علم اليقين في أصول الدين - ج ٢

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]

علم اليقين في أصول الدين - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]


المحقق: محسن بيدارفر
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: انتشارات بيدار
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
ISBN: 964-90800-3-1
الصفحات: ٨٧٨

[أمر عثمان]

وأمّا أمر عثمان (١) : فكأنّه علم من القرون الاولى (عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) [٢٠ / ٥٢] ، خذله أهل بدر ، وقتله أهل مصر ؛ والله ما أمرت ولا نهيت ، ولو أنّي أمرت كنت قاتلا ، ولو أنّي نهيت كنت ناصرا ، وكان الأمر لا ينفع فيه العيان ، ولا يشفي فيه الخبر ؛ غير أنّ من نصره لا يستطيع أن يقول هو : «خذله من أنا خير منه» ، ولا يستطيع من خذله أن يقول : «نصره من هو خير منّي».

وأنا جامع أمره : استأثر فأساء الأثرة ، وجزعتم فأسأتم الجزع ، والله يحكم بينكم وبينه ؛ والله ما يلزمني في عثمان تهمة ، ما كنت إلّا رجلا من المسلمين المهاجرين في بيتي.

[بيعة الناس لأمير المؤمنين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم]

فلمّا قتلتموه أتيتموني تبايعوني ، فأبيت عليكم وأبيتم عليّ ، فقبضت يدي فبسطتموها ، وبسطتها فمددتموها ، ثمّ [تداككتم] (٢) عليّ تداكّ الإبل الهيم على حياضها يوم ورودها ، حتّى ظننت أنّكم قاتلي ، وأنّ بعضكم قاتل بعض ، حتّى انقطعت النعل وسقط الرداء ، ووطئ

__________________

(١) ـ ما يقرب منه في نهج البلاغة : الخطبة ٣٠.

(٢) ـ في النسخة : تدكاتم. وما أثبتناه من الكشف والمعادن ، والأظهر أنه الصحيح.

التداك والتداكك : تدافع المتزاحمين الواردين على شيء واحد.

ويقرب منه ما في نهج البلاغة : الخطبة ٥٤.

١٤١

الضعيف ، وبلغ من سرور الناس ببيعتهم إيّاي أن حمل إليها الصغير ، وهدج إليها الكبير ، وتحامل إليها العليل ، وحسرت لها الكعاب (١) ، فقالوا : «بايعنا على ما بويع عليه أبو بكر وعمر ، فإنّا لا نجد غيرك ، ولا نرضى إلّا بك ، فبايعنا لا نفترق و [لا] نختلف (٢)».

فبايعتكم على كتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ودعوت الناس إلى بيعتي ، فمن بايعني طائعا قبلت منه ، ومن أبى تركته.

[طلحة والزبير]

فكان أوّل من بايعني طلحة والزبير. فقالا : «نبايعك على أنّا شركاؤك في الأمر».

فقلت : «لا ، ولكنّكما شركائي في القوّة وعوناي في العجز».

فبايعاني على هذا الأمر ، ولو أبيا لم اكرههما ، كما لم اكره غيرهما.

وكان طلحة يرجو اليمن ، والزبير يرجو العراق ، فلمّا علما أنّي غير مولّيهما ، استأذناني للعمرة ـ يريدان الغدر ـ فأتيا عائشة واستخفّاها ـ مع كلّ شيء في نفسها عليّ.

ـ والنساء (٣) نواقص الإيمان ، نواقص العقول ، نواقص الحظوظ ؛ فأمّا نقصان إيمانهنّ : فقعودهنّ عن الصلاة والصيام في أيّام حيضهنّ ؛

__________________

(١) ـ هدج : مشى مشية الشيخ. الكعاب : الجارية التي نهد ثدييه. يريد أن الناس بلغوا من السرور إلى أن حسر الجاريات عن وجوههن من السعي إليها.

(٢) ـ النسخة : لا نفترق ونختلف. التصحيح من الكشف والمعادن.

(٣) ـ جاء ما يقرب منه في نهج البلاغة : الخطبة ٨٠.

١٤٢

وأمّا نقصان عقولهنّ : فلا شهادة لهنّ إلّا في الدّين ، وشهادة امرأتين برجل ؛ وأمّا نقصان حظوظهنّ : فمواريثهنّ على الأنصاف من مواريث الرجال ـ

وقادها عبد الله بن عامر (١) إلى البصرة ، وضمن لهما الأموال والرجال فبينما هم يقودانها ، إذ هي تقودهما ؛ فاتّخذاها فئة يقاتلان دونها ؛

فأيّ خطيئة أعظم ممّا أتيا : إخراجهما (٢) زوجة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بيتها ، وكشفا عنها حجابا ستره الله عليها ، وصانا حلائلهما في بيوتهما! ولا أنصفا الله ورسوله من أنفسهما.

ثلاث خصال مرجعها على الناس :

قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) [١٠ / ٢٣].

وقال : (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) [٤٨ / ١٠].

وقال : (لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) [٣٥ / ٤٣].

__________________

(١) ـ عبد الله بن عامر بن كريز ، هو الذي افتتح خراسان ، وكان ابن خال عثمان وعامله على البصرة بعد أبي موسى الأشعري ، وهو الذي دعا طلحة والزبير إليها. مات سنة تسع وخمسين.

راجع طبقات ابن سعد : ٥ / ٤٤ ـ ٤٩. المعارف : ٣٢٠. تاريخ الطبري : وقائع سنة ٤١ ، ٥ / ١٧٠ ـ ١٧١. سير أعلام النبلاء : ٣ / ١٨ ـ ٢١.

كشف المحجة : وقادهما عبد الله بن عامر ... وضمن لهما ... فبينا هما يقودانها إذ هي تقودهما ...

