أعلام النبوّة

أبي الحسن علي بن محمد الماوردي الشافعي

أعلام النبوّة

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد الماوردي الشافعي


المحقق: سعيد محمد اللحام
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٤٨

ويقولون : لم يبق نبي غيره.

قال عامر : فلما أسلمت أخبرت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقول زيد وأقرأته منه السلام فرد عليه‌السلام وترحم عليه وقال : «قد رأيته في الجنة يسحب الذيول».

ومن هواجس الإلهام : ما رواه الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال : بعث الله تعالى إلى كسرى ملكا وهو في بيت إيوانه الذي لا يدخل عليه فيه فلم يردعه إلّا به قائما على رأسه في يده عصا بالهاجرة من ساعته التي كان يقيل فيها ، فقال : يا كسرى أتسلم أو أكسر هذه العصا ، فقال : بهل بهل ، فانصرف عنه فدعا حراسه وحجابه فتغيظ عليهم فقال : من أدخل هذا الرجل؟ فقالوا : ما دخل عليك أحد ولا رأيناه.

حتى إذا كان العام القابل أتاه في الساعة التي أتاه فيها فقال له كما قال ، ثم قال : أتسلم أو أكسر هذه العصا؟ فقال : بهل بهل ثلاثا ، فخرج عنه ، فدعا كسرى حراسه وحجابه فتغيظ وقال لهم كما قال أول مرة ، فقالوا : ما رأينا أحدا دخل عليك.

حتى إذا كان في العام الثالث آتاه في الساعة التي أتاه فيها ، فقال له كما قال ، ثم قال : أتسلم أو أكسر هذه العصا؟ فقال : بهل بهل ، فكسرها ثم خرج فلم يكن إلّا تهوّر ملكه وانبعاث ابنه والفرس على قتله حتى قتلوه.

ومن هواجس المنام : ما حكاه ابن قتيبة أن كسرى ابرويز ابن هرمز كان سائرا ذات يوم فهوم على مركبه وطال حتى استغفل فأيقظه بعض قواده فانتبه مذعورا لرؤيا رآها قطعها عليه الموقظ له ، فقال : رأيت قائلا لي أنكم غيرتم فغيرناكم ونقل الملك إلى أحمد وقيل له سلم ما بيدك إلى صاحب الهراوة إلى أن ورد عليه كتاب النعمان بن المنذر يخبر فيه أن خارجا نجم بتهامة يخبر أنه رسول الله إله السماء والأرض إلى أهل الأرض كافة ، فارتاع لذلك وأكبره وعلم أنه الذي رآه في منامه وكان يتوقعه.

ومن هواجس المنام : ما رواه عروة بن مضرس عن مخرمة بن نوفل عن

١٨١

أمه رقية بنت أبي ضبعي بن هاشم قال : تتابعت على قريش سنون أمحلت الضرع وأدقت العظم فبينا أنا نائمة للهم أو مهمومة إذا هاتف يصرخ بصوت صخب يقول : يا معشر قريش إن هذا النبي المبعوث فيكم قد أظلّتكم أيامه وهذا إبان نجومه فحي هلا بالحياء والخصب ألا فانظروا رجلا منكم وسيطا جسيما أبيض بضا أوطف الأهداب سهل الخدين أشم العرنين له فخر يكظم عليه وسنه يهدي إليه فليخلص هو وولده وليهبط إليه من كل بطن رجل فليستنوا من الماء وليمسوا من الطيب ثم ليستلموا الركن ثم ليرتقوا أبا قبيس فليستسق الرجل وليؤمّن القوم فغثتم ما شئتم فأصبحت علم الله تعالى مذعورة وقد اقشعر جلدي ووله عقلي واقتصصت رؤياي فو الحرمة والحرم ما بقي بها أبطحي إلّا قال : هذا شيبة الحمد ـ يعنون عبد المطلب ـ فتتامت إليه رجالات قريش وهبط إليه من كل بطن رجل فسنوا ومسوا واستلموا ثم ارتقوا أبا قبيس وطبقوا جانبيه ما يبلغ سعيهم مهلة حتى استووا بذروة الجبل فقام عبد المطلب ومعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غلام حين أيفع أو كرب فقال : اللهم سادّ الخلة وكاشف الكربة أنت معلّم غير معلّم ومسئول غير مبخل وهذه عبادك وإماؤك بغدرات حرمك يشكون إليك سنتهم أذهبت الخف والظلف اللهم فأمطر علينا غيثا مغدقا مريعا ، فو الكعبة ما راحوا حتى تفجرت السماء بمائها والحيط الوادي بثجيجه فسمعت شيخين من قريش وأجلّتها : عبد الله بن جدعان وحرب بن أمية وهشام بن المغيرة يقولون لعبد المطلب : هنيئا لك أبا البطحاء ، أي عاش بك أهل البطحاء ، وفي ذلك يقول رفيقه :

بشيبة الحمد أسقى الله بلدتنا

لما فقدنا الحيا واجلوذ المطر

فجاد بالماء جوى له سبل

سحا فعاشت به الأنعام والشجر

مبارك الأمر يستسقي الغمام به

ما في الأنام له عدل ولا خطر

ومن هواجس الإنذار والإلهام والمنام : ما رواه أبو أيوب يعلى بن عمران النحلي عن مخزوم بن هانئ المخزومي عن أبيه واتت له مائة وخمسون سنة قال : لما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو بعث ارتجس (٣) إيوان كسرى

__________________

(٣) ارتجس : اهتز أو زلزل.

