أحكام القرآن - ج ١-٢

عماد الدين بن محمد الطبري [ الكيا الهرّاسي ]

أحكام القرآن - ج ١-٢

المؤلف:

عماد الدين بن محمد الطبري [ الكيا الهرّاسي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٧
الجزء ١-٢ الجزء ٣-٤

نفي للأدعياء ، ولكنه لا ينفي الرضاع ، والتحريم به ثابت ، وليس الإسم بحقيقته متناولا للوطء بملك اليمين ، وهو بحقيقته متناول لنفس النكاح ، فإن اسم الحليلة حقيقة في نفس ملك النكاح.

وقوله : (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ).

معناه تحريم الجمع على الوجه الذي حرم الأفراد من المحرمات ، وفي الذي تقدم حرم الاستمتاع.

فتقدير الكلام : ولا تجمعوا بين الأختين في الوطء ، وذلك يعم الوطء في النكاح وملك اليمين ، إلا أن ذلك في النكاح يمنع أصل النكاح ، ولا يمنع ملك اليمين ، فإذا ثبت ذلك وتقرر ، نشأ منه أن الجمع بين الأختين في النكاح لا يجوز ، ونشأ منه تحريم وطء الأختين بملك اليمين.

وفي هذا على الخصوص نقل خلاف عن السلف ، ثم زال الاختلاف.

وإذا تبين أن المنصوص على تحريمه جمع مضاف اليه ، حتى يقال هو الذي يمسكهما ويطؤهما ، فإذا زال النكاح ، زال هذا المعنى من كل وجه ، ولم يكن إمساك المعتدة مضافا اليه ، فيقتضي هذا أن لا يكون النهي عن الجمع متنا ، ولا من نكح الأخت في عدة الأخت ، وإذا تبين ذلك ، بقيت على مقتضى قوله تعالى : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) وهذا بين حسن ، فكان الأصل الإباحة ، ثم طرأ مانع. زال المانع فرجع إلى الأصل.

قوله تعالى : (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ)(١).

__________________

(١) معناه : أن ما مضى مغفور.

٤٠١

يحتمل أن يكون معناه معنى قوله : (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) في قوله : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) ، ويحتمل معنى زائدا ، وهو جواز ما سلف ، وأنه إذا جرى الجمع في الجاهلية ، كان النكاح صحيحا ، وإذا جرى في الإسلام ، خير بين الأختين ، على ما قاله الشافعي رضي الله عنه ، من غير إجراء عقود الكفار ، على موجب الإسلام ومقتضى الشرع ، فهذا تحقيق القول في محتملات هذا اللفظ ، فلا جرم ، قال الشافعي رضي الله عنه :

إذا أسلم الكافر عن أختين ، خير بينهما ، سواء جمعهما في عقد واحد أو في عقدين.

وأبو حنيفة يبطل نكاحهما إن جمع في عقد واحد ، وتعين الأولى إن فرق.

والشافعي لما رأى قوله تعالى : (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) غير نص في مقصوده ، أراد أن يستدل بالنص ، فاستدل بحديث فيروز الديلمي والحارث ابن قيس (١).

والعجب أن الرازي (٢) قال في أحكام القرآن :

لما لم يجز أن يبتدئ المسلم عقدا على أختين ، لم يجز أن يبقى له عقد على الأختين ، وإن لم يكونا أختين في حال العقد ، كما إذا تزوج رضيعتين فأرضعتهما امرأة واحدة ، واستوى حكم الابتداء والانتهاء.

ونقلنا هذا الكلام بلفظه ، وذكر بعده كلمات يسيرة ، ثم نقل

__________________

(١) ونصه عن أبي وهب الجيشاني عن الضحاك بن فيروز الديلمي عن أبيه قال : «أسلمت وعندي اختان فأتيت النبي صلّى الله عليه وسلم فقال : طلق إحداهما».

(٢) راجع أحكام القرآن للجصاص ج ٣ ص ٧٧.

٤٠٢

احتجاج الشافعي رضي الله عنه ، بحديث فيروز الديلمي ، والحارث بن قيس وقال :

يحتمل أن يكون العقد قد كان قبل نزول التحريم ، فكان صحيحا إلى أن طرأ التحريم ، فلزمه اختيار أربع منهن ومفارقة سائرهن ، كرجل له امرأتان ، فطلق إحداهما ثلاثا ، فيقال له : اختر أيتهما شئت ، لأن العقد كان صحيحا إلى أن طرأ التحريم.

