علم اليقين في أصول الدين - ج ٢

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]

علم اليقين في أصول الدين - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]


المحقق: محسن بيدارفر
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: انتشارات بيدار
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
ISBN: 964-90800-3-1
الصفحات: ٨٧٨

إلى ما كان أوّلا ويصل إلى درجة اللبّ الذي كان عليها في بدء أمره ، مع عدد كثير من أفراد نوعه ، وفوائد وأرباح كثيرة حاصلة من سفره ـ من الأوراق والقشور والأشجار والأنوار ـ فيخرج من بين تلك القشور والحشائش لبّا صافيا بإذن الله ، وثمرة صالحة هي نتيجة تلك المقدّمات ، ونهاية تلك الأسفار ؛ تكون موجودة باقية ببقاء موجدها ـ مع انفساخ تلك الأمور وزوالها ـ.

وصل

[الموت حياة اخرى]

قد ظهر مما ذكر أنّ الموت ليس أمرا يعدمنا ، بل يفرّق بيننا وبين ما هو غيرنا وغير صفاتنا اللازمة.

ولهذا ورد في الحديث النبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) : «خلقتم للبقاء ، لا للفناء».

وفي لفظ آخر (٢) : «خلقتم للأبد ، وإنّما تنقلون من دار إلى دار».

وفي حديث آخر (٣) : «الأرض لا تأكل محلّ الإيمان».

__________________

(١) ـ قال الصدوق ـ قدس‌سره ـ في اعتقاداته (باب الاعتقاد في النفوس والأرواح) : «واعتقادنا فيها أنها خلقت للبقاء ولم تخلق للفناء ، لقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما خلقتم للفناء ، بل خلقتم للبقاء ، وإنّما تنقلون من دار إلى دار». البحار : ٦ / ٢٤٩ ، ح ٨٧.

(٢) ـ راجع التعليقة السابقة.

(٣) ـ لم أعثر عليه. وقد أورده الغزالي في الإحياء (كتاب شرح عجائب القلب ، بيان الفرق بين المقامين بمثال محسوس ، ٣ / ٣٦) قائلا : «وإليه أشار الحسن رحمه‌الله بقوله : التراب لا يأكل محل الإيمان». وقال الزبيدي في شرحه (إتحاف السادة : ٧ / ٢٥٥) : «كما نقله صاحب القوت».

٣٠١

وفي القرآن المجيد : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ* فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [٣ / ١٦٩].

ونادى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) الأشقياء المقتولين يوم بدر : «يا فلان ويا فلان ، قد وجدت ما وعدني ربّي حقّا ، فهل وجدتم ما وعد ربّكم حقّا»؟

ـ ثمّ قال : ـ «والذي نفسي بيده إنّهم لأسمع لهذا الكلام منكم ، إلّا أنّهم لا يقدرون على الجواب».

ومثله عن أمير المؤمنين عليه‌السلام (٢) في قتلى وقعة جمل.

وعن ابن عبّاس في سبب نزول الآية المذكورة ـ قال : ـ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣) : «لمّا اصيب إخوانكم باحد ، جعل الله أرواحهم في أجواف

__________________

(١) ـ راجع السيرة النبوية لابن هشام : ١ / ٦٣٩.

(٢) ـ راجع أيضا ما أورده الشيخ المفيد في شرح اعتقادات الصدوق ـ قدس سر هما ـ : باب النفوس والأرواح ، ١٩٠. عنه البحار : ٦ / ٢٥٥.

(٣) ـ دلائل النبوة : باب قول الله عزوجل : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا ...) : ٣ / ٣٠٤.

أبو داود : كتاب الجهاد ، باب في فضل الشهادة : ٣ / ١٥ ، ح ٢٥٢٠. المستدرك للحاكم : ٢ / ٢٩٧. وأورده السيوطي في الدر المنثور (٢ / ٣٧١ ، تفسير الآية) عن أحمد وهناد وعبد بن حميد وأبو داود وابن جرير وابن المنذر والحاكم والبيهقي.

وقد ورد عن أهل البيت عليهم‌السلام إنكار هذا المعنى ، فجاء في حديث (الكافي : كتاب الجنائز ، باب آخر في أرواح المؤمنين : ٣ / ٢٤٥ ، ح ٦) عن يونس بن ظبيان ، عن الصادق عليه‌السلام : «ما يقول الناس في أرواح المؤمنين»؟ فقلت : «يقولون : تكون في حواصل طيور خضر في قناديل تحت العرش». فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «سبحان الله ـ المؤمن أكرم على الله من أن يجعل روحه في حوصلة طير ...». وجاء ما يقرب منه في أمالي الطوسي : المجلس الرابع عشر ، ح ٩٠ ، ٤١٨ ـ ٤١٩. وفي حديث آخر (الكافي : نفس الباب) : «لا ـ إذا ما هي في حواصل طير ...».

٣٠٢

طيور خضر ترد أنهار الجنّة ، وتأكل من ثمارها ، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلّقة تحت العرش ؛ فلمّا وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا : «من يبلّغ إخواننا عنّا أنّا في الجنّة نرزق ، لئلّا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عند الحرب»؟ فقال الله ـ عزوجل ـ : «أنا ابلّغهم عنكم» فنزلت الآية».

