اعجاز القرآن بين المعتزلة والأشاعرة

دكتور منير سلطان

اعجاز القرآن بين المعتزلة والأشاعرة

المؤلف:

دكتور منير سلطان


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشأة المعارف بالإسكندرية
الطبعة: ٣
ISBN: 977-103-297-6
الصفحات: ٢٩٢

واحدة ولكن اختلاف الصور التى تعرض فيها تعطيها قيما جمالية مختلفة» (١).

وسبق أن تكلم بشر فى صحيفته عن التوعر «فان التوعر يسلمك إلى التعقيد ، والتعقيد هو الذى يستهلك معانيك ، ويشين ألفاظك» (٢). والجاحظ يكرر دائما القول فى أنه «لا ينبغى أن يكون اللفظ عاميا وساقطا سوقيا» (٣) وأن المعانى (إذا كسيت الألفاظ الكريمة وألبست الأوصاف الرفيعة تحولت فى العيون عن مقادير صورها ، وأربت على حقائق أقدارها ، بقدر ما زيّنت ، وحسب ما زخرفت ، فقد صارت الألفاظ فى معانى المعارض ، وصارت المعانى فى معنى الجوارى ، والقلب ضعيف وسلطان الهوى قوى) (٤).

ومر بنا كيف اعتنى القاضى عبد الجبار بالذوق وسماه «القدر الضرورى» ، أو «الآلة» ، أو «الألطاف» ، أو «التأييد الالهى» ، وكيف أنه شىء يختلف حسب نصيب كل مجتهد ، وهذه الأنصبة تتفاوت صعدا إلى أن تقف عند نهاية (٥).

والباقلانى يتحدث عن تفضيل الله العربية على غيرها ، وقد جعلت لذلك لنظم القرآن ، وعلق بها الإعجاز فصار دلالة على النبوة لما بها من خصائص ذاتية متميزة (٦) والوجه العاشر فى إعجاز القرآن عنده يرجع إلى سهولة سبيله وخروجه عن الوحشى المستكره (٧).

ونراه يقرر أيضا «أن الكلام موضوع للإبانة عن الأغراض التى فى النفوس وإذا كان كذلك ، وجب أن يتخيّر من اللفظ ، ما كان أقرب إلى الدلالة على المراد ، وأوضح فى الإبانة عن المعنى المطلوب ، ولم يكن مستكره المطلع على الأذن ، ولا مستنكر المورد على النفس ، حتى يتأبى بغرابته فى اللفظ عن الأفهام ،

__________________

(١) الدكتور عز الدين اسماعيل ـ الأسس الجمالية فى النقد الأدبى ـ ٢١٤.

(٢) الجاحظ ـ البيان والتبيين ـ ١ / ١٣٥.

(٣) نفس المصدر ـ ١ / ١٧٠.

(٤) نفس المصدر ـ ١ / ٢٧٢ وانظر الحيوان ١ / ٨٨.

(٥) القاضى عبد الجبار ـ إعجاز القرآن ـ ٢٠٨ و ٢١٣.

(٦) الباقلانى ـ إعجاز القرآن ـ ١١٨.

(٧) الباقلانى ـ نفس المصدر ـ ٤٦.

٢٤١

أو يمتنع بتعويض معناه عن الابانة ، ويجب أن يتنكب ما كان عامى اللفظ ، مبتذل العبارة ، ركيك المعنى ، سفسافى الوضع مجتلب التأسيس ، على غير أصل ممهد ولا طريق موطّد (١).

أما الجمال عند الجرجانى فهو موضوعى ، لا يخضع للأقوال العامة والقوانين المأثورة ، بقدر ما يرى للحسن مصدرا معلوما وعلة مفهومة وسبيلا يتخذ للوصول إليه (٢). وهو يفرق بين الجمال والذوق ، فالأول يحتاج إلى قاعدة ، تتميز بالصفة المعقولة ، أما الذوق فهو باب «لا تقوى عليه العبارة ، ولا تملك فيه الاشارة ، وأن طريق التعليم إليه مسدود وباب التفهيم دونه مغلق» (٣) والجمال يمكن إدراكه عند الجرجانى ، بينما الذوق عنده «شىء فطرى طبعى لا يجتلب» (٤).

