أحكام القرآن - ج ١-٢

عماد الدين بن محمد الطبري [ الكيا الهرّاسي ]

أحكام القرآن - ج ١-٢

المؤلف:

عماد الدين بن محمد الطبري [ الكيا الهرّاسي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٧
الجزء ١-٢ الجزء ٣-٤

وكذلك وعظه الذي عليه الحق في تركه البخس ، دليل على أن المرجع إلى قوله فيما عليه.

وقال صلّى الله عليه وسلم : «البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه» ، فجعل القول قول المدعى عليه دون المدعي ، وأوجب عليه اليمين ، وهو معنى قوله : (وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً) في إيجاب الرجوع إلى قوله :

وقوله تعالى : (فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) (٢٨٢) :

اعلم أنه تعالى ذكر السفيه في مواضع من كتابه في أمر الدين والدنيا :

فأما في أمر الدين ، فمثل قوله تعالى : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها)(١).

وقال : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ)(٢) الآية.

وإنما ذلك في أمر الدين.

وقال في نوع آخر : (٣)(وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً)(٤).

فهذا وإن كان خطاب غير السفهاء ، ولكن المراد بقوله : (أَمْوالَكُمُ) أي أموالهم ، ولذلك قال : (وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ)(٥).

__________________

(١) سورة البقرة آية ١٤٢.

(٢) سورة البقرة آية ١٣.

(٣) أي أمر الدنيا.

(٤) سورة النساء آية ٥.

(٥) سورة النساء آية ٥.

٢٤١

فعلم به أن المراد بقوله «أموالكم» ، الأموال التي أضيفت إليكم ولاية لا ملكا.

وذلك يدل دلالة ظاهرة ، على أن على السفيه في أمواله ولاية ، وأن أمر أمواله مفوض إلى وليه ، حتى إنه يرزقه منه ويكسوه ، فقال : أموالكم ، وأراد به أموالكم من حيث نفاذ التصرف ، وأموالهم من حيث الملك.

ومثله قوله تعالى : (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ)(١) أي ليقتل بعضكم بعضا.

وقال في موضع آخر (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً)(٢) أي يسلم بعضكم على بعض.

وأصل السفه في الدين والدنيا واحد ، وهو الخفة والجهل بموضع الحط (٣) والأمر الذي قصد له ، فالسفيه في الدين والسفيه في رأيه هو الجاهل فيه ، ومنه قول الشاعر :

نخاف أن تسفه أحلامنا

ونخمل الدهر مع الخامل

والبذيء اللسان يسمى سفيها ، لأنه لا تكاد تتفق البذاءة إلا في جهال الناس وأصحاب العقول الخفيفة.

وجمع الله تعالى بين السفيه والضعيف ، والضعيف ها هنا عند المفسرين هو العاجز عن الإملاء ، إما بعيّه أو خرسه أو جهله بأداء الكلام.

فليملل وليه (٤) من يقوم مقامه ، وليس في ذلك تصريح بأن إقرار الولي عليه مقبول.

__________________

(١) سورة البقرة آية ٥٤.

(٢) سورة النور آية ٦١.

(٣) أي التصرف.

(٤) لعلها : وليه أو من يقوم مقامه.

٢٤٢

وفي هذه الآية دليل ظاهر على أن الحجر ثابت على السفيه ، ولا فيه بيان معنى السفه الذي يقتضي الحجر على الحر الثابت شرعا ، بل قوله تعالى :

(إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ) ، إلى قوله : (فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً) ، يدل على أن المداينة جرت معه ، فإنه قال : إذا تداينتم ، ثم قال : فإن لم يستطع بعض المتداينين أن يكتبوا فليكتب الولي بالعدل ، وليس الضعف اسما للمحجور عليه ، فإنه يتناول الخرف والأخرس والعيي (١) ..

نعم قوله تعالى : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) يدل على ذلك ، على ما سنبينه في سورة النساء.

فأما قوله سفيها أو ضعيفا بعد أن ابتدأ الآية ، فقد اقتضى أن يكون الذي عليه الحق جائز المداينة والتصرف ، فأجاز تصرف هؤلاء كلهم ، فلما بلغ إلى حال إملاء الكتاب والإشهاد ، ذكر من لا يكمل لذلك ، إما لجهل بالشروط أو ضعف عقل ، لا يحسن معه الإملاء.

فإن لم يوجد (٢) نقصان عقله حجر عليه ، إما لصغره أو لخرف وكبر سن ، لأن قوله (ضَعِيفاً) يحتمل الأمرين جميعا.

وذكر معهما من لا يستطيع أن يمل هو لمرض أو لكبر سن ، فثقل لسانه عن الإملاء ، وإذا كان كذلك فليس على المريض ومن ثقل لسانه

__________________

(١) الخرف بفتحتين فساد العقل من كبر السن ، وبابه طرب ، والعيي على وزن فعيل من لا يستطيع البيان.

