الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ بيروت
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٥٢
بِسْمِ
اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيم نحمدك اللّهمّ يا من أضاء على
مطالع العقول والألباب ، وأنار عليها بسواطع السنّة والكتاب ، فأحكم الفروع بأصولها في كل باب ، ونصلّي على أفضل من أُوتي الحكمة وفصل الخطاب ، وعلى آله الطاهرين الأطياب ، سيّما المخصوص بالأخوة سيّد أولي الألباب . ربّنا آمنا بما أنزلت واتّبعنا
الرسول وآل الرسول ، فاغفر لنا ذنوبنا ، وقنا سوء الحساب ، واللعنة على أعدائهم من اليوم إلى يوم الحساب . وبعد : فالعلم على تشعّب
شؤونه ، وتفنّن غصونه ، مفتقر الى علم الأصول افتقار الرعية الى السلطان ، ونافذ حكمه عليها بالوجدان ، ولا سيّما العلوم الدينية ، وخصوصاً الأحكام الشرعية ، فلولا الأصول لم تقع في علم الفقه على محصول . فيه استقرّت قواعد الدين ، وبه
صار الفقه كشجرة طيّبة تؤتي أُكلها كل حين ، فلذا بادر علماء الأمصار ، وفضلاء الأعصار ـ في كل دور من الأدوار ـ إلى تمهيد قواعده ، وتقييد شوارده ، وتبيين ضوابطه ، وتوضيح روابطه ، وتهذيب أُصوله ، وإحكام قوانينه ، وترتيب فصوله . لكنّه لما فيه من محاسن النكت
والفِقر ، ولطائف معان تدق دونها الفكر ، جلَّ عن أن يكون شرعة لكل وارد ، أو أن يطلع على حقائقه إلّا واحد
بعد واحد ، فنهض به من أُولي البصائر كابر بعد كابر ، فللّه دَرّهم من عصابة تلقّوا وأذعنوا ، وبرعوا فأتقنوا ، وأجادوا فجادوا ، وصنفوا وأفادوا ، أثابهم الله برضوانه وبوّأهم بحبوحات جنانه .
حتى انتهى الأمر الى أوحد علماء العصر ، قطب فلك الفقاهة والاجتهاد ، ومركز دائرة البحث والانتقاد ، الطود الشامخ ، والعلم الراسخ ، محيي الشريعة وحامي الشيعة ، النحرير الأوّاه ، والمجاهد في سبيل الله ، خاتم الفقهاء والمجتهدين ، وحجّة الإِسلام والمسلمين ، الوفي الصفي ، مولانا الآخوند ( ملّا محمد كاظم الهروي الطوسي النجفي ) مد الله أطناب ظلاله على رؤوس الأنام ، وعمر بوجوده دوارس شرع الإِسلام ، فقد فاز ـ دام ظلّه ـ منه بالقدح المعلى وجلّ عن قول أين وأنّىٰ ، وجرى بفكر صائب تقف دونه الأفكار ، ونظر ثاقب يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار ، فلذا أذعن بفضله الفحول ، وتلقوه بأنعم القبول . وأظهر صحفاً هي المنتهى في التبيان ، ذوات نكت لم يطمثهنّ قبله إنس ولا جان ، ويغنيك العيان عن البيان ، والوجدان عن البرهان .
فما قدمته لك إحدى مقالاته الشافية ، ورسائله الكافية ، فقد أخذت بجزأيها على شطري الأصول الأصلية ، من مباحث الألفاظ والأدلة العقلية ، وأغنت بالاشارة عن المطولات ، فهي النهاية والمحصول ، فحريُّ بأن يسمى بـ ( كفاية الأصول ) ، فأين من يعرف قدرها ، ولا يرخص مهرها ، وعلى الله قصد السبيل ، وهو حسبي ونعم الوكيل .
قال أدام الله ظلّه [ بعد التسمية والتحميد والتصلية ] (١) :
____________________________
(١) نقلنا هذه المقدمة من « ب » .
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد
لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين . وبعد فقد رتّبته على مقدّمة ،
ومقاصد وخاتمة .
