علم اليقين في أصول الدين - ج ٢

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]

علم اليقين في أصول الدين - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]


المحقق: محسن بيدارفر
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: انتشارات بيدار
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
ISBN: 964-90800-3-1
الصفحات: ٨٧٨

وفي الكافي (١) بإسناده عن أبي بكر الحضرمي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنّة ، ومنبري على ترعة (٢) من ترع الجنّة ، وقوائم منبري ربّت في الجنّة».

ـ قال : ـ قلت : «هي روضة اليوم»؟

قال : «نعم ، لو كشف الغطاء لرأيتم».

وعن مولانا الصادق عليه‌السلام (٣) ـ في طريقي الخاصّة والعامّة ـ : «إنّ في جبل أروند عينا من عيون الجنّة».

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٤) ما من رمّان أو حبّة إلّا وفيها قطرة من ماء الجنّة.

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٥) : الحمّى بريد الموت وسجن الله في أرضه ، وفورها من جهنّم.

__________________

(١) ـ الكافي : كتاب الحج ، باب المنبر والروضة ومقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ٤ / ٥٥٤ ، ح ٣.

(٢) ـ الترعة : الباب. والجمع : ترع وترعات.

(٣) ـ حكى القزويني في عجائب المخلوقات (المقالة الثانية ، فوائد الجبال ، الطبع الملحق بحياة الحيوان : ١١٠) : «دخل رجل من همدان على جعفر الصادق رضي الله عنه ، فقال له : «من أين أنت»؟ قال : «من همدان». قال : «أتعرف جبلها أروند»؟ قال : نعم. قال : «إنّ فيها عينا من عيون الجنّة». عنه البحار مع إضافة : ٦٠ / ١٢٢ ، ح ١٣.

(٤) ـ في مكارم الأخلاق (١٩٣ ، الفصل العاشر) : «عن الصادق عليه‌السلام : ـ قال : ـ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما من رمانة إلا وفيها حبّة من رمّان الجنّة». وفي كنز العمال (١٢ / ٣٤٢ ، ح ٣٥٣٢٤) : «ما من رمانة من رمانكم إلا وهو يلقح بحبّة من رمّان الجنّة».

(٥) ـ في ثواب الأعمال (ثواب الحمى ، ٢٢٨ ، ح ١) : «الحمى رائد الموت ، وسجن الله في أرضه ، وفورها وحرّها من جهنّم ، وهي حظّ كلّ مؤمن من النار». عنه البحار : ٨١ / ١٨٣ ، ح ٣٤. كنز العمال : ٣ / ٣١٩ ، ح ٦٧٤٣ : «الحمى رائد الموت وسجن الله في الأرض». ح ٦٧٤٠ : «الحمى كير من جهنم وهو نصيب المؤمن من النار».

٥٠١

وزاد في رواية عن الصادق عليه‌السلام (١) : «وهي حظّ المؤمن من النار».

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) في حديث الكسوف أنّه قال : «ما من شيء توعدونه إلّا قد رأيته في صلاتي هذه ، لقد جيء بالنار ـ وذلك حين رأيتموني تأخّرت ، مخافة أن يصيبني من نفحها (٣) ـ الحديث ـ إلى أن قال : ـ «ثمّ جيء بالجنّة وذلكم حين رأيتموني تقدّمت ، حتّى قمت في مقامي ، ولقد مددت يدي وأنا اريد أن أتناول من ثمرها لتنظروا إليه ، ثمّ بدا لي أن لا أفعل».

وحكي أنّه لمّا رأى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جهنّم ـ وهو في صلاة الكسوف ـ جعل يتّقي حرّها عن وجهه بيده وثوبه ، ويتأخّر عن مكانه ، ويتضرّع ويقول : «ألم تعدني يا ربّ أنّك لا تعذّبهم وأنا فيهم ، ألم ، ألم» ـ حتّى حجبت عنه ـ.

وروي (٤) ـ أيضا ـ أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلّى يوما الصلاة ، ثمّ رقى المنبر ، فأشار بيده قبل قبلة المسجد فقال : «قد رأيت الآن مذ صلّيت لكم الصلاة ، الجنّة والنار متمثلين من قبل هذا الجدار ، فلم أر كاليوم في الخير والشرّ».

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث المعراج (٥) أنّه رأى في السماء الدنيا آدم أبا

__________________

(١) ـ راجع التعليقة السابقة.

(٢) ـ مسلم : كتاب الكسوف ، باب ما عرض على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صلاة الكسوف من أمر الجنّة والنار : ٢ / ٦٢٣ ، ح ١٠. المسند : ٣ / ٣١٨.

(٣) ـ في المسند ومسلم : لفحها.

(٤) ـ المسند : ٣ / ٢٥٩.

(٥) ـ راجع الصفحة : ٦٧٨ و ٦٨٨.

٥٠٢

البشر عليه‌السلام ، وكان عن يمينه باب يأتي من قبله ريح طيّبة ، وعن شماله ريح منتنة ، فأخبره جبرئيل عليه‌السلام أنّ أحدهما هو الجنّة والآخر هو النار.