ـ كذا في شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني رحمه‌الله ـ (١).

وكيف تعدم النفوس (٢) وقد جعل الله ـ عزوجل ـ بواجب حكمته في طبائعها محبّة الوجود والبقاء ، وجعل في جبلّتها كراهة العدم والفناء ، لكون الوجود خيرا صرفا ونورا محضا ، وبقاؤه خيريّة الخير ونوريّة النور ، وقد ثبت وتيقّن أنّ بقاءها ودوامها في هذه النشأة الحسيّة أمر مستحيل (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) [٤ / ٧٨].

فلو لم يكن لها نشأة اخرى تنتقل هي إليها ، لكان ما ارتكز في طبائعها واودع في جبلّتها من محبّة البقاء الأبديّ والحياة السرمديّة باطلا ضائعا ـ تعالى الله عن ذلك ـ.

وأمّا كراهيّة النفس بموت الجسد ، الذي هو عائق عن حياتها السرمديّة وبقائها الأبدي ، مع ما ارتكز فيها من التوجّه الجبلّي إلى الدار الآخرة والحركة الذاتيّة إليها :

__________________

(١) ـ نهج البلاغة ، شرح ابن ميثم البحراني : شرح الفصل الثالث من الخطبة الرابعة والثمانين ، ٢ / ٣٠٢.

(٢) ـ اقتباس من المبدأ والمعاد : ٤٥٦ ـ ٤٥٨. الأسفار الأربعة : ٩ / ٢٤١.

٣٠٣

فقد قيل : إنّ السبب فيها أمران : فاعليّ وغائيّ :

أمّا الفاعليّ : فهو أنّ النفس لها نشئات ثلاثة : حسيّة وخياليّة وعقليّة :

فأوّل نشئاتها نشأة الحسّ ، ولها الغلبة على الإنسان ما دامت هذه الحياة الحسيّة باقية له ، فيجري أحكامها على النفس في هذه الدار ، ويؤثّر فيها من هذه الجهة كلّ ما يؤثّر في الجوهر الحاسّ وفي الحيوان الحسّي من الملائمات والمنافرات الحسّية ، ولهذا تتضرّر وتتألّم بتفرّق الاتصال وبالاحتراق بالنار وساير المنافيات الحسيّة ؛ لا من حيث كونها جوهرا ناطقا وذاتا عقليّة ذات نشأة روحانيّة وعالم ملكوتي ، بل من حيث كونها جوهرا حسّاسا ذا نشأة حسّيّة وعالم دنياويّ ؛ فتوحّشها من الموت البدنيّ وكراهتها للعدم الحسّيّ إنّما يكون لها بحصّة من هذه النشأة الحسّية.

وأمّا ما يقتضيه العقل التامّ وقوّة الباطن وغلبة سلطان الملكوت والتشوّق إلى الله ـ تعالى ـ ومجاورة مقرّبيه : فهو محبّة الموت الطبيعي ، والوحشة عن حياة هذه النشأة ، ومشاهدة حيوانات الدنيا ؛ فإنّ وحشة أهل الباطن عن مجاورة أحياء هذا العالم أشدّ من وحشة الإنسان الحيّ عن مجاورة الأموات بكثير.

ومن هنا قال أمير المؤمنين عليه‌السلام (١) حين ضربه ابن ملجم : «فزت وربّ الكعبة».

__________________

(١) ـ مناقب ابن شهرآشوب : فصل في مسابقته عليه‌السلام باليقين والصبر ، ٢ / ١١٩. وفصل في مقتله : ٣ / ٣١٢. عنه البحار : ٤١ / ٢ ، ح ٢. و ٤٢ / ٢٣٩ ، ح ٤٥.

٣٠٤

وأمّا السبب الغائي في ذلك : فهو أنّ إرادة الله ـ سبحانه ـ وقصده في إيداع الألم في جبلّة الحيوانات والوجع والخوف في طباعها عمّا يلحق أبدانها من الآفات والعاهات ـ وخصوصا الموت ـ إنّما هو للحثّ لنفوسها على حفظ أبدانها وكلاءة أجسادها من الآفات العارضة لها ؛ إذ الأجساد لا شعور لها في ذاتها ، ولا قدرة على جرّ منفعة لها ولا رفع مضرّة ، فلو لم يكن ذلك ، لتهاونت النفوس بالأجساد وخذلتها ، وأسلمتها إلى المهالك قبل حلول آجالها وتحصيلها لنشأة اخرى وعمارتها للباطن ؛ وذلك ينافي المصلحة الكلّيّة ، والحكمة الأزليّة.

فصل [٣]

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ)

الموت لا ينجو منه إلّا الله الحيّ القيّوم ، الذي خلق الموت والحياة ، يحيي ويميت ، ويميت ويحيي ، وهو حيّ لا يموت ، وكلّ ما سواه فهو ميّت لا محالة لا مفرّ له من الموت ، ولا بدّ له منه.

قال مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام في كلام له طويل (١) :

«وإنّه ـ سبحانه ـ يعود بعد فناء الدنيا وحده لا شيء معه ، كما كان قبل ابتدائها كذلك يكون بعد فنائها ، بلا وقت ولا مكان ، ولا حيّز ولا زمان ، عدمت عند ذلك الآجال ، وزالت السنون والساعات ؛ فلا شيء إلّا الواحد القهّار ، الذي إليه مصير جميع الأمور».