معادن الحكمة : وقادها عبيد الله بن عامر ... وضمن لها ... فبيناها يقودانها إذ هي تقودهما ...

(٢) ـ في كشف المحجة : «أخرجا ...» وهذا أكثر ملائمة مع قوله : «كشفا ...».

١٤٣

فقد بغيا عليّ ، ونكثا بيعتي ، ومكرا بي ؛ فمنيت بأطوع الناس في الناس : عائشة بنت أبي بكر ، وبأشجع الناس : الزبير ، وبأخصم الناس : طلحة.

وأعانهم عليّ يعلي بن منبّه (١) بأصوع الدنانير (٢) ـ والله لئن استقام أمري ، لأجعلنّ ماله فيئا للمسلمين ـ.

__________________

(١) ـ قال ابن قتيبة (المعارف : ٢٠٨) : «ثم صدرت (عائشة) عن الحج ، فلما كانت ب «سرف» لقيها الخبر بقتل عثمان وبيعة عليّ ، فانصرفت راجعة إلى مكة ، ولحق بها طلحة والزبير ومروان بن الحكم وعبد الله بن عامر بن كريز ويعلي بن منبّه عامل اليمن.

راجع أيضا مروج الذهب : الباب السابع والسبعون ، ٣ / ٧٧. والباب التاسع والسبعون ٣ / ١٠٢.

وفي كشف المحجة : «يعلي بن منية» وجاء في الطبري (٤ / ٢٤١ ، وقائع سنة ٢٣) «عمال عمر ... وعلى صنعاء يعلي بن منية ...». ومثله فيه (٤ / ٤٢١ ، وقائع سنة ٣٥) ضمن عمال عثمان. راجع أيضا : ٤ / ٤٥٤.

وجاء فيه أيضا (٤ / ٤٥٠ ـ ٤٥١ ، وقائع سنة ٣٦) : «ثم قدم عبد الله بن عامر ، ثم قدم يعلي بن امية ... قالوا : كيف نستقل وليس معنا مال نجهز به الناس. فقال يعلي بن اميّة : معي ستّمائة ألف بعير فاركبوها. وقال ابن عامر : معي كذا وكذا فتجهّزوا به ...». راجع أيضا ٤ / ٥٠٧.

وفي الإصابة (٤ / ٧٤٧ ، الترجمة ٥٤٦٠) : «يعلي بن امية بن أبي عبيدة ... التميمي الحنظلي ... وهو المعروف بيعلى بن منية ـ وهي أمه ، وهي منية بنت غزوان ...

وقيل هي منية بنت الحارث ... وقيل منية بنت جابر ... أسلم يوم الفتح وشهد حنينا والطائف وتبوك ... فأعان الزبير بأربعمائة ألف ... وكان يعلي جوادا معروفا بالكرم ، وشهدا الجمل مع عائشة ، ثم صار من أصحاب علي وقتل معه بصفين». راجع أيضا تهذيب الكمال : ٢٠ / ٤٥٧ ـ ٤٥٨. تهذيب التهذيب (٦ / ٢٥١ ـ ٢٥٢) ونفى فيه كونه مقتولا بصفين. فعلى هذا تسمية الرجل ب «يعلي بن امية» و «ابن منية» منسوبا إلى أبيه وأمه صحيحتان. وتسميته ب «ابن منبه» خطأ.

ـ والله أعلم ـ.

(٢) ـ الأصوع ـ بضم الواو ـ : جمع صاع.

١٤٤

[حرب الجمل]

فأتوا البصرة ـ وأهلها مجتمعون على بيعتي وطاعتي ، وبها شيعتي ـ خزّان بيت مال الله ومال المسلمين ـ فدعوا الناس إلى معصيتي وإلى نقض بيعتي ، فمن أطاعهم أكفروه ، ومن عصاهم قتلوه.

فناجزهم حكيم بن جبلة (١) ، فقتلوه في سبعين رجلا من عبّاد أهل البصرة ومخبتيهم ، يسمّون المثفّنين ـ كأنّ راح أكفّهم ثفنات الإبل ـ وأبى أن يبايعهم يزيد بن الحارث اليشكري (٢) ، فقال : «اتّقيا الله ، إنّ أوّلكم قادنا إلى الجنّة ، فلا يقودنا آخركم إلى النار ، فلا تكلّفونا أن نصدّق المدّعي ونقضي على الغائب ؛ أمّا يميني فشغلها عليّ بن أبي طالب

__________________

(١) ـ حكيم بن جبلة بن الحصين العبدي ، وفي اسد الغابة (١ / ٥٢١) : «حكيم بن جبلة ... وقيل : حكيم ـ بضم الحاء ـ وهو أكثر ، وقيل ابن جبل ... أقام بالبصرة ، فلما قدم إليها الزبير وطلحة مع عائشة وعليها عثمان بن حنيف أميرا لعليّ ـ رضي الله عنه ـ بعث عثمان بن حنيف في سبعمائة من عبد القيس وبكر بن وائل ، فلقى طلحة والزبير بالزابوقة ـ قرب الصبرة ، فقاتلهم قتلا شديدا ، فقتل. وقيل : إن طلحة والزبير لما قدما البصرة استقر الحال بينهم وبين عثمان بن حنيف أن يكفوا عن القتال إلى أن يأتي علي ، ثم إنّ عبد الله بن الزبير بيّت عثمان ـ رضي الله عنه ـ فأخرجه من القصر ، فسمع حكيم ، فخرج في سبعمائة من ربيعة ، فقاتلهم حتى أخرجهم من القصر ، ولم يزل يقاتلهم حتى قطعت رجله ، فأخذها وضرب بها الذي قطعها فقتله ، ولم يزل يقاتل ورجله مقطوعة ...».

