الأسماء والصفات

أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي

الأسماء والصفات

المؤلف:

أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي


المحقق: الدكتور عبدالرحمن عميرة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٨٩

باب

ما ذكر في القدم والرجل

أخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق ، أنا أبو محمد عبد الله بن إسحاق ، أنا إبراهيم بن الهيثم البلدي ح.

وحدثنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ غير مرة ، نا أبو عبد الله الحسين بن الحسن بن أيوب الطوسي ، أنا أبو حاتم محمد بن إدريس الرازي قالا : أنا آدم بن أبي إياس العسقلاني ، نا شيبان بن عبد الرحمن عن قتادة عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تزال جهنم تقول : هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه فتقول : قط قط. وعزتك ، ويزوي بعضها إلى بعض ، ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله خلقا فيسكنه فضول الجنة». رواه البخاري في الصحيح عن آدم. وأخرجه مسلم من وجه آخر عن شيبان ، وقد رواه سليمان التيمي عن قتادة ، وقالا في الروايتين عنه : «حتى يضع الله عليها قدمه» (١).

ورواه سعيد بن أبي عروبة ، وأبان بن يزيد العطار عن قتادة ، وقال : في الحديث «رب العالمين». ورواه شعبة عن قتادة ، كما أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ ، قال : أخبرني أبو بكر محمد بن أحمد بن بالويه ، نا عبد الله بن

__________________

(١) رواية الإمام البخاري في كتاب التوحيد ٧٣٨٤ بسنده عن أنس بن مالك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : يلقي في النار وقال لي خليفة حدثنا يزيد بن زريع حدثنا سعيد عن قتادة عن أنس وعن معتمر سمعت أبي عن قتادة عن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : وذكره ، ورواية الإمام مسلم في كتاب الجنة. ٣٥ ـ ٣٧.

٥٠١

أحمد بن حنبل ، نا عبيد الله ، نا حرمي بن عمارة ، نا شعبة عن قتادة عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يلقي في النار وتقول هل من مزيد حتى يضع قدمه أو رجله عليه فتقول قط قط». رواه البخاري في الصحيح عن عبد الله ابن أبي الأسود ، عن حرمي بن عمارة (١).

أخبرنا أبو طاهر الفقيه ، أنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان ، نا أحمد ابن يوسف السلمي ، نا عبد الرزاق ، أنا معمر عن همام بن منبه ، قال : هذا ما حدثنا أبو هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : تحاجت الجنة والنار فقالت النار : أوترت بالمتكبرين والمتجبرين. وقالت الجنة : فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وغرهم! قال الله عزوجل للجنة : أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي. وقال للنار : إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي. ولكل واحدة منكما ملؤها. فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله فيها رجله فتقول : قط قط قط. فهنالك تمتلئ ، ويزوي بعضها إلى بعض ، ولا يظلم الله من خلقه أحدا. وأما الجنة فإن الله عزوجل ينشئ لها خلقا. رواه البخاري في الصحيح عن عبد الله بن محمد. ورواه مسلم عن محمد بن رافع كلاهما عن عبد الرزاق ، ورواه أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال في الحديث : «حتى يضع الرب قدمه فيها». ورواه عوف عن محمد عن أبي هريرة يرفعه. وقال : «فيضع الرب قدمه عليها». ورواه الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال في الحديث : «فأما النار فلا تمتلئ فيضع قدمه عليها فتقول : قط قط. فهنالك تمتلئ ، ويزوي بعضها إلى بعض (٢).

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، أنا أبو الفضل بن إبراهيم ، نا أحمد بن سلمة ، نا محمد بن رافع ، نا شبابة بن سوار ، حدثني ورقاء عن أبي الزناد

__________________

(١) رواية الإمام البخاري في كتاب التفسير ١ باب وتقول : (هل من مزيد) ٤٨٤٨ عن طريق عبد الله بن أبي الأسود ، حدثنا حرمي بن عمارة ، حدثنا شعبة عن قتادة عن أنس ـ رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكره.

(٢) الحديث أخرجه الترمذي في كتاب الجنة ٢٠ وتفسير سورة ٥٠ وأحمد بن حنبل في المسند ٢ : ٣٦٩ ، ٥٠٧ ، ٣ : ١٣ (حلبي).

٥٠٢

عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر الحديث بنحو من حديث همام بن منبه إلا أنه قال : «وسقطهم وعجزهم». وانتهى حديثه عند قوله : «ويزوي بعضها إلى بعض». رواه مسلم في الصحيح عن محمد بن رافع ، وبمعناه رواه أبو صالح عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غير إضافة ، فقال : «حتى يضع فيها قدما» (١).

قال أبو سليمان الخطابي رحمه‌الله : فيشبه أن يكون من ذكر القدم والرجل ، أو ترك الإضافة. إنما تركها تهيبا لها وطلبا للسلامة من خطأ التأويل فيها ، وكان أبو عبيد وهو أحد أئمة أهل العلم يقول : نحن نروي هذه الأحاديث ولا نريغ لها المعاني.

