد حذف منه شيء كثير ـ منها اسم أمير المؤمنين عليه‌السلام في كثير من المواضع ، ومنها غير ذلك ـ.

وأنّه ليس أيضا على الترتيب المرضيّ عند الله وعند رسوله :

قال عليّ بن إبراهيم ـ رحمه‌الله ـ في تفسيره (٢) :

«... وأمّا ما كان خلاف ما أنزل الله فهو قوله : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) [٣ / ١١٠] فقال أبو عبد الله عليه‌السلام لقارئ هذه الآية :

«خير أمّة تقتلون أمير المؤمنين والحسين بن علي عليه‌السلام»؟

فقيل له : «فكيف نزلت ـ يا ابن رسول الله ـ»؟

فقال : «إنّما نزلت : «خير أئمّة اخرجت للناس» ؛ ألا ترى مدح الله لهم في آخر الآية : (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ)».

ومثله أنّه قرء على أبي عبد الله عليه‌السلام : (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا

__________________

(١) ـ أورده المؤلف ـ قدس‌سره ـ في المحجة البيضاء أيضا : ٢ / ٢٦٠ ـ ٢٦٤.

(٢) ـ تفسير القمي : المقدمة : ١ / ٣٦.

٥٩

هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) [٢٥ / ٧٤] ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «لقد سألوا الله عظيما ، أن يجعلهم للمتقين إماما». فقيل له : «يا ابن رسول الله ـ كيف نزلت»؟ فقال : «إنّما نزلت : ... واجعل لنا من المتقين إماما».

وقوله : (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) [١٣ / ١١] ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «كيف يحفظ الشيء من أمر الله ، وكيف يكون المعقّب من بين يديه»؟

فقيل له : «وكيف ذلك ـ يا ابن رسول الله»؟

فقال : «إنّما انزلت : له معقّبات من خلفه ورقيب من بين يديه يحفظونه بأمر الله». ـ ومثله كثير ـ.

وأمّا ما هو محرّف عنه فهو قوله : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ) في عليّ ـ كذا نزلت ـ (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ) [٤ / ١٦٦]. وقوله : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) في عليّ ف (إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) [٥ / ٦٧]. وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا) آل محمّد حقّهم (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) [٤ / ١٦٨]. وقوله : (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا) آل محمّد حقّهم (أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) [٢٦ / ٢٢٧]. وقوله : لو ترى الذين ظلموا آل محمّد حقّهم في غمرات الموت (١) ـ ومثله كثير نذكره في مواضعه».

ـ انتهى كلام عليّ بن إبراهيم (ره).

__________________

(١) ـ الآية : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ) [٦ / ٩٣].

٦٠