وقال ابن أبي الحديد (شرح نهج البلاغة : ٣ / ٢٧) في فتنة عثمان : «... والذين قدموا من البصرة مائة رجل ، رئيسهم حكيم بن جبلة العبدي ...».

راجع أيضا : ٩ / ٣٢٢ منه.

(٢) ـ لم أعثر على ترجمته.

١٤٥

عليه‌السلام ببيعتي إيّاه ، وهذه شمالي فارغة ، فخذاها إن شئتما» فخنق حتّى مات.

«وقام عبد الله بن حكيم التميمي (١) فقال : «يا طلحة ـ من يعرف (٢) هذا الكتاب»؟

قال : «نعم ، هذا كتابي إليك». قال : «هل تدري ما فيه»؟

قال : «اقرأه عليّ» ـ فإذا فيه عيب عثمان ، ودعائه إلى قتله ـ فسيّره من البصرة.

وأخذوا عاملي عثمان بن حنيف الأنصاري غدرا ، فمثلا به كلّ مثلة ونتفا كلّ شعرة في رأسه ووجهه ، وقتلوا شيعتي ـ طائفة صبرا ، وطائفة غدرا ، وطائفة عضّوا بأسيافهم حتّى لقوا الله ـ فو الله لو لم يقتلوا منهم إلّا رجلا واحدا لحلّ لي به دماؤهم ودماء ذلك الجيش ، لرضاهم بقتل من قتل ؛ دع مع أنّهم قد قتلوا أكثر من العدّة التي قد دخلوا بها عليهم ، وقد أدال الله منهم ، فبعدا للقوم الظالمين.

وأمّا طلحة : فرماه مروان بسهم فقتله.

وأمّا الزبير : فذكّرته قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّك تقاتل عليّا ، وأنت ظالم له».

وأمّا عائشة : فإنّها نهاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن مسيرها ، فعضّت يديها نادمة على ما كان منها.

__________________

(١) ـ راجع شرح ابن أبي الحديد : ٩ / ٢١٨. الجمل : ١٦٣.

(٢) ـ كذا. وفي الكشف والمعادن : «هل تعرف هذا الكتاب» ، ولعله الصحيح.

١٤٦

وقد كان طلحة لمّا نزلت ذاقار (١) قام خطيبا فقال : «يا أيّها الناس إنّا أخطأنا في أمر عثمان ، خطيئة ، ما يخرجنا منها إلّا الطلب بدمه ، وعليّ قاتله ، وعليه دمه ؛ وقد نزل دارا مع شكّاك اليمن ، ونصارى ربيعة ، ومنافقي مضر».

فلمّا بلغني قوله ـ وقول كان عن الزبير قبيح ـ بعثت إليهما اناشدهما بحقّ محمّد المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما أتيتماني وأهل مصر محاصروا عثمان ، فقلتما : «اذهب بنا إلى هذا الرجل ، فإنّا لا نستطيع قتله إلّا بك ، لما تعلم أنّه سيّر أبا ذر ، وفتق عمّارا ، وآوى الحكم بن أبي العاص ـ وقد طرده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبو بكر وعمر ـ واستعمل الفاسقين على كتاب الله ـ الوليد بن عقبة (٢) ـ ، وسلّط خالد بن عرفطة العذري (٣) على كتاب الله يمزّق ويخرق (٤)»؟ فقلت : «كلّ هذا قد علمت ؛ ولا أرى قتله يومي هذا ، وأوشك سقاؤه أن يخرج المخض زبدته (٥)».» ، فأقرّا بما قلت.

__________________

(١) ـ ذو قار : قال الياقوت (معجم البلدان : ٤ / ١٠ ، قار) ماء لبكر بن وائل قريب من الكوفة بينها وبين واسط.

(٢) ـ في الكشف والمعادن : الفاسق. وقد سمى الله تعالى في كتابه الوليد بن عقبة فاسقا ، وفيه نزلت قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) [٤٩ / ٦] ، وقوله تعالى : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) [٣٢ / ١٨].

راجع الدر المنثور : ٧ / ٥٥٥ ـ ٥٥٨. و ٦ / ٥٥٣.

(٣) ـ كان على مقدمة جيش ابن سعد لما مضى إلى الحسين عليه‌السلام. راجع إخبار علي عليه‌السلام لذلك في شرح ابن أبي الحديد : ٢ / ٢٨٧. و ١٦ / ٤٧.

ومات بالكوفة سنة ستين وقيل : إحدى وستين. اسد الغابة : ١ / ٥٨٠ ، الترجمة ١٣٧٩.

(٤) ـ كشف المحجة : يمزقه ويخرقه.

(٥) ـ مثل يضرب به لاقتراب الأمر نهايته بعد اضطرابه.

السقاء : وعاء من الجلد يمخض فيه اللبن.

١٤٧

وأمّا قولكما : «أنّكما تطلبان بدم عثمان» فهذان ابناه عمرو وسعيد ، فخلّوا عنهما يطلبان دم أبيهما ؛ متى كانت أسد وتيم أولياء بني اميّة»؟

فانقطعا عند ذلك.

* * *

وقام عمران بن الحصين الخزاعي (١) ـ صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو الذي جاءت فيه الأحاديث ـ وقال :

«يا هذان ـ تخرجان (٢) ببيعتكما من طاعة عليّ ، ولا تحملانا على نقض بيعته فإنّها لله رضا ؛ أما وسعتكما بيوتكما حتّى أتيتما بامّ المؤمنين؟ فالعجب لاختلافها إيّاكما ومسيرها معكما ؛ وكفّا عنّا أنفسكما ، وارجعا من حيث جئتما ، فلسنا عبيد من غلب ، ولا أوّل من سبق».

