اعجاز القرآن بين المعتزلة والأشاعرة

دكتور منير سلطان

اعجاز القرآن بين المعتزلة والأشاعرة

المؤلف:

دكتور منير سلطان


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشأة المعارف بالإسكندرية
الطبعة: ٣
ISBN: 977-103-297-6
الصفحات: ٢٩٢

الفصل الثانى

شخصيات أخيرة

١ ـ ابن حزم الأندلسى

٢ ـ الرازى

٣ ـ السكاكى

٢٠١
٢٠٢

سنقف أمام بعض المتكلمين ، كشخصيات برزت مع غروب شمس الفن فى الأعجاز ، وقفة قصيرة ، لننتهى بعدها إلى الصورة الأخيرة لجهود المعتزلة والأشاعرة فى الميدان.

وهؤلاء المتكلمون هم : ابن حزم الأندلسى الظاهرى (ت ٤٥٦) ، ثم الرازى الأشعرى (ت ٦٠٦). ثم السكاكى المعتزلى (ت ٦٢٦).

أولا : ابن حزم الأندلسى المتكلم الظاهرى :

هو أبو محمد بن حزم الظاهرى وقال ابن حيان وغيره : كان ابن حزم صاحب حديث وفقه وجدل ، وله كتب كثيرة فى المنطق والفلسفة ـ لم يخل فيها من غلط ـ وكان شافعى المذهب يناضل الفقهاء عن مذهبه ثم صار ظاهريا ، فوضع الكتب فى هذا المذهب وثبت عليه إلى أن مات (١). ولد سنة ٣٨٤ ه‍ وتوفى سنة ٤٥٦ ه‍ ولما كان ظاهريا متحمسا راح يطبق الأصول الظاهرية على العقائد ، ولم يأخذ إلا بظاهر اللفظ فى القرآن الكريم وبالأحاديث الصحيحة ، ولقد نقد من وجهة نظره هذه ، جميع الفرق الإسلامية المختلفة نقدا شديدا فى كتابه المشهور «الفصل فى الملل والأهواء والنحل» وهاجم الأشاعرة بعنف وبخاصة رأيهم فى صفات الله ، أما فيها يتعلق بالعبارات فطريقة الأخذ بظاهر اللفظ ، ووفق بين هذه التعابير والتفسير الروحى للقرآن» (٢).

ابن حزم والاعجاز :

أولا ـ الجانب الكلامى :

ناقش ابن حزم الإعجاز من جانبيه ، الكلامى والبلاغى ، وهاجم المخالفين بشدة ، ثم بين رأيه الذى يرتضيه فى المسألة ، كلامية كانت أم بلاغية ، ولذا سنكتفى بالإشارة إلى آرائه النهائية التى أوضحها فى «الفصل» ، وإذا احتاج الأمر إلى نقاش بين فكرتين عرضنا لذلك.

__________________

(١) المقرى ـ نفح الطيب ـ ١ / ٣٥٨.

(٢) انظر فى ذلك. محمد أبو زهرة ـ ابن حزم الأندلسى ١٣٩ و ٢١٧ إلى ٢١٩ و ٢٢٤ و ٢٨٢ ، وفى المذهب الظاهرى وتعريفه انظر أحمد أمين ـ ضحى الإسلام ١ / ٢٣٦ ط ٧. والدكتور زكريا إبراهيم ـ ابن حزم الأندلسى أعلام العرب رقم ٥٦ ، ودائرة المعارف الإسلامية ـ ط ٢ ص ٢٤٥ إلى ٢٦٤ من المجلد الأول وما ورد فيها من مصادر لترجمة ابن حزم.

٢٠٣

يتساءل ابن حزم : هل الإعجاز متماد أم قد ارتفع بتمام قيام الحجة فى حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ ثم يعرض الآراء المؤيدة والمعارضة ، ويقول : قال جمهور أهل الإسلام إن الاعجاز باق إلى يوم القيامة والآية بذلك باقية أبدا كما كانت وهذا هو الحق الذى لا يحل القول بغيره (١).

ويسأل ثانية : ما المعجز منه أنظمه أم فى نصه من الإخبار بالغيوب؟ ويجيب بأنه «قال بعض أهل الكلام نظمه ليس معجزا وإنما إعجازه : ما فيه من الإخبار بالغيوب ، وقال سائر أهل الإسلام بل كلا الأمرين ، معجز بنظمه وبما فيه من الأخبار بالغيوب ، وهذا هو الحق ، الذى ما خالفه فهو ضلال ، وبرهان ذلك (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة ـ ٢٣] فكان تعالى على أنهم لا يأتون بمثل سورة من سوره ، وأكثر سوره ليس إخبار بغيب ، فكان من جعل المعجز لأخبار الذى فيه بالغيوب مخالفا لما نص الله تعالى على أنه معجز من القرآن فسقطت هذه الأقاويل الفاسدة. والحمد لله رب العالمين (٢).

ويسأل : ما مقدار المعجز منه؟ والأشعرية قالت ـ ومن وافقهم ـ «إن المعجز إنما هو مقدار أقل سورة منه وهو (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) [الكوثر ـ ١] فصاعدا وإن ما دون ذلك معجز ، واحتجوا فى ذلك بقول الله تعالى (قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) [يونس ـ ٣٨] قالوا : ولم يتحدّ تعالى بأقل من ذلك. ثم أورد ابن حزم رأيه قائلا : وذهب سائر أهل الإسلام إلى أن القرآن كلّه قليله وكثيره معجز ، وهذا هو الحق الذى لا يجوز خلافه (٣).