__________________

(١) ـ نهج البلاغة : الخطبة ١٨٦ ، مع فروق يسيرة.

٣٠٥

وفي كتاب الحسين بن سعيد الأهوازي (١) ، عن فضالة (٢) ، عن أبي المغراء (٣) قال حدّثني يعقوب الأحمر (٤) قال : دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام نعزّيه (٥) بإسماعيل (٦) ، فترحّم عليه ، ثمّ قال :

«إنّ الله ـ تعالى ـ عزّى نبيّه بنفسه ، فقال : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [٣٩ / ٣٠] ، وقال : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) [٢١ / ٣٥]».

ثمّ أنشأ يحدّث فقال : «إنّه يموت أهل الأرض حتّى لا يبقى أحد ، ثمّ يموت أهل السماء حتّى لا يبقى أحد إلّا ملك الموت وحملة العرش وجبرئيل وميكائيل ؛ فيقال له (٧) : «قل لجبرئيل وميكائيل فليموتا».

فيقول حملة العرش (٨) : «يا ربّ رسولاك وأميناك» (٩).

__________________

(١) ـ الزهد للأهوازي : باب (١٤) ذكر الموت والقبر : ٨٠ ، ح ٢١٦.

وجاء ما يقرب منه في الكافي : ٣ / ٢٥٦ ، ح ٢٥. البحار : ٦ / ٣٢٩ ، ح ١٤.

(٢) ـ قال النجاشي (٣١١ ، رقم ٨٥٠) : «فضالة بن أيوب الأزدي ، عربي صميم ، سكن الأهواز ، روى عن موسى بن جعفر عليهما‌السلام ، وكان ثقة في حديثه مستقيما في دينه».

راجع تنقيح المقال : رقم ٩٤٤٦.

(٣) ـ قال النجاشي (١٣٣ ، رقم ٣٤٠) : «حميد بن المثنى ، أبو المغراء ، العجلي ، مولاهم ، روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن عليهما‌السلام ، كوفي ثقة ثقة».

(٤) ـ من أصحاب الصادق عليه‌السلام ، لم يرد توثيقه. راجع تنقيح المقال : رقم ١٣٢٦٤.

(٥) ـ المصدر : اعزيه.

(٦) ـ اسماعيل بن جعفر الصادق عليه‌السلام ، توفى في حياة أبيه.

(٧) ـ أسقط المؤلف هنا شطرا من الحديث تلخيصا ، ففي المصدر :

«ثمّ يجيء ملك الموت حتى يقف بين يدي الله عزوجل ، فيقال له : من بقى؟ ـ وهو أعلم ـ فيقول : يا ربّ ـ لم يبق إلا ملك الموت وحملة العرش وجبرئيل وميكائيل.

فيقال له : قل لجبرئيل و...»

(٨) ـ المصدر : فيقول الملائكة عند ذلك.

(٩) ـ في النسخ : «رسوليك وأمينيك» والتصحيح من المصدر.

٣٠٦

فيقول ـ تبارك وتعالى ـ : «إنّي قد قضيت على كلّ نفس فيها الروح أن تموت».

ثمّ يجيء ملك الموت حتّى يقف بين يدي الله ـ عزوجل ـ فيقال له : «من بقى»؟ ـ وهو أعلم ـ فيقول : «يا ربّ لم يبق غير ملك الموت وحملة العرش». فيقال له : «قل لحملة العرش فليموتوا».

ثمّ يجيء ملك الموت ـ لا يرفع طرفه ـ فيقال له : «من بقى»؟

فيقول : «يا ربّ لم يبق غير ملك الموت».

فيقول : «مت ـ يا ملك الموت» ؛ فيموت.

ثمّ يأخذ الأرض بشماله والسماوات بيمينه ، فيهزّ بهنّ (١) هزّا مرّات ، ثمّ يقول : «أين الذين كانوا يدعون معي شركاء؟ أين الذين كانوا يدعون معي إلها آخر»؟

وفي الكتاب المذكور (٢) عن عبيد بن زرارة (٣) قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام ، يقول:

«إذا أمات الله أهل الأرض ، ثمّ أمات أهل السماء الدنيا ، ثمّ أمات أهل السماء الثانية ، ثمّ أمات أهل السماء الثالثة ، ثمّ أمات أهل السماء الرابعة ، ثمّ أمات أهل السماء الخامسة ، ثمّ أمات أهل السماء السادسة ،

__________________

(١) ـ المصدر : فيهزهن.

(٢) ـ الزهد : باب (١٧) الحشر والحساب والموقف ، ٩٠ ح ٢٤٢.

وجاء ما يقرب منه في تفسير القمي ، تفسير قوله تعالى (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) ، ٢ / ٢٦٠. عنهما البحار : ٦ / ٣٢٦ ـ ٣٢٧ ، ح ٣.

(٣) ـ عبيد بن زرارة بن أعين الشيباني ، قال النجاشي (٢٣٣ / رقم ٦١٨) : «ثقة ثقة عين لا لبس فيه ولا شك».