وفي هذا الحديث ـ أيضا (١) ـ : أنّه بلغ قبل انتهائه إلى بيت المقدّس واديا وجد منها ريحا باردة طيّبة ، وسمع صوتا ؛ فقال له جبرئيل عليه‌السلام : «هذا صوت الجنّة».

وعن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام (٢) : «أبغض البقاع إلى الله ـ تعالى ـ وادي برهوت(٣) ، فيه أرواح الكفّار ، وفيه بئر ماؤها أسود منتن تأوي إليها أرواح الكفّار».

وذكر رجل أنّه بات في وادي برهوت ، فسمع طول الليل : «يا دومة» ؛ فذكر ذلك لرجل من أهل العلم ، فقال : الملك الموكّل بأرواح الكفّار ، اسمه : «دومة».

__________________

(١) ـ راجع الصفحة : ٦٧٧.

(٢) ـ رواه الياقوت في معجم البلدان : برهوت ، ١ / ٥٩٨. وفي الكافي (كتاب الجنائز ، باب في أرواح الكفار : ٣ / ٢٤٦ ، ح ٤) عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : «شر ماء على وجه الأرض ماء برهوت ، وهو الذي بحضر موت ، ترده هام الكفار».

ومثله في المحاسن : كتاب الماء ، باب ماء زمزم ، ٢ / ٥٧٣ ، ح ١٨.

وفى الكافي أيضا (الباب المذكور ، ح ٥) : «شر بئر في النار برهوت ، الذي فيه أرواح الكفار».

البحار : ٦ / ٢٨٩ ، ح ١٢. ٩٩ / ٢٤٤.

(٣) ـ قال الياقوت (معجم البلدان : برهوت ، ١ / ٥٩٨) : «برهوت ـ بضم الهاء وسكون الواو وتاء فوقها نقطتان ـ واد باليمن يوضع فيه أرواح الكفار ، وقيل برهوت بئر بحضرموت ، وقيل هو اسم للبلد الذي فيه هذه البئر ، ورواه ابن دريد : برهوت ـ بضم الباء وسكون الراء. وقيل هو واد معروف ...».

٥٠٣

وحكى الأصمعي (١) عن رجل من حضرموت ، أنّه قال : نجد من ناحية برهوت رائحة فظيعة منتنة جدّا ، فيأتينا بعد ذلك خبر موت عظيم من عظماء الكفّار.

وعن مولانا الصادق عليه‌السلام قال (٢) : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «شرّ اليهود يهود بئسان ، وشرّ النصارى نصارى نجران ؛ وخير ماء على وجه الأرض ماء زمزم ، وشرّ ماء على وجه الأرض ماء برهوت ـ وهو واد بحضر موت يرد عليه هام الكفّار وصداهم (٣)».

* * *

__________________

(١) ـ حكاه الياقوت في معجم البلدان : ١ / ٥٩٨. والمؤلف يحكي جلّ هذه المنقولات عن المبدأ والمعاد كما ذكرناه في أول الفصل.

(٢) ـ الكافي : كتاب الجنائز ، باب في أرواح الكفار : ٣ / ٢٤٦ ، ح ٥. البحار : ٦ / ٢٨٩ ، ح ١.

(٣) ـ قال ابن الأثير (النهاية : هوم ، ٥ / ٢٨٣) : «الهامة : الرأس ، واسم طائر ؛ وهو المراد في الحديث [لا عدوى ولا هامة]. وذلك أنّهم يتشاءمون بها ؛ وهي من طير الليل. وقيل : هي البومة. وقيل : كانت العرب تزعم أنّ روح القتيل الذي لا يدرك بثأره تصير هامة ، فتقول : اسقوني ؛ فإذا ادرك بثأره طارت. وقيل : كانوا يزعمون أن عظام الميّت ـ وقيل روحه ـ تصير هامة فتطير ؛ ويسمّونه الصدى ؛ فنفاه الإسلام».

وقال المجلسي ـ قدس‌سره ـ (البحار : ٦ / ٢٨٩) : «وإنما عبّر عنها بهما لأنّهم كانوا هكذا يعبّرون عنها ـ وإن كان ذلك باطلا».

٥٠٤

فصل [٣]

[الأعراف]

وأمّا الأعراف ، فمظهره في الدنيا أئمّة الهدى ـ صلوات الله عليهم ـ كما رواه محمّد بن الحسن الصفّار رحمه‌الله في كتاب بصائر الدرجات (١) بإسناده عن سلمان الفارسي ـ رضي الله عنه ـ : قال : «اشهد ـ أو قال : اقسم ـ بالله ، لسمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يقول لعليّ عليه‌السلام : «إنّك والأوصياء من بعدي ـ أو قال : من بعدك ـ أعراف ، لا يعرف الله إلّا بسبيل معرفتكم ، وأعراف لا يدخل الجنّة إلّا من عرفكم وعرفتموه ، ولا يدخل النار إلّا من أنكركم وأنكرتموه».