١٨٢

فسقطت منه أربع عشرة شرافة وخمدت نار فارس ولم تخمد قبل ذلك بألف عام وغارت بحيرة ساوة فأفزع ذلك كسرى فلبس تاجه وقعد على سريره وجمع وزراءه ومرازبته وأخبرهم برؤياه فقال الموبذان وأنا أصلح الله تعالى الملك قد رأيت في هذه الليلة إبلا صعابا تقود خيلا عرابا قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادنا ، فقال : أي شيء هذا يا موبذان؟ فقال : حادثة تكون من ناحية العرب فكتب إلى النعمان بن المنذر أن ابعث إليّ برجل عالم أسأله عما أريد ، فوجه إليه عبد المسيح بن عمرو بن نفيلة الغساني ، فلما قدم عليه أخبره ، فقال : أيها الملك علم ذلك عند خال لي يسكن مشارق الشام يقال له سطيح ، قال : فأته فاسأله عما أخبرتك به ثم آتي بجوابه ، فركب عبد المسيح راحلته حتى ورد على سطيح وقد أشفى على الموت ووضع على شفير قبره فسلم وحيّاه فلم يخبر سطيح جوابا فأنشأ عبد المسيح يقول :

أصم أم يسمع غطريف اليمن

يا فاضل الخطة أعيت من ومن

أتاك شيخ الحي من آل سنن

وأمه من آل ذئب بن حجن

أبيض فضفاض الردى خجر البدن

رسول قيل العجم يسري للوسن

فرفع سطيح رأسه وقال عبد المسيح على جمل مشيح وافى إلى سطيح وقد أوفى به إلى الضريح بعثك ملك بنى ساسان لارتجاس الإيوان وخمود النيران ورؤيا الموبذان رأى إبلا صعابا تقود خيلا عرابا قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها ثم قال : يا عبد المسيح إذا كثرت التلاوة وبعث من تهامة صاحب الهراوة وفاض وادي السماوة وغاضت بحيرة ساوة وخمدت نار فارس فليس الشام لسطيح شاما يملك منهم ملك وملكات بعدد الشرفات وكل ما هو آت ، ثم قضى سطيح فسار عبد المسيح على راحلته وهو يقول :

شمّر فإنك ماضي الهم شمير

ولا يغرنك تفريق وتغيير

إن يمس ملك بني ساسان أفرطهم

فإن ذا الدهر أطوار دهارير

فربما أصبحوا يوما بمنزلة

تهاب صولهم الأسد المهاصير

منهم أخو الصرح بهرام وإخوته

والهرمزان وسابور وسابور

١٨٣

والناس أولاد علات فمن علموا

إن قد أقل فمهجور ومحقور

وهم بنو الأم إلّا أن يروا نسبا

فذاك بالغيب محفوظ ومنصور

والخير والشر مقرونان في قرن

فالخير متبع والشر محذور

فلما قدم عبد المسيح على كسرى وأخبره قال كسرى : إلى أن يملك منا أربعة عشر ملكا قد كانت أمور ، فملك منهم عشرة ملوك أربع سنين وزال ملكهم عن يزدجر الرابع عشر بعد اثنتي عشرة سنة.

فإن قيل : فهذا قول كاهن قد أبطلته النبوة فلم يقبل قوله في إثبات النبوة فعنه جوابان :

أحدهما : أنه تأويل رؤيا تحققت خرج بها عن حكم الكهانة.

والثاني : أنه علمها بنقل الجن كهتوف الجن كما قال الله تعالى : (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ) (٤) فإذا سبر ما اختلفت طرقه وتغاير وصفه حرج عن القلة إلى التكاثر وعن الآحاد إلى التواتر فصار الظن معلوما والتوهم محتوما.

__________________

(٤) سورة الأنعام الآية (١٢١).

١٨٤

الباب الثامن عشر

في مبادي نسبه وطهارة مولده صلى‌الله‌عليه‌وسلم

لما كان أنبياء الله صفوة عباده وخير خلقه لما كلفهم من القيام بحقه استخلصهم من أكرم العناصر وأمدهم بأوكد الأواصر حفظا لنسبهم من قدح ولمنصبهم من جرح لتكون النفوس لهم أوطأ والقلوب لهم أصفى فيكون الناس إلى إجابتهم أسرع ولأوامرهم أطوع ولما تفرغ الملك عن إبراهيم واختصت النبوة بولده انحازت إلى ولد إسحاق دون إسماعيل فصارت في بني إسرائيل لكثرتهم بعد القلة وقوّتهم بعد الذلة ، فبدأت النبوة بموسى وانختمت بعيسى ، ولما كثر ولد إسماعيل وانتشروا في الأرض تميز بعد الكثرة ولد قحطان عن ولد عدنان واستولت قحطان على الملك انحازت النبوة إلى ولد عدنان ، فأول من أسس لهم مجدا وشيّد لهم ذكرا معد بن عدنان حين اصطفاه بختنصر (١) وقد ملك أقاليم الأرض وكان قد همّ بقتله حين غزا بلاد العرب فأنذره نبي كان في وقته بأن النبوة في ولده فاستبقاه وأكرمه ومكّنه واستولى على تهامة بيد عالية وأمر مطاع ، وفيه يقول مهلهل الشاعر :

غنيت دارنا تهامة بالأمس

وفيها بنو معد حلولا

ثم ازداد العز بولده نزار وانبسطت به اليد وتقدم عند ملوك الفرس واجتباه تستشف ملك الفرس وكان اسمه خلدان وكان مهزول البدن ، فقال

__________________

(١) من ملوك بلاد ما بين النهرين الآشوريين.

١٨٥

الملك : ما لك يا نزار ، وتفسيره في لغتهم يا مهزول ، فغلب عليه هذا الاسم فسمي نزارا ، وفيه يقول قمعة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان :

جديسا خلفناه وطسما بأرضه

فأكرم بنا عند الفخار فخارا

فنحن بنو عدنان خلدان جدنا

فسماه تستشف الهمام نزارا

فسمى نزارا بعد ما كان اسمه

لدى العرب خلدان بنوه خيارا

وكان لنزار أربعة أولاد : مضر وربيعة وأياد وأنمار ، فلما حضرته الوفاة وصّاهم فقال : يا بني هذه القبة الحمراء وما أشبهها لأياد وهذه الندوة والمجلس وما أشبهه لأنمار فإن أشكل عليكم واختلفتم فعليكم بالأفعى الجرهمي بنجران ، فاختلفوا في القسمة فتوجهوا إليه فبينما هم يسيرون إذ رأى مضر كلأ قد رعي ، فقال : إن البعير الذي رعى هذا الكلأ لأعور ، وقال ربيعة : هو أزور ، وقال أياد : هو أبتر ، وقال أنمار : هو شرود ، فلم يسيروا قليلا حتى لقيهم رجل يوضع على راحلته فسألهم عن البعير ، فقال مضر : هو أعور؟ قال : نعم ، وقال ربيعة : هو أزور؟ قال : نعم ، وقال أياد : هو أبتر؟ قال : نعم ، وقال أنمار : هو شرود؟ قال : نعم ، وهذه والله صفة بعيري فدلوني عليه ، فقالوا : والله ما رأيناه ، قال : قد وصفتموه بصفته فكيف لم تروه ، وسار معهم إلى نجران حتى نزلوا بالأفعى الجرهمي ، فناداه صاحب البعير : هؤلاء أصحاب بعيري وصفوه لي بصفته وقالوا لم نره ، فقال لهم الأفعى الجرهمي : كيف وصفتموه ولم تروه؟ فقال مضر : رأيته يرعى جانبا ويترك جانبا فعرفت أنه أعور ، وقال ربيعة : رأيت إحدى يديه ثابتة الأثر والأخرى فاسدة الأثر فعرفت أنه أزور ، وقال أياد : رأيت بعره مجتمعا فعرفت أنه أبتر ، وقال أنمار : رأيته يرعى المكان الملتف ثم يجوز إلى غيره فعرفت أنه شرود ، فقال الجرهمي لصاحب البعير : ليسوا أصحاب بعيرك فاطلب من غيرهم ، ثم سألهم من هم؟ فأخبروه أنهم بنو نزار بن معد ، فقال : أتحتاجون إليّ وأنتم كما أرى ، فدعا لهم لطعام فأكلوا وأكل ، وبشراب فشربوا وشرب ، فقال مضر : لم أر كاليوم خمرا أجود لو لا أنها نبتت على قبر ، وقال ربيعة : لم أر كاليوم لحما أطيب لو لا أنه ربي بلبن كلبة ، وقال أياد : لم أر كاليوم رجلا أسرى لو لا أنه

١٨٦

يدعى لغير أبيه ، وقال أنمار : لم أر كاليوم كلاما أنفع في حاجتنا.

وسمع الجرهمي الكلام فتعجب لقولهم وأتى أمه فسألها فأخبرته أنها كانت تحت ملك لا ولد له فكرهت أن يذهب الملك فأمكنت رجلا من نفسها كان نزل به فوطئها فحملت منه به ، وسأل القهرمان عن الخمر ، فقال : من كرمة غرستها على قبر أبيك ، وسأل الراعي عن اللحم ، فقال : شاة أرضعتها بلبن كلبة لأن الشاة حين ولدت ماتت ولم يكن ولد في الغنم شاة غيرها ، فقيل لمضر : من أين عرفت الخمر ونباتها على قبر؟ قال : لأنه أصابني عليها عطش شديد ، وقيل لربيعة : من أين عرفت أن الشاة ارتضعت على لبن كلبة ، قال : لأني شممت منه رائحة الكلب ، وقيل لأياد : من أين عرفت أن الرجل يدعى لغير أبيه ، قال : لأني رأيته يتكلف ما يعمله ، ثم أتاهم الجرهمي وقال : صفوا لي صفتكم ، فقصوا عليه ما أوصاهم به أبوهم نزار ، فقضى لمضر بالقبة الحمراء والدنانير والإبل وهي حمر فسمي مضر الحمراء ، وقضى لربيعة بالخباء الأسود والخيل الدهم فسمي ربيعة الفرس ، وقضى لأياد بالخادمة الشمطاء والماشية البلق ، وقضى لأنمار بالأرض والدراهم.

وهذا الذي ظهر في أولاد نزار من قوة الذكاء وحد الفطنة تأسيسا لتميزهم بالفضل واختصاصهم بوفور العقل مقدمة لما يراد بهم ، ثم تفرقت القبائل منهم ، فاختص ولد مضر بن نزار بالحرم فتميزوا بأنسابهم وتناصروا بسيوفهم (٢) حتى استولت قريش على الحرم بعد جرهم وخزاعة لأن جرهم كانوا جبابرة فبغوا وتجبروا حتى بعث الله تعالى عليهم الرعاف والنمل فأفناهم وأفضى أمرهم إلى عامر بن الحرث وهم القائلون :

واد حرام طيره ووحشه

نحن ولاته فلا نغشه

فاجتمعت خزاعة ورئيسهم عمرو بن ربيعة بن حارثة على عامر بن ربيعة وبقية جرهم فأخرجوه من الحرم واستولت عليه خزاعة وولي البيت عمرو بن ربيعة فقال :

__________________

(٢) تناصروا بسيوفهم : تساعدوا في الحرب.

١٨٧

نحن ولّينا البيت بعد جرهم

نعمره من كل باغ ملحد

ولما انحاز عامر بن الحرث مع بقية جرهم عن الحرم عند استيلاء خزاعة عليه خرج بغزالي الكعبة وحجر الركن يلتمس التوبة وهو يقول :

لا هم إن جرهما عبادك

الناس طرف وهم تلادك

فلم تقبل توبته فألقى غزالي الكعبة وحجر الركن في زمزم ودفنها وخرج ببقية جرهم وهو يقول :

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا

أنيس ولم يسمر بمكة سامر

بلى نحن كنا أهلها فأبادنا

صروف الليالي والدهور الغوائر

فلما رأى عامر بن الحرث الجرهميّ ما صاروا إليه بعد الكثرة والقوة قال :

يا أيها الناس سيروا إن قصركم

أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا

كنا أناسا كما كنتم فغيرنا

دهر فأنتم كما كنا تكونونا

خطوا المطى وأرخوا من أزمتها

قبل الممات وقضوا ما تقضونا

فوليت خزاعة البيت والحرم غير أنه كان في مضر من أمره ثلاث خلال :

إحداهن : الدفع من عرفة إلى المزدلفة ، كان إلى الغوث بن مر وهو صوفة.

والثانية : الإفاضة من مزدلفة إلى منى للنحر كان لزيد بن عدوان وآخر من أفضى إليه أبو سيارة.