٣٠٧

ثمّ أمات أهل السماء السابعة ، ثمّ أمات ميكائيل ـ قال : أو جبرئيل ـ ثم أمات جبرئيل ، ثمّ أمات إسرافيل ، ثمّ أمات ملك الموت ، ثمّ نفخ في الصور وبعث».

قال : ـ «ثمّ يقول الله ـ تبارك وتعالى ـ : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ)؟ فيردّ على نفسه فيقول : «لله الخالق البارئ المصوّر ـ ويقال : لله الواحد القهّار ـ» (١) ثمّ يقول : «أين الجبّارون ، أين الذين كانوا يدعون معي إلها آخر ، أين المتكبّرون» ـ ونحو هذا ـ ثمّ يبعث الخلق» (٢).

__________________

(١) ـ كذا في النسخ : وفي المصدر «لله الخالق البارئ المصور وتعالى الله الواحد القهار». وجاء في تفسير القمي : «فيرد على نفسه : لله الواحد القهار ، أين الجبارون ...».

(٢) ـ جاء هنا في المطبوعة القديمة فصلا لا يوجد في النسخة ، ويظهر أنه مما كتبها المؤلف ـ قدس‌سره ـ ثم أعرض عنه وأسقط الورقة المكتوبة من النسخة ، ونورده عنها تتميما :

[فصل]

وفي الأخبار العامية في حديث إسرافيل :

فإذا انقضت مدّة الدنيا يدنو الصور إلى جهة إسرافيل ، فيضمّ إسرافيل أجنحته الأربعة ثمّ ينفخ في الصور ، ويجعل ملك الموت إحدى كفّيه تحت الأرض السابعة فيأخذ أرواح أهل السماوات والأرض ، ولا يبقى في الأرض إلّا إبليس ، وفي السماء إلّا جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل ، وهم الذين استثنى الله بقوله : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) [٣٩ / ٦٨]. ـ وسنذكر تمام حديث الصور والنفخات ـ إن شاء الله ـ.

ـ ويقال (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) اثنتا عشر نفسا : هذه الأربعة وثمانية حملة العرش ـ. فيبقى الدنيا بلا إنس ولا جنّ ولا حيوان ولا وحش ؛ ثمّ يقول الله ـ عزوجل ـ : «يا ملك الموت ـ إنّي خلقت لك بعدد الأولين والآخرين أعوانا ، وجعلت لك قوّة أهل السماوات والأرضين ، وإنّي ألبسك اليوم أثواب الغضب ، فأنزل بغضبي وسطواتي إلى إبليس ، فأذقه الموت ، وأحمل عليه مرارة الأوّلين والآخرين من الجنّ والإنس أضعافا مضاعفة ، وليكن معك من الزبانية سبعين ألفا ، مع كلّ زبانية سلسلة من سلاسل اللظى» ، وينادى : «يا مالك ـ افتح أبواب النيران». ـ

٣٠٨

__________________

ـ فينظر ملك الموت بصورة لو نظر أهل السماوات السبع والأرضين السبع لماتوا كلّهم ، فينتهي إلى إبليس ويزجره زجرة ؛ فإذا هو قد ضعف ، وله خرخرة لو سمع أهل السماوات والأرضين لصعقوا من تلك الخرخرة ، وملك الموت يقول : «قف يا خبيث ، لأذيقنّك الموت ، كم من عمرك أدركت ، وكم من قرن أضللت».

ـ قال : ـ فيهرب إلى المشرق ، فإذا هو عنده واقف ؛ وإلى المغرب ، فإذا هو عنده ؛ فلا يزال إلى حيث يهرب ، ثمّ يقوم إبليس في وسط الدنيا عند قبر آدم عليه‌السلام ويقول : «يا آدم من أجلك صرت رجيما ملعونا مطرودا». فيقول : «يا ملك الموت بأيّ كأس تسقيني ، وبأيّ عذاب تقبض روحي»؟ فيقول : «بكأس اللظى والسعير». وإبليس يقع في التراب مرّة مرّة ، حتّى يقع في الموضع الذي اهبط فيه ولعن ، ويضربه الزبانية بكلاليب يخدشونه ويطعنونه ، ويبقي في النزع وفي شدّة الموت ما شاء الله.

ثمّ يأمر الله ـ تعالى ـ ملك الموت أن يفني البحار كلّها كما قال الله : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [٢٨ / ٨٨]. فيأتي ملك الموت إلى البحار ، فيقول : «قد انقضت مدّتك». فيقول : «ائذن لي حتّى أنوح على نفسي ، أين أمواجي ، وأين عجائبي ، قد جاء أمر الله». فيصيح عليها ملك الموت صيحة ، فكان ماؤها كأن لم يكن.

ثمّ يأتي إلى الجبل ، فيقول : «ائذن لي حتّى أنوح على نفسي». فيقول : «أين صعودي وقوّتي ، وقد جاء أمر الله»؟ فيصيح عليها صيحة فيذوب.

ثمّ تأتي الأرض ، فيقول : «ائذن لي حتّى أنوح على نفسي» ، فيقول : «أين ملوكي وأشجاري وأنهاري وأنواع نباتي»؟ فيصيح عليها صيحة فتصاعدت حيطانها وغارت مياهها. ثمّ يصعد إلى السماء ، فيصيح إلى السماء صيحة ، فكسفت الشمس والقمر وتناثرت النجوم.