فهمّا به ، ثمّ كفّا عنه.

[أمر عائشة]

وكانت عائشة قد شكّت في مسيرها ، وتعاظمها القتال ، فدعت كاتبها ـ عبيد بن كعب النميري ـ فقالت : اكتب : «من عائشة بنت أبي بكر ، إلى علي بن أبي طالب».

__________________

(١) ـ عمران بن حصين بن عبيد أبو نجيد الخزاعي الكعبي ، أسلم عام خيبر وغزا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، توفى بالبصرة سنة اثنتين وخمسين ولي قضاء البصرة.

اسد الغابة : ٣ / ٧٧٨ ، الترجمة ٤٠٤٢. راجع طبقات ابن سعد : ٤ / ٢٨٧.

المعارف : ٣٠٩. سير أعلام النبلاء : ٢ / ٥٠٨ ـ ٥١٢.

(٢) ـ كذا. وفي الكشف والمعادن : لا تخرجانا.

١٤٨

فقال : «هذا أمر لا يجري به القلم».

قالت : «ولم»؟

قال : «لأنّ عليّ بن أبي طالب في الإسلام أوّل ، وله بذلك البدء في الكتاب».

فقالت : اكتب «إلى علي بن أبي طالب ، من عائشة بنت أبي بكر : أمّا بعد فإنّي لست أجهل قرابتك من رسول الله ، ولا قدمك في الإسلام ، ولا عناك عن (١) رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ وإنّما خرجت مصلحة بين بنيّ ، لا اريد حربك إن كففت عن هذين الرجلين» ـ في كلام لها كثير ـ.

* * *

فلم اجبها بحرف ، وأخّرت جوابها لقتالها ، فلمّا قضى الله لي الحسنى ، سرت إلى الكوفة ، واستخلفت عبد الله بن عبّاس على البصرة.

[معاوية والشام]

فقدمت الكوفة وقد اتّسقت لي الوجوه كلّها إلّا الشام ؛ فأحببت أن اتّخذ الحجّة وأقضي العذر ، وأخذت بقول الله : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) [٨ / ٥٨].

__________________

(١) ـ كذا. وفي كشف المحجة والبحار : «ولا عناك من». وفي معادن الحكمة : «ولا عناءك عن». وجاء تعليقا عليه : «كتب المؤلف (علم الهدى ابن الفيض ـ قدهما ـ) بخطه في الهامش : العناء : التعب والنصب. يقال : عنى ـ بالكسر ـ عناء : إذا تعب ونصب ، وأعنيته : إذا أوقعته في التعب. وكذلك : عنيته تعنيه. وربما يوجد في طائفة من النسخ بإعجام الغين ، من الغناء ـ بالفتح والمد ـ يعني النفع. يقال : ما يغني عنك هذا ، أي ما ينفعك».

١٤٩

* * *

فبعثت جرير بن عبد الله (١) إلى معاوية معذّرا إليه ، متّخذا للحجّة عليه ؛ فردّ كتابي ، وجحد حقّي ، ودفع بيعتي ؛ فبعث إليّ أن «ابعث إليّ قتلة عثمان».

فبعثت إليه : «ما أنت وقتلة عثمان؟ أولاده أولى به ، فادخل أنت وهم في طاعتي ، ثمّ خاصم القوم لأحملكم وإيّاهم على كتاب الله ، وإلّا فهذه خدعة الصبيّ عن رضاع الملء».

فلمّا يئس من هذا الأمر بعث أن : «اجعل الشام لي في حياتك ، فإن حدث بك حادثة من الموت لم يكن لأحد عليّ طاعة».

وإنّما أراد بذلك أن يخلع طاعتي من عنقه ، فأبيت عليه ؛ فبعث إليّ : «إنّ أهل الحجاز كانوا الحكّام على أهل الشام ، فلمّا قتلوا عثمان صار أهل الشام الحكّام على أهل الحجاز».

فبعثت إليه : «إن كنت صادقا فسمّ لي رجلا من قريش الشام تحلّ له الخلافة ويقبل في الشورى ، فإن لم تجده سمّيت لك من قريش الحجاز من تحلّ له الخلافة ويقبل في الشورى».

ونظرت إلى أصل الشام ، فإذا هم بقيّة الأحزاب ، فراش نار وذباب طمع ، تجمّع من كلّ أوب ممّن ينبغي له أن يؤدّب ويحمل على

__________________

(١) ـ جرير بن عبد الله البجلي ، قال نصر بن مزاحم (وقعة صفين : ١٥) : «لما بويع علي وكتب إلى العمال في الآفاق ، كتب إلى جرير بن عبد الله البجلي ، وكان جرير عاملا لعثمان على ثغر همدان ...».

راجع تفصيل ما كان من جرير ومبايعته لأمير المؤمنين عليه‌السلام ، ثم رسالته إلى معاوية في وقعة صفين ١٥ ـ ٣٣ و ٤٦ ـ ٦١.

١٥٠

السنّة ، ليسوا بالمهاجرين ولا الأنصار ولا التابعين بإحسان.

فدعوتهم إلى الطاعة والجماعة ، فأبوا إلّا فراقي وشقاقي. ثمّ نهضوا في وجه المسلمين ينضحونهم بالنبل ، ويشجرونهم بالرماح ؛ فعند ذلك نهضت إليهم.

فلمّا عضّتهم السلاح ووجدوا ألم الجراح رفعوا المصاحف ، فدعوكم إلى ما فيها ، فأنبأتكم أنّهم ليسوا بأهل دين ولا قرآن ، وإنّما رفعوها مكيدة وخديعة ، فامضوا لقتالهم ؛ فقلتم : «اقبل منهم ، واكفف عنهم ، فإنّهم إن أجابوا إلى ما في القرآن جامعونا على ما نحن عليه من الحقّ».