وبعد أن صرف ابن حزم جهده فى مناقشة الآراء الكلامية ، انصرف إلى :

الجانب البلاغى :

يقول ما وجه إعجازه : ويجيب : قالت طائفة ، إعجازه كونه فى أعلى مراتب البلاغة ، وقالت طوائف : إنما وجه إعجازه أن الله منع الخلق من القدرة على

__________________

(١) ابن حزم الأندلسى ـ الفصل ـ ٣ / ١٦.

(٢) نفس المصدر ـ ٣ / ١٧.

(٣) ابن حزم ـ الفصل ـ ٣ / ١٨ و ١٩.

٢٠٤

معارضته فقط ، أما الطائفة التى قالت إن اعجازه لأنه فى أعلى درج البلاغة ، فإنهم شغبوا فى ذلك بأن ذكروا آيات منه ، فى قوله تعالى (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) [البقرة ـ ١٧٩] ونحو هذا (١) وموّه بعضهم بأن قال : لو كان كما تقولون من أن الله تعالى منع معارضته فقط ، لوجب أن يكون أغث ما يمكن أن يكون من الكلام ، فكانت تكون الحجة بذلك أبلغ ، وما نعلم لهم شغبا غير هذين ، وكلاهما لا حجة لهم فيه ... واستطرد فى بيان غثاثة ما ذهبوا إليه (٢) ثم يقول وإن قالوا : فقولوا أنتم هل القرآن موصوف بأنه فى أعلى البلاغة أم لا؟ قلنا : وبالله تعالى التوفيق : ـ إن كنتم تريدون أن الله تعالى ، قد بلغ به ما أراد فنعم ، هو فى هذا المعنى فى الغاية التى لا شىء أبلغ منها ، وإن كنتم تريدون هل هو فى أعلى درج البلاغة من كلام المخلوقين فلا ، لأنه ليس من نوع كلام المخلوقين لا من أعلاه ولا من أدناه ولا من أوسطه. وبرهان هذا أن إنسانا لو أدخل فى رسالة له أو خطبة أو تأليف أو موعظة حروف الهجاء المقطعة لكان خارجا عن البلاغة المعهودة جملة بلا شك فصح : أنه ليس من نوع بلاغة الناس أصلا ، وان الله تعالى منع الخلق من مثله وكساه الاعجاز وسلبه جميع كلام الخلق (٣). فالقرآن معجز عند ابن حزم.

أولا : لإخباره بالغيوب.

ثانيا : لنظمه الذى لا يقدر عليه العباد.

ثالثا : لأن الله تعالى صرف الناس عن مثله.

وسبق أن رأينا الباقلانى يرى أن القرآن معجز لأنه «لا يقدر العباد عليه» (٤).

وأخيرا يرى أبو زهرة أن ابن حزم «مجتهد مطلق ، فما هو بمنتم لمذهب حتى

__________________

(١) أغلب الظن أنه يشير بذلك إلى الرمانى ـ الذى ذكر فى رسالته (النكت فى إعجاز القرآن ص ٧٠) قائلا والنوع الثانى من الايجاز ـ ايجاز القصر وهو بناء الكلام على تقليل اللفظ وتكثير المعنى من غير حذف مثل (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ).

(٢) ابن حزم ـ الفصل ـ ٣ / ١٧.

(٣) ابن حزم ـ الفصل ـ ٣ / ١٨ و ١٩.

(٤) الباقلانى ـ إعجاز القرآن ـ ٢٨٨.

٢٠٥

يقال : أنه مجتهد منتسب ، أو مجتهد فى المذهب ، لأن أهل الظاهر لا يعتبرون أنفسهم أصحاب مذهب بحيث ينتمى إليه من ينتمى ، بل أن الملك الذى يجمعهم هو اقتصارهم فى الاستدلال على النصوص ، واستخراج الفقه من ينابيعه الثلاثة فقط وهى الكتاب والسنة واتفاقهم على عدم تعليل الأحكام ، وليس فيهم تابع ومتبوع ، وقد اتفق المنهاج فى جملته لا فى تفصيله ولا يتبع أحد أحدا ، بل الجميع يقتبسون من النور المحمدى ، ولا فرق بين داود وابن حزم فى هذا فلا يقال ، أنّ ابن حزم تابع لداود ، حتى يقال أنّه منتسب إليه وليس مجتهدا مطلقا (١).

ثانيا ـ فخر الدين الرازى :

وهو فخر الدين محمد بن عمر الرازى ، ولد سنة ٥٤٤ ه‍ بالرّى ، وفيها بدأ تثقفه على أبيه وغيره من متكلمى بلدته وفقهائها وحكمائها وقد تحول مع أستاذه الحكيم أبى محمد الجبلى إلى (مراغة) بأذربيجان ، موغلا فى دراسة الفلسفة والعلوم الدينية ، وأخذ يطوّف ببعض البلدان وامتدت رحلاته إلى الهند ، وأخيرا ألقى عصاه بمدينة (هرات) وفيها لبى نداء ربه فى سنة ٦٠٦ ه‍ ، وله مع المعتزلة محاولات كلامية عنيفة ويبدو أنه كان يميل إلى مذهب الأشاعرة.

وهو يمتاز فى مؤلفاته بدقة التفكير وحدّة المنطق والقدرة على تشعيب المسائل وتعريفها وحصر أقسامها حصرا يحيط بها إحاطة تامة ، وفى ذلك يقول الصفدى (أتى فى كتبه بما لم يسبق إليه ، لأنه يذكر المسألة وتقسيمها وقسمة فروع ذلك التقسيم ، ويستدل بأول السّير والتقسيم فلا يشذ فيه عن تلك المسألة فرع له بها علاقة ، فانضبطت له القواعد وانحصرت له المسائل (٢).