والزمخشرى يطبق هذه الملاحظات على تفسيره (الكشاف) بما سبق الاشارة اليه ، وذلك فى تحليله جماليا المعانى النفسية الكامنة فى الآية (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) (٥) [الحجرات ـ ٣] وفى غيرها (٦).

وكذا السكاكى ، يرى أن الذوق وسيلة من وسائل كشف الإعجاز فى القرآن ، إلا أنه جعله يكتسب بعلمى المعانى والبيان (٧). وهو والجرجانى على حق فالذوق فطرى مكتسب وطبعى يربّى بالتمرين والممارسة.

إن المتكلمين تركوا أثرا له قيمته فى ميدان الكلام والأدب والإعجاز فالجاحظ يفرد لأول مرة كتابا فى (البيان والتبيين) ، سجّل فيه ملاحظاته وملاحظات معاصريه العرب والسابقين ، وكذا الأجانب فى البلاغة ، وهو ـ بعد ـ غير

__________________

(١) الباقلانى ـ إعجاز القرآن ١١٧ و ١١٨.

(٢) الجرجانى ـ الدلائل ـ ٢٦.

(٣) نفس المصدر ـ ٦٥.

(٤) نفس المصدر ـ ٣٥٦.

(٥) الزمخشرى ـ الكشاف ـ ٢ / ٣٩٢.

(٦) نفس المصدر ـ ١ / ١٧ و ٢ / ٢٠٠ و ٢ / ٤٧٨.

(٧) السكاكى ـ المفتاح ـ ٢٤١.

٢٤٢

منازع ـ مؤسس البلاغة العربية (١) والرمانى يصور الايجاز تصويرا نهائيا بحيث لم يضف إليه البلاغيون التالون شيئا (٢).

والمدرسة الجبائية صاحبة فكرة الأسلوب البليغ القائم على ضم الكلمات مع اعتبار إعراب كل كلمة وحركاتها وموقعها وكذا الاعتبار مثله فى الكلمات اذا انضم بعضها الى بعض ، وسموا هذا الوجه بالفصاحة (٣).

والباقلانى صاحب المنهج المقارن ، بين القرآن وبين روائع الأدب العربى جاهليا وعباسيا ، ليثبت بالدليل أن القرآن مما لا يقدر عليه العباد ، وأن هذه الروائع على قيمتها تحتوى على الغث والركيك والسفساف ، الشيء الذى تبرأ منه القرآن.

والجرجانى ، يستحق مكانا بين الخالدين ، من علماء الدراسات النقدية ، لا لسعة أفقه ، ووفرة معارفه ودقة تحليله فحسب ، ولكن لنجاحه فى التوفيق بين ما يتطلبه الذوق الأدبى ومناهج التفكير الموضوعى (٤).

والزمخشرى ، هو صاحب التفسير المشهور الذى انتزع إعجاب الأشاعرة مع المعتزلة ، بالرغم من اعتزال صاحبه.

وإذا كنا قد قسمنا المتكلمين إلى معتزلى وأشعرى ، فأنا نراهم قد اتصلت بينهم وشائج لم تعترف بالحدود ، ولا باختلاف الآراء ، فقد كانوا جميعا يؤمنون بمدى ضرورة الثقافة الواسعة ومدى قيمة الاطلاع على نتاج العقول الناضجة بغض النظر عن كونهم معتزلة وأشاعرة.

ولم يترك الجاحظ أديبا مهما اختلفت مدرسته العقيدية ، إلّا وأثر فيه وعلى وأسهم الباقلانى والجرجانى.

والرمانى المعتزلى ، وقف موقف المبتكرين فى ميدان البلاغة ، فرأينا أفكاره فيمن أتى بعده من البلغاء والأدباء والمتكلمين ، وهذا أثره فى الباقلانى واضح ، والمدرسة.

__________________

(١) الدكتور شوقى ضيف ـ البلاغة تطور وتاريخ ٥٧ و ٥٨.

(٢) نفس المرجع ـ ١٠٤.

(٣) القاضى عبد الجبار ـ إعجاز القرآن ـ ١٩٩.

(٤) محمد خلف الله محمد ـ من الوجهة النفسية ـ ٩٢.

٢٤٣

الجبائية تلك التى فتقت الكلام فى نظرية النظم متبلورة على يد القاضى ، قد أعطت النغم الذى يضرب عليه الجرجانى ، ويبنى نظريته فى النظم.

والزمخشرى قد تناول التّركة من الجرجانى وطبقها على القرآن بعقل واع ونفس متفتحة.