فقبلت منهم ، فحضضت (١) عنهم ؛ فكان الصلح بينكم وبينهم على رجلين حكمين ، ليحييا ما أحيا القرآن ، ويميتا ما أمات القرآن.

فاختلف رأيهما ، واختلف حكمهما ، فنبذا ما في الكتاب ، وخالفا ما في القرآن ؛ وكانا أهله.

[الخوارج]

ثمّ إنّ طائفة اعتزلت ، فتركناهم ما تركونا ، حتّى إذا عاثوا (٢) في الأرض يفسدون ويقتلون.

ـ وكان فيمن قتلوه أهل سيرة (٣) من بني الأسد ، وقتلوا خبّاب بن

__________________

(١) ـ كشف المحجة : وكففت.

(٢) ـ عاثوا : أفسدوا.

(٣) ـ كذا. وفي الكشف والمعادن : أهل ميرة.

١٥١

الأرتّ وابنه وأمّ ولده (١) ، والحارث بن مرّة العبدي (٢) ـ

فبعثت إليهم داعيا ، فقلت : «ادفعوا إلينا قتلة إخواننا».

فقالوا : «كلّنا قتلتهم». ثمّ شدّت علينا خيلهم ورجالهم ، فصرعهم الله مصارع الظالمين.

__________________

(١) ـ كذا في النسخة ومعادن الحكمة وكشف المحجة.

ويظهر أنّ الصحيح : «عبد الله بن خباب بن الأرتّ» فإنه المقتول بيد الخوارج. فقد حكى الطبري (٥ / ٨١ ، وقائع سنة ٣٧) بإسناده عن رجل من عبد القيس كان من الخوارج ثم فارقهم : «دخلوا [الخوارج] قرية ، فخرج عبد الله بن خبّاب صاحب رسول الله ذعرا يجرّ رداءه ... فقدّموه على ضفّة النهر فضربوا عنقه ، فسال دمه كأنّه شراك نعل ، وبقروا بطن أم ولده عمّا في بطنها».

وأمّا أبوه خباب بن الأرتّ فهو ابن جندلة التميمي ، من السابقين إلى الإسلام ، شهد بدرا واحدا وسائر المشاهد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمذكور في ترجمته أنّه مات بالكوفة مريضا ، ولم يذكر شيء عن قتله بيد الخوارج. وجاء في اسد الغابة : «قال أبو عمر : مات خباب سنة سبع وثلاثين ، بعد ما شهد صفّين مع عليّ ـ رضي الله عنه ـ والنهروان ... وقيل : مات سنة تسع عشرة وصلى عليه عمر» ـ ثم قال : ـ «قلت : الصحيح أنّه مات سنة سبع وثلاثين ، وأنه لم يشهد صفين ، فإنه كان مرضه قد طال به فمنعه من شهودها».

راجع طبقات ابن سعد : ٣ / ١٦٤ ـ ١٦٧. سير أعلام النبلاء : ٢ / ٣٢٣ ـ ٣٢٥.

وقعة صفين : ٣٢٥ و ٥٣٠. اسد الغابة : ١ / ٥٩١ ـ ٥٩٤.

(٢) ـ كان من أمراء الجند في صفين ، قال نصر بن مزاحم : «واستعمل عليّ على الخيل عمّار بن ياسر ... وجعل على رجّالة الميسرة الحارث بن مرة العبدي».

وحكى الطبري (٥ / ٨٢ ، وقائع سنة ٣٧) عن أبي مخنف : «... فبعث ذلك عليّا ومن معه من المسلمين من قتلهم عبد الله بن خبّاب واعتراضهم الناس ، فبعث إليهم الحارث بن مرة العبدي ليأتيهم فينظر فيما بلغه عنهم ، ويكتب به إليه على وجهه ولا يكتمه ؛ فخرج حتى انتهى إلى النهر ليسائلهم ، فخرج إليه القوم فقتلوه».

١٥٢

فلمّا كان ذلك من شأنهم أمرتكم أن تمضوا من فوركم ذلك إلى عدوّكم. فقلتم : «كلّت سيوفنا ، ونصلت أسنّة رماحنا ، وعاد أكثرها قصيدا (١) فأذن لنا فلنرجع ، ولنستعدّ بأحسن عدّتنا ، وإذا نحن رجعنا زدنا في مقاتلتنا عدّة من قتل منّا».

حتّى إذا ظللتم على النخيلة (٢) أمرتكم أن تلزموا معسكركم ، وأن تضمّوا إليه قواصيكم (٣) ، وأن توطّنوا على الجهاد نفوسكم ، ولا تكثروا زيارة أبنائكم ولا نسائكم ، فإنّ أصحاب الحرب مصابروها وأهل التشمير فيها ، والذين لا يتوجّدون من سهر ليلهم ، ولا ظمأ نهارهم ، ولا فقدان أولادهم ولا نسائهم.

وأقامت طائفة منهم معدّة ، وطائفة دخلت المصر عاصية ، فلا من دخل المصر عاد إليّ ، ولا من أقام منكم ثبت معي ولا صبر. ولقد رأيتني وما في عسكري منكم خمسون رجلا ؛ فلمّا رأيت ما أنتم عليه دخلت عليكم ، فما قدّر لكم أن تخرجوا معي إلى يومكم هذا.

[تحريض الناس إلى القتال]

لله أبوكم ـ ألا ترون إلى مصر قد افتتحت ، وإلى أطرافكم قد انتقصت ، وإلى مسالحكم (٤) ترقى ، وإلى بلادكم تغزى ، وأنتم ذو عدد جمّ ، وشوكة شديدة ، وأولو بأس قد كان مخوفا؟

__________________

(١) ـ النصل : حديدة الرمح والسهم. نصلت أسنة الرماح : خرجت. قصيدا : متكسرا.