واتجه بهذه الطريقة إلى البلاغة باعتبارها مدار الإعجاز القرآنى ، فألف فيها مصنفة (نهاية الإيجاز فى دراية الإعجاز) وواضح من عنوانه أنه قصد فيه إلى

__________________

(١) أبو زهرة ـ ابن حزم الأندلسى ـ ٢٨٢.

(٢) انظر فى ترجمة الرازى ـ الصفدى ـ الوافى بالوفيات ٤ / ٢٤٨ ، والقفطى ـ تاريخ الحكماء ـ ١٩٠ وابن أبى اصيبعة عيون الأنباء ٢ / ٢٣ والسبكى ـ طبقات الشافعية ٥ / ٢٣ وابن حجر ـ لسان الميزان ٤ / ٤٢٦ وابن العماد ـ شذرات الذهب ـ ٥ / ٢١.

٢٠٦

الاجمال والاختصار ، ونراه يعلن فى فاتحته أنه سيعنى بتنظيم ما صنعه عبد القاهر فى كتابه (دلائل الإعجاز) و (أسرار البلاغة) وقد نوّه بعمل عبد القاهر وبراعته فى استنباط أصول هذا العلم وقوانينه وأدلته وبراهينه ، وعقب على ذلك بأنه (أهمل رعاية ترتيب الأصول والأبواب وأطنب فى الكلام كل الأطناب) ثم يقول (ولما وفقنى الله لمطالعة ، هذين الكتابين ، التقطت منهما معاقد فوائدهما ، ومقاصد فرائدهما ، وراعيت الترتيب مع التهذيب ، والتحرير مع التقرير ، وضبطت أوابد الإجمالات فى كل باب بالتقسيمات اليقينية وجمعت متفرقات الكلم فى الضوابط العقلية ، مع الاجتناب عن الأطناب الممل والاحتراز عن الاختصار المخل» (١).

فالكتاب إذن تنظيم وتبويب لما كتبه الجرجانى ، وإذا تقدمنا فى قراءته وجدنا الرازى يذكر ، على بن عيسى الرمانى ، وينقل عنه مرار ، وكذا يلمّ بأطراف من آراء الزمخشرى ، كما يرد طائفة من الألوان البديعية.

ثالثا : السكاكى :

ولد سراج الدين أبو يعقوب يوسف بن محمد بن على السكاكى فى خوارزم سنة ٥٥٥ ه‍ ، وقد أجمع المؤرخون له على أنه ظل إلى نهاية العقد الثالث من حياته يعنى يصنع المعادن ، حتى وقر فى نفسه أن يخلص للعلم ويتفرغ له ، وإذا هو يكبّ عليه ويحاول أن يلتهمه التهاما ، ومضى يعبّ من جداول الفلسفة والمنطق والاعتزال والفقه وأصوله وعلوم اللغة والبلاغة ، وله مصنفات مختلفة لعل أهمها (المفتاح) يقول عنه ياقوت الحموى أنه (فقيه متكلم متفنن فى علوم شتى وهو أحد أفاضل العصر الذين سارت بذكرهم الرّكبان) واختلف من ترجموا له فى تعيين سنة وفاته أهي سنة ٦٢٣ ه‍ أم سنة ٦٢٧ ه‍ والراجع أنه توفى سنة ٦٢٦ ه‍ (٢).

__________________

(١) الفخر الرازى ـ نهاية الإيجاز ـ ص ٥.

(٢) انظر فى ترجمة السكاكى ـ الحموى ـ معجم الأدباء ٢٠ / ٥٩ ـ والسبكى ـ طبقات الشافعية ـ ٣ / ١٩٩ وابن العماد شذرات الذهب ـ ٥ / ١٢٢ والسيوطى ـ لب الألباب فى تخير الأنساب (ط ليدن) ١ / ١٣٧.

٢٠٧

وكتاب (المفتاح) هو غرة مصنفاته ، وقد قسمه إلى ثلاثة أقسام أساسية تحدّث فى القسم الأول منها عن علم الصرف ، وما يتصل به من الاشتقاق الصغير والكبير والأكبر ، وجعل القسم الثانى لعلم النحو ، وأما القسم الثالث فخص به علم المعانى والبيان ، وألحق بهما نظرة فى الفصاحة والبلاغة ودراسة للمحسنات البديعية اللفظية والمعنوية ، ووجد أن علم المعانى يحتاج من ينظر فيه إلى الوقوف على الحد والاستدلال أو بعبارة أخرى إلى الوقوف على علم المنطق ، ففتح له مبحثا أحاط فيه بمسائل ، ووجد أيضا أن من يتدرب على علمى المعانى والبيان يحتاج إلى الوقوف على علمى العروض والقوافى فأفرد لهما المبحث الأخير من الكتاب ، وبذلك اشتمل (المفتاح) على علوم الصرف والنحو والمعانى والبيان والمنطق والعروض والقوافى ، ونراه يصدر فى تقديمه له ، طريقته فى تصنيفه ، قائلا : «وما ضمنت جميع ذلك كتابى هذا إلا بعد ما ميزت البعض عن البعض التمييز المناسب ، ولخّصت الكلام على حسب مقتضى المقام هناك ، ومهدت لكل من ذلك أصولا لائقة ، وأوردت حججا مناسبة ، وقررت ما صادفت من آراء السلف ـ قدس الله أرواحهم ـ بقدر ما احتملت من التقرير ، مع الإرشاد إلى ضروب مباحث قلّت عناية السلف بها وإيراد لطائف مفتنّة ما فتق أحد بها رتق أذن» (١).