وبإسناده (٢) عن الأصبغ بن نباته قال : «كنت عند أمير المؤمنين عليه‌السلام جالسا ، فجاءه رجل فقال له يا أمير المؤمنين : (وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ) [٧ / ٤٦]؟

فقال له عليّ عليه‌السلام : «نحن الأعراف ، نحن نعرف أنصارنا بسيماهم ، ونحن الأعراف الذين لا يعرف الله إلّا بسبيل معرفتنا ، ونحن الأعراف نوقف يوم القيامة بين الجنّة والنار ، فلا يدخل الجنّة إلّا من عرفنا و

__________________

(١) ـ بصائر الدرجات : الجزء العاشر ، باب (١٦) في الأئمة أنهم الذين ذكرهم الله يعرفون أهل الجنة والنار ، ٤٩٧ ، ح ٧. عنه البحار : ٢٤ / ٢٥٢ ، ح ١٣. وجاء ما يقرب منه في العياشي : سورة الأعراف ، ح ٤٤ : ٢ / ١٨.

(٢) ـ بصائر الدرجات : الباب السابق : ٤٩٦ ، ح ٦. وما يقرب منه في تفسير الفرات : ١٤٢ ، سورة الأعراف / ٤٦ ، ح ١٧٤.

وجاء ما يقرب منه عن الباقر عليه‌السلام أيضا : العياشي : ٢ / ١٩ ، ح ٤٨.

٥٠٥

عرفناه ، ولا يدخل النار إلّا من أنكرنا وأنكرناه ؛ وذلك بأنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ لو شاء عرّف الناس نفسه ، حتّى يعرفوا حدّه ويأتوه من بابه ، ولكن جعلنا أبوابه وصراطه وسبيله ، وبابه الذي يؤتى منه».

وبإسناده الصحيح (١) عن بريد العجليّ (٢) ، قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن قول الله ـ تعالى ـ : (وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ) [٧ / ٤٦] ، قال : «انزلت في هذه الأمّة ، والرجال هم الأئمّة من آل محمّد عليهم‌السلام».

قلت : «فمن الأعراف»؟

قال : «صراط بين الجنّة والنار ، فمن شفع له الأئمّة منّا من المؤمنين المذنبين نجا ، ومن لم يشفعوا له هوى».

وفي رواية اخرى عنه عليه‌السلام (٣) قال : «نحن اولئك الرجال ، الأئمّة منّا يعرفون من يدخل النار ومن يدخل الجنّة ، كما يعرفون في قبائلكم الرجل منكم يعرف من فيها من صالح أو طالح».

__________________

(١) ـ بصائر الدرجات : الصفحة السابقة ، ح ٥. عنه البحار : ٨ / ٣٣٥ ، ح ٣.

(٢) ـ قال النجاشي (١١٢ ، الرقم ٢٨٧) : «بريد بن معاوية العجلي ، عربي ، روى عن أبي عبد الله وأبي جعفر عليهما‌السلام ، ومات في حياة أبي عبد الله عليه‌السلام ، وجه من وجوه أصحابنا ، وفقيه أيضا ، له محلّ عند الأئمة».

(٣) ـ بصائر الدرجات : ٤٩٥ ، ح ١.

وجاء ما يقرب منه في العياشي : ٢ / ١٨ ، ح ٤٣. عنه البحار : ٨ / ٣٣٦ ، ح ٨.

٥٠٦

فصل [٤]

روى في الكافي (١) بإسناد معتبر عن الصادق عليه‌السلام ـ قال : ـ استقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حارثة بن مالك بن النعمان الأنصاري (٢) ، فقال له : «كيف أنت ـ يا حارثة بن مالك»؟ فقال : «يا رسول الله ـ مؤمن حقّا».

فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لكلّ شيء حقيقة ، فما حقيقة قولك»؟

قال : «عزفت (٣) نفسي عن الدنيا ، فأسهرت ليلي ، وأظمأت هواجري ، فكأنّي أنظر إلى عرش ربّي ـ وقد وضع للحساب ـ وكأنّي أنظر إلى أهل الجنّة يتزاورون في الجنّة ، وكأنّي أسمع عواء أهل النار في النار». فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عبد نوّر الله قلبه ، أبصرت فاثبت».

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٤) أنّه كان قاعدا مع أصحابه في المسجد ، فسمعوا

__________________

(١) ـ الكافي : كتاب الإيمان والكفر ، باب حقيقة الإيمان واليقين ، ٢ / ٥٤ ، ح ٣. راجع أيضا : معاني الأخبار ، باب معنى الإسلام والإيمان : ١٨٧ ح ٥.

كنز العمال : ١٣ / ٣٥١ ـ ٣٥٣ ، ح ٣٦٩٨٨ ـ ٣٦٩٩١.

(٢) ـ الرواية مروية عن طرق الفريقين كما أشرت إليه ، ففي بعض المصادر «حارث بن مالك» وفي بعضها «حارثة» وفي معاني الأخبار «حارث بن النعمان الأنصاري» وأورد ابن حجر ما جاء فيه عن طرق العامة في الإصابة (الترجمة (١٤٧٨) : ١ / ٢٨٩). هذا ـ وإن يمكن توفيقها بالتكلف غير أنه لا يمكن القول فيه جزما.

(٣) ـ عزفت نفسه عن الشيء : زهدت فيه وملّته.

(٤) ـ ورد صدر الحديث مع اختلاف يسير في اللفظ في مسلم : كتاب الجنّة ، باب (١٢) في شدة حرّ نار جهنم ، ٤ / ٢١٨٤ ـ ٢١٨٥ ، ح ٣١. المسند : ٢ / ٣٧١.