(٢) ـ كان معسكره عليه‌السلام خارج الكوفة.

(٣) ـ الكشف والمعادن : نواصيكم.

(٤) ـ المسالح ـ جمع المسلحة ـ : موضع السلاح.

١٥٣

لله أنتم ـ أين تذهبون وأنّى تؤفكون؟ ألا إنّ القوم جدّوا وباسوا (١) وتناصروا وتناصحوا ، وإنّكم أبيتم وتخاذلتم ونيتم وتغاششتم ؛ ما أنتم إن ائتمنتم على ذلك سعداء ؛ فانتبهوا ـ رحمكم الله ـ نائمكم ، وتحرّوا لحرب عدوّكم ، فقد أبدت الدعوة (٢) عن الصريح ، وأضاء الصبح لذي عينين ، إنّما تقاتلون الطلقاء وأبناء الطلقاء وأهل الجفاء ، ومن أسلم كرها وكان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنفا ، وللإسلام كلّه حربا (٣) ؛ أعداء السنّة والقرآن ، وأهل البدع والأحداث ، ومن كانت نكايته تتّقي ، وكان على الإسلام وأهله مخوفا ، وأكلة الرشاء ، وعبيد الدنيا.

لقد انهي إلى أنّ ابن النابغة لم يبايع معاوية حتّى شرط له أن يؤتيه آتية هي أعظم مما في يديه من سلطانه ، فصفرت يد هذا البائع دينه بدنياه ، وخزيت (٤) أمانة هذا المشتري نصرة (٥) فاسق غادر بأموال المسلمين ؛ وأيّ سهم لهذا المشتري؟! شرب الخمر ، وضرب حدّا في الإسلام ؛ وكلّكم يعرفه بالفساد في الدين؟ وأيّ سهم لمن لم يدخل (٦) في الإسلام وأهله حتّى رضخ له رضيخة (٧)؟

__________________

(١) ـ كشف المحجة : تآسوا. معادن الحكمة : تأسوا.

(٢) ـ كذا. وفي الكشف والمعادن : أبدت الرغوة عن الصريح.

ولعله الصحيح. فإن «أبدى الصريح عن الرغوة» مثل يضرب لظهور الأمر بعد استتاره. الرغوة : الزبد. الصريح : اللبن.

(٣) ـ في النسخة : «وكان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انف الاسلام كله حرب أعداء السنة ...».

والصحيح ما أثبتناه كما في معادن الحكمة أيضا.

(٤) ـ النسخة مهملة ، أثبتناه على ما كان في الكشف والمعادن.

(٥) ـ الكشف والمعادن : بنصرة.

(٦) ـ كشف المحجة : وإن منهم من لم يدخل.

(٧) ـ الرضيخة : العطاء القليل.

١٥٤

فهؤلاء قادة القوم ؛ ومن تركت لكم ذكر مساويه أكثر وأنور (١) ، وأنتم تعرفونهم بأعيانهم وأسمائهم.

كانوا على الإسلام ضدّا ، ولنبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حربا ، وللشيطان حزبا ، لم يتقدّم إيمانهم ، ولم يحدث نفاقهم ، وهؤلاء الذين لو ولّوا عليكم لأظهروا فيكم الفخر والتكبّر والتسلّط بالجبريّة والفساد في الأرض ، وأنتم ـ على ما كان منكم من تواكل وتخاذل ـ خير منهم وأهدى سبيلا ؛ منكم الفقهاء ، والعلماء ، والفهماء ، وحملة الكتاب ، والمتهجّدون بالأسحار. ألا تسخطون وتنقمون أن ينازعكم الولاية السفهاء البطّاء عن الإسلام ، الجفاة فيه؟!

اسمعوا قولي ـ يهدكم الله ـ إذا قلت وأطيعوا أمري إذا أمرت ، فو الله لئن أطعتموني لا تغووا ، وإن عصيتموني لا ترشدوا ؛ قال الله ـ تعالى ـ : (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى) [١٠ / ٣٥] ، فما لكم كيف تحكمون. وقال الله ـ تعالى ـ لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) [١٣ / ٧]. فالهادي بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هاد لامّته على ما كان من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ فمن عسى أن يكون الهادي إلّا الذي دعاكم إلى الحقّ وقادكم إلى الهدى.

خذوا للحرب أهبتها ، وأعدّوا له عدّتها ، فقد شبّت واوقدت نارها ، وتجرّد لكم الفاسقون لكيما يطفئوا نور الله بأفواههم ويغرّوا (٢) عباد الله ، ألا إنّه ليس أولياء الشيطان ـ من أهل الطمع والجفاء ـ أولى

__________________

(١) ـ كشف المحجة : ابور.

(٢) ـ كشف المحجة : ويعزوا ـ نسخة : يعرّوا ـ. معادن الحكمة : يغزوا.

١٥٥

بالحقّ من أهل البرّ والإخبات في طاعة ربّهم ومناصحة إمامهم ؛ إنّي والله لو لقيتهم وحدي ـ وهم وأهل الأرض ـ ما استوحشت منهم ولا باليت ، ولكن أسف يريبني وجزع يعتريني من أن يلي هذه الامّة فجّارها وسفهاؤها ؛ فيتّخذون مال الله دولا ، وكتاب الله دغلا ، والفاسقين حزبا والصالحين حربا ؛ وأيم الله لو لا ذلك ما أكثرت تأنيبكم وتحريصكم ولتركتكم إذا أبيتم حتّى ألقاهم متى حمّ لي لقاهم ؛ فو الله إنّي لعلى الحقّ ، وإنّي للشهادة لمحبّ ، وإنّي إلى لقاء الله ربّي لمشتاق ، ولحسن ثوابه منتظر.