وشهرته إنما دوت بالقسم الثالث من الكتاب ـ الخاص بعلمى المعانى والبيان ولواحقهما من الفصاحة والبلاغة والمحسنات البديعية اللفظية والمعنوية ، فقد أعطى لهذا كله الصيغة النهائية التى عكف العلماء من بعده ، يتدارسونها ويشرحونها مرارا ، إذ استطاع أن ينفذ من خلال الكتابات البلاغية قبله إلى عمل ملخص دقيق لما نثره أصحابها من آراء ، وما استطاع أن يضيفه إليها من أفكار وصاغ ذلك كله ، صيغة مضبوطة محكمة استعان فيها بقدرته المنطقية فى التعليل والتسبيب وفى التجريد والتحديد والتعريف والتقسيم والتفريغ والتشعيب ، وكان عمدته فى النهوض بذلك تلخيص الفخر الرازى وكتابى عبد القاهر «دلائل الإعجاز» و «أسرار البلاغة» ثم الكشاف للزمخشرى فانه استوعبه استيعابا دقيقا.

__________________

(١) السكاكى ـ المفتاح ـ ص ٣.

٢٠٨

ثم أنّ ذلك عنده لم يشفع بتحليلات عبد القاهر والزمخشرى التى كانت تملأ نفوسنا إعجابا «فقد تحولت البلاغة فى تلخيصه إلى علم بأدق المعانى لكلمة علم فهى قوانين وقواعد تخلو من كل ما يمتع النفس إذ سلّط عليها المنطق بأصوله ومناهجه الحادة ، حتى فى لفظها وأسلوبها الذى لا يحوى أى جمال» (١).

السكاكى ومحاولة مع الذوق :

قلنا أن السكاكى وضع حدودا فاصلة وحصر البلاغة فى علمى المعانى والبيان فقط ، ثم مضى فى أثر الفخر الرازى ، يجعل للبلاغة حدا أعلى وما يقرب منه ، وحدا أسفل وبينهما مراتب كثيرة تتفاوت بتفاوت البلغاء ، أما الطرف الأعلى وما يقرب منه فهو حد الإعجاز القرآنى ، وينوه بالذوق ، وأن الإعجاز لا يدرك إلّا به يقول «اعلم أن شأن الإعجاز عجيب يدرك ولا يمكن وصفه كاستقامة الوزن تدرك ولا يمكن وصفهما ، وكالملاحة ومدرك الاعجاز عندى هو الذوق (٢). ولا يلبث أن يقول «أنّ علمى المعانى والبيان هما الوسيلة لاكتساب الذوق الذى تدرك به مواطن الجمال البلاغى ، على أنهما لا يكشفان كشفا تاما على وجه الاعجاز لتعذر الإحاطة بكل أسرار القرآن البلاغة (٣).

وحقا استطاع السكاكى أن يسوى من نظرات عبد القاهر والزمخشرى علمى المعانى والبيان ولكن بعد أن أخلاهما من تحليلاتهما الممتعة البارعة للنصوص الأدبية ، وبعد أن سوى قواعدهما تسوية منطقية عويصة ، حتى ليصبح المنطق وأيضا الفلسفة جزءا منهما لا يتجزأ وحتى ليحتاج كتابه فى هذا القسم إلى الشرح تلو الشرح» (٤).

وبعد ، فها نحن هؤلاء ما زلنا فى دائرة الجرجانى والزمخشرى ، ومهما تقدمنا فى الدرس فلن يجدينا شيئا. فسنجد أنفسنا قد دخلنا أدغال الشروح والتلخيصات والتهميشات وهلم جرا.

__________________

(١) الدكتور شوقى ضيف ـ البلاغة تطور وتاريخ ـ ٢٨٨.

(٢) السكاكى ـ المفتاح ـ ٢٢١.

(٣) نفس المصدر والمرجع.

(٤) الدكتور شوقى ضيف ـ البلاغة تطور وتاريخ ـ ٣١٣.

٢٠٩

وكأن ما مرّ بنا بعد الجرجانى والزمخشرى ، ومضات نور ضئيل فى معترك الميدان ، وبعدها أغلق باب الاجتهاد ، حتى جاءت عصور الظلام ، وتاه البحث الأدبى فى دياجير الجهل ، فتجمدت ينابيعه.

وآن لنا أن نتساءل ، ما حصيلة الجهود التى قدمتها مدرسة الاعتزال للإعجاز؟ ثم ما خلاصة جهود الأشاعرة أيضا؟ ومتى التقوا؟ ومتى اختلفوا؟

٢١٠

الفصل الثالث

إعجاز القرآن بين المعتزلة والأشاعرة

١ ـ نظرة عامة.

٢ ـ المعتزلة والاعجاز.

٣ ـ الإعجاز بين المعتزلة والأشاعرة.