إذن فالتأثير والتأثر متصل بين المدرستين ولكنه من المعتزلة ابتدأ وإلى الأشاعرة وصل ، ثم إلى المعتزلة عاد على يد الزمخشرى.

ولكن بالرغم من هذه الجهود الجبارة التى أنفق فيها المتكلمون حياتهم مع غيرهم من اللغويين والأدباء والمتفلسفة الذين شغلوا بالقرآن واعجازه فإنهم فاتهم أن ينظروا إلى إعجاز القرآن بنظرة شاملة مستوعبة. فهذا الزمخشرى ، وهو خلاصة الفكر البلاغى فى مدرسة المتكلمين ـ يقول عنه الدكتور الجوينى ـ «أما مبحثه فى الإعجاز القرآنى فقد كان يساير ما اتسم به البحث البلاغى على مدى العصور ، وهو النظرة الجزئية إلى العبارة أو العبارتين فى النص أدبى ، لا تعدوه إلى العمل الأدبى كله ، حقا ، قد ظفر الزمخشرى بنتائج ذات بال من وقفاته الجمالية القصيرة ، ولكن ما كان يفيده من تحليل للنص القرآنى كاملا كان يصل به إلى نتائج أكثر قيمة ، ولهذا فلن تتوقع مثلا أن يفرد بابا للتشبيه فى القرآن ، ولأمثال القرآنى ، وللقسم فيه أو للاستعارة القرآنية أو لأدب الجدل ، أو لغير ذلك من مباحث ترتاد الميادين الأدبية أو النفسية فى القرآن. ومع ذلك كله ، فما نجده عند الزمخشرى من مباحث جميلة ، هى غاية ما وصل إليه الدرس البيانى فى عصره ، محدودا بما كان له من طاقات وما أوتيه من أسباب (١).

ونخلص من هذا بأن الشغف بالجزئيات لم يتح للباحثين القدامى فرصة «لإدراك الخصائص العامة المشتركة ، التى يصدر عنها كتاب الله فى تصويره وتعبيره فيهز النفوس ويحرك المشاعر ويفيض الدموع» (٢).

وأصبح لا بد لدراسة التعبير فى هذا كتاب المعجز من منهج جديد للدراسة ومن مبحث عن الأصول العامة للجمال الفنى فيه ، ومن بيان للسمات المطردة

__________________

(١) الدكتور مصطفى الجوينى ـ منهج الزمخشرى ـ ٣٠٠.

(٢) الدكتور صبحى الصالح ـ مباحث فى علوم القرآن ـ ٢٥٥.

٢٤٤

التى تميز هذا الجمال ، عن كل ما عرفته العربية من قول البشر ، وتفسر الإعجاز الفنى تفسيرا يستمد من تلك السمات المتفرّدة فى القرآن الكريم.

إن لهذا الكتاب العظيم لخصائص مشتركة ، وطريقة موحدة فى التعبير عن جميع الأغراض سواء كان الغرض تبشيرا أو تحذيرا أو قصة وقعت أو حادثا سيقع ، منطقا للاقناع ، أو دعوة إلى الايمان ، وصفا للحياة الدنيا. أو للحياة الآخرة.

وهذا ما تركه القدامى للمحدثين ، تركوا لهم واجبا يلتزمون به ، وأن يكملوا الطريق بعد ما قدم المتكلمون أقصى ما يستطيعون.

٢٤٥
٢٤٦

خاتمة

(١) خلاصة البحث.

(٢) نتائجه الأساسية.

(٣) المصادر والمراجع.

٢٤٧
٢٤٨

خلاصة البحث ونتائجه الأساسية

١ ـ الخلاصة :

فى ختام بحثنا عن المتكلمين وإعجاز القرآن ـ يجدر بنا أن نقدم ملخصا للأفكار التى عرضناها فى غضونه ، وما أن نستوفيها نذكر أهم النتائج التى خرجنا بها من هذا الطواف الطويل.

وقد ذكرنا فى المقدمة أن طبيعة البحث اقتضت أن يكون فى تمهيد ، وثلاثة أبواب. وكان الباب الأول فى ثلاثة فصول ، الأول منها عن النظام والجاحظ والثانى عن الجبائى والرمانى والثالث عن القاضى عبد الجبار ، أما الباب الثانى ففي فصلين أولهما عن الباقلانى والثانى عن الجرجانى ، أما الباب الثالث فكان فى ثلاثة فصول. الأول فى الزمخشرى والثانى عن شخصيات أخيرة والثالث فى النظرية بين المعتزلة والأشاعرة.