وأما ذيل الحديث (فما فرغ من كلامه ...) فلم أعثر عليه. وقد أورده ابن عربي في الفتوحات : الباب الحادي والستون ، ١ / ٢٩٨. وحكاه المصنّف ـ قدس‌سره ـ عنه في عين اليقين : ٢٩٥.

٥٠٧

هدّة عظيمة فارتاعوا ؛ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أتعرفون ما هذه الهدّة»؟

قالوا : «الله ورسوله أعلم».

قال : «حجر القي من أعلى جهنّم منذ سبعين سنة ، الآن وصل إلى قعرها ، فكان وصوله إلى قعرها وسقوطه فيها هذه الهدّة».

فما فرغ من كلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا والصراخ في دار منافق من المنافقين قد مات ، وكان عمره سبعين سنة ؛ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الله أكبر» ؛ فعلمت علماء الصحابة أنّ هذا الحجر هو ذاك ، وأنّه منذ خلقه الله يهوي في جهنّم ، وبلغ عمره سبعين سنة ، فلمّا مات حصل في قعرها.

قال الله ـ تعالى ـ : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) [٤ / ١٤٥].

فكان سماعهم تلك الهدّة الّتي أسمعهم الله ليعتبروا ، فإنّ المراد بجهنّم المشار إليها هي الدنيا ومتاعها ، وبالحجر هو ذلك المنافق استعارة.

ووجه المشابهة أنّ ذلك المنافق لم ينتفع بوجوده مدّة حياته ، ولم يكسب نفسه خيرا ، فأشبه الحجر في ذلك. وإرسال الله له : هو إفاضته له ما استعدّ له من اتّباع هواه فيها والانهماك في شهواتها والتيه عن سبيله ، المشار إليه بقوله : (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) [١٣ / ٢٧]. وشفيرها : هو أولها بالنسبة إليه ، وذلك حين استعداده للانهماك فيها ، وأوّل الأمور القائدة له في طريق الضلال من متاعها ولذّاتها. و «هويّه فيها سبعين خريفا» هو انهماكه فيها مدّة عمره. وبلوغه قعرها هو وصوله بموته إلى غاية العذاب بسبب ما اكتسب فيها من ملكات السوء.

* * *

روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه سئل عن قوله ـ عزوجل ـ : (سَأُرْهِقُهُ

٥٠٨

صَعُوداً) [٧٤ / ١٧]؟ فقال (١) : «إنّه جبل من نار يصعد (٢) فيه سبعين خريفا ، ثمّ يهوي فيه كذلك أبدا».

وقال ـ أيضا ـ (٣) : «يكلّف أن يصعد عقبة في النار ، كلّما وضع يده ذابت ، فإذا رجعها عادت ، وإذا وضع رجله ذابت فإذا رفعها عادت ؛ ويهوى فيه إلى أسفل سافلين».

وقال بعض أهل المعرفة : «إنّ ذلك الصعود هو سقر الطبيعة من أعلى طبقتها إلى أسفلها» ـ يعني أنّها مثاله ومظهره في الدنيا ـ.

وقال عارف آخر (٤) :

«وللنار أمثلة جزئيّة هي طبيعة كلّ أحد وهواه في اولاه وأخراه ، ولها أبواب ومشاعر ـ وهي سبعة ـ وهي عين أبواب الجنّة ، فإنّها على شكل الباب الذي إذا فتح إلى موضع انسدّ به موضع آخر ؛ فعين غلقه لمنزل ، عين فتحه لمنزل آخر.

وهذه الأبواب مفتوحة على الفريقين ـ أهل النار والجنّة ـ إلّا باب القلب ، فإنّه مطبوع على أهل النار أبدا : (لا تُفَتَّحُ

__________________

(١) ـ المسند : ٣ / ٧٥. الترمذي : كتاب صفة جهنم ، باب ٢ ، ٤ / ٧٠٣ ، ح ٢٥٧٦ ؛ وكتاب التفسير ، باب (٤٨) سورة المدثر ، ٥ / ٤٢٩ ، ح ٣٣٢٦. مستدرك الحاكم : كتاب التفسير ، سورة المدثر ، ٢ / ٥٠٧ ؛ وكتاب الأهوال : ٤ / ٥٩٦. مصابيح السنة : كتاب أحوال القيامة ، باب صفة النار وأهلها ، ٤ / ٩ ، ح ٤٠٤٠٥. كنز العمال : ٢ / ١٢ ، ح ٢٩٣٥. تفسير الطبري : سورة المدثر ، ٢٩ / ٩٧.

(٢) ـ كذا في الطبري ، ولكن في غيره من المصادر المذكورة : يتصعد.

(٣) ـ أورده الطبري (التفسير : سورة المدثر ، ٢٩ / ٩٧) إلى قوله : «فإذا رفعها عادت».

(٤) ـ ابن عربي في الفتوحات كما صرح به المؤلف ـ قدس‌سره ـ في عين اليقين : ٢٩٧.

٥٠٩

لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) [٧ / ٤٠] ، لأنّ صراط الله أدقّ من الشعر ، فيحتاج من يسلكه إلى كمال التلطيف والتدقيق ؛ وأنّى يتيسّر للحمقاء الجاهلين ـ خصوصا مع الاغترار والاستبداد برأيهم من غير تسليم وانقياد.