٢١١
٢١٢

نظرة عامة

المعتزلة والإعجاز

من السهل علينا أن نلحظ ثلاث قضايا بارزة فى جهود المعتزلة حينما عالجوا الإعجاز. فمثلا نجد؟؟؟ كالقول بالصّرفة قد كثر فيها القول بين القبول والرفض ، وكذا نجد أن الآراء متباينة فى إرجاع إعجاز القرآن للنظم أم للفصاحة ، أما القضية الثالثة فهى الاجماع على أن من إعجاز القرآن أنه صادق فى إخباره عن الغيوب. ولنفصّل القول :

أولا : القول بالصرفة عند المعتزلة :

ذكر جولد تسيهر فى حديثه عن المعتزلة والقرآن الكريم «.. نعم وجد فى دوائرهم من يرفض أو يضعّف الاعتقاد بعدم القدرة على الاتيان بمثل القرآن فى الآية (٨٨ من سورة الأسراء) بل الاعتقاد بإعجازه ، بل القدرة على أحسن منه اعتمادا على وجهات من النظر العقلى ، بيد أن مما يخالف الواقع ذلك الغض من شأن القرآن فى مقابلة الإشادة بأحكام نظمه ، على أنه مبدأ مدرسى عام للمعتزلة» (١).

ونريد هنا ـ أن نناقش أدلة الجاحظ بتفصيل ، لنرى أين يضع الصرفة فى بحثه للإعجاز ، ثم ننتقل إلى ما قيل عن أستاذه.

١ ـ ذكر الجاحظ أنه لم يعارض أحد من العرب القرآن بسورة من مثله أو بعشر سور مثله ، وقال عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم «وجاء بهذا الكتاب الذى نقرؤه ، فوجب العمل بما فيه ، وأنه تحدى البلغاء والخطباء والشعراء بنظمه وتأليفه فى المواضع الكثيرة ، والمحافل العظيمة ، فلم يرم ذلك أحد ولا تكلفه ولا أتى ببعضه ولا شبيه منه ، ولا ادّعى أنه قد فعل ، فيكون ذلك الخبر

__________________

(١) جولد تسيهر ـ مذاهب التفسير الإسلامي ـ ١٤٢ و ١٤٣ نص الآية (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً).

٢١٣

باطلا ، وليس قول جمعهم أنه كان ـ كاذبا ـ معارضة لهذا الخبر ، إلا أن يسموا الإنكار معارضة» (١).

٢ ـ ذكر أن العرب لم يسكتوا أمام القرآن لأنه «لا يجوز أن يطبقوا على ترك المعارضة وهم يقدرون عليها» (٢).

٣ ـ وأنهم حاولوا فعجزوا «وهل يذعن الأعراب وأصحاب الجاهلية للتقريع بالعجز والتوقيف على النقص ثم لا يبذلون مجهودهم ولا يخرجون مكنونهم وهم أشد خلق الله أنفة ، وأفرط حمية ، وأطلبه بطائلة وقد سمعوه فى كل منهل» (٣).

٤ ـ ثم أنهم عرفوا عجزهم وأن مثل ذلك لا يتهيأ لهم «فرأوا أن الاضطراب عن ذكره والتغافل عنه فى هذا الباب وأن قرعهم به ، أمثل لهم فى التدبير وأجدر أن لا ينكشف أمرهم للجاهل والضعيف» (٤).

فالقرآن معجز عند الجاحظ لنظمه ، ثم لأن العرب حاولوا معارضته فعجزوا ، مع أن الكلام سيد عملهم.

وأما عن الصرفة ، فهى وجه من وجوه إعجاز القرآن ، ولكن تأتى مرتبتها بعد مرتبة التحدى والتجربة والفشل ثم الاعتراف بالعجز ، وهنا يأتى لطف الله بالناس ، من أن يطمع فى القرآن طامع ويتكلفه ويشغب بما سمح له فيتعلق به البسطاء ، وتكثر المحاكمة وتنتشر البلبلة بين الناس «فلما علم الله تبارك وتعالى أن الناس لا يدركون مصالحهم بأنفسهم ولا يشعرون بعواقب أمورهم بغرائزهم ، صرف أوهام المشاغبين عن العبث» (٥). (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) [الصف ـ ٨].

ولا يتعارض هذا مع قولنا ، أن القول بالصرفة ، نبع من المبدأ الثانى للمعتزلة ،

__________________

(١) الجاحظ ـ رسائل الجاحظ ـ حجج النبوة ٣ / ٢٥١.

(٢) نفس المصدر ـ ٤ / ٢٧٦.

(٣) نفس المصدر ـ ٣ / ٢٧٥.

(٤) نفس المصدر ـ ٣ / ٢٧٥.

(٥) الجاحظ ـ الحيوان ـ ٤ / ٣٢ ط الحلبى.

٢١٤

فالعدل الإلهى (١) الذى منح حرية الإرادة للانسان ، وامكان القدرة ، ثم هيأ للعقل أن يفكر ويجرب معارضة القرآن ، حتى إذا فشل اعترف بالعجز ، قد صرف أوهام من يريدون أن يتكلفوه ، حتى لا يتعلق الناس بذبالات الممخرقين ، ويختلط الأمر.

وأغلب الظن أن القول بالصرفة عند النظام لا يخرج عن هذا الإطار ، وأذهب إلى أن الرأى الذى يتناقل الأشاعرة عنه فيه من التحريف ما فيه ـ يقول الدكتور الحاجرى عن رأى الجاحظ فى الصرفة «إنما هى ـ كما يقول فى موضع آخر ـ إلى أن لا يكون أهل الشّغب متعلق حين يحاول المعارضة محاول ، فيأتى بما يتاح له من ذلك مضطربا أو ملفقا أو مستكرها ، وليس يبعد عندنا ـ أن يكون هذا هو تأويل الصرفة عند النظام فى حقيقة الأمر ، وإنما حرّفه خصومه بعد أن فهموه على النحو الذى رأينا» (٢).