ووجه على نفسه سؤالا فقال :

إن قال قائل : لو كان ذلك يختلف ، لسأله النبي صلّى الله عليه وسلم عن ذلك.

فأجاب بأن قال : قيل له :

يجوز أن يكون النبي صلّى الله عليه وسلم قد علم ذلك ، فاكتفى بعلمه عن مسألته.

نقلنا هذا الفصل بلفظه ، متعجبين من جهله بسياقه بكلاميه (١) ، وأنه كيف تناقض أول كلامه وآخره مع تفاوت ما بين الأول والآخر ، وفي النوع الواحد من الكلام.

كيف لم يتصور عين التناقض ، وذكر في التأويل أنه يحتمل أن يكون العقد كان قبل نزول التحريم ، فكان صحيحا إلى أن طرأ عليه التحريم؟ فلم يجعل طريان التحريم مانعا اختيار الأربع ، لأن العقد في الأول كان صحيحا على الجميع ، ثم قال قبله كلمات : لما لم يجز أن يبتدئ المسلم عقدا على أختين ، لم يجز أن يبقى له عقد على أختين ، وإن لم يكونا أختين في حالة العقد ، كرجل تزوج رضيعتين فأرضعتهما امرأة واحدة.

__________________

(١) أنظر أحكام القرآن للجصاص ج ٣ ص ٧٨ ـ ٧٩.

٤٠٣

فليت شعري ، نكاح الرضيعتين في الأول كان صحيحا حتى بطل الجميع بطريان الرضاع ، أم نكاح فيروز الديلمي لما كان صحيحا في الأول ، لم يبطل بما طرأ من الإسلام ، وكيف يتصور الجمع بينهما؟ وكيف يتم له هذا القياس ، وقد جعل الطارئ من التحريم كالمقارن بدليل الرضاع ..؟

وتأويل خبر الديلمي ينقض هذا القياس ، فإن النكاح لما كان صحيحا عنده لم ينقض ، وفي الرضاع كان صحيحا ونقض.

وكيف يتصدى للتصنيف في الدين من هذا مبلغ علمه ومقدار فهمه ، فيرسل الكلام إرسالا من غير أن يتحقق ما يقول ، ويحصل على نفسه ما يورده ، ثم يتعرض للطعن فيمن لو عمر عمر نوح ، ما اهتدى إلى مبادئ نظره في الحقائق؟ فنسأل الله تعالى التوفيق ، ونسأله النجاة من عمى البصيرة واتباع الهوى.

واعلم أن المنصوص على تحريمه في كتاب الله تعالى ، هو الجمع بين الأختين ، وقد وردت آثار متواترة في النهي عن الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها ، رواه علي وابن عباس وابن عمر وأبو موسى وجابر وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة (١) وعائشة ، وعليه الإجماع ، إلا ما نقل عن طائفة من الخوارج ، فإنهم زعموا أن قوله : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) ، لا يدفع بأخبار الآحاد ، وذلك متهم بناء على أن أخبار الآحاد لا يخص بها عموم الكتاب.

والأخبار في تحريم الجمع بين العمتين والخالتين ، إن كانت مقرونة في بيان رسول الله صلّى الله عليه وسلم ببيان الآية ، فتخصيص ، وإن تقدم الخبر فقوله :

__________________

(١) رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما.

٤٠٤

(وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) ، منزل على موجب الخصوص ، وإن تراخى فنسخ ، وللناس في نسخ الكتاب بأخبار الآحاد كلام ، والصحيح جوازه.

ومع أن قوله : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) ، ليس نصا أصلا ، وإذا لم يثبت التاريخ ، فالمطلق منهم محمول على المقيد ، على قول الشافعي رضي الله عنه ، وهو قول أكثر الأصوليين.

وعند قوم منهم يتعارضان ، وهو قول كثير من المحققين ، والتعارض ها هنا سبب التحريم ، فإن تعارض المبيح والمحرم يقتضي التحريم لا محالة.

قوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ)(١)(مِنَ النِّساءِ) (٣٤) :

الآية عطف على المحرمات.

ثم قال : (إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ).

والمراد به أن ذوات الأزواج محرمات على غير الأزواج.

قوله : (إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) ، في تأويل علي وابن عباس ، في رواية وابن عمر ، والآية في ذوات الأزواج من النساء ، أبيح وطؤهن بملك اليمين ، وحصلت الفرقة بالسبي ، وورد ذلك في سبايا أوطاس ، وكان لهن أزواج في المشركين ، فتحرج المسلمون من غشيانهن ، وأنزل الله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) ، أي هن لكم (٢).