فأبواب الجحيم سبعة ، وأبواب الجنّة ثمانية ؛ وهذا الباب الذي لا يفتح لهم ، ولا يدخل عليه أحد منهم وهو في السور ، ف (باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) [٥٧ / ١٣] ، وهي النار التي (تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) [١٠٤ / ٧] ، وللنار على الأفئدة اطّلاع لا دخول ـ لغلق ذلك الباب ـ فهو كالجنّة حفّت بالمكاره.

والسور حجاب مضروب بين الفريقين يسمّى الأعراف ، بين الجنّة والنار ، وهو مقام من اعتدلت كفّتا ميزانه ؛ فهم ينظرون بعين إلى النار وبعين اخرى إلى الجنّة ، وما لهم رجحان بما يدخلهم الله إحدى الدارين ؛ فإذا دعوا إلى السجود ـ وهو الذي يبقى في القيامة من التكليف ـ فيسجدون ، فيرجح ميزان حسناتهم فيدخلون الجنّة ، ولو جاءت ذرّة لإحدى الكفّتين لرجحت بها ، فيطمعون في كرم الله وعدله. وإنّه لا بدّ لكلمة : «لا إله إلّا الله» ، من عناية بصاحبها ؛ يقول الله ـ تعالى ـ فيهم : (وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ* وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [٧ / ٤٦ ـ ٤٧]» ـ انتهى كلامه ـ

٥١٠

ويصدّق قوله في أهل الأعراف ما روي عن مولانا الباقر عليه‌السلام فيهم (١) «إنّهم قوم استوت حسناتهم وسيّئاتهم ، فقصرت بهم الأعمال ، وإنّهم لكما قال الله».

فصل [٥]

أقول : لا منافاة بين هذا الكلام وبين ما مرّ أنّ أهل الأعراف هم الأئمّة الهداة عليهم‌السلام ، لأنّ هؤلاء القوم يكونون مع الرجال الذين على الأعراف ، وكلاهما أصحاب الأعراف.

يدلّ على هذا ما رواه الشيخ الطبرسي عن مولانا الصادق عليه‌السلام (٢) ـ قال : ـ «الأعراف كثبان بين الجنّة والنار ، يوقف عليها كلّ نبيّ وكلّ خليفة نبيّ ، مع المذنبين من أهل زمانه ـ كما يقف صاحب الجيش مع الضعفاء من جنده ـ وقد سبق المحسنون إلى الجنّة.

فيقول ذلك الخليفة للمذنبين الواقفين معه : انظروا إلى إخوانكم المحسنين قد سبقوا إلى الجنّة فيسلم عليهم المذنبون ؛ وذلك قوله : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ) أن يدخلهم الله إيّاها بشفاعة النبيّ والإمام ، وينظر هؤلاء إلى النار ، فيقولون : (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).

وينادي أصحاب الأعراف ـ وهم الأنبياء والخلفاء ـ رجالا من

__________________

(١) ـ وجاء ما يقرب منه عن الصادق عليه‌السلام رواه العياشي : ٢ / ١٨ ، ح ٤٦ من سورة الأعراف.

عنه البحار : ٨ / ٣٣٧ ، ح ١٠.

(٢) ـ مجمع البيان : ٤ / ٤٢٣.

٥١١

أهل النار ورؤساء الكفّار ، يقولون لهم مقرعين : ما أغنى عنكم جمعكم واستكباركم ، (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ) إشارة لهم إلى أهل الجنّة الذين كان الرؤساء يستضعفونهم ويحتقرونهم لفقرهم ، ويستطيلون عليهم بدنياهم ، ويقسمون أنّ الله لا يدخلهم الجنّة.

يقول أصحاب الأعراف لهؤلاء المستضعفين عن أمر من أمر الله لهم بذلك : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) [٧ / ٤٦ ـ ٤٩] أي لا خائفين ولا محزونين(١).

__________________

(١) ـ جاء في المطبوعة القديمة بدلا من هذا الفصل المطالب الآتية ، ويعلم من التأمل في النسخة المخطوطة أن المؤلّف كتبها ، ثمّ أعرض عنها وكتب هذا الفصل بدلا منها ، وأسقط الورقة المكتوبة أولا من الكتاب ، وهي هذه:

لا منافات بين هذا الكلام وبين ما مرّ أنّ أهل الأعراف هم الأئمّة الهداة ، لأنّ أحوال الكاملين ما داموا في هذه النشأة الدنياويّة تشبه حال قوم في الآخرة استوت حسناتهم وسيّئاتهم ، فإنّهم من جهة علمهم وعرفانهم ورقّة حجابهم البدني كادوا أن يكونوا في نعيم الجنّة ، ومن جهة كثافة أجسادهم وبقاء حياتهم الدنيويّة منعوا من تمام الوصول وكمال الالتذاذ ، فلهم حالة متوسّطة ، ولكنّهم بحسب جوهر ذاتهم ومرتبة نفوسهم العالية في مكان عال مرتفع.

و «الأعراف» في اللغة جمع «عرف» ، بمعنى المكان العالي المرتفع ، لأنّه بسبب ارتفاعه يصير أعرف ممّا انخفض منه ، ومنه عرف الفرس والديك.