وإذا تدبرنا رأى الرمانى سنجده يدور فى نفس الدائرة ، وذلك حينما يشرح لنا كيف أن الصرفة تعتبر عنده أحد وجوه الإعجاز. يقول «وأما الصرفة فهى صرف الهمم عن المعارضة ، وعلى ذلك كان يعتمد أهل العلم فى أن القرآن معجز من جهة صرف الهمم عن المعارضة ، وذلك خارج عن العادة كخروج سائر المعجزات التى دلت على النبوة ـ وهذا عندنا أحد وجوه الإعجاز التى يظهر فيها للعقول» (٣).

فهو يذكر ذلك ، بعد أن ناقش كيف أنه معجز لترك المعارضة مع توافر دواعى العرب وشدة حاجتهم لها ، ثم إعجازه لتحدّيه الكافة ، وليس مع التحدى صرفة ، إلا أن يصرف ـ المتكلفون فيه ـ عن أن يعارضوه بالشّبه فتعظم القصة ، وتحتاج إلى محاكمة ويقع الزلل.

__________________

(١) العدل الإلهى : المسلمون جميعا يعتقدون بعدل الله ، ولكن المعتزلة تعمقوا فى فهمه ، وأناروا حوله مسائل ، أولاها : أن يسير بالخلق إلى غاية. وأنه سبحانه يريد خير ما يكون لخلقه ... فعاقبة الدنيا هى الخير ، وهذا ما أراده الله ، وأما الشر فى الآخرة فمن نتائج؟؟؟ الكفار.

(٢) الدكتور طه الحاجرى ـ الجاحظ ـ ٣٢٣.

(٣) الرمانى ـ النكت فى الاعجاز ـ ١٠٣.

٢١٥

ومهما أحكمنا إغلاق دائرة الاعتزال على مبدأ الصرفة وجعلناه نبعا من صميم عقائدهم ، فلا مشاحة فى أنه مزود بقدر يجعله إلى الجبر أقرب. فالطامعون مصرفون كرها عن أن يعبثوا بمقدسات المسلمين ولكنهم أرادوا ـ أن يحاولوا ـ وهذا مسيلمة قد حاول وغيره قد حاول ، فلما ذا لم تستمر هذه المحاولات وتنضج فتقدم شيئا؟ إلى هنا. نجيب بأنهم أرادوا فصرف الله أوهامهم.

ولكن القاضى عبد الجبار يعطى للقضية عمقا أعمق ، وفهما أنضج ، ويفتح لها بابا يتصل بقدرة الانسان وبارادته ثم بعقله وبمنطقه يقول «إنا نقول ـ أن دواعيهم انصرفت عن المعارضة ، لعلمهم بأنها غير ممكنة ، على ما دللنا عليه ، ولو لا علمهم بذلك لم تكن لتنصرف دواعيهم ، لأنا نجعل انصراف دواعيهم تابعا لمعرفتهم بأنها متعذرة» (١). ثم يقول «واعلم ... أن أحدّ ما يتبين به عظم شأن القرآن فى الأعجاز : أنه لا وجه يطعن به الملحدة ، وسائر من خالف فى نبوة (محمد) صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إلا وهو غير قادح فى كونه معجزا ، بل يكشف عن وجه من وجوه الإعجاز ، لو صحت مطاعنهم ـ ويتميز بذلك من سائر المعجزات لأن وجوه القدح فيها لا تتضمن ـ أن صحت ـ كونه معجزا» (٢).

وبهذا الرأى الذى أولاه القاضى اهتماما ـ تحولت الأنظار عن الصّرفة وعن المناقشات فى تفريعها وتشقيقها ، وانغلق باب القول فيها ، وذلك بأن المعارض حتى وإن موّه على نفسه وجرب حظه فى الطعن فلن يفلح فى طمس دعوى الأعجاز وفشله ثابت باستدلال العقل وتجارب الأولين.

ثانيا : النظم والفصاحة عند المعتزلة :

سئل الرمانى : لكل كتاب ترجمة فما ترجمة كتاب الله عزوجل فقال : (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ) (٣) [إبراهيم ـ ٥٢].

والمعتزلة حين ناقشوا الجانب البلاغى فى القرآن ، وجدنا الفراء ينادى بأن

__________________

(١) القاضى عبد الجبار ـ إعجاز القرآن ـ ٣٢٤.

(٢) نفس المصدر ـ ٣٣٦.

(٣) الحموى ـ معجم الأدباء ـ ١٤ / ٧٦.

٢١٦

نلتمس إعجاز القرآن فى قوالبه اللغوية ، ويعنى بهذا ، الإعجاز الكامن فى موسيقا ألفاظ القرآن ، ثم فى نزوله بأفصح اللغات (١).