__________________

(١) أي وحرمت عليكم المزوجات من النساء ، حرائر وأما مسلمات أولا ، لئلا تختلط المياه فيضيع النسب.

(٢) ورد في الجصاص : أي هن لكم حلال إذا انقضت عدتهن.

٤٠٥

وتأوله ابن مسعود ، وأبي بن كعب ، وأنس بن مالك ، وجابر وابن عباس في رواية عكرمة : أنه في جميع ذوات الأزواج من السبايا وغيرهن ، وأنهن إذا ملكن حل وطؤهن ، وكانوا يقولون : بيع السيد أمته المزوجة من أجنبي ، موجب للفرقة بينها وبين زوجها.

وظن هؤلاء أن الآية عامة ، ولا نظر إلى خصوص النسب ، والصحيح أن ذلك مختص بالسبي الوارد على نكاح غير محترم ، وأن تصرف الرجل في ملكه بالبيع ، لا يبطل حقا لغيره على وجه اللزوم ، إذا لم يكن بين إثباتهما تناقض ، وليس نكاح المتزوج مانعا لملك اليمين ، ولو كان مناقضا ، لم يجز ابتداء النكاح ، فهذا سبب الاختصاص.

وإنما رفع الله نكاح الأزواج الحربيّين ، ليخلص الملك للمسلمين ، وإنما يخلص الملك بانقطاع حق الزوج في المحل ، وإنما ينقطع حق الزوج بسقوط حرمته ، فهذا هو السبب وهو ظاهر.

وفيه سر آخر ، وهو أن انقطاع نكاح الحربي لم يكن لإثبات الحل في حق السابي ، ولكنه لتصفية الملك له ، ولذلك لو كانت المسبية أخته من الرضاعة ، أو كانت مجوسية ، انقطع النكاح ، فإنه لو لم ينقطع ، لم يصف له الملك ، ولم تنقطع الرحمة والعلقة ، وكان الملك ناقصا ، ولذلك تنقطع الإجارات والديون والعلق كلها ، فهذا هو السبب فيه.

وأبو حنيفة لا يرى للسبي أثرا ، ويقول : انقطاع النكاح باختلاف الدار ، فإذا سبي الزوجان معا ، لم ينقطع النكاح.

والذي ذكره بعيد من أوجه :

منها : أن المنقول في سبايا أو طاس أنهن كن ستة آلاف رجل وامرأة ، فكيف يمكن أن يقال لم يكن فيهم امرأة معها زوجها ، وأنه امتد الأمر حتى اختلفت الدار؟

٤٠٦

والوجه الثاني : أن الله تعالى يقول : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) ، فأحال على ملك اليمين لا على اختلاف الدار ، وجعل ملك اليمين هو المؤثر ، فيتعلق به من حيث العموم والتعليل جميعا ، إلا ما خصه الدليل.

وها هنا سؤال : وهو أنه يقال : قال : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) ، فإن كان النكاح قد ارتفع فليست محصنة.

قيل : المقصود بذلك رفع الحرج ، بسبب أنها ذات زوج ، وإبانة أنا لا نمسك بعصم الكوافر ، وعلق الحربيين حتى لا يتحرج بذلك السبب ، فمعناه : واللواتي كن ذوات الأزواج إذا سبيتموهن ، فحكمه كذا.

وتمام البيان في ذلك ، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، قال في رواية أبي سعيد الخدري في سبايا أو طاس (١) : «لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض» ، ولم يجعل لفراش الزوج السابق أثرا ، حتى يقال إنّ المسبية مملوكة ، ولكنها كانت زوجة زال نكاحها ، فتعتد عدة الإماء ، إلا ما نقل عن الحسن بن صالح ، فإنه قال :

عليها العدة حيضتان إذا كان لها زوج في دار الحرب.

وكافة العلماء رأوا استبراءها ، واستبراء التي لا زوج لها واحد في أن الجميع بحيضة (٢).

فإذا ثبت ذلك ، فذلك يدل على أنه عند السبي لم يعتبر عصمة الكافر وحرمته ، حتى لم يجب عقدة النكاح أيضا ، من حيث أن إيجاب عدة

__________________

(١) أخرجه الامام مسلم في صحيحه في كتاب الرضاع ، باب جواز وطء المسيبة بعد الاستبراء.

(٢) انظر القرطبي ، ج ٥ ، ص ١٢٢.