إنّي نافرتكم فانفروا خفافا وثقالا ، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ولا تثاقلوا في الأرض فتعمّوا بالذلّ ، وتقرّوا بالخسف ، ويكون نصيبكم الأخسر ؛ إنّ أخا الحرب اليقظان الأرقّ ـ إن نام لم تنم عينه ـ ومن ضعف اوذي ، ومن كره الجهاد في سبيل الله كان المغبون المهين.

إنّي لكم اليوم على ما كنت عليه أمس ، ولستم لي على ما كنتم عليه ، من تكونوا ناصريه أخذ بالسهم الأخيب (١). والله ـ لو نصرتم الله لنصركم ، وثبّت أقدامكم ، إنّه حقّ على الله أن ينصر من نصره ، ويخذل من خذله ؛ أترون الغلبة لمن صبر بغير نصر ، قد يكون الصبر جبنا ، ويكون حميّة ، وإنّما الصبر بالنصر ، والورود بالصدر ، والبرق بالمطر.

اللهمّ أجمعنا وإيّاهم على الهدى ؛ وزهّدنا وإيّاهم في الدنيا ، واجعل الآخرة خيرا لنا من الاولى».

__________________

(١) ـ السهم الأخيب : الذي لا نصيب له من القداح.

١٥٦

فصل [١١]

قال في نهج البلاغة (١) : ومن خطبة له عليه‌السلام المعروفة بالشقشقيّة ـ ويعرف بالمقمّصة ـ :

«أما والله ـ لقد تقمّصها فلان ، وإنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرّحا ، ينحدر عنّي السيل ، ولا يرقى إليّ الطير ؛ فسدلت دونها ثوبا ، وطويت عنها كشحا (٢) ، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذّاء ، أو أصبر على طخية عمياء ، يهرم فيها الكبير ويشيب فيها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتّى يلقى ربّه. فرأيت أنّ الصبر على هاتا أحجى ؛ فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجا ؛ أرى تراثي نهبا.

حتّى مضى الأوّل لسبيله ، فأدلى بها إلى فلان بعده ـ

ـ ثمّ تمثّل عليه‌السلام بقول الأعشى (٣) ـ :

__________________

(١) ـ نهج البلاغة : الخطبة الثالثة. وإنما سميت بالشقشقية لقوله عليه‌السلام في آخرها : «تلك شقشقة هدرت ثم قرّت». وسميت بالمقمصة لقوله عليه‌السلام في أولها : «لقد تقمّصها فلان».

وجاء ما يقرب منه في معاني الأخبار : ٣٦٠ ـ ٣٦٤ ، باب معاني خطبة لأمير المؤمنين عليه‌السلام ، ح ١. علل الشرائع : ١٥٠ ـ ١٥١ ، الباب ١٢٢ ، ح ١٢. أمالي الطوسي : المجلس الثالث عشر ، ح ٥٤ ، ٣٧٢ ـ ٣٧٤. الإرشاد للمفيد : ١ / ٢٨٧ ـ ٢٩٠.

البحار : ٢٩ / ٤٩٧ ـ ٥٠٠.

(٢) ـ سدل الثوب : أرخاه. وقوله عليه‌السلام : «وطويت عنها كشحا» مثل يقال لمن أعرض عن الشيء وقاطعه. والكشح : ما بين الخاصرة والجنب.

(٣) ـ قال ابن أبي الحديد (شرح نهج البلاغة : ١ / ١٦٦) : البيت الذي تمثّل به عليه‌السلام فإنّه للأعشى الكبير ، أعشى قيس. وهو أبو بصير ميمون بن قيس بن جندل ؛ من القصيدة التي قالها في منافرة علقمة بن علاثة وعامر بن الطفيل ، وأولها :

علقم ما أنت إلى عامر

الناقض الأوتار والواتر

١٥٧

شتّان ما يومي على كورها (١)

ويوم حيّان أخي جابر (٢)

فيا عجبا! بينا هو يستقيلها في حياته (٣) ، إذ عقدها لآخر بعد وفاته ؛ لشدّ ما تشطّرا ضرعيها (٤) ، فصيّرها في حوزة خشناء ، يغلظ كلمها (٥) ويخشن مسّها ، ويكثر العثار [فيها] (٦) والاعتذار منها ؛ فصاحبها كراكب الصعبة ـ إن أشنق لها خرم ، وإن أسلس لها تقحّم (٧) ـ فمني الناس ـ لعمر الله ـ بخبط وشماس (٨) ، وتلوّن واعتراض.

فصبرت ـ على طول المدّة ، وشدّة المحنة ـ حتّى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أنّي أحدهم.

ـ فيا لله وللشورى! ـ

متى اعترض الريب فيّ مع الأوّل منهم حتّى صرت اقرن إلى هذه النظائر؟!

لكنّني أسففت إذ أسفّوا (٩) ، وطرت إذا طاروا ؛ فصغى رجل منهم

__________________

(١) ـ الكور : الرحل. والضمير راجع إلى الناقة المذكورة في الأبيات السابقة.

(٢) ـ «حيّان» اسم رجل ذا نعمة ورفاهيّة ينادمه أعشى. و «جابر» : أخو حيان. ومعنى البيت أنّ فرقا بعيدا بين يومه في سفره ـ وهو على كور ناقته ـ وبين يوم حيّان في رفاهيّته.

(٣) ـ إشارة إلى ما هو معروف من قول أبي بكر : «أقيلوني» مضى في : ٨١٨.