أما الجاحظ فقد احتفل بفكرة النظم احتفالا كبيرا جاعلا منها دليلا على إعجاز القرآن (٢) ونراه دائما مشغوفا بجودة اللفظ وحسنه وبهائه ، ويروح فى «بيانه» يتحدث عن جزالة الألفاظ وفخامتها ورقتها وعذوبتها وخفتها وسهولتها ، وينشد ذلك فى كل جانب من جواب كتابه هذا ، بل أنه قد عرض للحروف التى هى جوهر الألفاظ ملاحظا أن فيها ما لا يقترن بعضه إلى بعض فى الكلام (٣) وتعرّض لتلاقى الكلمة مع الكلمة ملاحظا أن من الألفاظ ما يتنافر بعضه مع بعض ، ويطيل الوقوف إزاء بعض أشعار يشتد فيها التنافر بين ألفاظها لينكشف للقارئ ما فيها من ثقل ومئونة على اللسان (٤) ثم ينقل دائرة الكلام إلى القرآن فيشير فيه إلى مواقع الألفاظ وكيف أن الكلمة المرادفة لأخرى لا يصح أن تستخدم مكانها وأن الكلمات كأفراد الأسرة ، وفى الأقل ، منها ما تقوم بينها واشجة الرحم (٥). ويضرب لنا مثلا للفظ الموجز الدال على معان عديدة تتوارد على الذهن عقيب التفكير فيها ، مثل قوله تعالى (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها ، أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها) [النازعات ـ ٣٠] ويقول : وقالت الحكماء : إنما تبنى المدائن على الكلأ والمحتطب ، فجمع بقوله «أخرج منها ماءها ومرعاها» النّجم والشّجر واليقطين (٦) والبقل والعشب ، فذكر ما يقوم على ساق وما يتفنن (٧) وما يتسطح وكل ذلك مرعى ، ثم قال على النسق («مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ») [النازعات ـ ٣٣] فجمع بين الشجر والماء والكلا والماعون كله ، لأن الملح لا يكون إلا بالماء ولا تكون النار إلا من الشجر ... (٨).

__________________

(١) الدكتور أحمد مكى ـ أبو زكريا الفراء ـ ٨٩ و ٣٠١ و ٣٠٢.

(٢) الجاحظ ـ الحيوان ـ ٤ / ٩٠.

(٣) الجاحظ ـ البيان والتبيين ـ ١ / ٦٩.

(٤) نفس المصدر ـ ١ / ٦٥.

(٥) نفس المصدر ـ ١ / ٢٠.

(٦) اليقطين : كل ما لا ساق له من النبات كالقرع وجوه.

(٧) الفتن : الغصن المستقيم من الشجرة.

(٨) الجاحظ ـ البيان والتبيين ـ ٣ / ٣٠ و ٣١.

٢١٧

فجزالة اللفظ شاغله ، وفخامته وسلاسته همه ، فنراه يحمل على غرابة الألفاظ وعلى من يتشبهون بالبدو الجفاة فى استخدام الآبد (١) الوحشى من الألفاظ ، فإنهم إن كانوا إنما رووا هذا الكلام لأنه يدل على فصاحة ، فقد باعده الله من صفة البلاغة والفصاحة ، وإن كانوا إنما دوّنوه فى الكتب ، وتدابروه فى المجالس لأنه غريب ، فأبيات من شعر العجاج وشعر الطرماح وأشعار هذيل تأتى لهم من حسن الرصف على أكثر من ذلك (٢).

وقد أداه هذا إلى أن يقول أنّ «المعانى مطروحة فى الطريق يعرفها الأعجمى والعربى ، والبدوى والقروى ، وإنما الشأن فى إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج وكثرة الماء وفى صحة وجودة السبك وإنما الشعر صياغة وضرب من التصوير» (٣) ويطلب الجاحظ إلى كل من يريد الوقوف على معانى الكتاب والسنة وقوفا دقيقا أن يفقه أسرار ودلالة ألفاظها وصيغها فقها حسنا (٤) ونتيجة هذه الدراسات عند الجاحظ أن كتابنا المنزل ، معجز وإعجازه فى نظمه (٥) ويقول أيضا «إعجازه فى نظمه وأسلوبه العجيب المباين لأساليب العرب فى الشعر والنثر» (٦).

وليس من شك فى أن كتابه المفقود الذى صنّفه فى (نظم القرآن) كان يشتمل على كثير من ملاحظاته البلاغية» (٧) ، على أنه لم يسقط المعانى جملة فقد كان يرى رأى العتابى فى أنها تحل من الألفاظ محل الروح من البدن (٨).

__________________

(١) الآبد الوحشى من الألفاظ : الغريب المستكره.

(٢) نفس المصدر ـ ١ / ٣٧٨.

(٣) الجاحظ ـ الحيوان ـ ٣ / ١٣١.

(٤) نفس المصدر ـ ١ / ١٥٣.

(٥) نفس المصدر ـ ٤ / ٩٠.

(٦) الجاحظ ـ البيان والتبيين ـ ١ / ٣٨٣.

(٧) الجاحظ ـ الحيوان ـ ٣ / ٨٦ حيث أشار إلى تأليفه لهذا الكتاب.

(٨) الجاحظ ـ رسائل الجاحظ ـ رسالة فى الجد والهزل. ويعلق الدكتور شوقى ضيف على تعريف الجاحظ «إنما الشعر صياغة وضرب من التصوير» قائلا «وتعريفه للشعر على هذا النحو يدل على أنه كان يدخل التصوير وما يطوى فيه من أخيلة فى الصياغة واللفظ ، وقد يكون فى ذلك ما يخفف من حدة الظن بأنه قدم الألفاظ من حيث هى على المعانى ، إنما كان يريد الأسلوب بمعنى أوسع من رصف الألفاظ. إذ أدخل فيه الأخيلة والتصاوير» البلاغة تاريخ وتطور ص ٢٥.

٢١٨

وإذا تركنا الجاحظ إلى الرمانى (ت ٣٨٦) ، فسنجد أنه يرى ، أن البلاغة لا النظم سر من أسرار إعجاز القرآن.