قال أبو سليمان : ونحن أحرى بأن لا نتقدم فيما تأخر عنه من هو أكثر علما وأقدم زمانا وسنا. ولكن الزمان الذي نحن فيه قد صار أهله حزبين منكر لما يروى من نوع هذه الأحاديث رأسا ، ومكذب به أصلا. وفي ذلك تكذيب العلماء الذين رووا هذه الأحاديث وهم أئمة الدين ونقلة السنن. والواسطة بيننا وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والطائفة الأخرى مسلمة للرواية فيها ذاهبة في تحقيق الظاهر منها مذهبا يكاد يفضي بهم إلى القول بالتشبيه. ونحن نرغب عن الأمرين معا ، ولا نرضى بواحد منهما مذهبا ، فيحق علينا أن نطلب لما يرد من هذه الأحاديث إذا صحت من طريق النقل والسند تأويلا يخرج على معاني أصول الدين ومذاهب العلماء ، ولا نبطل الرواية فيها أصلا إذا كان طرقها مرضية ونقلتها عدولا.

قال أبو سليمان : وذكر القدم هاهنا يحتمل أن يكون المراد به من قدمهم الله للنار من أهلها ، فيقع بهم استيفاء عدد أهل النار ، وكل شيء قدمته فهو قدم ، كما قيل لما هدمته. هدم. ولما قبضته : قبض. ومن هذا قوله عزوجل : (أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) (٢). أي ما قدموه من الأعمال الصالحة. وقد

__________________

(١) رواية الإمام مسلم في كتاب الجنة ٣٧ (٢٨٤٨) بسنده عن قتادة حدثنا أنس بن مالك رضي الله عنه أن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : وذكره.

(٢) سورة يونس آية ٢.

٥٠٣

روى معنى هذا عن الحسن. ويؤيده قوله في الحديث : «وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقا» فاتفق المعنيان أن كل واحدة من الجنة والنار تمد بزيادة عدد يستوفي بها عدة أهلها ، فتمتلئ عند ذلك.

قال الشيخ أحمد : وفيما كتب إلى أبو نصر من كتاب أبي الحسن بن مهدي الطبري حكاية عن النضر بن شميل أن معنى قوله : «حتى يضع الجبار قدمه» أي من سبق في علمه أنه من أهل النار.

قال أبو سليمان : قد تأول بعضهم الرجل على نحو هذا.

قال : والمراد به استيفاء عدد الجماعة الذين استوجبوا دخول النار.

قال : والعرب تسمي جماعة الجراد رجلا ، كما سموا جماعة الظباء سربا ، وجماعة النعام خيطا ، وجماعة الحمير عانة.

قال : وهذا وإن كان اسما خاصا لجماعة الجراد ، فقد يستعار لجماعة الناس على سبيل التشبيه. والكلام المستعار والمنقول من موضعه كثير. والأمر فيه عند أهل اللغة مشهور.

قال أبو سليمان رحمه‌الله : وفيه وجه آخر ، وهو أن هذه الأسماء مثال يراد بها إثبات معان لا حظ لظاهر الأسماء فيها من طريق الحقيقة. وإنما أريد بوضع الرجل عليها نوع من الزجر لها والتسكين من غربها ، كما يقول القائل للشيء يريد محوه وإبطاله : جعلته تحت رجلي ، ووضعته تحت قدمي. وخطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام الفتح فقال : «ألا إن كل دم ومأثرة في الجاهلية فهو تحت قدمي هاتين إلا سقاية الحاج ، وسدانة البيت» (١). يريد محو تلك المآثر وإبطالها ، وما أكثر ما تضرب العرب الأمثال في كلامها بأسماء الأعضاء ، وهي لا تريد أعيانها ، كما تقول في الرجل يسبق منه القول أو الفعل ثم يقدم عليه «قد سقط في يده» ، أي ندم. وكقوله : «رغم أنف الرجل». إذا ذل ، «وعلا

__________________

(١) الحديث أخرجه أبو داود في كتاب الديات ، ٥ ، ١٧ ، ٢٤ وأحمد بن حنبل في المسند ٢ : ١١ ، ٣٦ ، ١٠٣ ، ٣ : ٤١٠ ، ٥ : ٤١٢ (حلبي).

٥٠٤

كعبه» إذا جل. و «جعلت كلام فلان دبر أذني» ، و «جعلت يا هذا حاجتي بظهر» ونحوها من ألفاظهم الدائرة في كلامهم. وكقول امرئ القيس في وصف طول الليل :

فقلت له لما تمطى بصلبه

وأردف إعجازا وناء بكلكل (١)