(٤) ـ جملة معترضة بين المعطوفين. الضرع للحيوانات كالثدي للمرأة.

(٥) ـ الكلم : الجرح. أي خشونتها يجرح جرحا غليظا. وفي بعض نسخ النهج : كلامها.

(٦) ـ الإضافة من المصدر ، ساقط من النسخة.

(٧) ـ الصعبة من الإبل ما ليس بذلول. أشنق البعير وشنقه : كفّه بزمامه ؛ وأصله من الشناق ، وهو خيط يشدّ به فم القربة. أسلس : أرخاه. تقحّم : رمى بنفسه في القحمة ، وهي الهلكة.

(٨) ـ مني فلان : ابتلى واصيب. الخبط : السير على غير جادة. الشّماس : النفار.

(٩) ـ أسفّ الطائر : دنا من الأرض.

١٥٨

لضغنه ، ومال الآخر لصهره (١) ، مع هن وهن (٢). إلى أن قام ثالث القوم نافجا حضنيه بين نثيله ومعتلفه (٣) ، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله ـ تعالى ـ خضم (٤) الإبل نبتة الربيع ، إلى أن انتكث عليه فتله ، وأجهز عليه عمله ، وكبت به بطنته (٥) ؛ فما راعني إلا والناس إليّ كعرف الضبع (٦) ينثالون عليّ (٧) ـ حتّى لقد وطئ الحسنان ، وشقّ عطفاي (٨) ؛ مجتمعين حولي كربيضة الغنم.

فلمّا نهضت بالأمر نكثت طائفة ومرقت اخرى ، وفسق آخرون ؛ كأنّهم لم يسمعوا الله ـ سبحانه ـ يقول : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها

__________________

(١) ـ الأول إشارة إلى طلحة أو سعد ، والآخر إلى عبد الرحمن بن عوف. وقد كان في الشورى ستة رجال على ما أقرّه عمر ؛ هم أمير المؤمنين عليه‌السلام وعثمان وسعد بن أبي وقّاص وطلحة وزبير وعبد الرحمن. وكان سعد ساخطا على أمير المؤمنين عليه‌السلام من قبل أخواله ، لأن أمّه حمنة بنت أبي سفيان ، وله عليه‌السلام في قتل كفار بني اميّة ما هو معروف ؛ كما أنّ من قال : «المراد طلحة» ، قال : إنه كان ضغينا لأمير المؤمنين عليه‌السلام لمكان أبي بكر ، فإنّه تيميّ وهو ابن عمّ أبي بكر ؛ ويشهد لذلك ما ظهر من أمر وقعة جمل. وكان عبد الرحمن صهرا لعثمان ، فإنّ زوجته كانت اختا لعثمان من أمّه.

(٢) ـ يشير إلى أغراض اخرى كانت للذين أعرضوا عنه عليه‌السلام ، لا يذكرها.

(٣) ـ نافجا حضنيه : رافعا لهما. والحضن : ما بين الإبط والكشح. يقال للمتكبّر : جاء نافجا حضنيه. وكذا يقال لمن امتلأ بطنه طعاما. النثيل : الروث. المعتلف : موضع العلف. يريد أنّ همّه الأكل والرجيع.

(٤) ـ الخضم : الأكل بكلّ الفم. والغرض شدة الأكل.

(٥) ـ البطنة : الإسراف في الأكل والشبع.

(٦) ـ عرف الضبع ما كثر على عنقها من الشعر ، وهو ثخين. يضرب به المثل في الكثرة.

(٧) ـ المصدر : ينثالون عليّ من كلّ جانب.

(٨) ـ الحسنان : الحسن والحسين عليهما‌السلام. وقيل إبهاما الرجل. العطفان : الجانبان من المنكب إلى الورك. قاله ابن أبي الحديد (١ / ٢٠٠) ، ويأتي عن الشارح البحراني : «أي جانب قميصي وردائي».

١٥٩

لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [٢٨ / ٨٣]. بلى ـ والله ـ لقد سمعوها ووعوها ، ولكنّهم حليت الدنيا في أعينهم ، وراقهم زبرجها. أما ـ والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة ـ لو لا حضور الحاضر وقيام الحجّة بوجود الناصر ، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم (١) : لألقيت حبلها على غاربها ، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها ، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز».

ـ قالوا : ـ وقام إليه رجل من أهل السواد عند بلوغه عليه‌السلام إلى هذا الموضع من خطبته ، فناوله كتابا ، فأقبل ينظر فيه ، فلمّا فرغ من قراءته ، قال ابن عبّاس : «يا أمير المؤمنين ـ لو اطّردت مقالتك من حيث أفضيت»؟

فقال : «هيهات ـ يا ابن عبّاس ـ تلك شقشقة هدرت ثمّ قرّت (٢)».

قال ابن عبّاس : «فو الله ـ ما أسفت على كلام قطّ كأسفي على ذلك الكلام ، ألّا يكون أمير المؤمنين بلغ منه حيث أراد».

* * *

قوله عليه‌السلام في هذه الخطبة : «كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم ، وإن أسلس لها تقحّم» يريد أنّه إذا شدّد عليها في جذب الزمام ـ وهي تنازعه رأسها ـ خرم أنفها ، وإن أرخى لها شيئا ـ مع صعوبتها ـ تقحّمت به ، فلم يملكها (٣).

__________________

(١) ـ الكظة : ما يعتري الآكل من امتلاء البطن بالطعام. السغب : شدّة الجوع.

(٢) ـ أفضى : خرج إلى الفضاء. الشقشقة : شيء يخرجه البعير من فيه إذا هاج.

(٣) ـ التوضيح من كلام الرضي ـ قدس‌سره ـ بعد نقل الخطبة.

١٦٠