ثمّ يقول الله : «يا ملك الموت ـ هل بقى من خلقي»؟

فيقول : «إلهى أنت الحيّ الذي لا يموت ، وبقى جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وحملة العرش ، وأنا العبد الضعيف». فيقول : «اقبض روحهم».

فيقبض روحهم. ثمّ يقول : «يا ملك الموت ـ ألم تسمع قولي : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ)؟ وأنت خلق من خلقي ، خلقتك للموت ؛ مت» ؛ فيموت.

وفي خبر آخر : «اذهب ومت بين الجنّة والنار ؛ ولا يبقى شيء غير الله ؛ فيبقى الدنيا خرابا ما شاء الله.

٣٠٩

فصل [٤]

[من يتوفّى الأنفس]

(اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) [٣٩ / ٤٢].

هو (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) [٦٧ / ٢].

(وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) [٢٣ / ٨٠].

(كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) [٢ / ٢٨].

إلّا أنّه سبحانه فوّض في عالم الشهادة كلّ نوع من أنواع الأعمال إلى ملك من الملائكة ، ففوّض قبض الأرواح إلى ملك الموت :

(قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) [٣٢ / ١١].

وهو رئيس ، وتحته خدم وأتباع ، هم رسل الله :

(حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) [٦ / ٦١]. (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) [١٦ / ٢٨]. (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) [٦ / ٩٣].

وعن مولانا الصادق عليه‌السلام (١) : «إنّ الله جعل لملك الموت أعوانا من الملائكة ، يقبضون الأرواح ، ... فيتوفّاهم الملائكة ، ويتوفّاهم ملك الموت منهم مع ما يقبض هو ، ويتوفّاها الله ـ تعالى ـ من ملك الموت».

__________________

(١) ـ من لا يحضره الفقيه : باب غسل الميت ، ١ / ١٣٦ ، ح ٣٦٨ ، مع فروق وإضافات.

٣١٠

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم (١) : حدّثني أبي ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام : عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لمّا اسري بي إلى السماء ، رأيت ملكا من الملائكة بيده لوح من نور ـ لا يلتفت يمينا ولا شمالا ـ مقبلا عليه به كهيئة الحزين ؛ فقلت : «من هذا ـ يا جبرئيل»؟

فقال : «هذا ملك الموت ، مشغول في قبض الأرواح».

فقلت : «ادنني منه ـ يا جبرئيل ـ لاكلّمه» فأدناني منه ، فقلت له : «يا ملك الموت ـ أكلّ من مات أو هو ميّت فيما بعد ، أنت تقبض روحه»؟

قال : «نعم».

قلت : «وتحضرهم بنفسك»؟

قال : «نعم ؛ ما الدنيا كلّها عندي ـ فيما سخّره الله لي ومكّنني منها ـ إلّا كدرهم في كفّ الرجل ، يقلّبه كيف يشاء ؛ وما من دار في الدنيا إلّا وأدخلها في كلّ يوم خمس مرّات ؛ وأقول إذا بكى أهل البيت على ميّتهم : لا تبكوا عليه ؛ فإنّ لي إليكم عودة وعودة ، حتّى لا يبقى منكم أحد».

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كفى بالموت طامّة ـ يا جبرئيل».

فقال جبرئيل : «ما بعد الموت أطمّ وأعظم من الموت».

__________________

(١) ـ تفسير القمي : تفسير الآية ، (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ ...) ، ٢ / ١٦٨.

وأورده بالتفصيل في سورة الإسراء أيضا : ٢ / ٦.

عنه البحار : ٦ / ١٤١. ح ٢. ٥٩ / ٢٤٩ ، ح ٢.

٣١١

وفي خبر (١) : إنّ ملك الموت وملك الحياة تناظرا ، فقال ملك الموت : «أنا اميت الأحياء» ؛ وقال ملك الإحياء : «أنا احيي الموتى». فأوحى الله إليهما : «كونوا على عملكما وما سخّرتما له من الصنع ، وأنا المميت والمحيي ، لا مميت ولا محيي سواي».

ولغموض هذه المسألة ودقّتها قال أمير المؤمنين عليه‌السلام في جواب من سأله عن اختلاف الآيات في متوفّى الأنفس (٢) :

«وليس كلّ العلم يستطيع صاحب العلم أن يفسّره لكل الناس ، لأنّ فيهم القويّ والضعيف ، ولأنّ منه ما يطاق حمله ، ومنه ما لا يطيق حمله إلّا من سهّل الله عليه حمله ، وأعانه عليه ، من خاصّة أوليائه ؛ وإنّما يكفيك أن تعلم أنّ الله المحيي والمميت ، وأنّه يتوفّى الأنفس على يدي من يشاء من خلقه من ملائكته وغيرهم» ـ رواه في التوحيد ـ.

وفي بعض الأخبار أنّه ليس لملك الموت ولا لأعوانه عند قبض الأرواح صورة خاصّة وهيئة واحدة دائما لا تتبدّل ، بل يتصوّر لكلّ أحد بصورة تناسب معتقده وأعماله : إن كان مؤمنا مستبشرا بلقاء الله ،

__________________

(١) ـ أورده أبو طالب المكي (قوت القلوب : شرح مقام التوكل ، ٢ / ١٣) قائلا : وفي بعض الأخبار : إنّ ملك الموت وملك الحياة تناظرا ...».