وقد انقسم التمهيد إلى قسمين :

ا ـ نشأة علم الكلام وازدهاره.

ب ـ المعتزلة والأشاعرة.

وقد بينت فى نشأة علم الكلام الذى هو علم يتضمن الحجاج عن العقائد الايمانية بالأدلة العقلية ، بينت أنه نشأ بسبب من القرآن الكريم والسنة الشريفة ، بينما لاحظت أن الحديث عن ازدهار علم الكلام هو من جانب آخر حديث عن جهود المتكلمين أنفسهم ، وما كانت جهودهم سوى نموه وتطوره وازدهاره.

وفى القسم الثانى من التمهيد ، تعرضت لنشأة المعتزلة وارتفاع شأنهم ثم للهزيمة التى أصيبوا بها لأسباب ذكرتها فى العموم وفى الخصوص لانشقاق الحسن الأشعرى عليهم.

وقد ارتبطت أصول المعتزلة الخمسة بالدفاع عن الدين ضد الأفكار والآراء التى انتشرت آنذاك بين المسلمين أو بين أعدائهم خارج الاسلام. لذا أشرت إلى الدواعى التى أدت الى تبلور هذه الأصول عند المعتزلة.

٢٤٩

أما تلك القضية الكبرى التى شغلت العالم العربى فى عصر العباسيين وهى قضية خلق القرآن وما جرته من بلايا ذاق ويلاتها المسلمون طوال عهد المأمون والمعتصم والواثق فقد أفردت لها الحديث ولنشأتها ولتطور احداثها ثم لاختلاف رأى الأشاعرة عن رأى المعتزلة فيها.

وحين استعرضت الأشاعرة تكلمت عن أوجه الخلاف العقيدى بينهما ، فقد كانت هناك مسائل كبرى فرقتهم مع مسائل أخرى جمعتهم على صعيد واحد.

وفى الفصل الأول من الباب الأول ـ تكلمت عن النظام ـ بعد أن تكلمت عن منهج المعتزلة فى معالجة قضية الإعجاز. ولاحظت أن المنهج يقوم على ثلاثة أسس الأول : هو هدم دعاوى المغرضين الحاقدين على الاسلام. والثانى : إثبات النبوة ودحض حجج المنكرين لها. والثالث : إيضاح ما يحتويه القرآن من إعجاز وذلك استتبع أن ينقسم الحديث عنه إلى قسمين كبيرين أحدهما فلسفى أى مناقشة المغرضين الذين كانوا متصلين بالفلسفة أشد الاتصال ـ منطقيا والآخر بلاغى أى ابراز وجه الجمال وبديع النظم فى القرآن الكريم. بعد هذا. تكلمت عن حياة النظام وثقافته وقيمته فى عالم الفكر الفلسفى الاسلامى. وكان أهم ما فى فكر النظام بالنسبة لاعجاز القرآن أنه قال بالصرفة أى أن الله سبحانه وتعالى صرف الناس عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن ولو لم يفعل لأتوا بمثله.

ولم يكن المجال يتسع أن نشرح الرأى فى هذا الذى ذهب إليه النظام فأرجأته إلى مكان آخر ولا سيما أن للجاحظ رأيا كهذا فى إعجاز القرآن.

وللجاحظ جهود بارزة فى الدفاع عن إعجاز القرآن ، إذ هدم دعاوى المغرضين ثم أبرز حجج النبوة ثم شرح رأيه فى إعجاز القرآن وكان رأى الجاحظ أن القرآن معجز لنظمه ومعجز أيضا للصرفة لأنه لو طمع فى تقليد القرآن طامع لتكلفه ولو تكلفه لتعلق به الناس مما سيؤدى إلى بلبلة الأفكار والشّغب ومن هنا صرف الله أوهام العرب عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.

وفى الفصل الثانى من الباب الأول تكلمت عن الجبائى (أبى على وابنه أبى

٢٥٠

هاشم) ولم تكن لدى النصوص الكافية عن حياة هذين العلمين الشهيرين فى حياة المعتزلة سوى ما دونه عنهما تلميذهما النابه القاضى عبد الجبار. وهما قد قاما بنفس الدور الذى قام به المعتزلة السابقون من هدم الأكاذيب والدفاع عن النبوة وشرح أوجه الاعجاز وكان رأيهما أن القرآن معجز لفصاحته.