ولهذا قال ابن عبّاس (*) : المراد منه أعلى ذلك السور المضروب بين الجنّة والنار.

وقال ـ أيضا ـ : «الأعراف شرف الصراط».

وقال الحسن والزجّاج : «وعلى معرفة أهل الجنّة وأهل النار رجال يعرفون كلّا بسيماهم من أهل الجنّة وأهل النار».

فقيل للحسن (* *) : «هم قوم استوت سيئاتهم وحسناتهم» ، فضرب على خدّه (مجمع البيان : فخذه) ثمّ قال : «هم قوم جعلهم الله على تعرف أهل الجنّة وأهل النار يتميّزون البعض عن بعض ـ والله لا أدري لعلّ بعضهم معنا».

* * *

٥١٢

__________________

ـ وكلّ ما نقل فيه عن المفسّرين من الأقوال المختلفة يرجع إلى ما ذكر ، مثل قولهم : «إنّهم الأشراف وأهل الطاعة» ، وقولهم : «إنّهم الأنبياء عليهم‌السلام أجلسهم الله على أعالي ذلك السور تمييزا لهم عن سائر أهل المواقف [موقف ـ ظ] وليكونوا مطّلعين على أهل الجنّة وأهل النار ومقادير ثوابهم وعقابهم».

و «إنّهم الملائكة يعرفون أهل الدارين».

فإنّ الكاملين إنّما يكونون في درجة الملائكة ، فلا يبعد إطلاق هذا اللفظ عليهم ـ ويؤيّد ذلك أنّ الله سبحانه قال : (لِلرِّجالِ) والرجال لا يكونون إلّا من البشر ـ. ومثل قولهم : «إنّهم الشهداء» ، فإنّ المراد بهم الشهداء على الناس ، كما قال الله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) [٢ / ١٤٣].

أو أهل الشهود مع الله كما قال الله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [٥٧ / ١٩] ؛ لا الشهيد في القتال ، فإنّه لا يلزم أن يكون عارفا هذا العرفان.

وأمّا من قال : «إنّهم أقوام يكونون في الدرجة السافلة من أهل الثواب» فيمكن أن يكون المراد بالدرجة السافلة : الدنياويّة ، فإنّ الكاملين ما داموا في هذه الدنيا فهم بعد في الدرجة السافلة من حيث تعلّقهم بالأبدان ، وإن كانوا في الأمكنة العالية الرفيعة بحسب مقاماتهم ، ومرتبتهم مطلعهم على الكلّ ، شاهدين على كلّ أحد من الفريقين.

(١) قال السيوطي (الدر المنثور ، سورة الأعراف ، الآية ٤٦ : ٣ / ٤٦٠) : «وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في البعث والنشور عن ابن عبّاس ، قال : الأعراف هو الشيء المشرف» وفيه (٣ / ٤٦١) : «وأخرج ابن جرير عن ابن عباس : الأعراف سور بين الجنة والنار».

(* *) مجمع البيان : ٤ / ٤٢٣. ـ

٥١٣

فصل [٦]

قال بعض المفسّرين (١) : إنّ بين الجنّة والنار كوى ، فإذا أراد المؤمن أن ينظر إلى عدوّ له في الدنيا اطّلع من تلك الكوى ، كما قال ـ تعالى ـ : (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) [٣٧ / ٥٥] ، فإذا اطّلعوا من الجنّة إلى أعدائهم ـ وهم يعذّبون في النار ـ ضحكوا ؛ فذلك قوله ـ عزوجل ـ : (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) [٨٣ / ٣٤].

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم ـ رحمه‌الله ـ (٢) : سئل العالم عليه‌السلام عن مؤمني الجنّ : «أيدخلون الجنّة»؟ فقال : «لا. ولكن لله حظائر بين الجنّة والنار ، يكون فيها مؤمنو الجنّ وفسّاق الشيعة».

وقال المفيد ـ رحمه‌الله ـ (٣) : «قد جاء الحديث بأنّ الله ـ تعالى ـ يسكّن الأعراف طائفة من الخلق ، لم يستحقّوا بأعمالهم الجنّة على الثبات من غير عقاب ، ولا استحقّوا الخلود في النار ، وهم المرجون لأمر الله ، ولهم الشفاعة ، ولا يزالون على الأعراف حتّى يؤذن لهم في دخول الجنّة بشفاعة النبيّ وأمير المؤمنين والأئمّة عليهم‌السلام.

__________________

(١) ـ في الدر المنثور (الصافّات / ٥٥ ، ٧ / ٩٤) : «وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة ـ رض ـ قال : ذكر لنا أنّ كعب الأحبار قال : في الجنّة كوى ، فإذا أراد أحد من أهلها أن ينظر إلى عدوه في النار اطلع فازداد شكرا». وفي مجمع البيان (تفسير الآية المذكورة : ٨ / ٤٤٤) ما يقرب منه منسوبا إلى الكلبي.

(٢) ـ تفسير القمي : ٢ / ٣٠٦ ، سورة الأحقاف / ٣١.

عنه البحار : ٨ / ٣٣٥ ، ح ١. ٦٣ / ٨١ ، و ٩٥ و ٢٩١ ، ح ٣٦ وح ٥١.