وأورده الغزالي بلفظه في الإحياء : كتاب التوحيد والتوكل ، بيان حقيقة التوحيد الذي هو أصل التوكل ، ٤ / ٣٧٥.

وقال العراقي في تخريجه (ذيل الطبعة القديمة من الإحياء ، ٤ / ٢٥٧) : «لم أجد له أصلا». وقال الزبيدي (إتحاف السادة : ٩ / ٤٢٧) : «هكذا نقله صاحب القوت مصدّرا بقوله «وفي بعض الأخبار» ، وكأنّه يعني به الإسرائيليات».

(٢) ـ التوحيد : باب الردّ على الثنويّة : ٢٦٨ ، مع فروق يسيرة.

عنه البحار : ٦ / ١٤٢ ـ ١٤٣ ، ح ٦.

٣١٢

راضيا بالموت ليصل إليه ، فبصورة حسنة جدّا ، حتّى لو لم يلق إلا صورته كان حسبه. وإن كان فاجرا ، معرضا عن لقاء الله ، راضيا بالحياة الدنيا ، مطمئنّا بها ، فبصورة قبيحة كريهة جدّا ، حتّى لو لم يلق إلّا صورته كان حسبه.

وروي (١) عن إبراهيم الخليل عليه‌السلام أنّه لقى ملكا فقال له : «من أنت»؟

فقال : «أنا ملك الموت».

فقال : «أتستطع أن تريني الصورة التي تقبض فيها روح المؤمن».

قال : «نعم ، أعرض عنّي» ، فأعرض عنه ، فإذا هو شابّ ، فذكر من حسنه وثيابه وطيب ريحه ؛ فقال : «يا ملك الموت ـ لو لم يلق المؤمن من البشرى إلّا حسن صورتك لكان حسبه».

قال : «فهل تستطيع أن تريني الصورة التي تقبض فيها روح الفاجر»؟ فقال : «لا تطيق ذلك». فقال : «بلى».

قال : «فأعرض عنّي» ؛ فأعرض عنه ، ثمّ التفت إليه ، فإذا هو رجل أسود قائم الشعر ، منتن الريح ، أسود الثياب ، تخرج من فيه ومناخره النار والدخان ؛ فغشي على إبراهيم عليه‌السلام ، ثمّ أفاق وقد عاد ملك الموت إلى حاله الأول ؛ فقال : «يا ملك الموت ـ لو لم يلق الفاجر عند موته إلّا هذه الصورة لكفته».

__________________

(١) ـ جامع الأخبار : الفصل الخامس والثلاثون والمائة ، ح ٣ ، ٤٨٥. إحياء علوم الدين : كتاب ذكر الموت ، في سكرات الموت وشدته ... ، ٤ / ٦٧٤.

وأخرج أحمد (الزهد ، زهد إبراهيم الخليل صلى الله عليه ، ٧٩) : لما توفى ابراهيم عليه‌السلام لقى الله عزوجل ، فقيل له : يا إبراهيم كيف وجدت الموت؟ قال : يا رب وجدت نفسي تنزع بالبلاء. فقيل : فقد هونا عليك».

٣١٣

فصل [٥]

قال بعض العارفين (١) :

«إنّ قابض روح الأرض هي النفس النباتيّة التي هي كلمة فعّالة وقوّة من قوى ملائكة مؤكلة على أديم الأرض ، شأنها إحالة الأرض ؛ فتسلخ عنها الصور الأرضيّة ليعوّض عنها بأحسن صورة وأطهر كسوة.

وكذلك قابض روح النبات ومتوفّيه ورافعه إلى سماء الحيوانية هي النفس المختصّة بالحيوان ، وهي من أعوان الملائكة الموكّلة بإذن الله لهذا الفعل ، باستخدام القوى الحسّاسة والمحرّكة.

وكذلك قابض روح الحيوان ومتوفّيه ورافعه إلى سماء الدرجة الإنسانيّة هي النفس المختصّة بالإنسان ، وهي كلمة الله المسمّى بالروح القدسى ، الذي شأنه إخراج النفوس من القوّة الهيولانيّة إلى العقل المستفاد بأمر الله ، وإيصال الأرواح إلى جوار الله وعالم الملكوت الاخروي ـ وهم المرادون بالملائكة والرسل (٢).

وأمّا الإنسان بما هو إنسان ، فقابض روحه ملك الموت :

__________________

(١) ـ أورده في عين اليقين (٤٢٥) أيضا حاكيا عن بعض العلماء ، ولم أعثر على قائله.

(٢) ـ اضيف هنا في عين اليقين : في قوله عزوجل : (إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ) و (الْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا).

٣١٤

(قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) [٣٢ / ١١].

وأمّا المرتبة العقليّة : فقابضها هو الله ـ سبحانه ـ :

(اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) [٣٩ / ٤٢](يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) [٣ / ٥٥](يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) [٥٨ / ١١].