كما تكلمت عن الرمانى أبى الحسن على بن عيسى وكتابه الشهير فى إعجاز القرآن (النكت فى إعجاز القرآن). وترجع أهمية الرمانى فى أنه قد عالج مسائل فى البلاغة ووضع لها الصيغ النهائية لبعض فنونها الأمر الذى أدى بالبلاغيين التالين أن يتأثروا خطاه ، وذلك فى أثناء معالجته اعجاز القرآن الذى يرجع عنده إلى سبع أسباب هى ترك المعارضة مع شدة الدواعى ، والتحدى للكافة ، والصّرفة والبلاغة والأخبار الصادقة عن الأمور المستقبلة ونقض العادة وقياسه بكل معجز.

وفى الفصل الثالث تكلمت عن علم من أفذاذ المعتزلة هو القاضى عبد الجبار ، وله فضل على المعتزلة لا ينكر إذ كشفت لنا كتبه مدى الظلم الواقع على المعتزلة من خصومهم الأشاعرة الذين زيفوا آراءهم وحجبوا عنا الدور العظيم الذى قام به هؤلاء الكبار. وهم الأساتذة للأشاعرة ولكنها العصبية.

هدم القاضى دعاوى المغرضين وبنى الحقائق الثابتة ودافع عن القرآن والنبوة ثم شرح رأيه فى اعجاز القرآن وعنده أن القرآن بالاضافة إلى إعجازه البلاغى معجز أيضا بزوال الاختلاف والتناقض عنه. وأنه معجز بتضمنه الأخبار عن الغيوب. وأن أظهر ما يتبين به شأن الإعجاز أنه لا وجه يطعن به الملحدة وسائر من خالف فى نبوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الا وهو غير قادح فى كونه معجزا.

وفى الباب الثانى ـ تكلمت فى الفصل الأول منه عن الباقلانى وقد قسمت هذا الفصل إلى قسمين كان أحدهما فى الباقلانى والإعجاز والثانى فى الباقلانى والجاحظ والرمانى لصلة وثيقة ربطت المعتزليّين بالباقلانى الأشعرى ، ورأى الباقلانى فى الإعجاز ينحصر فى ثلاثة وجوه هى : الأخبار عن الغيوب وفى أمّية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفى أن القرآن بديع النظم عجيب التأليف متناه فى البلاغة الى الحد الذى يعلم عجز الخلق عنه.

٢٥١

وقد انشغل الباقلانى بالجانب الفلسفى من قضية الاعجاز فشرح رأى الأشاعرة فى القضايا المختلفة وبخاصة تلك التى يخالف الأشاعرة فيها أساتذتهم المعتزلة ـ حين قالوا بخلق القرآن وبأن الله تعالى لا يرى يوم القيامة وبأن الإنسان خالق لأفعاله مسئول عنها مسئولية كاملة وأن العقل هو المسيطر على تحرك الكائنات وبه يحاسبون وعليه يكافئون.

وفى الفصل الثانى من الباب الثانى تكلمت عن الجرجانى ـ وإذا كان الجرجانى لم يسترسل فى الجانب الفلسفى استرسال الباقلانى فانه قد أفرغ جهدا جيدا فى الجانب البلاغى من القضية وكان ذلك فى كتابه دلائل الإعجاز خاصة ويكمله كتابه أسرار البلاغة.

ويرى الجرجانى أن إعجاز القرآن يرجع إلى نظمه وذلك النظم عبارة عن توخى معانى النحو ـ وحين يقرر عبد القاهر نظريته فى النظم نراه يعتمد على جانبين كبيرين هما الجانب العقلى ـ أى اثبات إعجاز نظم القرآن عقليا ثم الجانب النفسى أى مخاطبة نفسية القارئ واحساساته ونزوعه الى تلمس الجمال فيصحبه الجرجانى عن طريق العقل والنفس الى كشف اعجاز القرآن. وقد أشرنا أن لنظريته بذورا سلفية ، فهى ليست من مبتكرات الجرجانى بل أكثر من ذلك أنه قد استفاد فيها مما ظهر فى الدرس المعتزلى من رأى المدرسة الجبائية الذى قررته على يد أبى على وصاغته على أبى هاشم ونقحته على يد القاضى عبد الجبار.