وليس هنالك صلب ، ولا عجز ، ولا كلكل. وإنما هي أمثال ضربها لما أراد من بيان طول الليل ، واستقصاء الوصف له ، فقطع الليل تقطيع ذي أعضاء من الحيوان. وقد تمطى عند إقباله وامتد (......) بدوام ركوده وطول ساعاته. وقد تستعمل الرجل أيضا في القصد للشيء والطلب له على سبيل جد وإلحاح. يقال : قام فلان في هذا الأمر على رجل ، وقام على ساق إذا جد في الطلب ، وبالغ في السعي. وهذا الباب كثير التصرف. فإن قيل : فهلا تأولت اليد والوجه على هذا النوع من التأويل ، وجعلت الأسماء فيها أمثالا كذلك؟ قيل : إن هذه الصفات مذكورة في كتاب الله عزوجل بأسمائها ، وهي صفات مدح. والأصل أن كل صفة جاء بها الكتاب أو صحت بأخبار التواتر أو رويت من طريق الآحاد وكان لها أصل في الكتاب ، أو خرجت على بعض معانيه ، فإنا نقول بها ونجريها على ظاهرها من غير تكييف وما لم يكن له في الكتاب ذكر ولا في التواتر أصل ، ولا له بمعاني الكتاب تعلق ، وكان مجيئه من طريق الآحاد ، وأفضى بنا القول إذا أجريناه على ظاهره إلى التشبيه ، فإنا نتأوله على معنى يحتمله الكلام ويزول معه معنى التشبيه. وهذا هو الفرق بين ما جاء من ذكر القدم والرجل والساق ، وبين اليد والوجه والعين ، وبالله العصمة ، ونسأله التوفيق لصواب القول ، ونعوذ بالله من الخطأ والزلل فيه ، إنه رءوف رحيم.

__________________

(١) البيت يوجد في معلقته التي بدأها بقوله :

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

بسقط اللوى بين الدخول فحومل

وبعد البيت :

ألا أيها الليل الطويل ألا انجل

بصبح وما الإصباح فيك بأمثل

٥٠٥

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، نا أبو العباس محمد بن يعقوب ، نا محمد بن إسحاق الصاغاني ، نا عمرو بن طلحة ، نا أسباط بن نصر عن السدي ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود وناس من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلا : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) (١) إلى قوله : (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) (٢).

أما قوله : (الْقَيُّومُ) فهو القائم. وأما (سِنَةٌ) فهو ريح النوم التي تأخذ في الوجه فينعس الإنسان. وأما (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) فالدنيا. وأما (ما خَلْفَهُمْ) فالآخرة. وأما (لا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ) يقول : لا يعلمون شيئا من علمه إلا بما شاء هو يعلمهم. وأما (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) فإن السموات والأرض في جوف الكرسي ، والكرسي بين يدي العرش وهو موضع قدميه. وأما (لا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما) فلا يثقل عليه. كذا في هذه الرواية موضع قدميه (٣).

وقد أخبرنا أبو نصر بن قتادة ، أنا أبو عمرو بن نجيد السلمي ، أنا أبو مسلم الكجّيّ ، نا أبو عاصم عن سفيان عن عمار الزهري عن مسلم البطين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) ، قال : موضع القدمين. قال : ولا يقدر قدر عرشه. كذا قال : موضع القدمين من غير إضافة. وقاله أيضا أبو موسى الأشعري من غير إضافة ، وكأنه أصح. وتأويله عند أهل النظر مقدار الكرسي من العرش كمقدار كرسي يكون عند سرير قد وضع لقدمي القاعد على السرير ، فيكون السرير أعظم قدرا من الكرسي الموضوع دونه موضعا للقدمين. هذا هو المقصود من الخبر عند بعض أهل النظر. والله أعلم. والخبر موقوف لا يصح رفعه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأما

__________________

(١) سورة البقرة آية ٢٥٥.

(٢) سورة البقرة آية ٢٥٥.

(٣) راجع تفسير ابن جرير الطبري عند هذه الآية ٥ : ٣٨٦ ، ٣٨٧ ، ٣٨٨ وتفسير القرطبي ٣ :

٢٧١ ، ٢٧٢ وتفسير ابن كثير ١ : ٣١٢ فقد جاء ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية بالشيء النفيس الممتع ١٠ : ٣١٢ ، ٣١٣.

٥٠٦

المتقدمون من أصحابنا فإنهم لم يفسروا أمثال هذه ، ولم يشتغلوا بتأويلها مع اعتقادهم أن الله تعالى واحد غير متبعض ولا ذي جارحة.

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، نا أبو العباس محمد بن يعقوب قال : سمعت العباس بن محمد يقول : سمعت يحيى بن معين يقول : شهدت زكريا ابن علي سأل وكيعا فقال : يا أبا سفيان هذه الأحاديث يعني مثل الكرسي موضع القدمين ونحو هذا ... فقال وكيع : أدركنا إسماعيل بن أبي خالد وسفيان ومسعرا يحدثون بهذه الأحاديث ولا يفسرون شيئا.

وأخبرنا أبو بكر بن الحارث الفقيه ، أنا أبو محمد بن حيان الأصبهاني فيما أجاز له جده عن العباس بن محمد ، قال : سمعت أبا عبيد يقول هذه الأحاديث التي يقول فيها : «ضحك ربنا قنوط عباده» (١) وقرب غيره ، «وإن جهنم لا تمتلئ حتى يضع ربك قدمه فيها» (٢) ، «والكرسي موضع القدمين».