٤٠٧

النكاح تعويق ينشأ من عصمة الكافر وحرمته ، ولا حرمة الكافر حتى يتعوق بسببه حق المسلم في الملك.

ولو أن المرأة هاجرت إلى دار الإسلام ، أو أسلمت وانفسخ النكاح ، فإنما يوجب عدة النكاح ، فدل أن جواز الوطء المجرد للاستبراء لمكان زوال النكاح لملك اليمين ، لا باختلاف الدار ، وهذا في غاية الظهور لأصحاب الشافعي رحمة الله عليهم وعليه.

قوله تعالى : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) :

يحتمل ما وراء ذوات المحارم من أقاربكم ، ويحتمل ما عدا المحرمات ، وهو الأظهر(١).

قوله تعالى : (أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ).

خطاب للأزواج كلهم ، فكأنه قال : تبتغون بأموالكم ، فمقتضاه ابتغاء كل واحد بمال نفسه.

وظن بعض الجهال أن المراد بذلك ، أن كل واحد منهم يصدقها ما يسمى أموالا ، وظاهره يقتضي أكثر من العشرة ، وحكاية هذا الكلام كافية في الرد على قائله ، كيف وقد قال تعالى :

(وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ)(٢)؟ وذلك يقتضي إيجاب نصف المفروض قليلا كان أو كثيرا.

قوله تعالى : (أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ).

يمنع كون عتق الأمة صداقا لها ، خلافا لأحمد ، لدلالة الآية على

__________________

(١) انظر لباب التأويل في معاني التنزيل ، ج ١ ، ص ٥٠٦.

(٢) سورة البقرة ، آية ٢٣٧.

٤٠٨

كون المهر مالا ، وليس في العتق تسليم مال ، وإنما فيه إسقاط الملك من غير أن استحقت به تسليم مال إليها ، فإن الذي كان يملكه المولى من عبده ، لم ينتقل إليها ، وإنما يسقط.

فإذا ، لم يسلم الزوج إليها شيئا ، ولم تستحق عليه شيئا ، وإنما أتلف به ملكه فلم يكن مهرا ، وهذا بين.

وقد جوز الشافعي رضي الله عنه جعل منفعة الحر صداقا ، ولا خلاف في منفعة العبيد ، وإنما يجعل صداقا ، لأنها تستحق عليه تلك المنفعة وهي مال ، ووردت فيه أخبار وهي نصوص ، والشروع فيها خروج عن معاني القرآن ، والذي ورد في الخبر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أعتق صفية ، وجعل عتقها صداقا ، لا يعارض استدلالنا بالقرآن ، لإمكان أنه كان مخصوصا له ، فإن نكاحه جاز بلا مهر ، فليس يعارض ذلك استدلالنا بلفظ هو نص في حق الأمة. وقال أيضا :

(وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً)(١).

وذلك يدل على أن العتق لا يكون صداقا من وجوه :

منها أنه قال تعالى : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) ، وذلك أمر يقتضي الإيجاب ، وإعطاء العتق لا يصح.

والثاني قوله : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) ، وذلك محال في العتق ، ومتصور في المنفعة.

قوله تعالى : (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ)(٢) يحتمل وجهين :

__________________

(١) سورة النساء ، آية ٤.

(٢) محصنين : متزوجين ، وقيل متعففين.

غير مسافحين : غير زانين ، والسفاح : الفجور ، وأصله من السفح أي الصب.

٤٠٩

أحدهما : الإحصان بعقد النكاح ، فتقدير الكلام : اطلبوا منافع البضع بأموالكم على وجه النكاح ، لا على وجه السفاح ، فيكون للآية على هذا الوجه عموم.

ويحتمل أن يقال : محصنين أي الإحصان صفة لهن ، ومعناه لتزوجوهن على شرط الإحصان فيهن.

وقد قال الشافعي رضي الله عنه : الإحصان مجمل يتردد بين معاني جمة ، فيفتقر إلى البيان.

والوجه الأول أولى ، لأنه متى أمكن جري الآية على عمومها والتعلق بمقتضاها فهو أولى ، ولأن مقتضى الوجه الثاني أن المسافحات لا يحل التزوج بهن ، وذلك خلاف الإجماع.

ويدل عليه أيضا ، أن الله تعالى ذكر نظيره في الإحصان في حق الإماء فقال :

(وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ)(١).

ثم قال : (فَإِذا أُحْصِنَّ) ، معناه فإذا تزوجن.

وقال : (وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ).