أمّا المقدمة ففي
بيان أمور : الأول إنّ موضوع كل علم ، وهو الذي
يبحث فيه عن عوارضه الذاتية ـ أي بلا واسطة في العروض ـ هو نفس موضوعات مسائله عيناً ، وما يتّحد معها خارجاً ، وإن كان يغايرها مفهوماً ، تغاير الكلّي ومصاديقه ، والطبيعي وأفراده ، والمسائل عبارة عن جملة من قضايا متشتّتة ، جمعها اشتراكها في الدخل في الغرض الذي لأجله دُوِّن هذا العلم ، فلذا قد يتداخل بعض العلوم في بعض المسائل ، مما كان له دخل في مهمين ، لأجل كل منهما دُوِّن علم على حدة ، فيصير من مسائل العلمين . لا يقال : على هذا يمكن تداخل
علمين في تمام مسائلهما ، فيما كان هناك مهمان متلازمان في الترتّب على جملة من القضايا ، لا يكاد انفكاكهما . فإنّه يقال : مضافاً إلى بُعد
ذلك ، بل امتناعه عادة ، لا يكاد يصحّ لذلك تدوين علمين وتسميتهما باسمين ، بل تدوين علم واحد ، يبحث فيه تارة لكلا المهمّين ، واخرى لأحدهما ، وهذا بخلاف التداخل في بعض المسائل ، فان حسن تدوين علمين ـ كانا مشتركين في مسألة ، أو أزيد ـ في جملة مسائلهما المختلفة ، لأجل مهمين ، مما لا يخفى .
وقد انقدح بما ذكرنا ، أن تمايزَ العلوم إنما هو باختلاف الأغراض الداعية الى التدوين ، لا الموضوعات ولا المحمولات ، وإلّا كان كل باب ، بل كل مسألة من كل علم ، علماً على حدة ، كما هو واضح لمن كان له أدنى تأمّل ، فلا يكون الاختلاف بحسب الموضوع أو المحمول موجباً للتعدد ، كما لا يكون وحدتهما سبباً لأن يكون من الواحد .
ثم إنّه ربّما لا يكون لموضوع العلم ـ وهو الكلّي المتّحد مع موضوعات المسائل ـ عنوان خاص واسم مخصوص ، فيصح أن يعبّر عنه بكل ما دلّ عليه ، بداهة عدم دخل ذلك في موضوعيته أصلاً .
وقد انقدح بذلك أن موضوع علم الأصول ، هو الكلّي المنطبق على موضوعات مسائله المتشتّتة ، لا خصوص الأدلّة الأربعة بما هي أدلّة (١) ، بل ولا بما هي هي (٢) ، ضرورة أن البحث في غير واحد من مسائله المهمّة ليس من عوارضها ، وهو واضح لو كان المراد بالسنّة منها هو نفس قول المعصوم أو فعله أو تقريره ، كما هو المصطلح فيها ، لوضوح عدم البحث في كثير من مباحثها المهمّة ، كعمدة مباحث التعادل والترجيح ، بل ومسألة حجيّة خبر الواحد ، لا عنها ولا عن سائر الأدلّة ، ورجوع البحث فيهما ـ في الحقيقة ـ إلى البحث عن ثبوت السنّة بخبر الواحد ، في مسألة حجيّة الخبر ـ كما اُفيد ـ (٣) وبأي الخبرين في باب التعارض ، فإنّه أيضاً بحث في الحقيقة عن حجية الخبر في هذا الحال غير مفيد ، فان البحث عن ثبوت الموضوع ، وما هو مفاد كان التامة ، ليس بحثاً عن عوارضه ، فإنّها مفاد كان الناقصة .
لا يقال : هذا في الثبوت الواقعي ، وأمّا الثبوت التعبدي ـ كما هو
____________________________
(١) كما هو المشهور بين الأصوليين .
(٢) صرح به صاحب الفصول ، الفصول / ٤ .
(٣) افاده الشيخ ( قده ) في فرائد الأصول / ٦٧ ، في بداية مبحث حجية الخبر الواحد .
المهم
في هذه المباحث ـ فهو في الحقيقة يكون مفاد كان الناقصة . فإنّه يقال : نعم ، لكنّه مما
لا يعرض السنة ، بل الخبر الحاكي لها ، فإن الثبوت التعبدي يرجع الى وجوب العمل على طبق الخبر كالسنة المحكية به ، وهذا من عوارضه لا عوارضها ، كما لا يخفى . وبالجملة : الثبوت الواقعي
ليس من العوارض ، والتعبدي وإن كان منها ، إلّا أنّه ليس للسنة ، بل للخبر ، فتأمّل جيّداً . وأمّا إذا كان المراد (١) من
السنة ما يعم حكايتها ، فلأن البحث في تلك المباحث وإن كان عن أحوال السنة بهذا المعنى ، إلا أن البحث في غير واحد من مسائلها ، كمباحث الألفاظ ، وجملة من غيرها ، لا يخص الأدلة ، بل يعمّ غيرها ، وإن كان المهم معرفة أحوال خصوصها ، كما لا يخفى . ويؤيّد ذلك تعريف الأصول ، بأنّه
( العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية ) ، وإن كان الأولى تعريفه بأنه ( صناعة يعرف بها القواعد التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام ، أو التي ينتهى إليها في مقام العمل ) ، بناءً على أن مسألة حجية الظنّ على الحكومة ، ومسائل الأصول العملية في الشبهات الحكمية من الأصول ، كما هو كذلك ؛ ضرورة أنّه لا وجه لالتزام الاستطراد في مثل هذه المهمّات . الأمر الثاني الوضع هو نحو اختصاص للّفظ
بالمعنى ، وارتباط خاص بينهما ، ناش من تخصيصه به تارة ، ومن كثرة استعماله فيه أخرى ، وبهذا المعنى صحّ تقسيمه إلى التعييني والتعيّني ، كما لا يخفى . ____________________________ (١)
هذا مراد صاحب الفصول ، الفصول / ١٢ .