ولكن هذا لا ينفى ، أن للجرجانى أثرا وامتيازا فى معالجة إعجاز القرآن ، وفضلا على البلاغة العربية لا ينكرهما باحث جاد.

وفى الباب الثالث ، الذى انقسم الى ثلاثة فصول وهو بعنوان بين المعتزلة والأشاعرة تكلمت فى الفصل الأول منه عن الزمخشرى الذى جمع بين المدرستين (معتزلة وأشعرية) ثم انتقلت فى الفصل الثانى إلى الحديث عن ثلاث شخصيات وهم ابن حزم الظاهرى والرازى الأشعرى والسكاكى المعتزلى ، وكان لا مفر من التعرض لهم لما قدموه لقضية الإعجاز ـ برغم أنهم لم يقدموا الجديد ذا البال ـ بعد ما أمتعنا الجرجانى وسابقوه وأطربنا الزمخشرى العظيم بما أضفى من جديد وما قدم من جهد فى الإعجاز.

٢٥٢

وفى الفصل الثالث ـ تكلمت عن الإعجاز بين المعتزلة والأشاعرة ـ وتعرضت فيه إلى أوجه الخلاف الذى وقع بين المدرستين الكبيرتين ثم أبرزت الملامح الرئيسية فى معالجة متكلمى المدرستين ـ لاعجاز القرآن وأسراره.

وبهذا انتهى بحثى فى جهود المتكلمين ـ الذين قدموا للقرآن أجل ما يمكن وللبلاغة أعظم ما يفيد وأظهروا من أسرار القرآن ما أذهل وأدهش وجعل المعترض يفحم ـ ولله درّهم فيما شغلوا به أنفسهم وعليه ثوابهم ، وصدق الله العظيم وقوله الحق (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) [محمد ـ ٧].

٢٥٣

٢ ـ النتائج الأساسية

ويحسن بنا أن نساير طبيعة البحث التى انقسمت إلى جانب فلسفى وجانب بلاغى ، فنستعرض أهم النتائج الأساسية التى خرجنا بها بعد دراستنا للمعتزلة والأشاعرة دراسة فلسفية وبلاغية ثم نوضح النتائج العامة للبحث كله.

أولا : أهم نتائج الجانب الفلسفى :

١ ـ نشأ علم الكلام مرتبطا بالقرآن وبالسنة النبوية.

٢ ـ نادى المعتزلة بأصول خمسة ، هى فى مجموعها تلبية لصد عدوان المغرضين وأصحاب الديانات الأخرى على الإسلام.

٣ ـ تعتبر قضية إعجاز القرآن إحدى قضايا علم الكلام. فقد تعرضت نبوة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهجوم شديد وكذا القرآن الكريم وإعجازه ـ فدافع عنهما المتكلمون مستخدمين نفس أسلحة الأعداء من فلسفة ودين وثقافة.

٤ ـ التزم المتكلمون منهجا فى دفاعهم عن الإعجاز ويتلخص هذا المنهج فى هدم دعاوى المغرضين وبيان حجج النبوة ثم شرح أسرار الاعجاز.

٥ ـ لم يناد النظام برأى الصرفة الشهير كما تصوره الأشاعرة ، وأوضح الجاحظ رأيه فى الصّرفة بأنها تأتى فى المرتبة بعد التجربة وظهر هذا الأمر جليا عند القاضى عبد الجبار.

٦ ـ اسهمت المدرسة الجبائية بنصيب وافر فى الدفاع عن الإعجاز. وعلى رأسها القاضى عبد الجبار.

٧ ـ لم تتخلف المدرسة الاشعرية فى هذا المضمار متمثلة فى الباقلانى والجرجانى.

٨ ـ قد اختلفت المدرسة الأشعرية عن المدرسة الاعتزالية فى بعض المبادئ الأصلية التى قامت عليها كل فرقة وما يخصنا منها مسألة دلالة النبوة والمعجزة. رأت المعتزلة أن النبى وأحواله هما دلالة النبوة وتأتى المعجزات تالية فى الدرجة. واقتصرت الأشاعرة على المعجزات فقط دلالة على نبوة

٢٥٤

النبى. وأما فى مسألة خلق القرآن فقد أيده المعتزلة ونفاه الأشاعرة. كما رأى الأشاعرة أن المعتزلة قد بالغوا فى انتهاج المنهج العقلى لدراسة القضايا الدينية فخففوا من وطأة هذا المنهج.