فتقدير الكلام على هذا : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ) غير زنا ، وهذا كلام ظاهر المعنى ، ومقتضاه : إطلاق لفظ الإباحة ، على وجه التعميم ، وفيه إخبار عن كونها محصنة.

والإحصان في الأصل هو (٢) المنع ، فقد يطلق على العقد ، لأن صاحبه

__________________

(١) سورة النساء ، آية ٢٥.

(٢) انظر روائع البيان ، ج ٢ ، ص ٦٠.

٤١٠

يمنع نفسه من الحرام ، ويطلق على الإسلام.

قال الله تعالى : (فَإِذا أُحْصِنَّ) ، روي في بعض الأخبار : إذا أسلمن ، وإن كان له معنى آخر ذكرناه.

وقال تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ) : ذوات الأزواج ، وسميت محصنة لأن النكاح يحصنها من السفاح.

وفي الخبر : من تزوج فقد حصن ثلثي دينه (١).

وتقول الفقهاء : الإحصان معتبر في الرجم.

ويقولون : هو معتبر في حد القاذف ، وتختلف معانيهما والأحكام المعتبرة فيهما.

وسمي الزنا سفاحا لأنه سفح الماء وهو صبه ، يقال : سفح دمه ، وسفح الجبل أسفله ، لأنه موضع مصب الماء ، وسافح الرجل إذا زنى ، لأنه صب ماءه من غير أن يلحقه حكم مائه في ثبوت النسب ، ووجوب العدة وسائر أحكام النكاح.

ويسمى الزاني مسافحا ، لأنه ليس يتعلق به حكم ثابت مستمر ، وهو نسب أو عدة أو مهر ، ويفهم من ذلك أن لا نسب ولا فراش ، ولأجل ذلك لم يثبت الشافعي رضي الله عنه التحريم والعتق في المخلوقة من ماء الزنا ، واقتضى ذلك أيضا أن لا يثبت في حقها النسب ، لأنها مسافحة ، كما أنه مسافح ، ولكن انفصال الولد منها محسوس ، فلا يمكن تضييع حق الولد مع أن فيه خلافا لبعض أهل العلم ، أخذا بلفظ المسافحة ،

__________________

(١) وفي معناه «من تزوج فقد أحرز نصف دينه ، فليتق الله في النصف الباقي». وقد رواه الحاكم وصححه بنحوه.

٤١١

وتحقيق الفرق بين جانبه وجانبها في النسب ، ذكرناه على الاستقصاء في مجموعاتنا في الخلاف.

قوله تعالى : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً).

ذكر الله تعالى ذلك بعد قوله تعالى : (أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ) ، وذلك يقتضي بيان حكم الدخول في النكاح المذكور أولا ، وأنه لا يجوز حط شيء ، وحبس قدر ما من المهر ، بأي سبب طارئ.

ولو لم يقدر ذلك ، لم يفهم من قوله تعالى : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ) معنى بوجه ما ، فإن الله تعالى أمر بابتغاء البضع بالأموال قبل الاستمتاع ، فذكر الاستمتاع ينبغي أن يكون سببا لأمر ما ، وليس هو إلا تقدير الصداق المذكور أولا ، حتى لا يتوهم سقوط شيء منه لعارض.

وظن ظانون أن هذه الآية وردت في نكاح المتعة (١) ، وأن المهر فيه يتعلق بالدخول لا بنفس العقد ولا ميراث فيه.

ونقل عن ابن عباس أنه تأول قوله : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ) إلى أجل مسمى (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ).

وروي عنه انه رجع عن ذلك لأخبار كثيرة وردت في النهي عن متعة النساء ، وتحريم لحوم الحمر الأهلية ، ومن رواة الحديث على.

وروي عن ابن عباس أنه قال : نسخه قوله تعالى : (إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) ، وأشار به إلى أنه لا نكاح إلا له طلاق ، وإلا له عدة ، وإلا فيه ميراث ، والله تعالى يقول :

__________________

(١) انظر محاسن التأويل.

٤١٢

(وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ)(١).

والذي ذكره هؤلاء في معنى قوله تعالى : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ) الآية ، لا يحتمل ما ذكره هذا القائل الذي حمله على نكاح المتعة (٢) ، فإن الأجر بمعنى المهر ، قال تعالى :

(وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ)(٣).

فلما ذكر النكاح علم أنه أراد به الصداق.

وقال تعالى : (وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ).

فدل على أن محصنات ومحصنين عنى به التزويج ، لأن محصنات ذكر مع النكاح ، لقوله تعالى : (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ).