ثم إن الملحوظ حال الوضع : إما يكون معنى عاماً ، فيوضع اللفظ له تارة ، ولأفراده ومصاديقه أخرى ؛ وإما يكون معنى خاصاً ، لا يكاد يصحّ إلا وضع اللفظ له دون العام ، فتكون الأقسام ثلاثة ، وذلك لأن العام يصلح لأن يكون آلة للحاظ أفراده ومصاديقه بما هو كذلك ، فإنه من وجوهها ، ومعرفة وجه الشيء معرفته بوجه ، بخلاف الخاص ، فإنّه بما هو خاص ، لا يكون وجهاً للعام ، ولا لسائر الأفراد ، فلا يكون معرفته وتصوّره معرفة له ، ولا لها أصلاً ولو بوجه .
نعم ربّما يوجب تصوّره تصوّر العام بنفسه ، فيوضع له اللفظ ، فيكون الوضع عاماً ، كما كان الموضوع له عاماً ، وهذا بخلاف ما في الوضع العام والموضوع له الخاص ، فإن الموضوع له ـ وهي الأفراد ـ لا يكون متصوّراً إلا بوجهه وعنوانه ، وهو العام ، وفرق واضح بين تصوّر الشيء بوجهه ، وتصوّره بنفسه ، ولو كان بسبب تصوّر أمر آخر .
ولعلّ خفاء ذلك على بعض الأعلام (١) ، وعدم تميّزه بينهما ، كان موجباً لتوهّم إمكان ثبوت قسم رابع ، وهو أن يكون الوضع خاصاً ، مع كون الموضوع له عاماً ، مع أنه واضح لمن كان له أدنى تأمّل .
ثم إنه لا ريب في ثبوت الوضع (٢) الخاص والموضوع له الخاص كوضع الأعلام ، وكذا الوضع (٣) العام والموضوع له العام ، كوضع أسماء الأجناس وأما الوضع العام والموضوع له الخاص ، فقد توهّم (٤) أنّه وضع الحروف ، وما ألحق بها من الأسماء ، كما توهّم (٥) أيضاً إن المستعمل فيه فيها (٦)
____________________________
(١) الظاهر أنّه صاحب البدائع ، البدائع / ٣٩ ، في تقسيم الوضع إلى العام والخاص .
(٢ ـ ٣) في “ أ وب » : وضع .
(٤) صاحب الفصول ، الفصول / ١٦ ، في الوضع .
(٥) الفصول / ١٦ ، في الوضع .
(٦) في « أ » : أن المستعمل فيها .