والثالثة : النسيء لشهور الحج كان للمتلمس من بني كنانة واخر من أفضى إليه حتى جاء بالإسلام ثمامة بن عوف فشركت مضر خزاعة في معالم الحج وإن كانت زعامة الحرم لخزاعة وقريش في اوزاع بنى كنانة من مضر وأفضت

١٨٨

معالم الحج من أوزاع مضر إلى قريش فولاها منهم كعب بن لؤي بن غالب وكان يجمع الناس في كل يوم جمعة ويخطب فيه على قريش فيأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويقول : حرمكم عظّموه وتمسكوا به فسيأتي له نبأ عظيم وسيخرج منه نبي كريم ، وهو أول من فصح بالنبوة حين شاهد آثارها وعرف أسرارها من انقياد العرب إليهم تدينا بحرمهم وإعظاما لكعبتهم وكان ذلك إلهاما هجست به نفسه وتخيلا صدق فيه حدسه لأن لكل خطب نذيرا ولكل مستقبل بشيرا ، وانتهضت خزاعة في الحرم إلى خليل بن الحبشية الخزاعي ، فكان يلي الكعبة وأمر مكة ، فتزوج إليه قصي بن كلاب فاشتد به قصي وكان اسمه زيد ، فلما هلك خليل رأى قصي أنه أولى بالولاية على الكعبة وأمر مكة من خزاعة ، فاستولى عليها.

واختلف في سبب استيلائه فقال قوم : لأن خليلا أوصى إليه بذلك ، وقال آخرون بل اشتراه من آل خليل بزق من خمر ، وقال آخرون بل استنصر على خزاعة بأخيه لأمه رزاح بن ربيعة القضاعي حتى أجلى خزاعة عن مكة فخلصت الرئاسة لقصي فجمع قريشا وهم في أوزاع بني كنانة فمنعت بنو كنانة منهم فحاربهم بمن أطاعه حتى أفردهم منهم وجمعهم بمكة فسمي مجمعا ، وفيه يقول شاعرهم :

أبونا قصي كان يدعي مجمعا

به جمع الله القبائل من فهر

فلما اجتمعوا أنزلهم بطحاء مكة في الشعاب ورءوس الجبال وقسمها بينهم أرباعا بين قومه وأنزل كل قوم من قريش منازلهم من مكة التي أصبحوا عليها وكانت إليه الحجابة والسقاية والوفادة والندوة واللواء وصارت سنّته في قريش كالدين الذي لا يعمل بغيره فزادت القوة بجمعهم حتى عقد الولاية وجدّد بناء الكعبة وهو أول من بناها بعد إبراهيم وإسماعيل وبنى دار الندوة للتحاكم والتشاجر والتشاور ، وهي أول دار بنيت بمكة وكانوا يجتمعون في جبالها ثم بنى القوم دورهم بها فتمهدت لهم الرئاسة وظهرت فيهم السياسة فصاروا بها زعماء عبادة أنذرت بطاعة إلهية وديانة نبوية توطئة لما جدده الله تعالى منها برسوله وتأسيسا لمباديها فقاموا بالكعبة ونزهوا الحرم وتكفلوا بالحج فصاروا دياني العرب

١٨٩

وولاة الحرم وقادة الحجيج فدانت لهم العرب وتقدموا فيهم بالشرف لحلولهم في الحرم وتكفلهم بالكعبة ثم قيامهم بالحج وشاع ذلك في الأمم.

فحكى قوم من دياني (٣) العرب أن جماعة من ملوك الفرس زاروا الكعبة بمكة وعظموها وحملوا إليها صنوف الثياب وأنواع الطيب وزمزموا من معهم من الفرس عند بئر زمزم ، فلذلك سميت زمزم ، واستشهد قائل هذا بقول الشاعر :

زمزمت الفرس على زمزم

وذاك في سالفة الأقدم

وقريش هم ولد النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر ، وقيل بل هم بنو فهر بن مالك بن النضر فمن نسبهم إلى النضر فلأنه تفرقت قبائل بني كنانة ، وقيل كان يسمى قريشا ومن نسبهم إلى فهر فلأن فهرا في زمانه كان رئيس الناس بمكة وقصدها حسان بن عبد كلال في حمير وقبائل اليمن ليهدم الكعبة وينقل أحجارها إلى اليمن ليبنيه بيتا باليمن يجعل حج الناس إليه ، فنزل بنخلة وأغار على سرح مكة فسار إليه فهر في كنانة وأحلافهم من قبائل مضر ، فانهزمت حمير وأسر الحرث بن فهر حسان بن عبد كلال فبقي في يد فهر ثلاث سنين أسيرا بمكة حتى فدى نفسه وخرج فمات بين مكة واليمن ، فعظم بهذا الحرث شأن فهر فأغزت إليه قريش حين حمى مكة ومنع من هدم الكعبة وكانت من أشباه عام الفيل واختلف في تسميتهم قريشا على أربعة أقاويل أحدها لتجمّعهم بعد التفرق ، والتقرش التجمع ، ومنه قول الشاعر :

إخوة قرشوا الذنوب علينا

في حديث من دهرهم وقديم

والثاني لأنهم كانوا تجارا يأكلون من مكاسبهم والقرش التكسب ، والثالث لأنهم كانوا يفتشون الحاجة عند ذي الخلة (٤) فيسدون خلته والقرش التفتش ، ومنه قول الشاعر :

أيها السامت التقرش عنا

عند عمرو فهل له إبقاء

__________________

(٣) دياني العرب : رجال الدين فيهم.

(٤) ذي الخلة : الفقير المحتاج.

١٩٠

والرابع أن قريشا اسم دابة في البحر من أقوى دوابه سميت بها قريش لقوتها ، أنها تأكل ولا تؤكل وتعلو ولا تعلى ، قاله ابن عباس واستشهد بقول الشاعر :

وقريش هي التي تسكن البحر

بها سميت قريش قريشا

سلطت بالعلو في لجة البحر

على ساكني البحور جيوشا

تأكل الغث والسمين ولا

تترك يوما لذي الجناحين ريشا

هكذا في البلاد حتى قريش

يأكلون البلاد أكلا كشيشا

ولهم آخر الزمان نبي

يكثر القتل فيهم والخموشا

تملأ الأرض خيله ورجال

يحشرون المطي حشرا كميشا

وهذا من هواجس النفوس المخبرة وآيات العقول المنذرة ، فأما مكة فلها اسمان : مكة وبكة ، وقد جاء القرآن بهما ، واختلف في الاسمين هل هما لمسمى واحد أو لمسميين على قولين :

أحدهما : أنه لمسمى واحد لأن العرب تبدل الميم بالباء فيقولون ضربة لازم ولازب لقرب المخرجين.