وهذه الأحاديث في الرواية هي عندنا حق حملها الثقات بعضهم عن بعض. غير أنا إذا سئلنا عن تفسيرها لا نفسرها. وما أدركنا أحدا يفسرها. وأما الحديث الذي أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، نا أبو العباس محمد بن يعقوب ، نا محمد بن إسحاق الصاغاني ، نا إبراهيم بن المنذر الحزامي ، نا محمد بن فليح عن أبيه عن سعيد بن الحارث عن عبيد بن حنين قال : بينما أنا جالس في المسجد إذ جاء قتادة بن النعمان فجلس فتحدث فثاب إليه أناس ثم قال : انطلق بنا إلى أبي سعيد الخدري فإني قد أخبرت أنه قد اشتكى فانطلقنا حتى دخلنا على أبي سعيد الخدري فوجدناه مستلقيا واضعا رجله اليمنى على اليسرى فسلمنا وجلسنا فرفع قتادة يده إلى رجل أبي سعيد الخدري فقرصها قرصة شديدة فقال أبو سعيد : سبحان الله يا ابن أم

__________________

(١) الحديث أخرجه ابن ماجة في المقدمة ١٨١ عن طريق أبي بكر بن شيبة عن يعلى بن عطاء عن وكيع بن حدس عن عمه أبي رزين قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكره. في الزوائد : وكيع ذكره ابن حبان في الثقات وباقي رجاله احتج بهم مسلم وأخرجه أحمد بن حنبل في المسند ٤ : ١١ ، ١٢ (حلبي).

(٢) سبق تخريج هذا الحديث.

٥٠٧

أوجعتني. قال : ذاك أردت. إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إن الله عزوجل لما قضى خلقه استلقى ثم وضع إحدى رجليه على الأخرى ، ثم قال : لا ينبغي لأحد من خلقي أن يفعل هذا.

قال أبو سعيد : لا جرم لا أفعله أبدا. فهذا حديث منكر. ولم أكتبه إلا من هذا الوجه. وفليح بن سليمان مع كونه من شرط البخاري ومسلم فلم يخرجا حديثه هذا في الصحيح. وهو عند بعض الحفاظ غير محتج به.

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، نا أبو العباس محمد بن يعقوب ، نا العباس ابن محمد ، قال : سمعت يحيى بن معين يقول : فليح بن سليمان لا يحتج بحديثه.

وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، وأبو عبد الرحمن السلمي ، وأبو بكر أحمد ابن محمد الأشناني قالوا : أنا أبو الحسن الطرائفي ، نا عثمان بن سعيد الدارمي قال : سمعت يحيى بن معين يقول : فليح ضعيف.

قال الشيخ أحمد : وبلغني عن أبي عبد الرحمن النسائي أنه قال : فليح ابن سليمان ليس بالقوي.

قال الشيخ : فإذا كان فليح بن سليمان المدني مختلفا في جواز الاحتجاج به عند الحفاظ لم يثبت بروايته مثل هذا الأمر العظيم. وفيه علة أخرى وهي أن قتادة بن النعمان مات في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وصلى عليه عمر. وعبيد بن حنين مات سنة خمس ومائة وله خمس وسبعون سنة في قول الواقدي وابن بكبر ، فتكون روايته عن قتادة منقطعة.

وقال الراوي : وانطلقنا حتى دخلنا على أبي سعيد لا يرجع إلى عبيد بن حنين وإنما يرجع إلى من أرسل عنه ، ونحن لا نعرفه فلا نقبل المراسيل في الأحكام. فكيف في هذا الأمر العظيم؟ ثم إن صح طريقه يحتمل أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حدث به عن بعض أهل الكتاب عن طريق الإنكار فلم يفهم عنه قتادة بن النعمان إنكاره.

أخبرنا أبو جعفر الغرابي ، أنا أبو العباس الصبغي ، نا الحسن بن علي

٥٠٨

ابن زياد ، نا أبي أويس ، حدثني بن أبي الزناد عبد الرحمن عن هشام بن عروة عن عروة بن الزبير أن الزبير بن العوام سمع رجلا يحدث حديثا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاستمع الزبير له حتى إذا قضى الرجل حديثه ، قال له الزبير : أنت سمعت هذا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد لعمري سمعت هذا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا يومئذ حاضر ، ولكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابتدأ هذا الحديث فحدثناه عن رجل من أهل الكتاب حدثه إياه فجئت أنت يومئذ بعد أن قضى صدر الحديث وذكر الرجل الذي من أهل الكتاب فظننت أنه من حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال الشيخ : ولهذا الوجه من الاحتمال ترك أهل النظر من أصحابنا الاحتجاج بأخبار الآحاد في صفات الله تعالى إذا لم يكن لما انفرد منها أصل في الكتاب أو الإجماع واشتغلوا بتأويله ، وما نقل في هذا الخبر إنما يفعله في الشاهد من الفارغين من أعمالهم من مسه لغوب (١) ، أو أصابه نصب مما فعل ليستريح بالاستلقاء ووضع إحدى رجليه على الأخرى. وقد كذب الله تعالى اليهود حين وصفوه بالاستراحة بعد خلق السموات والأرض وما بينهما فقال : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ* فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) (٢).

حدثنا أبو عبد الله الحافظ ، أنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن عمرو الأحمسي بالكوفة ، نا الحسين بن حميد بن الربيع ، نا هناد بن السري ، نا أبو بكر بن عياش عن أبي سعيد عن عكرمة عن ابن عباس أن اليهود أتت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألت عن خلق السموات والأرض فقال : خلق الأرض يوم الأحد والاثنين ، وخلق الجبال يوم الثلاثاء وما فيهن من المنافع وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والمدائن والعمران والخراب ، فهذه أربعة ، فقال عز من قائل : (أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ* وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ

__________________

(١) اللغوب بضمتين التعب والإعياء وبابه دخل ولغب بالكسر (لغوبا) لغة ضعيفة.