خاصٌ (١) مع
كون الموضوع له كالوضع عامّاً . والتحقيق ـ حسبما يؤدّي إليه
النظر الدقيق ـ أن حال المستعمل فيه والموضوع له فيها حالهما في الأسماء ، وذلك لأن الخصوصية المتوهمة ، إن كانت هي الموجبة لكون المعنى المتخصص بها جزئياً خارجياً ، فمن الواضح أن كثيراً ما لا يكون المستعمل فيه فيها كذلك بل كلّيّاً ، ولذا التجأ بعض الفحول (٢) إلى جعله جزئياً إضافياً ، وهو كما ترى . وإن كانت هي الموجبة لكونه جزئياً ذهنياً ، حيث أنّه لا يكاد يكون المعنى حرفياً ، إلا إذا لوحظ حالة لمعنى آخر ، ومن خصوصياته القائمة به ، ويكون حاله كحال العرض ، فكما لا يكون في الخارج إلا في الموضوع ، كذلك هو لا يكون في الذهن إلا في مفهوم آخر ، ولذا قيل في تعريفه : بأنّه ما دلّ على معنى في غيره ، فالمعنى ، وإن كان لا محالة يصير جزئياً بهذا اللحاظ ، بحيث يباينه إذا لوحظ ثانياً ، كما لوحظ أولاً ، ولو كان اللاحظ واحداً (٣) ، إلّا
أن هذا اللحاظ لا يكاد يكون مأخوذاً في المستعمل فيه ، وإلا فلا بدّ من لحاظ آخر ، متعلّق بما هو ملحوظ بهذا اللحاظ ، بداهة أن تصوّر المستعمل فيه مما لا بدّ منه في استعمال الألفاظ ، وهو كما ترى . مع أنه يلزم أن لا يصدق على الخارجيات ، لامتناع صدق الكلّي العقلي عليها ، حيث لا موطن له إلّا الذهن ، فامتنع امتثال مثل ( سر من البصرة ) إلا بالتجريد وإلغاء (٤) الخصوصية ، هذا مع أنّه ليس لحاظ المعنى حالة لغيره في الحروف إلا كلحاظه في نفسه في الأسماء ، وكما لا يكون هذا اللحاظ معتبراً في المستعمل فيه فيها ، كذلك ذاك اللحاظ في الحروف ، كما لا يخفى . ____________________________ (١) في
« أ وب » : خاصاً . (٢)
المراد من بعض الفحول ، إما صاحب الفصول ، الفصول / ١٦ ، وإمّا المحقق التقي ، هداية
المسترشدين / ٣٠ . (٣) في
« أ » واحد إلا أن . (٤) في
« ب » : القاء .
وبالجملة : ليس المعنى في كلمة ( من ) ولفظ الإبتداء ـ مثلاً ـ إلا الإِبتداء ، فكما لا يعتبر في معناه لحاظه في نفسه ومستقلاً ، كذلك لا يعتبر في معناها لحاظه في غيرها وآلة ، وكما لا يكون لحاظه فيه موجباً لجزئيته ، فليكن كذلك فيها .
إن قلت : على هذا لم يبق فرق بين الاسم والحرف في المعنى ، ولزم كون مثل كلمة ( من ) ولفظ الإبتداء مترادفين ، صحّ استعمال كل منهما في موضع الآخر ، وهكذا سائر الحروف مع الأسماء الموضوعة لمعانيها ، وهو باطل بالضرورة ، كما هو واضح .
قلت : الفرق بينهما إنما هو في اختصاص كل منهما بوضع ، حيث [ أنّه ] (١) وضع الاسم ليراد منه معناه بما هو هو وفي نفسه ، والحرف ليراد منه معناه لا كذلك ، بل بما هو حالة لغيره ، كما مرّت الاشارة إليه غير مرّة ، فالاختلاف بين الاسم والحرف في الوضع ، يكون موجباً لعدم جواز استعمال أحدهما في موضع الآخر ، وإن اتفقا فيما له الوضع ، وقد عرفت ـ بما لا مزيد عليه ـ أن نحو إرادة المعنى لا يكاد يمكن أن يكون من خصوصياته ومقوماته .
ثم لا يبعد أن يكون الاختلاف في الخبر والإِنشاء أيضاً كذلك ، فيكون الخبر موضوعاً ليستعمل في حكاية ثبوت معناه في موطنه ، والإِنشاء ليستعمل في قصد تحققه وثبوته ، وإن اتفقا فيما استعملا فيه ، فتأمّل .
ثم إنّه قد انقدح مما حققناه ، أنّه يمكن أن يقال : إن المستعمل فيه في مثل أسماء الإِشارة والضمائر أيضاً عام ، وأنّ تشخّصه إنما نشأ من قبل طور استعمالها ، حيث أن أسماء الإِشارة وضعت ليشار بها إلى معانيها ، وكذا
____________________________
(١) أثبتناها من « ب » .