والقول الثاني : وهو أشبه أنهما اسمان لمسميين ، واختلف من قال بهذا في المسمى منهما على قولين ؛

أحدهما : أن مكة اسم البلد وبكة (٥) اسم البيت ، وهذا قول إبراهيم النخعي.

والقول الثاني : أن مكة الحرم كله وبكة المسجد كله ، وهذا قول زيد بن أسلم ، فأما مكة فمأخوذة من قولهم : تمككت المخ إذا استخرجته لأنها تملك الفاجر ، أي تخرجه ، قال الشاعر :

يا مكة الفاجر مكي مكا

ولا تمكي مذحجا وعكا

وأما بكة قال الأصمعي : سميت بذلك لأن الناس يبك بعضهم بعضا ،

__________________

(٥) وقلب الباء ميما أو العكس وارد في العديد من الكلمات العربية وهي قاعدة في اللغة الآرامية أم اللغة العربيّة.

١٩١

أي يدفع ، وأنشد يقول :

إذا الشريب أخذته بكة

فخله حتى يبك بكة

ثم أفضت رئاسة قريش بعد قصي إلى ابنه عبد مناف بن قصي فجاد وزاد وساد حتى قال فيه الشاعر :

كانت قريش بيضة فتفقأت

فالمح خصاله لعبد مناف

وكان اسمه المغيرة فدفعته أمه إلى مناف وكان أعظم أصنام مكة تعظيما له فغلب عليه عبد مناف وكان يسمى القمر لجماله فاستحكمت رئاسته بعد أبيه لجوده وسياسته ثم ببنيه فولد له هاشم وعبد شمس توأمان في بطن فقيل أنه ابتدأ خروج أحدهما وإصبعه ملصقة بجبهة الآخر فلما أزيلت دمى موضعها فقيل : يكون بينهما دم ، ثم ولد بعدهما نوفل ، ثم المطلب. وكان أصغرهم فساروا وتقدمهم هاشم لسخائه وسؤدده ، وكان اسمه عمرا ، فسمي هاشما لأنه أول من هشم الثريد لقومه بمكة في سنة لزبة قحطة رحل فيها إلى فلسطين فاشترى منها الدقيق وقدم به إلى مكة ونحر الجزر وجعلها ثريدا عمّ به أهل مكة حتى استقلوا ، فقال فيه الشاعر :

يا أيها الرجل المحول رحله

هلا نزلت بال عبد مناف

الآخذون العهد من آفاقها

الراحلون لرحلة الإيلاف

والرائشون وليس يوجد رائش

والقائلون هلم للأضياف

والخالطون غنيهم بفقيرهم

حتى يكون فقيرهم كالكافي

عمرو العلاء هشم الثريد لقومه

ورجال مكة مسنتون عجاف

وهاشم أول من سن الرحلتين لقريش : رحلة الشتاء ورحلة الصيف ، وأراد أمية بن عبد شمس أن يتشبه بهاشم في صنيعه فعجز عنه فشمت به ناس كثير من قريش ، فقال فيه وهب بن عبد قصي :

تحمل هاشم ما ضاق عنه

وأعيا أن يقوم به بريض

أتاهم بالغرائر مثقلات

من الشام بالبر البغيض

فأوسع أهل مكة من هشيم

وشاب اللحم باللحم الغريض

١٩٢

ونشبت العداوة بين أمية وهاشم وأراد منافرته فكره هاشم ذلك لنسبه وقدره فلم تدعه قريش حتى نافره إلى الكاهن الخزاعي في خمسين ناقة سود الحدق ينحرها ببطن مكة والجلاء من مكة عشر سنين ، فنفر الخزاعي هاشما وقال لأمية : تنافر رجلا هو أطول منك قامة وأعظم منك هامة وأحسن منك وسامة وأقل منك لامة وأكثر منك ولدا وأجزل منك صفرا ، فقال أمية : من انتكاث الزمان أن جعلناك حكما ، فأخذ هاشم الإبل فنحرها وأطعمها من حضره وخرج أمية إلى الشام فأقام بها عشر سنين ، فكانت هذه أول عداوة وقعت بين هاشم وأمية وملك هاشم الوفادة والسقاية واستقرت له الرئاسة وصارت قريش له تابعة تنقاد لأمره وتعمل برأيه ، وتنافرت قريش وخزاعة إليه فخطبهم بما أذعن له الفريقان بالطاعة ، فقال في خطبته : أيها الناس نحن آل إبراهيم وذرية إسماعيل وبنو النضر ابن كنانة وبنو قصي بن كلاب وأرباب مكة وسكان الحرم لنا ذروة الحسب ومعدن المجد ولكل في كل حلف يجيب عليه نصرته وإجابة دعوته إلّا ما دعا إلى عقوق عشيرة وقطع رحم يا بني قصي أنتم كغصني شجرة أيهما كسر أوحش صاحبه والسيف لا يصان إلّا بغمده ورامي العشيرة يصيبه سهمه ومن أمحكه اللجاج أخرجه إلى البغي أيها الناس الحلم شرف والصبر ظفر والمعروف كنز والجود سؤدد والجهل سفه والأيام دول والدهر غير والمرء منسوب إلى فعله ومأخوذ بعمله فاصطنعوا المعروف تكسبوا الحمد ودعوا الفضول تجانبكم السفهاء وأكرموا الجليس يعمر ناديكم وحاموا الخليط يرغب في جواركم وأنصفوا من أنفسكم يوثق بكم وعليكم بمكارم الأخلاق فإنها رفعة وإياكم والأخلاق الدنيئة فإنها تضع الشرف وتهدم المجد ألا وأن نهنهة الجاهل أهون من حزيرته ورأس العشيرة يحمل أثقالها ومقام الحليم عظة لمن انتفع به.

