بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
مقدّمة التّحقيق
إنّ الحمد لله ، والصلاة والسلام على أشرف خلقه ، من بعثه في الأمّيّين رسولا ، وجاهد في الله حقّ جهاده ،
وبعد
فيعتبر كتاب «تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام» أهمّ ما صنّفه الحافظ المؤرّخ الثقة شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبيّ ، المولود بدمشق في الثالث من شهر ربيع الآخر سنة ٦٧٣ ه ـ. والمتوفّى بها ليلة الثالث من شهر ذي القعدة سنة ٧٤٨ ه ـ. كما يعتبر كتابه هذا من أهمّ الكتب الموسوعيّة الضخمة التي صنّفها المؤرّخون المسلمون ، وهو كتاب تاريخ وتراجم معا ، وبهذا يختلف عن الموسوعة الضخمة الأخرى للمصنّف ، المعروفة ب «سير أعلام النبلاء».
وأجدني لست بحاجة إلى التعريف بالحافظ المؤرّخ الذهبيّ ، فهو أشهر من أن يعرّف ، ولن أزيد في هذا المجال على ما كتبه الصديق البحاثة الأستاذ الدكتور بشّار عوّاد معروف في تقديمه ل «سير أعلام النبلاء» وقد كفانا المحقّق الفاضل أيضا مئونة البحث في المنهج الّذي اتّبعه الذهبيّ في تدوين «تاريخ الإسلام» ، وذلك ببحثه القيّم عن «الذهبيّ ومنهجه في تاريخ الإسلام» والّذي كان موضوع رسالته التي نال عليها درجة الدكتوراه.
وإذا كان لي ما أقوله في هذه المقدّمة المتواضعة ، فإنّني أودّ التنويه ببعض النّقاط التي أراها أساسية ، وهي :
إنّ «تاريخ الإسلام» يتفوّق على «سير أعلام النّبلاء» بالكمّيّة الهائلة التي يحتوي عليها من التراجم ، فضلا عن أنّه يتميّز بذكر الأحداث الحوليّة. وإذا كانت التراجم في كتاب «السير» تقتصر على «الأعلام النّبلاء» ـ كما نصّ المؤلّف على ذلك في عنوانه ـ فإنّ التراجم في «تاريخ الإسلام» لا تقتصر على «المشاهير والأعلام» كما يقول العنوان ، وإنّما تضمّ رجالا غير مشاهير ، بل إن البعض منهم يعتبرون من المجاهيل.
هذا ، مع الإشارة إلى أنّ «الذهبيّ» لم يترجم للخلفاء الراشدين الأربعة ـ رضوان الله عليهم ـ في «سير أعلام النبلاء» ، وهم أشهر المشاهير ، بينما أفرد لهم جزءا خاصا في «تاريخ الإسلام».
وبالمقارنة بين «تاريخ الإسلام» وكتابي «تاريخ بغداد» ، و «تاريخ دمشق» ، وغيرهما من كتب الرجال ، نجد «الذهبيّ» يتفرّد في «تاريخ الإسلام» بتراجم لأعلام لا نجد ذكرا لهم عند غيره ، مما يعني أنّه وقف على أسانيد ورسائل ومشيخات لم يسبقه إليها «الخطيب البغدادي» ولا «ابن عساكر الدمشقيّ» ولا غيرهما ممّن عني بالسير والتراجم ، رغم تقدّم عصرهم.
وهناك ميزة أخرى عند «الذهبيّ» ، لا نجدها عند «الخطيب» و «ابن عساكر» ، وهي إشارته إلى روايات الصحابة والتابعين ، وتابعي التابعين في كتب الصّحاح بالرموز التي اعتمدها عند أوّل كل ترجمة.
أمّا عن تقديم «المغازي» على «السيرة النّبويّة» ، فهذا يرجع إلى المنهجيّة التي انتهجها «الذهبيّ» في تأليف «تاريخ الإسلام» ، فهو يعرض للأخبار والوقائع والأحداث التي أسهم فيها صاحب الترجمة ، قبل أن يترجم له ويؤرّخ وفاته ، أو يتناول سيرته الذاتية. ومن هذا المنطلق في المنهجية ، فقد قدّم
«مغازي النبيّ» على «الترجمة النّبويّة ، ولذا كانت «المغازي» في الجزء الأول ، «والسيرة النبويّة» في الجزء الثاني ، ثم سيرة الخلفاء الراشدين ، في الجزء الثالث ...