__________________

(١) سورة المؤمنون ، آية ٥.

(٢) ويلخص صاحب روائع البيان آراء الفقهاء في حكم نكاح المتعة فيقول :

«المتعة : هي أن يستأجر الرجل المرأة الى أجل معين بقدر معلوم ، وقد كان الرجل ينكح امرأة وقتا معلوما شهر أو شهرين أو يوما أو يومين ثم يتركها بعد أن يقضي منها وطره ، فحرمت الشريعة الاسلامية ذلك ، ولم تبح الا النكاح الدائم الذي يقصد منه الدوام والاستمرار ، وكل نكاح الى أجل فهو باطل لأنه لا يحقق الهدف من الزواج.

وقد أجمع العلماء وفقهاء الأمصار قاطبة على حرمة (نكاح المتعة) ، فلم يخالف فيه الا الروافض والشيعة وقولهم مردود ، لأنه يصادم النصوص الشرعية من الكتاب والسنة ، ويخالف اجماع علماء المسلمين والائمة المجتهدين.

وقد كانت المتعة في صدر الإسلام جائزة ثم نسخت واستقر على ذلك النهي والتحريم.

(٣) سورة الممتحنة ، آية ١٠.

٤١٣

قوله تعالى : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ).

معناه جواز الإبراء عن بعض الصداق أو هبة بعضه ، وتقدير الكلام :

أن تبتغوا بأموالكم محصنين ـ أي متزوجين ـ بهن ، فإذا استمتعتم بهن فآتوهن أجورهن ، ولا تنقصوا شيئا ، وإن جرى فراق أو سبب ، إلا أن تكون قد حطت شيئا من الصداق ، فالحق لها ، والمحطوط لا يجب توفيره عليها إذا استمتع.

واستدل قوم بذلك على جواز الزيادة ، وذلك غلط ، فإن الآية ما وردت في موضع الزيادة ، فإنه لما قال تعالى : (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) ، اقتضى جواز إعطاء ما فرض لها أولا ، فقوله : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) يرجع إلى الرخصة في ترك الإيتاء ، بعد الأمر بالإيتاء في غير موضع الرخصة ، وهذا بين لا شك فيه.

فإن قيل : فقد قال تعالى : (فِيما تَراضَيْتُمْ) ، والإبراء لا يتوقف على تراضيهما.

الجواب : أن الإبراء وإن كان على المذهب الصحيح ، لا يتوقف على تراضيهما ، فالهبة موقوفة على ذلك ، والإبراء في أحد الوجهين لأصحابنا وإن لم يقف ، فالمعلوم العرف أن ذلك يجري بتراضيهما ، والمقصود بقوله : (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) ، طيبة قلبها ، وأن لا ينقص من أجرها شيئا» والإبراء يصدر منها.

وقال : (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) ، إلا إذا طابت نفسها ، وقد صرح بذلك في موضع آخر فقال : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ

٤١٤

طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً).

فهذا المشكل من هذه الآية ، يعرف من المبين المحكم في الآية الأخرى.

ويدل عليه أن الله تعالى يقول :

(وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ)(١).

فجعل عند الطلاق شطر المفروض ، وإذا تبين ذلك ، فهذا الذي زيد ، إن كان صداقا كان مفروضا ، فإذا طلقها وقد فرض لها ، فيجب أن يشطر ذلك ، فإن الله حكم بتشطير نصف المفروض.

قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ) الآية (٢٥) :

اعلم أن التعرض لإحدى الصفتين المتضادتين ، والنزول عن كلام مطلق ، يدل قطعا على أن التقيد المذكور مقصود ، لتعلق الحكم عليه ، وأنه لا يجوز إلغاؤه ، نعم قد يجوز أن يذكر أحد الحالتين ، والمسكوت عنه أولى بالحكم المذكور من المنطوق به ، فيتعرض لإحدى الحالتين تنبيها على ما هو أول بالحكم من المذكور ، ولو أطلق الحكم لأمكن استثناء المذكور : بيانه أنه تعالى ، قال :

(وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ)(٢) إلى قوله (إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً).

__________________

(١) سورة البقرة ، آية ٢٣٧.

(٢) سورة الإسراء ، آية ٣١.

٤١٥

والقتل محرم عند زوال هذه الحالة لأنه لو قال : «ولا تقتلوا أولادكم» مطلقا ، أو قال : «ولا تقتلوا أولادكم حال غناكم ، لأمكن أن يتوهم جواز ذلك حالة الشقاق والإملاق ، لئلا يشقى المولود له في تربيته فقال : (لا تقتلوهنّ (خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) لعذر الإملاق ، (نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) ، فهذا يسمى التنبيه.