فقالت قريش : رضينا بك أبا نضلة ، وهي كنيته ، فانظروا إلى ما أمر به من شريف الأخلاق ونهى عنه من مساوئ الأفعال هل صدر إلّا عن غزارة فضل وجلالة قدر وعلو همة وما ذاك إلّا لاصطفاء يراد وذكر يشاد لأن توالي ذلك في الآباء يوجب تناهيه في الأبناء ، ومات هاشم بغزة من أرض الشام وهو أول

١٩٣

من مات من ولد عبد مناف ثم مات عبد شمس بمكة فقبر باجياد ثم مات نوفل بسلمان من طريق العراق ومات المطلب بريمان من أرض اليمن ، وكان هاشم قد تزوج بيثرب من الخزرج بسلمى بنت عمرو النجارية فولدت له بيثرب عبد المطلب وكان اسمه شيبة الحمد ونشأ فيهم حتى مات أبوه هاشم وانتقلت عنه الرئاسة والوفادة والسقاية إلى أخيه المطلب ووصف له شيبة بيثرب فخرج فاستنزل أمه عنه حتى أخذه منها ودخل به مكة مردفا له فقالت قريش : من هذا؟ فقال : عبدي ، فسمي عبد المطلب إلى أن مات فوثب عليه عمه نوفل ابن عبد مناف في ركح كان له فاغتصبه إياه ـ والركح الساحة ـ فسأل عبد المطلب رجالات قومه النصرة على عمه ، فقالوا : لسنا داخلين بينك وبين عمك ، فلما رأى عبد المطلب ذلك كتب إلى أخواله من بني النجار يقول :

يا طول ليلي لأشجاني وأشغالي

هل من رسول إلى النجار أخوالي

ينبئ عديا ودينارا ومازنها

ومالكا عصمة الجيران عن حالي

وكنت ما كنت حيا ناعما جذلا

أمشي الغضية سحابا لأذيالي

حتى ارتحلت إلى قومي وأزعجني

عن ذاك مطلب عمي بترحالي

فغاب مطلب في قعر مظلمة

وقام نوفل كي يعدو على مالي

أئن رأى رجلا غابت عمومته

وغاب أخواله عنه بلا والي

أنحى عليه ولم يحفظ له رحما

ما أمنع المرء بين العم والخال

فاستنفروا وامنعوا ضيم ابن أختكم

لا تخذلوه وما أنتم بخذالي

ما مثلكم في بني قحطان قاطبة

حي لجار وانعام وافضال

أنتم ليان لمن لانت عريكته

سلما لكم وسمام الأبلج العالي

فقدم عليه ثمانون راكبا من بني النجار ونصروه على عمه نوفل وارتجعوا منه الركح وعادوا ، وقد اشتد بهم عبد المطلب فدعا ذلك نوفلا أن حالف بني عبد شمس على عبد المطلب وبني هاشم ودعا ذلك عبد المطلب على أن حالف بني هاشم على نوفل وبني عبد شمس ، فقوى عبد المطلب وضعف نوفل وانتقلت السقاية والوفادة والرئاسة إلى عبد المطلب ، وأخذ نوفل عهدا من أكاسرة العراق وصارت رحلته إليها ، وأخذ عبد المطلب عهدا من ملوك الشام

١٩٤

وأقيال حمير باليمن وصارت رحلته إليها ، وحفر عبد المطلب حين قوي واشتد بئر زمزم وأخرج منها ما كان ألقاه فيها عامر بن الحرث الجرهمي ومن غزالي الكعبة وحجر الركن فضرب الغزالين صفائح ذهب على باب الكعبة ووضع الحجر في الركن ، وصار عبد المطلب سيدا عظيم القدر مطاع الأمر نجيب النسل حتى مرّ به أعرابي وهو جالس في الحجر وحوله بنوه كالأسد ، فقال : إذا أحب الله إنشاء دولة خلق لها أمثال هؤلاء ، فأنشأ الله لهم بالنبوة دولة وخلد بها ذكرهم ورفع بها قدرهم حتى سادوا الأنام وصاروا الأعلام وصار كل من قرب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من آبائه أعظم رئاسة وتنوها وأكثر فضلا وتالها.

فحكى الزهري ويزيد بن رومان وصالح بن كيسان أن عبد الطلب بن هاشم نذر أنه متى رزق عشرة أولاد ذكور ورآهم بين يديه رجالا أن ينحر أحدهم للكعبة شكرا لربه حين علم أن إبراهيم أمر بذبح ولده تصوّرا من أنه أفضل قربة فلما استكمل ولده العدد وصاروا له من أظهر العدد قال لهم : يا بني كنت نذرت نذرا علمتموه قبل اليوم فما تقولون؟ قالوا : الأمر لك وإليك ونحن بين يديك ، فقال : لينطلق كل واحد منكم إلى قدحه وليكتب عليه اسمه ، ففعلوا ثم أتوه بالقداح فأخذها وجعل يرتجز ويقول :

عاهدته وأنا موف عهده

والله لا يحمد شيء حمده

إذا كان مولاي وكنت عبده

نذرت نذرا لا أحب رده

ولا أحب ان اعيش بعده

ثم دعا بالأمين الذي يضرب بالقداح فدفع إليه قداحهم وقال : حرك ولا تعجل ، وكان أحب ولد عبد المطلب إليه عبد الله ، فضرب صاحب القداح السهم على عبد الله ، فأخذ عبد المطلب الشفرة وأتى بعبد الله وأضجعه بين إساف ونائلة وأنشأ مرتجزا يقول :

عاهدته وأنا موف نذره

والله لا يقدر شيء قدره

هذا بني قد أريد نحره

وإن يؤخره يقبل عذره

وهمّ بذبحه فوثب إليه ابنه أبو طالب وكان أخا عبد الله لأبيه وأمه وأمسك يد عبد المطلب عن أخيه ، وأنشأ مرتجزا يقول :

١٩٥

كلا ورب البيت ذي الأنصاب

ما ذبح عبد الله بالتلعاب (٦)

يا شيب إن الريح ذو عقاب

إن لنا جرة في الخطاب

أخوال صدق كأسود الغاب

فلما سمعت بنو مخزوم هذا من أبي طالب ، وكانوا أخواله ، قالوا صدق ابن أختنا ، ووثبوا إلى عبد المطلب ، فقالوا : يا أبا الحرث إنا لا نسلم ابن أختنا للذبح فاذبح من شئت من ولدك غيره ، فقال : إني نذرت نذرا وقد خرج القدح ولا بد من ذبحه ، قالوا : كلا لا يكون ذلك أبدا وفينا ذو روح وإنا لنفديه بجميع أموالنا من طارف وتالد (٧) ، وأنشأ المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم مرتجزا يقول :