ففي هذه التحويلات كانت كلّ مرتبة لا حقة أشرف من سابقتها ، ولم يكن للمنتقل من الحالة السابقة إلى اللاحقة حسرة وندامة على زوال النشأة الأولى ، بل إن كانت ففي أمر آخر. والقابض للروح بعينه هو القابض لأجزاء البدن ، ولهذا اختلفت الروايات في ذلك ـ أيضا ـ :

ففي بعضها (١) : «إنّ الجامع لأجزاء بدن آدم هم الملائكة».

وفي بعضها (٢) : «إن الآخذ لتراب قالبه هم رسل الله ، ليكون لهم الرسالة إلى عباده».

وفي بعضها (٣) : «إنّ ملك الموت أخذ قبضة من التراب».

__________________

(١) ـ في علل الشرائع (باب ١ ، ح ١ ، ١ / ٢) : «... إن الله تعالى بعث جبرئيل عليه‌السلام ، وأمره أن يأتيه من أديم الأرض بأربع طينات ... ثمّ أمره أن يأتيه بأربع مياه ...».

عنه البحار : ١١ / ١٠٢ ، ح ٧.

(٢) ـ لم أعثر عليه.

(٣) ـ علل الشرائع : باب (٣٨٥) نوادر العلل ، ح ٩ ، ٢ / ٥٧٩. عنه البحار : ١١ / ١٠٣ ، ح ٩.

راجع أيضا تفسير الطبري : ١ / ١٦٠ ، تفسير قوله تعالى (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ...»). الدر المنثور : ١ / ١١٥ ـ ١١٦.

٣١٥

وفي بعضها (١) : «إنّ الله ـ سبحانه ـ قبض بيده قبضة من أديم الأرض».

فهذه الروايات محمولة على المراتب المذكورة.

أقول (٢) : اللبيب يتفطّن من هذه البيانات أنّ للإنسان في كلّ نفس موتا ، جديدا وبعثا منه ، وحشرا إلى ما بعده ؛ وأنّ عدد الموت والبعث والحشر كثير لا يحصى ؛ بل هي بعدد الأنفاس ـ كما قيل ـ.

وذلك لما دريت أنّ له انتقالات وتحوّلات ذاتيّة من لدن حدوثه الطبيعيّة إلى آخر نشأته الطبيعيّة ، ثمّ منها إلى آخر نشأته النفسانيّة ، وهلمّ جرّا إلى آخر نشأته العقليّة.

* * *

__________________

(١) ـ حكى في البحار (١١ / ١١٦ ، ح ٤٦) عن تفسير العياشي : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الله تبارك وتعالى قبض قبضة من طين فخلطها بيمينه ـ وكلتا يديه يمين ـ فخلق منها آدم ...». وفي الدر المنثور (١ / ١١٥) : «إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض ...».

(٢) ـ راجع عين اليقين : ٤٢٥.

٣١٦

فصل [٦]

[الموت هو القيامة الصغرى]

قال بعض العلماء (١) :

«الموت هو القيامة الصغرى. ففي الحديث (٢) : «الموت القيامة ، من مات فقد قامت قيامته». وكلّ ما في القيامة الكبرى فله نظير في الصغرى ، إذ القيامة الكبرى عبارة عن موت جميع أفراد العالم الكبير ، وكلّ ما في العالم الكبير له نظير في العالم الصغير ، وكلّ ما يكون هناك يكون هنا.

فإذا انهدّ بالموت بدنك ـ وهو أرضك الخاصّ بك ـ فقد (زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) [٩٩ / ١] ، وإذا رمّت عظامك ـ وهي جبال أرضك ـ وقد (فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) [٦٩ / ١٤] فقد نسفت جبالك (نَسْفاً) [٢٠ / ١٠٥] ، وإذا أظلم قلبك عند النزع ـ وهو شمس عالمك ـ فقد (كُوِّرَتْ) [٨١ / ١] شمسك ،

__________________

(١) ـ ملخص ومقتبس مما أورده الغزالي في الإحياء : كتاب الصبر والشكر ، بيان حقيقة الصبر ومعناه : ٤ / ٩٤ ـ ٩٧.

(٢) ـ قال العراقي (ذيل الإحياء ، الطبعة القديمة : ٤ / ٤٩٥) : «أخرجه ابن أبي الدنيا في الموت بإسناد ضعيف». وقال الزبيدي (إتحاف السادة : ٩ / ١١) : «... وعند ابن لال في مكارم الأخلاق والديلمي من حديث أنس : «إذا مات أحدكم فقد قامت قيامته ...» وروى العسكرى في الأمثال من حديث أنس : «... الموت القيامة ، إذا مات أحدكم فقد قامت قيامته ...» وفيه «داود بن المحبر» كذاب ... وروى الطبراني من طريق زياد بن علاقة ، عن المغيرة بن شعبة ، قال : «يقولون : القيامة القيامة ؛ وإنما قيامة المرء موته».».

٣١٧

وإذا بطلت حواسّك فقد (انْكَدَرَتْ) [٨١ / ٢] نجومك ، وإذا انشقّ دماغك فقد (انْشَقَّتْ) [٨٤ / ١] سماؤك ، وإذا انفجرت من هول الموت عيناك وفاض عرق جبينك فقد (فُجِّرَتْ) [٨٢ / ٣] بحارك ، وإذا تفرّقت قواك وانتشرت جنودك فقد حشرت وحوشك ، فإذا فارق روحك وقواه عن البدن فمدّت أرضك (وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ) [٨٤ / ٤.