وممّا تجدر الإشارة إليه ، أنّ الأجزاء الأوائل من «تاريخ الإسلام» تعتبر أقلّ الأجزاء كميّة للتراجم ، وقد أوضح «الذهبيّ» هذه الظاهرة في حوادث السنة الأولى للهجرة ، حيث يقول :
«... والسبب في قلّة من توفّي قلّة في هذا العام وما بعده من السنين ، أنّ المسلمين كانوا قليلين بالنسبة إلى من بعدهم ، فإنّ الإسلام لم يكن إلّا ببعض الحجاز ، أو من هاجر إلى الحبشة. وفي خلافة عمر ـ بل وقبلها ـ انتشر الإسلام في الأقاليم ، فبهذا يظهر لك سبب قلّة من توفّي في صدر الإسلام ، وسبب كثرة من توفّي في زمان التابعين ممّن بعدهم».
وقد اعتمدت في تحقيق هذا الجزء على النّسخ المخطوطة التالية :
١ ـ نسخة مكتبة أياصوفيا رقم (٣٠٠٥) تاريخ.
٢ ـ نسخة حيدرآباد.
٣ ـ نسخة الأمير عبد الله الفيصل المنقولة عن نسخة دار الكتب المصرية رقم ٤٢ تاريخ. وقد اتخذت من نسخة مكتبة أياصوفيا أصلا اعتمدت عليه في التحقيق لأنها بخطّ المؤلّف ـ رحمهالله ـ ، وقد أشرت في الحواشي إلى نسخة حيدرآباد بحرف «ح» ، وإلى نسخة الأمير عبد الله بحرف «ع».
كما استعنت ب «مختصر تاريخ الإسلام» لابن الملّا ، معتمدا على نسخة مخطوطة بالمكتبة الأحمدية بحلب ، ذات الرقم (١٢١٩).
وكان الباحث «حسام الدين القدسيّ» ـ رحمهالله ـ قد حقّق «المغازي» و «السيرة النبويّة» معتمدا على النّسخ المذكورة أعلاه ، ونشرها
في سنة (١٣٦٧ ه. / ١٩٤٧ م) ، وجاء تحقيقه «لا جيّدا ولا رديئا» ـ كما يقول الدكتور بشّار عوّاد معروف ، في دراسته عن الذهبيّ ومنهجه في تاريخ الإسلام.
ولا أخفي أنّني استعنت بالجزء المطبوع الّذي يستر لي مئونة العودة إلى الأصول المخطوطة ، كما استفدت من تعليقات «القدسي» في الحواشي ، فأبقيت أغلبها ، وزدت على بعضها في التعليق ، زيادة في التوضيح ، وأضفت حواشي جديدة لا بدّ منها ليأتي التحقيق أقرب إلى الكمال ـ وليس هو الكمال مطلقا ـ فهذا أمر لا أدّعيه. وقد عملت جهدي في تصويب بعض الأخطاء والأوهام التي وقعت في طبعة «القدسي» ، ونبّهت إليها في الحواشي. كما قمت بتخريج الأحاديث النبويّة الشريفة ، وأحلت إلى المصادر الأساسية لتوثيق متن المؤلّف ، وصنعت عدّة فهارس لهذا الجزء تساعد الباحثين وتيسّر لهم الوقوف على ما يريدونه من مواضيع محدّدة ، واشتملت الفهارس على : فهرس أوائل الآيات الكريمة ، وأوائل الأحاديث الشريفة ، وأوائل الأشعار ، وفهرس أعلام الرجال ، وأعلام النساء ، وفهرس الأصنام ، وفهرس الأمم والشعوب والقبائل والطوائف ، وفهرس الأيام ، وفهرس المصطلحات ، وفهرس الأماكن والبلاد ، وفهرس المصادر والمراجع التي اعتمدتها في التحقيق ...
وقد أبقيت في المتن على ترقيم أوراق نسخة الأصل المخطوطة في أياصوفيا ، مع التنبيه إلى أنّ هناك نقصا في هذه النسخة ، عملت على استدراكه من نسختي حيدرآباد والأمير عبد الله ، ومن «مختصر» ابن الملّا أيضا. وأضفت أحيانا بعض العبارات على الأصل نقلا عن مصادر أخرى ، مثل «سيرة ابن هشام» ، أو «تاريخ الطبري» أو «السيرة النبويّة» لابن كثير ، وغيره ، ووضعت الإضافة بين حاصرتين [ ] ، أمّا الآيات القرآنية فهي بين هلالين كبيرين ( ) ، وقمت بضبط وتحريك الكثير من أسماء الأعلام ، ومن المفردات التي يستشكل في قراءتها ، مع شرح معاني الألفاظ التي يغمض فهمها ، في الحواشي.
راجيا من الله أن يتقبّل عملي هذا ، وأن يعصمني من الكبر والزّهو ، وله الحمد أولا وآخرا.
عمر عبد السّلام تدمري
طرابلس الشام ٢٢ من رجب الفرد ١٤٠٦ ه.
أول نيسان (أبريل) ١٩٨٦ م.