٩ ـ وكان الخلاف بين المعتزلة والأشاعرة فى مسألة خلق القرآن ـ لفظيا ـ إذ نظر المعتزلة إلى جانب اللفظ ونظر الأشاعرة إلى جانب المعنى وجاء الماتريدى فوفق بين الرأيين وانتهت المشادة.

١٠ ـ قد اتفقت الدرستان على مسائل كبرى فى علم الكلام لأن هدفهما كان الدفاع على الدين الاسلامى.

ثانيا : أهم نتائج الجانب البلاغى :

١ ـ حمل المعتزلة لواء بيان إعجاز القرآن بلاغة وعلى رأسهم الجاحظ والرمانى والزمخشرى ـ كما أضافت المدرسة الأشعرية إضافات طيبة على يد الباقلانى والجرجانى بخاصة.

٢ ـ تنازعت المدرستان تحديد إعجاز القرآن بلاغة بين النظم والفصاحة ـ حتى خرج منهما الزمخشرى وقرر أن إعجاز القرآن يرجع إلى علمى المعانى والبيان. ولفظ «علم» ـ فيما أرى ـ بمعنى الإحاطة ، وليس معناه القوانين الثابتة ، والتقعيد كما فهمه السكاكى.

٣ ـ انتجت لنا المدرستان نتائج قيمة فى الميدان البلاغى عن طريق دراسة الإعجاز فى القرآن وظهر فضلهما فى تطبيق مبدأ المجاز اللغوى على ألفاظ القرآن خاصة وعلى اللغة عامة. ثم فى الاهتمام بالتأثير النفسى على القارئ أو المستمع ، ثم فى دراسة الجمال ومواطنه والذوق الأدبى وقيمته.

٢٥٥

٣ ـ النتائج العامة

١ ـ عاشت البلاغة العربية تستمد حياتها من قضية الإعجاز ، حتى قبيل عصر الشروح والتلخيصات.

٢ ـ لم يكن فى وسع غير المتكلمين أن يقوموا بما قاموا هم به ، نظرا لطبيعة تكوين المتكلمين فلسفيا ودينيا وأدبيا.

٣ ـ كان للمتكلمين ابتكارات عديدة فى ميدان البلاغة بصورة لم يستطع أن يحققها غيرهم من الأدباء ، وقد جفت ينابيع البلاغة بعد الزمخشرى على يد المتكلمين أيضا وذلك لأنهم افتقدوا شروط أولية فى صفات المتكلم وهى أن يحسن العلم بالدين والأدب بقدر ما يحسن العلم بالفلسفة والمنطق وهم قد أحسنوا العلم بالفلسفة فقط فوقعت المحنة.

٤ ـ انتهت جهود المتكلمين بأن أصبح لدينا قضية متكاملة للإعجاز لها جانبان أحدهما فلسفى والآخر بلاغى ولها تاريخ نشء وتطور وازدهار.

٥ ـ تصدّر المعتزلة قمة البحث الفلسفى والبلاغى فى القضية وجاء الأشاعرة ليستقوا منهم وليضيقوا ما استطاعوا.

٦ ـ لم يتوصل المتكلمون فى دراستهم للاعجاز إلى النظرة الكلية للقرآن ولم يدرسوه كلا متكاملا ـ سوى ما حاول الباقلانى ولم يستمر ـ الأمر الذى قام به المحدثون خير قيام.

٧ ـ تعتبر الدراسات القديمة والحديثة التى تتصل بالقرآن. من شتّى جوانبه هى فى صميم قضية الإعجاز ـ والحديثة منها خاصة تعتبر تكملة لما قام به المتكلمون. لأنها نبذت النظرة الجزئية للقرآن وإعجازه ، وراحت تنظر إليه أثرا سماويا متكاملا ـ بالرغم من ذلك فاننا لا نستطيع أن ندرس الإعجاز إلا من بداية الطريق وبدايته كانت مع المتكلمين ، المعتزلة والأشاعرة.

وبذلك نصل إلى النتيجة المرجوة ، والله الموفق وهو على كل شىء قدير.

٢٥٦

الفهارس الفنية

١ ـ المخطوطات والمصادر والمراجع.

٢ ـ الآيات القرآنية.

٣ ـ الأعلام.