(٢) سورة ق الآيتان ٣٨ ، ٣٩.

٥٠٩

أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ) (١). وخلق يوم الخميس السماء ، وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة إلى ثلاث ساعات بقين منه ، فخلق في أول ساعة من هذه الثلاث من الساعات الآجال حين يموت من مات ، وفي الثانية ألقى الآفة على كل شيء مما ينتفع به الناس. وفي الثالثة آدم وأسكنه الجنة ، وأمر إبليس بالسجود له ، وأخرجه منها في آخر ساعة ، ثم قالت اليهود : ثم ما ذا يا محمد؟ قال : ثم استوى على العرش. قالوا : قد أصبت لو أتممت. قالوا : ثم استراح. قال : فغضب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم غضبا شديدا فنزلت : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ* فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) (٢).

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، أنا عبد الرحمن بن الحسن القاضي ، نا إبراهيم بن الحسن ، نا آدم ، نا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى : (وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) ، قال : اللغوب : النصب. تقول اليهود : إنه أعيى بعد خلقهما.

قال الشيخ رضي الله عنه : وأما النهي عن وضع الرجل إحدى رجليه على الأخرى ، فقد رواه أبو الزبير عن جابر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دون هذه القصة ، وحمله أهل العلم على ما يخشى من انكشاف العورة وهي الفخذ إذا رفع إحدى رجليه على الأخرى مستلقيا. والإزار ضيق. وهو جائز عند الجميع إذا لم يخش ذلك.

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، وأبو زكريا بن أبي اسحاق المزكي ، قالا : أنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، نا بحر بن نصر نا ابن وهب ، أخبرني يونس عن ابن شهاب ، قال : حدثني عباد بن تميم عن عمه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يستلقي في المسجد وإحدى رجليه على الأخرى.

وزاد أبو زكريا في روايته ، قال : وزعم عباد أن عمر بن الخطاب وعثمان

__________________

(١) سورة فصلت الآيتان ٩ ، ١٠.

(٢) سورة ق الآيتان ٣٨ ، ٣٩.

٥١٠

ابن عفان كانا يفعلان. رواه مسلم في الصحيح عن أبي طاهر ، وحرملة عن ابن وهب (١).

وأخبرنا أبو علي الحسين بن محمد الروذباري ، أنا أبو بكر بن داسة ، نا أبو داود القعنبي ، نا مالك عن ابن شهاب ح.

وأخبرنا أبو علي أنا أبو محمد عبد الله بن عمر بن شوذب الواسطي بها ، نا أحمد بن سنان ، نا يزيد بن هارون ، أنا إبراهيم بن سعد ، أخبرني ابن شهاب ، عن عباد بن تميم عن عمه ـ وهو عبد الله بن زيد ـ أنه رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستلقيا في المسجد واضعا إحدى رجليه على الأخرى. لفظ حديث مالك. زاد إبراهيم في روايته : وأنه فعل ذلك أبو بكر وعمر وعثمان. رواه البخاري في الصحيح عن القعنبي ، عن مالك ، عن أحمد بن يونس ، عن إبراهيم بن سعد. ورواه مسلم عن يحيى بن يحيى عن مالك (٢).

وأخبرنا أبو علي الروذباري ، أنا أبو بكر بن داسة ، أنا أبو داود ، نا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما كانا يفعلان ذلك.

وأخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق ، نا أبو العباس الأصم نا بحر بن نصر ، نا ابن وهب ، أخبرني يونس عن ابن شهاب ، قال : حدثني عمر بن عبد العزيز أن محمد بن نوفل أخبره أنه رأى أسامة بن زيد في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مضطجعا وإحدى رجليه على الأخرى.

__________________

(١) رواية الإمام مسلم في كتاب اللباس ٢٢ باب في إباحة الاستلقاء ووضع إحدى الرجلين على الأخرى ، ٧٥ ـ (٢١٠٠) عن ابن شهاب عن عباد بن تميم عن عمه أنه رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكره. وأخرجه الترمذي في كتاب الأدب ٢٧٦٥ بسنده عن عباد بن تميم عن عمه أنه رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكره. وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح. وأخرجه البخاري في الصلاة ٨٥ والنسائي في المساجد ٢٨ وصاحب الموطأ في السفر ٨٧ وأحمد بن حنبل في المسند ٤ : ٢٩ (حلبي).

(٢) رواية صاحب الموطأ في كتاب قصر الصلاة في السفر عن مالك عن ابن شهاب ، عن عباد بن تميم ، عن عمه أنه رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وذكره.

٥١١

قال الشيخ : وقال بعض أهل النظر في حديث قتادة بن النعمان : معناه لما خلق ما أراد خلقه ، ترك إدامة مثله ، ولو شاء لأدام. هذا مثل جار في من فرغ مما قصده فلان استلقى على ظهره وإن لم يكن اضطجع. ويحتمل أن يكون استلقى بمعنى ألقى ، فيكون معناه أنه ألقى بعض السموات فوق بعض. (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) (١) وتكون السين بمثابته في استدعى واستبرى. وأما تأويل قوله : «ثم وضع إحدى رجليه على الأخرى» أي رفع قوما على قوم ، فجعل بعضهم سادة وبعضهم عبيدا. والرجل جماعة ، أو جعلهم صنفين في الشقاوة أو السعادة أو الغنى والفقر ، أو الصحة والسقم. يؤيده حديث الزهري عن عباد بن تميم المازني عن عبد الله بن زيد أنه رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستلقيا في المسجد واضعا إحدى رجليه على الأخرى (٢). وكان أبو بكر ، وعمر ، وعثمان رضي الله عنهم يفعلون ذلك.