بعض
الضمائر ، وبعضها ليخاطب به (١) المعنى ، والإِشارة والتخاطب يستدعيان التشخص كما لا يخفى ، فدعوى أن المستعمل فيه في مثل ( هذا ) أو ( هو ) أو ( إيّاك ) إنّما هو المفرد المذكّر ، وتشخّصه إنّما جاء من قبل الإِشارة ، أو التخاطب بهذه الألفاظ إليه ، فإن الإِشارة أو التخاطب لا يكاد يكون إلا إلى الشخص أو معه ، غير مجازفة . فتلخّص مما حققناه : إنّ
التشخص الناشىء من قبل الاستعمالات ، لا يوجب تشخص المستعمل فيه ، سواء كان تشخصاً خارجياً ـ كما في مثل أسماء الإِشارة ـ أو ذهنياً ـ كما في أسماء الأجناس والحروف ونحوهما ـ من غير فرق في ذلك أصلاً بين الحروف وأسماء الأجناس ، ولعمري هذا واضح . ولذا ليس في كلام القدماء من كون الموضوع له أو المستعمل فيه خاصاً في الحرف عين ولا أثر ، وإنّما ذهب إليه بعض من تأخّر (٢) ولعلّه
لتوهّم كون قصده بما هو في غيره ، من خصوصيات الموضوع له ، أو المستعمل فيه ، والغفلة من أن قصد المعنى من لفظه على أنحائه ، لا يكاد يكون من شؤونه وأطواره ، وإلّا فليكن قصده بما هو هو وفي نفسه كذلك ، فتأمّل في المقام فإنّه دقيق ، وقد زلّ (٣) فيه أقدام غير واحد من أهل التحقيق والتدقيق . الثالث صحّة استعمال اللفظ فيما
يناسب ما وضع له ، هل هو بالوضع ، أو بالطبع ؟ وجهان ، بل قولان ، أظهرهما أنّه بالطبع بشهادة الوجدان بحسن الاستعمال فيه ولو مع منع الواضع عنه ، وباستهجان الاستعمال فيما لا يناسبه ولو مع ترخيصه ، ولا معنى لصحته إلا حسنه ، والظاهر أن صحة الاستعمال ____________________________ (١) في
« ب » : بها . (٢)
صاحب الفصول ، الفصول / ١٦ . (٣) في
« ب » : ذل .
اللفظ في نوعه أو مثله من قبيله ، كما يأتي الإِشارة إلى تفصيله (١) .
الرابع
لا شبهة في صحة إطلاق اللفظ ، وإرادة نوعه به ، كما إذا قيل : ضرب ـ مثلاً ـ فعل ماض ، أو صنفه كما إذا قيل : ( زيد ) في ( ضرب زيد ) فاعل ، إذا لم يقصد به شخص القول أو مثله كـ ( ضرب ) في المثال فيما إذا قصد .
وقد أشرنا (٢) إلى أن صحة الاطلاق كذلك وحسنه ، إنما كان بالطبع لا بالوضع ، وإلا كانت المهملات موضوعة لذلك ، لصحة الاطلاق كذلك فيها ، والالتزام بوضعها كذلك كما ترى .
وأمّا إطلاقه وإرادة شخصه ، كما إذا قيل : ( زيد لفظ ) وأريد منه شخص نفسه ، ففي صحته بدون تأويل نظر ، لاستلزامه اتحاد الدال والمدلول ، أو تركب القضية من جزءين كما في الفصول (٣) .
بيان ذلك : أنّه إن اعتبر دلالته على نفسه ـ حينئذٍ ـ لزم الاتحاد ، وإلا لزم تركبها من جزءين ، لأن القضية اللفظية ـ على هذا ـ إنّما تكون حاكية عن المحمول والنسبة ، لا الموضوع ، فتكون القضية المحكية بها مركبة من جزءين ، مع امتناع التركب إلا من الثلاثة ، ضرورة استحالة ثبوت النسبة بدون المنتسبين .
قلت : يمكن أن يقال : إنّه يكفي تعدد الدال والمدلول اعتباراً ، وإن اتَّحَدا ذاتاً ، فمن حيث أنّه لفظ صادر عن لافظه كان دالّاً ، ومن حيث أن
____________________________
(١) في الأمر الرابع .
(٢) أشار إليه في الأمر الثالث .
(٣) الفصول / ٢٢ ، عند قوله : فصل قد يطلق اللفظ ... الخ .