يا عجبا من فعل عبد المطلب

وذبحه ابنا كتمثال الذهب

كلا وبيت الله مستور الحجب

ما ذبح عبد الله فينا باللعب

فدون ما يبغي خطوب تضطرب

ثم وثب السادات من قريش إلى عبد المطلب فقالوا : يا أبا الحرث إن هذا الذي عزمت عليه عظيم وإنك إن ذبحت ابنك لم تتهن بالعيش من بعده (٨) ولكن لا عليك أنت على رأس أمرك تثبت حتى نسير معك إلى كاهنة بني سعد فما أمرتك من شيء فامتثله ، فقال عبد المطلب : لكم ذلك ، وكانوا يرون الكهانة حقا ، ثم خرج في جماعة من بني مخزوم نحو الشام إلى الكاهنة فلما دخلوا عليها أخبرها عبد المطلب بما عزم عليه من ذبح ولده وارتجز يقول :

يا رب إني فاعل لما ترد

إن شئت ألهمت الصواب والرشد

يا سائق الخير إلى كل بلد

قد زدت في المال وأكثرت العدد

فقالت الكاهنة : انصرفوا عني اليوم ، فانصرفوا وعادوا من الغد ، فقالت : كم دية الرجل عندكم؟ قالوا : عشرة من الإبل ، قالت : فارجعوا إلى بلدكم وقدموا هذا الغلام الذي عزمتم على ذبحه وقدموا معه عشرة من

__________________

(٦) التلعاب : اللعب أي أنه ليس أمرا سهلا ولا مقبولا.

(٧) الطارف : الجديد. التالد : الموروث.

(٨) كما خافوا أن يتخذ الناس ذلك سنة بعده.

١٩٦

الإبل ثم اضربوا عليه وعلى الإبل القداح فإن خرج القدح على الإبل فانحروها وإن خرج على صاحبكم فزيدوا في الإبل عشرة عشرة حتى يرضى ربكم ، فانصرف القوم إلى مكة وأقبلوا عليه يقولون : يا أبا الحرث إن لك في إبراهيم أسوة فقد علمت ما كان من عزمه في ذبح ابنه إسماعيل وأنت سيد ولد إسماعيل فقدّم مالك دون ولدك ، فلما صبح عبد المطلب غدا بابنه عبد الله إلى الذبح وقرّب معه عشرة من الإبل ثم دعا بأمين القداح وجعل لابنه قدحا وقال : اضرب ولا تعجل ، فخرج القدح على عبد الله ، فجعلها عشرين فضرب فخرج القدح على عبد الله ، فجعلها ثلاثين ، فضرب فخرج القدح على عبد الله ، فجعلها أربعين ، فضرب فخرج القدح على عبد الله ، فجعلها خمسين ، فضرب فخرج القدح على عبد الله ، فجعلها ستين ، فضرب فخرج القدح على عبد الله ، فجعلها ثمانين ، فضرب فخرج القدح على عبد الله ، فجعلها تسعين ، فضرب فخرج القدح على عبد الله ، فجعلها مائة ، وضرب فخرج القدح على الإبل ، فكبّر عبد الله وكبّرت قريش وقالت : يا أبا الحرث أنه قد أنهى رضاء ربك وقد نجا ابنك من الذبح ، فقال : لا والله حتى أضرب عليه ثلاثا ، فضرب الثانية فخرج على الإبل ، فضرب الثالثة فخرج على الإبل ، فعلم عبد المطلب أنه قد أنهى رضاء ربه في فداء ابنه فارتجز يقول :

دعوت ربي مخلصا وجهرا

يا رب لا تنحر بني نحرا

وفاد بالمال تجد لي وفرا

أعطيك من كل سوام عشرا

عفوا ولا تشمت عيونا حزرا

بالواضح الوجه المغشى بدرا

فالحمد لله الأجل شكرا

فلست والبيت المغطى سترا

مبدلا نعمة ربي كفرا

ما دمت حيا أو أزور القبرا

ثم قربت الإبل وهي مائة من جملة إبل عبد المطلب فنحرت كلها فداء لعبد الله وتركت في مواضعها لا يصد عنها أحد يتناوبها من دب ودرج ، فجرت السنّة في الدية بمائة من الإبل إلى يومنا هذا ، وانصرف عبد المطلب بابنه عبد الله فرحا ، فكان عبد الله يعرف بالذبيح ، ولذلك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا ابن

١٩٧

الذبيحين» ـ يعني إسماعيل بن إبراهيم عليهما‌السلام وأباه عبد الله بن عبد المطلب ـ وهذا من صنع الله تعالى لرسوله لما قدره من رسالته وقضاه من آيات نبوته ، فما يخلو نبي من بلوى منذرة ولا ملك من بلية زاجرة ، هذا سليمان بن داود عليهما‌السلام وقد أعطاه الله مع النبوة ملكا لا ينبغي لأحد من بعده وسأل الله تعالى الحكمة فأعطاه قلبا عليما وفهما سليما حتى وضع ثلاثة آلاف مثل تهذبت بها أخلاق قومه واستقامت بها سيرة ملكه بعد أن سخرت له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب وسخرت له الشياطين يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب.

وذكر في سيرته أنه كان نزله في كل يوم من دقيق السميد ثلاثين كرا ومن غير السميد كرا وارتفاقه في كل سنة ستة وثلاثين ألف ألف ألف وثلاثة وثلاثين ألف ألف وثلاثمائة ألف مثقال ، وكان له ألف وأربعمائة قيل متفرقة في القرى ، وملك أربعين سنة كأبيه داود ، فابتلاه الله تعالى في أثناء ملكه بعد عشرين سنة منه ما حكاه الله تعالى في كتابه بقوله : (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ) (٩).