(٣) ـ شرح عقائد الصدوق : ١٩٦.

٥١٤

وقيل ـ أيضا ـ : إنّه مسكن طوائف لم يكونوا في الأرض مكلّفين فيستحقّون بأعمالهم جنّة ونارا ، فيسكّنهم الله ذلك المكان ويعوّضهم على الآلام في الدنيا بنعيم يبلغون به منازل أهل الثواب المستحقّين له بالأعمال».

وفي اعتقادات الصدوق (١) : «ما من أحد يدخل الجنّة حتّى يعرض عليه مكانه من النار ـ فيقال : هذا مكانك الذي لو عصيت الله لكنت فيه ـ وما من أحد يدخل النار حتّى يعرض عليه مكانه من الجنّة ـ فيقال : «هذا مكانك الذي لو أطعت الله لكنت فيه». فيورث هؤلاء مكان هؤلاء ـ وذلك قول الله ـ عزوجل ـ : (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ* الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ) [٢٣ / ١٠ ـ ١١].

* * *

__________________

(١) ـ الاعتقادات : باب الاعتقاد في الجنة والنار. عنه البحار : ٨ / ٢٠١.

٥١٥

فصل [٧]

روى الصدوق ـ طاب ثراه ـ (١) عن عبد السّلام بن صالح الهروي أنّه قال : قلت لعليّ بن موسى الرضا عليه‌السلام : «يا ابن رسول الله ـ أخبرني عن الجنّة والنار : أهما اليوم مخلوقتان»؟

فقال : «نعم. وإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دخل الجنّة ورأى النار لمّا عرج به إلى السماء».

ـ قال : ـ فقلت له : «إنّ أقواما يقولون : إنّهما اليوم مقدّرتان غير مخلوقتين»؟

فقال عليه‌السلام : «ما اولئك منّا ولا نحن منهم ؛ من أنكر خلق الجنّة والنار فقد كذّب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكذّبنا ، وليس من ولايتنا على شيء ، وخلّد في نار جهنّم ، قال الله ـ عزوجل ـ : (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ* يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) [٥٥ / ٤٤]».

وقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لمّا عرج بي إلى السماء أخذ بيدي جبرئيل فأدخلني الجنّة ، فناولني من رطبها ، فأكلتها ، فتحوّلت ذلك نطفة في صلبي ، فلمّا هبطت إلى الأرض واقعت خديجة ، فحملت بفاطمة حوراء إنسيّة (٢) ، فلمّا اشتقت إلى رائحة الجنّة شممت ابنتي فاطمة».

__________________

(١) ـ التوحيد : باب ما جاء في الرؤية ، ١١٨ ، ح ٢١. عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : باب ما جاء عن الرضا عليه‌السلام من الأخبار في التوحيد ، ١ / ١١٦ ، ح ٣. أمالي الصدوق : المجلس السبعون ، ح ٧ ، ٥٤٦. عنها البحار : ٨ / ١١٩ ، ح ٦. و ٨ / ٢٨٣ ـ ٢٨٤ ، ح ٨.

(٢) ـ النسخة : الإنسية. والصحيح ما أثبتناه. ٤ ـ إلى هنا انتهت الرواية عن الرضا عليه‌السلام.

٥١٦

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) : «الجنّة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله ، والنار مثل ذلك».

إنّ الدارين (٢) إنّما تنشئان بنفوس أهلها ، وتعمران بأخلاقهم وأعمالهم ؛ وقد مضى ما يدلّ على ذلك من الآيات والأخبار في مباحث البرزخ ـ وتمام التحقيق في ذلك يطلب من كتاب : «عين اليقين» (٣) ـ.

__________________

(١) ـ مضى في الصفحة : ١١٥٥.

(٢) ـ كتب المصنف هنا فصلا كاملا ثم شطب عليه ـ غير مقطع منه ، وهو ما يلي :

فصل قال في الفتوحات المكّية في معرفة جهنّم [الباب الحادي والستّون : ١ / ٢٩٧] :

«اعلم ـ عصمنا الله وإيّاك ـ أنّ جهنّم من أعظم المخلوقات ، وهي سبّحت الله في الآخرة ، وسمّيت «جهنّم» لبعد قعرها ـ يقال : «بئر جهنام» إذا كانت بعيدة القعر ـ. وهي تحوي على حرور وزمهرير ، ففيها البرد على أقصى درجاته ، والحرور على أقصى درجاته ؛ وبين أعلاها وقعرها خمس وسبعون إلى مائة من السنين. فاختلف الناس فيها : «هل خلقت بعد ، أو لم يخلق» ـ والخلاف مشهور فيها ـ وكذلك اختلفوا في الجنّة ، وأمّا عندنا وعند أصحابنا ـ أهل الكشف والتعريف ـ فهما مخلوقتان غير مخلوقتين.

أمّا قولنا : «مخلوقتان» ، فكر جل يبنى دارا ، فأقام حيطانها كلّها الحاوية عليها خاصّة ، فقال : «هي دار» ، فإذا دخلتها لم تر إلّا سورا دائرا على فضاء وساحة ، ثمّ بعد ذلك ينشئ بيوتها على أغراض الساكنين فيها ، من بيوت وغرف وسرادق ومهالك ومخازن ، وما ينبغي أن يكون فيها ؛ وفي دار حرورها هواء محرق لا جمر لها سوى بني آدم والأحجار المتّخذة آلهة ، والجنّ لهبها.