وأما الحديث الذي أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، نا أبو العباس محمد بن يعقوب ، نا أحمد بن عبد الجبار ، نا يونس بن بكير عن ابن اسحاق ، قال : حدثني يعقوب بن عتبة عن عكرمة ، عن ابن عباس أنشد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قول أمية بن الصلت :

رجل وثور تحت رجل يمينه

والنسر للأخرى وليث مرصد

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «صدق» وأنشد قوله : ـ

والشمس تطلع كل آخر ليلة

حمراء يصبح لونها يتورد

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صدق : ـ

تأبى فما تبدو لنا في رسلها

إلا معذبة وإلا تجلد

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صدق. فهذا حديث يتفرد به محمد بن إسحاق بن

__________________

(١) سورة النحل آية ١٥ ، سورة لقمان آية ١٠.

(٢) الحديث أخرجه البخاري في ٨ كتاب الصلاة ٨٥ باب الاستلقاء في المسجد ومد الرجل ، ومسلم في ٣٧ كتاب اللباس والزينة ٢٢ باب في إباحة الاستلقاء ووضع إحدى الرجلين على الأخرى حديث ٧٥.

٥١٢

يسار بإسناده هذا. وإنما أريد به ما جاء في حديث آخر عن ابن عباس أن الكرسي يحمله أربع من الملائكة ، ملك في صورة رجل ، وملك في صورة أسد ، وملك في صورة ثور ، وملك في صورة نسر. فكأنه ـ إن صح ـ بين أن الملك الذي في صورة رجل ، والملك الذي في صورة ثور يحملان من الكرسي موضع الرجل اليمنى ، والملك الذي في صورة النسر والذي في صورة الأسد وهو الليث يحملان من الكرسي موضع الرجل الأخرى أن لو كان الذي عليه ذا رجلين.

٥١٣

باب

ما جاء في تفسير قوله عزوجل : (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) (١).

أخبرنا محمد بن عبد الله ، أنا عبد الرحمن بن الحسن القاضي ، حدثنا إبراهيم ابن الحسين الكسائي ، حدثنا آدم بن أبي إياس ، حدثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله عزوجل : أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله». يعني ما ضيعت من أمر الله.

__________________

(١) سورة الزمر آية ٥٦.

٥١٤

باب ما جاء في تفسير الروح ، وقوله عزوجل : (إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ* فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) (١).

وقول الله عزوجل : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) (٢). وقوله : (فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) (٣).

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، نا أبو أحمد محمد بن محمد بن اسحاق الصفار ، نا أحمد بن محمد بن نصر اللباد ، نا عمرو بن حماد بن طلحة ، نا أسباط بن نصر عن السدي ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود في قصة خلق آدم عليه‌السلام ، قال : فبعث جبريل عليه‌السلام إلى الأرض ليأتيه بطين منها ، فقالت الأرض : إني أعوذ بالله منك أن تنقص مني أو تشينني ، فرجع ولم يأخذه ، وقال : رب إنها عاذت بك فأعذتها. فبعث ميكائيل فعاذت منه فأعاذها. فرجع فقال كما قال جبريل ، فبعث ملك الموت فعاذت منه فقال : وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره ، فأخذ من وجه الأرض وخلط فلم يأخذ من مكان واحد ، وأخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء. فلذلك خرج بنو آدم

__________________

(١) سورة ص الآيتان رقم ٧١ ، ٧٢.

(٢) سورة النساء آية رقم ١٧١.

(٣) سورة التحريم آية رقم ١٢.

٥١٥

مختلفين ، ولذلك سمى آدم لأنه أخذ من أديم الأرض ، فصعد به قبل التراب حتى عاد طينا لاذبا. ـ اللاذب هو الذي يلزق بعضه ببعض ـ ثم ترك حتى أنتن فذلك حيث يقول : (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) (١) قال : منتن. ثم قال للملائكة : (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ* فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) (٢). فخلقه الله بيده لئلا يتكبر إبليس عنه ليقول : أتتكبر عما عملت بيدي ، ولم أتكبر أنا عنه ، فخلقه بشرا ، فكان جسدا من طين أربعين سنة من مقدار يوم الجمعة فمرت به الملائكة ففزعوا منه لما رأوه ، وكان أشدهم فزعا منه إبليس ، يمر به فيضربه ، فيصوت الجسد كما يصوت الفخار تكون له صلصلة ، فذلك حين يقول : (مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ) (٣). ويقول : لأمر ما خلقت ، ودخل من فمه فخرج من دبره. فقال للملائكة : لا ترهبوا من هذا فإنه أجوف ، ولئن سلطت عليه لأهلكنه ، فلما بلغ الحين الذي أريد أن ينفخ فيه الروح ، قال للملائكة : إذا نفخت فيه من روحي فاسجدوا له. فلما نفخ فيه الروح فدخل الروح في رأسه ، عطس. فقالت له الملائكة :