نفسه
وشخصه مراده كان مدلولاً ، مع أن حديث تركب القضية من جزءين ـ لولا اعتبار الدلالة في البين ـ إنما يلزم إذا لم يكن الموضوع نفس شخصه ، وإلا كان أجزاؤها الثلاثة تامة ، وكان المحمول فيها منتسباً إلى شخص اللفظ ونفسه ، غاية الأمر أنه نفس الموضوع ، لا الحاكي عنه ، فافهم ، فانه لا يخلو عن دقة . وعلى هذا ، ليس من باب
استعمال اللفظ بشىء ، بل يمكن أن يقال : إنه ليس أيضاً من هذا الباب ، ما إذا أُطلق اللفظ وأُريد به نوعه أو صنفه ، فإنّه فرده ومصداقه حقيقة ، لا لفظه وذاك معناه ، كي يكون مستعملاً فيه استعمال اللفظ في المعنى ، فيكون اللفظ نفس الموضوع الملقىٰ إلى المخاطب خارجاً ، قد أحضر في ذهنه بلا وساطة حاكٍ (١) ، وقد
حكم عليه ابتداءً ، بدون واسطة أصلاً ، لا لفظه ، كما لا يخفى ، فلا يكون في البين لفظ قد استعمل في معنى ، بل فرد قد حكم في القضية عليه ـ بما هو مصداق لكلي (٢) اللفظ ، لا بما هو خصوص جزئيّة . نعم فيما إذا أُريد به فرد
آخر مثله ، كان من قبيل استعمال اللفظ في المعنى ، اللَّهمّ إلا أن يقال : إنّ لفظ ( ضرب ) وإن كان فرداً له ، إلّا أنه إذا
قصد به حكايته ، وجعل عنواناً له ومرآته ، كان لفظه المستعمل فيه ، وكان ـ حينئذٍ ـ كما إذا قصد به فرد مثله . وبالجملة : فإذا أُطلق وأُريد
به نوعه ، كما إذا أُريد به فرد مثله ، كان من باب استعمال اللفظ في المعنى ، وإن كان فرداً منه ، وقد حكم في القضية بما يعمه ، وإن أُطلق ليحكم عليه بما هو فرد كليِّة ومصداقه ، لا بما هو لفظه وبه حكايته ، فليس من هذا الباب ، لكن الاطلاقات المتعارفة ظاهراً ____________________________ (١) في
« أ وب » : حاكي . (٢) في
« أ » : لكليه .
ليست كذلك ، كما لا يخفى ، وفيها ما لا يكاد يصح أن يراد منه ذلك ، مما كان الحكم في القضية لا يكاد يعمّ شخص اللفظ ، كما في مثل : ( ضرب فعل ماض ) .
الخامس
لا ريب في كون الألفاظ موضوعة بإزاء معانيها من حيث هي ، لا من حيث هي مرادة للافظها ، لما عرفت بما لا مزيد عليه ، من أن قصد المعنى على أنحائه من مقومات الاستعمال ، فلا يكاد يكون من قيود المستعمل فيه .
هذا مضافاً الى ضرورة صحة الحمل والاسناد في الجمل ، بلا تصرّف في ألفاظ الأطراف ، مع أنّه لو كانت موضوعة لها بما هي مرادة ، لما صح بدونه ؛ بداهة أن المحمول على ( زيد ) في ( زيد قائم ) والمسند إليه في ( ضرب زيد ) ـ مثلاً ـ هو نفس القيام والضرب ، لا بما هما مرادان ، مع أنه يلزم كون وضع عامة الألفاظ عامّاً والموضوع له خاصاً ، لمكان اعتبار خصوص إرادة اللافظين فيما وضع له اللفظ ، فإنه لا مجال لتوهم أخذ مفهوم الإِرادة فيه ، كما لا يخفى ، وهكذا الحال في طرف الموضوع .
وأمّا ما حكي (١) عن العلمين ( الشيخ الرئيس (٢) ، والمحقق
____________________________
(١) راجع الشفاء ، قسم المنطق في المقالة الأولى من الفن الأول ، الفصل الثامن / ٤٢ ، عند قوله ( وذلك لأن معنى دلالة اللفظ ، هو أن يكون اللفظ اسماً لذلك المعنى على سبيل القصد الأوّل ) انتهى .
وحكىٰ العلّامة الحلّي ( ره ) في الجوهر النضيد في شرح التجريد / ٤ . عن أستاذه المحقق الطوسي ( ره ) قوله بأن اللفظ لا يدلّ بذاته على معناه بل باعتبار الإِرادة والقصد .