فبمجرّد الموت تقوم عليك هذه القيامة ، بل لا يفوتك من القيامة الكبرى شيء ممّا يخصّك ، بل ما يخصّ غيرك ؛ فإنّ بقاء الكواكب في حقّ غيرك ما ذا ينفعك ، وقد انتثرت حواسّك التي بها تنتفع بالكواكب.

والأعمى يستوي عنده الليل والنهار وكسوف الشمس وانجلاؤها ـ لأنّه قد كسفت في حقّه دفعة واحدة ـ وهي حصّته منها ، فالانجلاء بعد ذلك حصّة غيره.

ومن انشقّ رأسه فقد انشقّت سماؤه ، إذ السماء عبارة عمّا يلي جهة الرأس ، فمن لا رأس له فمن أين ينفعه بقاء السماء لغيره؟

وكذلك من تزلزل بدنه فقد حصلت الزلزلة في حقّه ، لأنّه إنّما يتضرّر عند زلزلة جميع الأرض بزلزلة مسكنه ـ لا بزلزلة مسكن غيره ـ وإنّما يخاف من زلزلة مسكنه أن يتزلزل بدنه بسببه ، وإلّا فالهواء أبدا متزلزل وهو لا يخشاه ، إذ ليس يتزلزل به بدنه ـ فافهم ـ.

٣١٨

فصل [٧]

[شدة نزول الموت وسكراته]

الموت داهية من الدواهي العظمى ، وما بعد الموت أعظم وأدهى.

قال الله ـ تعالى ـ : (وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا* هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً) [٣٣ / ١١] ، يعني من شدّة النزع ، فإنّ الرئة تنتفخ من شدّة الروع ، فيرتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة ـ وهي منتهى الحلقوم ، مدخل الطعام والشراب.

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام (١) : «إنّ للموت لغمرات ، هي أفظع من أن يستغرق بصفة ، أو تعتدل على عقول أهل الدنيا».

وقال الصادق عليه‌السلام (٢) : «إنّ بين الدنيا والآخرة ألف عقبة ، أهونها وأيسرها الموت».

وفي الحديث القدسيّ (٣) : «ما تردّدت في شيء أنا فاعله ، كتردّدي في قبض روح عبدي المؤمن ، يكره الموت وأكره مسائته له ، ولا بدّ له منه».

__________________

(١) ـ نهج البلاغة : الخطبة ٢٢١ ، أولها : «يا له مراما ما أبعده ...». البحار : ٧٧ / ٤٣٧ ، ح ٤٩ و ٨٢ / ١٥٨ ، ح ١. ٨٢ / ١٥٨.

(٢) ـ الفقيه : باب غسل الميت ، ١ / ١٣٤ ، ح ٣٥٩.

(٣) ـ مضى في الصفحة : ٢٤٩.

٣١٩

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) : «لسكرة من سكرات الموت أشدّ من ثلاثمائة ضربة بالسيف».

* * *

الوجه في ذلك (٢) أنّ المدرك للألم هو النفس بتوسّط الروح الحيواني ، فمهما أصاب العضو الذي فيه الروح جرح أو حرق سرى الأثر إلى الأجزاء ، فلا يصيب الروح إلّا بعض الأثر ؛ وألم النزع يهجم على نفس الروح ويستغرقه ، حتّى لم يبق جزء من أجزاء الروح المنتشرة في أعماق البدن إلّا وقد حلّ به الألم ، لأنّه ينزع ويجذب من كلّ عرق وعصب وجزء ومفصل ، ومن أصل كلّ شعرة وبشرة ، من القرن إلى القدم. فالكرب يبالغ فيه ويتصاعد على قلبه ويغلب على كلّ موضع منه ، فلا يترك له قوّة استغاثة.

أمّا العقل فيغشيه ويشوّشه ، وأمّا اللسان فيبكمه ، وأمّا الأطراف فيضعفها وينتشر الألم في داخله وخارجه ، وهو يظنّ أنّ بطنه ملئت شوكا ، وكأنّما نفسه تخرج من ثقب إبرة ، وكأنّما السماء منطبقة على الأرض وهو بينهما.

ومثّله بعض الصحابة بغصن كثير الشوك ادخل في جوف رجل (٣) ،

__________________

(١) ـ أورد الغزالي في الإحياء (كتاب ذكر الموت وما بعده ، ٤ / ٦٧٢) : «وعن الحسن أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذكر الموت وغصّته وألمه ، فقال : هو قدر ثلاثمائة ضربة بالسيف». وقال العراقي في تخريجه (المغني ، ذيل الإحياء الطبعة القديمة : ٤ / ٤٦٢) : «أخرجه ابن أبي الدنيا فيه هكذا مرسلا ، ورجاله ثقات».

(٢) ـ مقتبس مما جاء في الإحياء : كتاب ذكر الموت ، في سكرات الموت وشدته ... : ٤ / ٦٧٠.

(٣) ـ اضيف في الإحياء : فأخذت كل شوكة بعرق.

٣٢٠