قل : الحمد لله. فقال : الحمد لله. فقال الله له : رحمك ربك. فلما دخل الروح في عينيه ، نظر إلى ثمار الجنة ، فلما دخل في جوفه اشتهى الطعام ، فوثب قبل أن يبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة ، فذلك حين يقول : (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) (٤). (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ* إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) (٥) ... وذكر القصة. وبهذا الإسناد في قصة مريم وابنها قالوا : خرجت مريم إلى جانب المحراب لحيض أصابها. فلما طهرت إذا هي برجل معها ، وهو قوله عزوجل : (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) (٦). وهو جبريل عليه‌السلام ، ففزعت منه وقالت :

__________________

(١) سورة الحجر آية ٢٦ ، ٢٨ ، ٣٣.

(٢) سورة ص الآيتان ٧١ ، ٧٢.

(٣) سورة الرحمن آية ١٤.

(٤) سورة الأنبياء آية ٣٧.

(٥) سورة الحجر ٣٠ ، ٣١.

(٦) سورة مريم آية ١٧.

٥١٦

(إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا* قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا ...) (١) الآية. فخرجت وعليها جلبابها فأخذ بكمها فنفخ في جيب درعها وكان مشقوقا من قدامها ، فدخلت النفخة صدرها ، فحملت ، فأتتها أختها امرأة زكريا ليلة لتزورها ، فلما فتحت لها الباب التزمتها ، فقالت امرأة زكريا : يا مريم أشعرت أني حبلى؟ قالت مريم : أشعرت أيضا أني حبلى؟ قالت امرأة زكريا : فإني وجدت ما في بطني يسجد للذي في بطنك. فذلك قوله عزوجل : (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ ..) (٢). وذكر القصة.

قال الشيخ رضي الله عنه : فالروح الذي منه نفخ في آدم عليه‌السلام كان خلقا من خلق الله تعالى جعل الله عزوجل حياة الأجسام به. وإنما أضافه إلى نفسه على طريق الخلق والملك ، لا أنه جزء منه ، وهو كقوله عزوجل : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) (٣) أي من خلقه.

أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد المقري ، أنا الحسن بن محمد بن إسحاق ، نا يوسف بن يعقوب ، نا محمد بن أبي بكر ، نا وكيع ، نا الأعمش عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله قال : كنت أمشي مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حرث بالمدينة وهو متوكئ على عسيب ، فمر بقوم من اليهود ، فقال بعضهم لبعض : سلوه عن الروح. وقال بعضهم : لا تسألوه. فسألوه ، فقالوا : يا محمد ما الروح؟ فوقف. قال عبد الله : فظننت أنه يوحى إليه. فقرأ : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ...) (٤) الآية. فقال بعضهم : قد قلنا لكم : لا تسألوه. أخرجاه في الصحيح من حديث وكيع وغيره (٥).

__________________

(١) سورة مريم الآيتان ١٨ ، ١٩.

(٢) سورة آل عمران آية ٣٩.

(٣) سورة الجاثية آية ١٣.

(٤) سورة الإسراء آية ٨٥.

(٥) الحديث أخرجه البخاري في كتاب التفسير ١٣ باب ويسألونك عن الروح ٤٧٢١ عن علقمة عن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال بينما أنا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حرث وهو متكئ على عسيب إذ مر به اليهود فقال بعضهم لبعض سلوه عن الروح. قال : وذكره. وكذا عند مسلم : إذ مر بنفر من اليهود وعند الطبري من وجه آخر عن الأعمش.

٥١٧

قال أبو سليمان الخطابي رحمه‌الله : أما الروح فقد اختلفوا فيما وقعت عنه المساءلة من الأرواح ، فقال بعضهم : الروح هاهنا جبريل عليه‌السلام. وقال بعضهم : هو ملك من الملائكة بصفة وصفوها من عظم الخلقة. قال : وذهب أكثر أهل التأويل إلى أنهم سألوه عن الروح الذي به تكون حياة الجسد. وقال أهل النظر منهم : إنما سألوه عن كيفية الروح ومسلكه في بدن الإنسان ، وكيف امتزاجه بالجسم واتصال الحياة به. وهذا شيء لا يعلمه إلا الله عزوجل. وقد ثبت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف» (١). وقال : «أرواح الشهداء في صور طير خضر تعلق من ثمر الجنة» (٢). فأخبر أنها كانت منفصلة من الأبدان فاتصلت بها ، ثم انفصلت عنها. وهذا من صفة الأجسام.

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، نا علي بن عيسى الحيري ، نا مسدد بن قطن ، نا عثمان بن أبي شيبة ، نا عبد الله بن إدريس ، عن محمد بن إسحاق ، عن إسماعيل بن أمية ، عن أبي الزبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لما أصيب إخوانكم بأحد ، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة ، وتأكل من ثمارها ، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش ، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم ، قالوا : من يبلغ إخواننا عنا أنّا أحياء في الجنة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد ، ولا يتكلموا في الحرب؟ فقال الله : أنا أبلغهم عنكم. فأنزل الله عزوجل : (وَلا

__________________

(١) الحديث أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء ٢ باب الأرواح جنود مجندة ٣٣٣٦ عن يحيى بن سعيد عن عمرة ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : وذكره. وأخرجه الإمام مسلم في كتاب البر ١٥٩ ـ ١٦٠ وأبو داود في كتاب الأدب ١٦ وأحمد بن حنبل في المسند ٢ : ٢٩٥ ، ٥٢٧ (حلبي).