ومثله قوله تعالى : (لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً)(١) ، فحرم الربا ، وإن كان له فيه النفع الكثير ، فإذا لم يجوز لغرض عظيم ، فتحريمه لما دونه أولى.

وقال : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ)(٢) ، ليس أنه يتصور أن يقوم عليه برهان ، ولكن المشركين قالوا لا نترك ديننا ودين آبائنا ، فذم التقليد واتباع السلف وترك البرهان والإعراض عن الدليل.

ففي أمثال ذلك يجوز تخصيص إحدى الحالتين ، تنبيها على ما هو الأولى بالحكم المذكور من الحالة الأخرى.

أما ها هنا فإنما تعرض لحالة الضرورة في جواز النكاح ، فلا يقال حال عدم الحاجة أولى بجواز نكاح الأمة ، والأمة في هذا المعنى أوفى من الحرة ، فإذا تبين ذلك ، فذكر حالة الحاجة تنبيه على جعل الحاجة علة الإباحة ، فإذا لم توجد الحاجة تحرم ، فإن الذي يفهم من ثبوت الحاجة ، وأن ثبوته كان لأجلها ، يعلم انتفاؤه عند عدم الحاجة ، وهذا مقطوع به.

وإنما ذكرنا هذه الأمثلة ، وأجبنا عليها لأن الرازي (٣) لم ير لهذه

__________________

(١) سورة آل عمران ، آية ١٣٠.

(٢) سورة المؤمنون ، آية ١١٧.

(٣) أبو بكر أحمد بن علي الرازي الجصاص ، صاحب كتاب «أحكام القرآن» الذي نشر في خمسة أجزاء بدار المصحف لصاحبها عبد الرحمن محمد.

٤١٦

الآية دلالة على ضد المذكور عند عدم الحاجة ، ورأى أن ذكر الحاجة في إباحة النكاح ، تنزل منزلة ذكر الإملاق والحاجة في تحريم القتل ، ولم يجعل لهما مفهوما (١) ، وقد غلط (٢) من وجهين :

أحدهما (٣) : أن كل ما استشهد به له مفهوم وفحوى ، ولكنه من قبيل مفهوم الموافقة والتنبيه بالمذكور على مثله في غير المذكور ، والقسم الآخر مفهوم المخالفة ، وهو التنبيه بالمذكور على خلافه الذي لم يذكر ، وهذان قسمان يعرفان لمحال الخطاب ، ومواضع الكلام ، ومواقع العلل والمعاني.

والرازي ظن أن الأدلة في القسمين على ما عدا المذكور ، فأبان من نفسه جهله بنوعي المفهوم وقال : وبينا ذلك في أصول الفقه ، فظلم نفسه بالتصدي للتصنيف في الأصول ، قبل معرفة هذه الأمور الجلية ، كما ظلم نفسه بالتصنيف في معاني القرآن وأحكامه ، قبل إحكام معانيه.

فإذا ثبت ذلك ، فيبقى ها هنا نظر ، وهو أنه إن قال قائل : قد وردت ألفاظ عامة في النكاح مثل قوله تعالى : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) إلى قوله (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) ، وادعى هذا المحتج به أن معناه : أو نكاح ما ملكت أيمانكم ، وهذا غلط ، فإن معناه : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً)(٤) ، لا يخشى فيه الجور ، أو ما ملكت

__________________

(١) انظر أحكام القرآن للرازي الجصاص ، ج ٣ ، ص ١٠٩.

(٢) أي أبو بكر الرازي الجصاص.

(٣) وهذا الاستدلال هو من أدلة الكيا الهراسي صاحب هذا المصنف في الرد على الرازي الجصاص.

(٤) أي فنكاح واحدة.

٤١٧

أيمانكم ، فإن العدل في العدد فيه غير واجب أصلا ، بل يبقى لهم التعلق بالعموم.

وتعلق أيضا بقوله : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ ، وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ)(١) وقوله : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ)(٢).

فزاد أن الاحتجاج بالعموم يقاوم الاحتجاج بالمفهوم ، وهذا ركيك من القول ، فإن ما احتجوا به من العمومات سيق للحرائر ، ودل عليه سياق الآيات : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً)(٣).

وقوله : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ) ، عنى به الحرائر ، فإنه تعالى قال بعده بكلمات وتخلل فاصل :

(وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً (٤) أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ)(٥).