(٢) الشيخ الرئيس أبو علي
الحسين بن عبد الله بن سينا الحكيم المشهور ، أحد فلاسفة المسلمين ولد سنة ٣٧٠ هـ بقرية من ضياع بخارى ، نادرة عصره في علمه وذكائه وتصانيفه ، لم يستكمل ثماني عشرة سنة من عمره الّا وقد فرغ من تحصيل العلوم باسرها ، صنف كتاب « الشفاء » و « النجاة » و « الإِشارات » و « القانون » وغير ذلك ممّا يقارب مائة
مصنّف ،
الطوسي
(١) ) من مصيرهما الى أن الدلالة تتبع الارادة ، فليس ناظراً الى كون الألفاظ موضوعة للمعاني بما هي مرادة ، كما توهمه بعض الأفاضل (٢) ، بل ناظر إلى أن دلالة الألفاظ على معانيها بالدلالة التصديقية ، أي دلالتها على كونها مرادة للافظها تتبع إرادتها منها ، ويتفرع عليها تبعية مقام الإِثبات للثبوت ، وتفرع الكشف على الواقع المكشوف ، فإنّه لولا الثبوت في الواقع ، لما كان للإِثبات والكشف والدلالة مجال ، ولذا لا بدّ من إحراز كون المتكلّم بصدد الإِفادة في إثبات إرادة ما هو ظاهر كلامه ودلالته على الإِرادة ، وإلا لما كانت لكلامه هذه الدلالة ، وإن كانت له الدلالة التصورية ، أي كون سماعه موجباً لإِخطار معناه الموضوع له ، ولو كان من وراء الجدار ، أو من لافظ بلا شعور ولا اختيار . إن قلت : على هذا ، يلزم أن
لا يكون هناك دلالة عند الخطأ ، والقطع بما ليس بمراد ، أو الاعتقاد بإرادة شيء ، ولم يكن له من اللفظ مراد . قلت : نعم لا يكون حينئذٍ
دلالة ، بل يكون هناك جهالة وضلالة ، يحسبها الجاهل دلالة ، ولعمري ما أفاده العلمان من التبعية ـ على ما بيّنّاه ـ واضح لا محيص عنه ، ولا يكاد ينقضي تعجبي كيف رضي المتوهم أن يجعل كلامهما ناظراً إلى ما لا ينبغي صدوره عن فاضل ، فضلاً عمن هو عَلَم ____________________________ وله
شعر ، توفي بهمدان يوم الجمعة من شهر رمضان ٤٢٨ هـ ودفن بها . ( وفيات الأعيان ٢ / ١٥٧ رقم ١٩٠ ) . (١) المحقق خواجه نصير الدّين
محمد بن محمد بن الحسن الطوسي الحكيم الفيلسوف ولد في طوس عام ٥٩٧ هـ ، درس في صغره مختلف العلوم وأتقن علوم الرياضيات وكان لا يزال في مطلع شبابه ، سافر الى نيشابور وقضى فيها فترة ظهر نبوغه وتفوّقه ، باشر إنشاء مرصد
مراغة وأسس مكتبة مراغة ، حضر درس المحقق الحلّي عندما زار الفيحاء بصحبة هولاكو ، كتب
ما يناهز ١٨٤ مؤلفاً في فنون شتّى ، توفي ٦٨٢ هـ ودفن في جوار الامام موسى الكاظم (
عليه السلام ) . ( أعيان الشيعة ٩ / ٤١٤ ) . (٢) صاحب الفصول ١٧ ، السطر
الأخير .
في التحقيق والتدقيق ؟! .
السادس
لا وجه لتوهّم وضع للمركبات ، غير وضع المفردات ، ضرورة عدم الحاجة إليه ، بعد وضعها بموادها ، في مثل ( زيد قائم ) و ( ضرب عمرو بكراً ) شخصياً ، وبهيئاتها المخصوصة من خصوص إعرابها نوعياً ، ومنها خصوص هيئات المركبات الموضوعة لخصوصيات النسب والإِضافات ، بمزاياها الخاصة من تأكيد وحصر وغيرهما نوعياً ؛ بداهة أن وضعها كذلك وافٍ بتمام المقصود منها ، كما لا يخفى ، من غير حاجة إلى وضع آخر لها بجملتها ، مع استلزامه الدلالة على المعنى : تارة بملاحظة وضع نفسها ، وأخرى بملاحظة وضع مفرداتها ، ولعل المراد من العبارات الموهمة لذلك ، هو وضع الهيئات على حدة ، غير وضع المواد ، لا وضعها بجملتها ، علاوة على وضع كل منهما .
السابع
لا يخفى أن تبادر المعنى من اللفظ ، وانسباقه إلى الذهن من نفسه ـ وبلا قرينة ـ علامة كونه حقيقة فيه ؛ بداهة أنه لولا وضعه له ، لما تبادر .
لا يقال : كيف يكون علامة ؟ مع توقفه على العلم بأنه موضوع له ، كما هو واضح ، فلو كان العلم به موقوفاً عليه لدار .
فإنه يقال : الموقوف عليه غير الموقوف عليه ، فإن العلم التفصيلي ـ بكونه موضوعاً له ـ موقوف على التبادر ، وهو موقوف على العلم الإِجمالي الإِرتكازي به ، لا التفصيلي ، فلا دور .
هذا إذا كان المراد به التبادر عند المستعلم ، وأما إذا كان المراد به التبادر عند أهل المحاورة ، فالتغاير أوضح من أن يخفى .