(٢) الحديث أخرجه الإمام مسلم في كتاب الإمارة ٣٣ باب بيان أن أرواح الشهداء في الجنة ١٢١ (١٨٨٧) بسنده عن عبد الله بن مسعود قال : وذكره. وأخرجه أبو داود في كتاب الجهاد ٢٥ والترمذي في كتاب التفسير سورة ٣ : ١٩ وابن ماجة في كتاب الجنائز ٤ وأحمد بن حنبل في المسند ٦ : ٣٨٦ (حلبي).

٥١٨

تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ* فَرِحِينَ ...) (١) الآيات.

وقد ثبت معنى هذا عن عبد الله بن مسعود من قوله : أخبرنا أبو علي الروذباري ، نا أبو أحمد القاسم بن أبي صالح الهمداني ، نا إبراهيم بن الحسين ، نا سعيد بن أبي مريم ، نا يحيى بن أيوب ، نا يحيى بن سعيد ، عن عمرة ، عن عائشة زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : الأرواح جنود مجندة ، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف» (٢).

وأخبرنا أبو الفتح محمد بن أحمد بن أبي الفوارس الحافظ رحمه‌الله ، أنا أبو بكر محمد بن جعفر بن محمد بن الهيثم الأنباري نا إبراهيم بن إسحاق الحربي ، نا يحيى بن معين ، نا سعيد بن الحكم ، حدثني يحيى بن أيوب ، حدثني يحيى بن سعيد ، عن عمرة ، قالت : كانت بمكة امرأة مزاحة ، فقدمت المدينة ، فنزلت على امرأة مثلها ، فبلغ عائشة ، قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : ... فذكره.

أخرجه البخاري في الصحيح فقال : وقال يحيى بن أيوب. فذكره.

وكذلك رواه الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد الأنصاري.

أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان ، أنا أحمد عبيد الصفار ، نا عبيد بن شريك ، نا أبو الجماهر ، نا عبد العزيز ح.

وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، أنا أبو عبد الله بن يعقوب ، نا محمد بن شاذان ، وأحمد بن سلمة ، قالا : نا قتيبة بن سعيد ، نا عبد العزيز بن محمد ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف». رواه

__________________

(١) سورة آل عمران الآيتان ١٦٩ ـ ١٧٠.

(٢) سبق تخريج هذا الحديث قريبا من هذا.

٥١٩

مسلم في الصحيح عن قتيبة (١). وأخرجه أيضا من حديث يزيد بن الأصم عن أبي هريرة يرفعه ، قال أبو سليمان الخطابي رحمه‌الله : هذا يتأول على وجهين : ـ أحدهما : أن يكون إشارة إلى معنى التشاكل في الخير والشر والصلاح والفساد. فإن الخير من الناس يحن إلى شكله ، والشرير يميل إلى نظيره ومثله. والأرواح إنما تتعارف بضرائب طباعها التي جبلت عليها من الخير والشر. فإذا اتفقت الأشكال تعارفت وتآلفت. وإذا اختلفت تنافرت وتناكرت. ولذلك صار الإنسان يعرف بقرينة ، ويعتبر حاله بإلفه وصحبه. والوجه الآخر : إنه إخبار عن بدء الخلق في حال الغيب على ما روي في الأخبار أن الله عزوجل خلق الأرواح قبل الأجسام ، وكانت تلتقي فتشام كما تشام الخيل. فلما التبست بالأجسام تعارفت بالذكر الأول ، فصار كل منهما إنما يعرف وينكر على ما سبق له من العهد المتقدم والله أعلم.

قلت : وأما قوله في عيسى عليه الصلاة والسلام : (فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) (٢) يريد جيب درع مريم عليها‌السلام. وقوله : «فيها» يريد نفس مريم. وذلك أن جبريل عليه الصلاة والسلام نفخ في جيب درعها ، فوصل النفخ إليها. وقوله (مِنْ رُوحِنا) أي : من نفخ جبريل عليه‌السلام.

قال القتيبي : الروح : النفخ. سمى روحا لأنه ريح يخرج عن الروح.

قال ذو الرمة :

فقلت له : ارفعها إليك وأحيها

بروحك واجعله لها قينة قدرا

قوله : أحيها بروحك ، أي : أحيها بنفخك. فالمسيح ابن مريم روح الله ، لأنه كان بنفخة جبريل عليه الصلاة والسلام في درع مريم. ونسب الروح إليه لأنه بأمره كان.

قال بعض المفسرين : وقد تكون الروح بمعنى الرحمة.

__________________

(١) رواية الإمام مسلم في كتاب البر والصلة والآداب ١٥٩ (٢٦٣٨) عن طريق قتيبة بن سعيد بسنده عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : وذكره.

(٢) سورة التحريم آية ١٢.

٥٢٠