فدل أن المراد بالمحصنة في الآية الحرة ، فإن الإحصان يطلق بمعنى الإسلام ، ولا يحتمل ها هنا مع قوله : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ) ، مع قوله : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ).

فذكروا أن المراد به التزويج ، ولا يحتمل ها هنا ، فإن المحصنات من

__________________

(١) سورة المائدة ، آية ٥.

(٢) سورة النور ، آية ٣٢.

(٣) سورة النساء ، آية ٤.

(٤) الطول : الغني والقدرة ، وقد يأتي بمعنى الفضل ، انظر أحكام القرآن للجصاص ، ج ٣ ، ص ١٠٩.

(٥) سورة النساء ، آية ٢٥.

٤١٨

النساء يعني المتزوجات في أقسام المحرمات ، فإذا بطل ذلك ، فلا يحتمل إلا معنى الحرة.

وقد أجمع المفسرون هنا على أن المراد بالمحصنات ها هنا الحرائر ، ودل السياق عليه في ذكر نكاح الأمة (١) ، نعم قال تعالى :

(وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ) ولم يقل : «واللواتي أوتين الكتاب من قبلكم» ، فوقع الشرط في المؤمنات دون الكتابيات ، فلا جرم ، قال قائلون من أصحابنا : لو قدر على نكاح الكتابية دون نكاح المسلمة ، فجائز له نكاح الأمة.

ويلزم عليه على مذهب الشافعي رضي الله عنه جواز إدخال الأمة على الحرة الكتابية.

وفيه خلل من وجه آخر ، وهو استواء نكاح الكتابية والمسلمة في الأحكام كلها ، وإذا كانت القدرة على نكاح المسلمة مانعة نكاح الأمة ، فإذا لم يمتنع نكاح الأمة بالقدرة على نكاح الحرة الكتابية ، فالقدرة على نكاح المسلمة كذلك ، فإن القدرة على مثل الشيء كالقدرة على الشيء.

وفيه أيضا بطلان فهم معنى ارقاق الولد ، وأن ذلك مانع (٢) ، وأن هذا موجود في نكاح الحرة الكتابية ، فهذا تمام هذا النوع.

والأصح أنه لا فرق بينهما ، وأن القدرة على مثل الشيء كالقدرة على الشيء.

الوجه الآخر في الجواب : أن هذه العمومات ما قصد بها تفصيل

__________________

(١) انظر تفسير القاسمي.

(٢) انظر غرائب القرآن للنيسابوري.

٤١٩

شرائط النكاح ، من الشهادة والولاية ، والخلو عن العدة ، وإنما قصد بها الندب إلى أصل النكاح ، فأما الشرائط فلا ذكر لها ، والذي يطلق القول العام ، لا يخطر له الشرط في نكاح الأمة.

فأما إذا قال : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ) الآية. مع قوله : (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ) ، فلا بد وأن يكون قاصدا إبانة شرط ، ولم يقصد به نزولا عن كلام عام ، وإبانة وجه خاص ، كان قوله هجرا ركيكا ، فقصد التفرقة بين الحالتين ضروري في هذا الكلام ، والتعرض للشرائط لا يظهر في العمومات التي ذكروها.

فليفهم الفاهم هذا ، فإنه مقطوع به ، ولا يهتدي إليه إلا الموفقون المتعمقون في العلم.

ومما يعارضون به ما قلناه ، أنه تعالى قال : (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ)(١) ... قالوا :

وذلك يجوز نكاح الأمة مع القدرة على مهر المشركة ، والقادر على مهر المشركة ، قادر على مثله في حق المسلمة ، وهذا ركيك جدا.

فإن المراد به : أنهم كانوا لا يعافون عن نكاح المشركات ، ويعافون من نكاح الإماء خيفة إرقاق الولد ، فأبان الله تعالى أن الأمة مع إفضاء نكاحها إلى رق الولد ، خير من المشركة التي لا يجوز نكاحها قط ، والأمة يجوز نكاحها في بعض الأحوال ، فهذا تمام الرد على هؤلاء في محاولة المعارضة.

وحكى القاضي إسماعيل بن إسحاق المالكي عن السلف مذاهبهم في هذه الآية وفق مذهبنا (٢) ثم قال :

__________________

(١) سورة البقرة ، آية ٢٢١.

(٢) قال القرطبي : وقد اتفق الجميع على أن للحر أن يتزوج أربعا وان خاف الا يعدل

٤٢٠