وقد كانت هناك جهود بذلت فى الميدان بعد الجاحظ مباشرة حتى وصلت إلى الرمانى ، وجدت مباحث ابن قتيبة (ت ٢٧٦) والمبرد (ت ٢٨٥) وثعلب (ت ٢٩١) وابن المعتز (٢٩٤) وقدامة بن جعفر (٣٣٧) وهم ليسوا معتزلة ولكنهم اشتركوا فى القول.

فتمهد الطريق للرمانى ليمسك بأعنّته ، ويضع الصياغات النهائية لبعض فنون البلاغة ، ويؤنس طريق البلاغيين من بعده فيسيرون على الهدى (١).

قلنا أن الرمانى قد رفض فكرة النظم وعرض فكرة البلاغة سرا من أسرار الإعجاز يقول فى رسالته (النكت) فأما البلاغة فعلى ثلاث طبقات ، منها ما هو أعلى طبقة وما هو أدنى طبقة ومنها ما هو فى الوسائط بين أعلى طبقة وأدنى طبقة ، فما كان فى أعلاها فهو معجز وهو بلاغة القرآن ، وما كان دون ذلك فهو ممكن كبلاغة البلغاء من الناس ، وليست البلاغة إفهام المعنى لأنه قد يفهم المعنى متكلمان أحدهما بليغ والآخر عيى ، ولا البلاغة أيضا بتحقيق اللفظ على المعنى ، لأنه قد يحقق اللفظ على المعنى ، وهو غث مستكره ونافر متكلف ، وإنما البلاغة ، إيصال المعنى إلى القلب فى حسن صورة من اللفظ (٢) فأعلاها طبقة فى الحسن بلاغة القرآن وأعلى طبقات البلاغة للقرآن خاصة ، وأعلى طبقات البلاغة معجز للعرب ، كإعجاز الشعر المفهم للعرب خاصة كما أن ذلك معجز للكافة (٣).

ثم هو يفصل هذا التعريف ، فيتناول الأمر من جهتيه. أولهما : الأثر النفسى

__________________

(١) انظر فى مدى استفادة البلاغيين من الرمانى ـ ابن رشيق العمدة ١ / ١٩٥ وغيرها ـ ابن سنان الخفاجى ـ سر الفصاحة ١٩٩ وغيرها. وأبا الهلال العسكرى ـ الصناعتين ١٦٩ وغيرها والفخر الرازى ـ نهاية الايجاز ـ ٨١ و ٨٢ وابن أبى الأصبع ـ بديع القرآن ـ ١٧ و ١٨ و ٢٣ وابن حمزة العلوى ـ الطراز ـ ١ / ١٩٩ و ٢٠٠ ـ وابن الأثير المثل السائر ـ ٢٧١ وما بعدها.

(٢) يقول الدكتور محمد زغلول سلام تعليقا على هذا التعبير : أنّه طريف تلمس فيه روحا جديدة فى فهم منزلة البلاغة ودورها فى التعبير ـ انظر أثر القرآن فى تطور النقد الأدبى ٦٩ و ٧٠.

(٣) الرمانى ـ النكت ـ ٦٩ و ٧٠.

٢١٩

(إيصال المعنى الى القلب) والآخر : من ناحية الصورة البيانية للبلاغة (فى حسن صورة من اللفظ).

فيقسم البلاغة على هذا الأساس إلى أقسام عشرة : ما يختص بالمعانى والصورة البيانية ، كالإيجاز والتشبيه والمبالغة وحسن البيان ، ثم ما يختص باللفظ كالتلاؤم والفواصل والتجانس من محسنات الأسلوب اللفظية ثم يتكلم فى أثناء عرضه لتلك الفنون عن أثر كل منها فى النفس ، وعن أى طريق تتسلل إليها؟ عن السمع؟ أم عن طريق البصر؟ أم عن طريق الذوق؟

فالقرآن عنده فى أعلى درجات البلاغة وهو أيضا فى أعلى درجات التلاؤم اللفظى وكل تلاؤم عداه فى المرتبة الوسطى (١). ثم يرى أن السبب فى التلاؤم اللفظى التوسط بين التقارب والتباعد فى مخارج الحروف (٢)

وبامتزاج التلاؤم اللفظى مع حسن البيان وصحة البرهان ينتج القول الجميل الرائع حتى يصل إلى مرتبة الاعجاز.

وبعد الرمانى ـ جاء الباقلانى الأشعرى ، الذى رجع إلى فكرة النظم عند الجاحظ (المعتزلى) ولكن المدرسة الجبائية أكملت طريق الرمانى ، فتكلمت عن الفصاحة بشروطها الثلاثة ، فالكلمة لا تعد فصيحة فى نفسها ، إذ لا بدّ من ملاحظة صفات مختلفة لها ، لا بدّ من ملاحظة إبدالها (اختيارها) ونظائرها ، ولا بدّ من ملاحظة حركاتها فى الأعراب ، ولا بدّ من ملاحظة موقعها فى التقديم والتأخير.

ثم يظهر الجرجانى ـ وينادى بفكرة النظم ، لا كما نادى بها الجاحظ ولا الباقلانى ، وإنما كما أوضحتها المدرسة الجبائية. وأما الزمخشرى ـ فقد خرج من الدائرة بأكملها وأحل محلها نظرية المعانى والبيان. وسار على نهجه التابعون.

ثالثا : الأخبار عن الغيوب :

وهذا مبحث هام ، لا يقل أهمية عن مباحث علم الكلام فى الإعجاز ولا عن الجانب البلاغى بنواحيه المتعددة.

__________________

(١) الرمانى ـ نفس المصدر ـ ٧٠ و ٧١.

(٢) نفس المصدر والصفحة.

٢٢٠