وفي فتنته قولان :

أحدهما : أن سليمان سبى بنت ملك غزاه في جزيرة من جزائر البحر يقال لها صيدون (١٠) فألقيت عليه محبتها وهي معرضة عنه تذكرا لأبيها لا تنظر إليه إلّا شزرا ولا تكلمه إلّا نزرا ، ثم إنها سألته أن يصنع لها تمثالا على صورته فأمر به فصنع لها فعظمته وسجدت له وسجد معها جواريها وصار صنما معبودا في داره وهو لا يعلم به حتى مضت أربعون يوما وفشا خبره في بني إسرائيل وعلم به سليمان فكسره ثم حرقه ثم ذراه في الريح ، هذا قول شهر بن حوشب.

والثاني : أن الله تعالى قد جعل ملك سليمان في خاتمه ، فقال لآصف ـ وهو شيطان اسمه آصف الشياطين ـ كيف تضلون الناس؟ فقال له الشيطان : أعطني خاتمك حتى أخبرك ، فأعطاه خاتمه ، فألقاه في البحر حتى ذهب ملكه ،

__________________

(٩) سورة ص الآية (٣٤).

(١٠) وقد ذكرت أنها صيدون المعروفة الآن باسم صيدا في لبنان.

١٩٨

وهذا قول مجاهد.

وفي الجسد الذي ألقي على كرسيه قولان :

أحدهما : أن الشيطان الذي ألقى خاتم سليمان في البحر جلس على كرسي سليمان متشبها بصورته يقضي بغير الحق ويأمر بغير الصواب.

والثاني : أكثر من غشي جواريه طلبا للولد فولد له نصف إنسان فكان هو الجسد الملقى على كرسيه وزال عن سليمان ملكه فخرج هاربا إلى ساحل البحر يتضيف الناس ويحمل سموك (١١) الصيادين بالأجر ، وإذا أخبر الناس أنه سليمان كذبوه ، إلى أن أخذ حوتة من صياد قيل أنه استطعمها وقيل بل أخذها أجرا ، فلما شق بطنها وجد خاتمه في جوفها وذلك بعد أربعين يوما من زوال ملكه عنه ، وهي عدة الأيام التي عبد فيها الصنم في داره ، فسجد الناس له حين عاد الخاتم إليه.

وقال يحيى بن أبي عمر : وجد خاتمه بعسقلان فمشى فيها إلى بيت المقدس تواضعا لله.

وفي قوله : (ثُمَّ أَنابَ) (١٢) تأويلان :

أحدهما : ثم رجع إلى ملكه ، قاله الضحاك.

والثاني : ثم أناب من ذنبه ، قاله قتادة ، وبقي في ملكه بعد فتنته عشرين سنة استكمل بها الأربعين ، وهي مدة الأيام الأربعين التي زال ملكه فيها.

وأما بلوى الملوك : فإن بختنصر كان ملكه طبق عمارة الأرض حتى ملك الأقاليم السبعة ودانت له ملوك الأمم وأدوا إليه خراج بلادهم فطغى قلبه وشمخ أنفه فداخلته العزة واعتقد أن أمم الخلق قد صاروا عبيدا له وخولا وأن ملوك الأرض دانت بطاعته خوفا ورهبة ، فغضب الله تعالى عليه وسلبه عزة سلطانه

__________________

(١١) سموك : أسماك ، وليس هذا ما ذكرته التوراة عن نهاية سليمان عليه‌السلام.

(١٢) سورة ص الآية (٣٤).

١٩٩

وسطوته وأزال عنه هيبته وقدرته وجعل قلبه مثل قلوب الحيوان فانحط عن سرير ملكه ونفاه أعوانه عنهم فسكن الفلوات يأكل حشيشها وابتل جسمه من قطر السماء حتى طال شعره وصارت أظفاره كمخاليب الطير حتى حال سبعة أحوال وهو في سكرة لا يدري الناس إلّا أنه كنوع من الحيوان الذي في صورة البشر إلى أن استنقذه الله تعالى من كربه فثاب إليه عقله وراجعه تمييزه فرجع ببصره إلى السماء معظما لله تعالى ومستجيرا به ومعترفا أن لا سلطان إلّا له يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء ، فطلبه قوّاده ليردّوه إلى سلطانه حتى وجدوه فأعادوه إلى دار عزه وأجلسوه على سرير ملكه فعاد إلى خوف الله تعالى ومراقبته وإلى ما كان عليه من جميل سيرته واستناب دانيال النبي في خلافته وتدبير ملكه إلى أن مضى لسبيله بعد إحدى وخمسين سنة من ملكه ودانيال على خلافته.

ومنهم من ملوك الفرس : كسرى أبرويز ، بلغ في الملك مبلغا عظيما وكان في قصره اثنتا عشر ألف جارية منهن للاستمتاع ثلاثة آلاف جارية وباقيهن للغناء والخدمة ، وكان في داره ثلاثة آلاف رجل يقومون بخدمته وكان له ألف فيل إلّا فيل ومن الخيل والبغال خمسون ألف رأس منها لمركبه ثمانية آلاف وخمسمائة ، وأمر أن يحصى ما اجتبى من خراج بلاده سنة ثمان عشرة من ملكه فكان ستمائة ألف ألف درهم وعدد على ابنه شيرويه بعد قبضه عليه أنه قال : أمرنا في سنة ثلاثين ملكنا بإحصاء ما في بيوت أموالنا سوى ما أمرنا بعزله لأرزاق الجند وكان من الورق أربعمائة ألف بدرة يكون فيها ألف ألف ألف مثقال وستمائة ألف ألف مثقال سوى ما أفاءه الله تعالى علينا وزادنا من أموال ملوك الروم في سفن أقبلت بها الريح إلينا قسمناه في الرياح ولم تزل تزداد أموالنا إلى سنتنا هذه وهي سنة ثمان وثلاثين من ملكنا وفيها قبض عليه ابنه حتى قتله ، وقد ذكر له ما جمع لأنه استطال واحتقر الناس.

فانظر أيها المعتبر بعقله في صنع الله تعالى وقدرته فيمن يبتليه اختبارا ويبلوه ازدجارا هل لما قضاه من دافع وفيما ابتلاه من مانع إلّا بلطف منه يؤتيه من يشاء وهو القوي العزيز.

٢٠٠