٤ ـ الأبيات الشعرية.

٥ ـ المصطلحات البلاغية.

٦ ـ الفهرست التفصيلى.

٢٥٧
٢٥٨

أولا : المخطوطات والمصادر والمراجع

ا ـ المخطوطات :

١ ـ الداودى : طبقات المفسرين ، مخطوط بدار الكتب تحت رقم ١٦٨ تاريخ ـ ص ١٢٩.

٢ ـ ابن مكتوم : تلخيص ابن مكتوم ، مخطوط بدار الكتب رقم ٢٠٦٩ ، تاريخ تيمور ص ١٢٩.

ب ـ المصادر :

القرآن الكريم.

١ ـ ابن الأثير ـ ضياء الدين أبو الفتح.

المثل السائر ، ط نهضة مصر ـ الأولى ١٩٦٩ م ، تحقيق د. أحمد الحوفى ، ود. بدوى طيانة.

١٢٥ و ٢١٩ و ٤٣٤.

٢ ـ ابن الأثير ـ أبو الحسن على بن محمد الشيبانى ا ـ الكامل. ط الأزهرية ، القاهرة ١٣٠١ ه‍ ٢٨ و ٣٣ و ٣٤ و ٧٤ و ٨٥

ب ـ اللباب فى تهذيب الأنساب ، طبع مصر ١٣٥٦ ه‍ ١٣٦٩ ه‍ ١٦٩.

٣ ـ الأسفرايينى ـ يعقوب بن اسحاق التبصير فى الدين ، تحقيق الكوثرى ، ط الخانجى بمصر ١٩٥٥ والمثنى ببغداد.

٢٥ و ٣١ و ٧٠ و ٢٢٤.

٤ ـ الأشعرى ، أبو الحسن على بن اسماعيل ا ـ الإبانة عن أصول الديانة ، ط إدارة الطباعة المنيرية.

٣٧ و ٣٨ و ٢٢٤ و ٢٢٥

ب ـ مقالات الإسلاميين ، تحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد.

٣٠ و ٥٠ و ٥٤

٢٥٩

٥ ـ ابن أبى الإصبع بديع القرآن تحقيق د. حفنى محمد شرف ط دار نهضة مصر ، الثانية.

٢١٩

٦ ـ الأصفهانى : محمد باقر الموسوى.

روضات الجنات فى أحوال العلماء ، ط ١٣٤٧ ص ١٦٩

٧ ـ ابن أبى أصيبعة : أحمد بن القاسم أبو العباس عيون الأنباء فى طبقات الأطباء ط مصر ١٢٩٩ ـ ١٣٠٠ ه‍ ص ٢٠٦

٨ ـ الأنبارى : عبد الرحمن بن محمد أبو البركات نزهة الألباء فى طبقات الأدباء ط القاهرة ١٢٩٤ ه‍ ص ٧٤ و ١٢٩.

٩ ـ الباقلانى ـ أبو بكر محمد بن الطيب ا ـ إعجاز القرآن ، تحقيق السيد أحمد صقر ط دار المعارف ١٩٦٣ م من ١٠١ ـ ١١٨ ، ومن ١٢٠ ـ ١٢٤ و ١٢٦ و ١٤٠ و ١٩٩ و ٢٠٥ و ٢٢٤ و ٢٣١ و ٢٣٢ و ٢٣٤ و ٢٣٩ و ٢٤١ و ٢٤٢.

ب ـ التمهيد ـ ط المكتبة الشرقية ، بيروت ١٩٥٧ م تحقيق الأب ريتشارد يوسف مكارثى ص ١٠٢.

١٠ ـ البغدادى ـ الخطيب البغدادى تاريخ بغداد ـ ط مصر ١٣٤٩ ٢٧ و ٧٤ و ٨٧ و ١٠١.

١١ ـ البغدادى ـ أبو منصور عبد القاهر.

الفرق بين الفرق ـ ط المعارف ١٩١٠ م القاهرة تحقيق محمد بدر ٢٥ و ٢٨ و ٣١ و ٣٤

١٢ ـ البيهقى : إسماعيل بن الحسين مناقب أحمد. ص ٢٨

١٣ ـ ابن تغرى بردى ، أبو المحاسن النجوم الزاهرة ـ الطبعة الأولى ، دار الكتب ١٩٣٣ م ٧٤ و ١٢٩

٢٦٠