ثم إنّ هذا فيما لو علم
استناد الانسباق إلى نفس اللفظ ، وأما فيما احتمل استناده الى قرينة ، فلا يجدي أصالة عدم القرينة في إحراز كون الاستناد إليه ، لا إليها ـ كما قيل (١) ـ لعدم الدليل على اعتبارها إلا في إحراز المراد ، لا الاستناد . ثم إن (٢) عدم
صحة سلب اللفظ ـ بمعناه المعلوم المرتكز في الذهن اجمالاً كذلك ـ عن معنى تكون علامة كونه حقيقة فيه ، كما أن صحة سلبه عنه علامة كونه مجازاً في الجملة . والتفصيل : إن عدم صحة السلب
عنه ، وصحة الحمل عليه بالحمل الأولي الذاتي ، الذي كان ملاكه الاتحاد مفهوماً ، علامة كونه نفس المعنى ، وبالحمل الشائع الصناعي ، الذي ملاكه الاتحاد وجوداً ، بنحو من أنحاء الاتحاد ، علامة كونه من مصاديقه وأفراده الحقيقية (٣) . كما أن صحّة سلبه كذلك علامة أنّه
ليس منها ، وإن لم نقل بأن إطلاقه عليه من باب المجاز في الكلمة ، بل من باب الحقيقة ، وإن التصرف فيه في أمر عقلي ، كما صار إليه السكاكي (٤) ، واستعلام حال اللفظ ، وأنه حقيقة أو ____________________________ (١)
قوانين الأصول / ١٣ . (٢) في
« أ » : إنّه كذلك عدم صحة سلب اللفظ بمعناه المعلوم ، المتركز في الذهن إجمالاً
عن معنى ... الخ . (٣)
فيما إذا كان المحمول والمحمول عليه كلياً وفرداً ، لا فيما إذا كانا كليين
متساويين ، أو غيرهما ، كما لا يخفى . منه قدس سره . وفي نسخة « أ » لم يظهر كونه
تعليقاً بل الظاهر دخوله في المتن . (٤)
مفتاح العلوم / ١٥٦ ، الفصل الثالث في الاستعارة . أبو يعقوب يوسف بن أبي بكر بن
محمد السكاكي الخوارزمي ، ولد سنة ٥٥٥ هـ كان علامة بارعاً في فنون شتّى خصوصاً المعاني والبيان ، وله كتاب « مفتاح العلوم » فيه إثنا
عشر علماً من علوم العربية ، وله النصيب الوافر في علم الكلام وسائر الفنون مات بخوارزم سنة ٦٢٦ هـ . ( بغية الوعاة ٢ / ٣٦٤ رقم ٢٢٠٤ ) .
مجاز في هذا المعنى بهما ، ليس على وجه دائر ، لما عرفت في التبادر من التغاير بين الموقوف والموقوف عليه ، بالإِجمال والتفصيل أو الإِضافة الى المستعلم والعالم ، فتأمّل جيداً .
ثم إنه قد ذُكر الاطراد وعدمه علامة للحقيقة والمجاز أيضاً ، ولعله بملاحظة نوع العلائق المذكورة في المجازات ، حيث لا يطرد صحة استعمال اللفظ معها ، وإلّا فبملاحظة خصوص ما يصح معه الاستعمال ، فالمجاز مطرد كالحقيقة ، وزيادة قيد ( من غير تأويل ) أو ( على وجه الحقيقة ) (١) ، وإن كان موجباً لاختصاص الاطراد كذلك بالحقيقة ، إلا أنه ـ حينئذٍ ـ لا يكون علامة لها إلا على وجه دائر ، ولا يتأتّى التفصي عن الدور بما ذكر في التبادر هنا (٢) ، ضرورة أنّه مع العلم بكون الاستعمال على نحو الحقيقة ، لا يبقى مجال لاستعلام (٣) حال الاستعمال بالاطراد ، أو بغيره .
الثامن
انّه للّفظ أحوال خمسة ، وهي : التجوّز ، والاشتراك ، والتخصيص ، والنقل ، والإِضمار ، لا يكاد يصار إلى أحدها فيما إذا دار الأمر بينه وبين المعنى الحقيقي ، إلا بقرينة صارفة عنه إليه .
وأما إذا دار الأمر بينها ، فالأصوليون ، وإن ذكروا لترجيح بعضها على بعض وجوهاً ، إلّا أنّها استحسانية ، لا اعتبار بها ، إلّا إذا كانت موجبة لظهور اللفظ في المعنى ، لعدم مساعدة دليل على اعتبارها بدون ذلك ، كما لا يخفى .
____________________________
(١) الزيادة من صاحب الفصول ، الفصول / ٣٨ ، فصل في علامة الحقيقة والمجاز .
(٢) في « أ » : هاهنا .
(٣) في « ب » : الاستعلام .