قال الله ـ تعالى ـ : (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) [٢ / ٢٤] ، وقال : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [٢١ / ٩٨] ، وقال : (فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ* وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ) [٢٦ / ٩٤ ـ ٩٥]».

وتحدث فيها الآلات بحدوث أعمال الجنّ والإنس الذين يدخلونها».

أقول : محصّل كلامه أنّ الدارين إنّما تنشئان ...

(٣) ـ راجع عين اليقين : ٢٩٥.

٥١٧

فصل (١) [٨]

[منزلة الآخرة من الدنيا]

ولمّا كانت الآخرة داخل حجب السماوات والأرض ، فما لم ينهدم بناء الظاهر لم ينكشف أحوال الباطن لأنّ الغيب والشهادة لا يجتمعان.

ولهذا ورد في الحديث (٢) : «لا تقوم الساعة وعلى وجه الأرض من يقول : الله الله».

ومنزلتها من هذا العالم ، منزلة هذا العالم من الرحم ، فلا تقوم إلّا إذا (زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) [٩٩ / ١]

(وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) [٦٩ / ١٦] ،

وانتثرت الكواكب (٣) ،

وكوّرت الشمس (٤) ،

__________________

(١) ـ راجع عين اليقين : ٢٩٨. مفاتيح الغيب : المشهد الخامس من المفتاح التاسع عشر ، ٦٣٠ ـ ٦٣١. تفسير سورة يس لصدر المتألهين : ١٧٧ ـ ١٨١ ، قوله تعالى (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ ...).

(٢) ـ في مسلم : كتاب الإيمان ، باب (٦٦) ذهاب الإيمان ، ح ٢٣٤ ؛ ١ / ١٣١ ومستدرك الحاكم (كتاب الفتن والملاحم : ٤ / ٤٩٢) : «لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله». وفي حديث آخر فيه : «لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض لا إله إلا الله». وفي مسلم (الباب المذكور) : «لا تقوم الساعة على أحد يقول الله الله». وجاء بألفاظ اخر أيضا ، راجع المسند : ٣ / ١٦٢. حلية الأولياء : ٣ / ٣٠٥. كنز العمال : ١٤ / ٢٤٣ ـ ٢٤٤ ، ح ٣٨٥٧٢ ـ ٣٨٥٧٦. المستدرك : ٤ / ٤٩٥.

(٣) ـ (وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) [٨٢ / ٢].

(٤) ـ (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) [٨١ / ١].

٥١٨

(وَخَسَفَ الْقَمَرُ) [٧٥ / ٨]

(وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ) [٧٨ / ٢٠] ،

وعطّلت العشار (١) ،

و (بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ* وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ) [١٠٠ / ٩ ـ ١٠]

(وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) [١٤ / ٤٨] ،

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ* إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) [٣٦ / ٥١ ـ ٥٢].

إذ عدمت عند ذلك الآجال ، وزالت السنون والساعات ، ولا يبقى إلّا الله الواحد القهّار ، بلا وقت ولا زمان ، ولا حيّز ولا مكان ، فلا قبل يومئذ ولا بعد ، ولا هنا ولا هنالك ، ولا ستر ولا حجاب.

وتبدّل الأرض غير الأرض (٢) ، فتمدّ مدّ الأديم ، وتبسط فلا ترى فيها عوجا ولا أمتا (٣) ، يجمع فيها الخلائق كلّها من أوّل الدنيا إلى آخرها.

* * *

__________________

(١) ـ (وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ) [٨١ / ٤].

(٢) ـ (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) [١٤ / ٤٨]. (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ) [٨٤ / ٣].

(٣) ـ (لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) [٢٠ / ١٠٧].

٥١٩

فصل (١) [٩]

[طيّ الزمان والمكان في القيامة]

قال بعض المحقّقين (٢) :

«إنّ أهل الحجاب والارتياب ذاهلون عن كون الأزمنة والحركات منطوية يوم القيامة ، منشورة هاهنا ؛ ولا يمكن لهم أن يعرفوا بهما جميعا ؛ والعجب أنّهم كما لم يؤمنوا هاهنا بطيّ السماوات وما فيها يوم القيامة ـ لاشتغال قلوبهم بأحوال الدنيا ـ فكذلك إذا بعثوا إلى الآخرة أنكروا زمان مكثهم في الدنيا ونشر الحركات ـ إذ تشغلهم أهوال القيامة عن ذلك. «كما قال ـ جلّ ذكره ـ : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ* وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [٣٠ / ٥٥ ـ ٥٦].

ـ ثمّ قال ـ (٣) :

«إنّ نسبة البعث إلى الله ـ تعالى ـ كنسبة الخلق : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) [٣١ / ٢٨](كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) [٧ / ٢٩].

__________________

(١) ـ راجع عين اليقين : ٢٩٩.

(٢) ـ تفسير سورة الزلزال لصدر المتألهين : ٤١٣.

(٣) ـ صدر المتألهين : تفسير سورة الزلزال : ٤١٤ ـ

٥٢٠