(٢) في الأصل : يوجب.

٢٤٣

بخرس وليّ ، عند أحد من العلماء ، مثل ما يثبت على الصبي والسفيه عند من يحجر عليه.

نعم يبقى أن يقال إن قوله : (إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ) ، يقتضي كون المداينة جارية مع السفيه والضعيف وغيرهما.

ولا شك أن السفيه لا يمنعه السفه من الإملاء إذا لم يكن موليا عليه ، فإن منعه من الإملاء ، فهو الضعيف الذي لا يستطيع أن يمل ، فما معنى ذكر السفه ها هنا؟ فيقال : معناه أن السفيه لخفة عقله لا يستطيع الشرائط ، إلا أن يشار اليه ويعرف الشرائط فيه.

وبالجملة لفظ السفيه مشترك ، يشتمل على معان مختلفة ، فيجوز إطلاقه على الصبي والمجنون والكافر وبذيء اللسان والمنافق ، وهؤلاء لا يستحقون الحجر.

نعم لما قال الله عز وجل : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) ، عرفنا أن المراد به سفه يتعلق بالمال ، وسيأتي بيانه إن شاء الله .. (١) قوله : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) ، ظن ظانون أن ذلك يتناول الأحرار والعبيد ، لأن العبيد من رجالنا وأهل ديننا.

فقيل لهم : قد قال : (إِذا تَدايَنْتُمْ) وساق الخطاب إلى قوله : (مِنْ رِجالِكُمْ) ، وظاهر الخطاب تناوله للذين يتداينون ، والعيد لا يملكون ذلك دون إذن السادة.

ولعلهم يقولون إن خصوص أول الآية لا يمنع التعلق بعموم آخرها ، وفيه من اختلاف الأصوليين ما لا يخفى.

__________________

(١) وذلك عند قوله تعالى من سورة النساء : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ).

٢٤٤

وأقوى ما قيل في رد شهادة العبيد من دلالة كتاب الله تعالى ، أن الله تعالى جعل الشهادة منصبا ، وجعل الشاهد قواما بالقسط لإحياء حقوق المسلمين ، فقال : (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ)(١).

وإنما يبين معنى كونه ناهضا به ، إذا دعي إليها وأجاب ووجبت عليه الإجابة ، كما قال تعالى : (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا).

ولا يتصور استقلال العبد بهذا المعنى ، لكونه ممنوعا من الخروج إلى القاضي ، وتصحيح دعوى المدعى ، ولأجل ذلك لم يجعل أهلا للولاية في حق أولاده ، لأنها تستدعي القيام بالنظر ، ولا يتأتى ذلك مع قيام الرق ، فلم يثبت له المنصب.

والمرأة في معنى الاستقلال ، لما كانت دون الرجل ، أثر ذلك في شهادتها وولايتها جميعا ، ولكن لا يسلب الأمران عنها.

ولأجل ذلك لم يكن العبد مساويا للحر في الجمعة (٢) حتى لا تنعقد به ، فإنها تستدعي أسبابا لا تتهيأ للعبد.

ولأن الشهادة منصب أخذ على الشاهد فيه تخير ضروب من الوقار وحفظ الحرمة ، حتى يتخير من الحرف أعلاها وأولاها ، ومن الأفعال أرتبها وأحسنها ، ولا تخير من العبد أصلا ، فإن السيد يصرفه كيف شاء ، في دنيات الأعمال وعليتها ، فليس يؤهل لمنصب لا يستقل به ، ولذلك لم يكن وليا ولا حاكما.

وقد جمع الله تعالى بين درجة الشاهد والحاكم فقال : (كُونُوا

__________________

(١) سورة النساء آية ١٣٥.

(٢) لعلها : حيث.

٢٤٥

قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ (١) شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا).

فجعل الحاكم شاهدا لله تعالى ، ولم يجعل العبد أهلا له ، لأن المقصود منه الاستقلال بهذا المهم إذا دعت الحاجة اليه ، ولا يتأتى ذلك من العبد أصلا. فكذلك منصب الشهود.

وقد جعل الله تعالى للعبد المملوك نهاية المثل في عدم القدرة فقال : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ)(٢).

وكيف يكون بهذه المثابة من يقدر على تنفيذ قوله في الغير في الدماء والفروج؟ ولم يثبت له قول نافذ في حكم ما ، إلا فيما لا طريق اليه إلا من جهته ، كالإسلام والطلاق ، فإن الحجر عليه فيه يؤذن بامتناع الطلاق رأسا ، وفيه مفسدة وارعة (٣) عن النكاح ، وكذا الإقرار بالدم عند بعض العلماء ، فإنه لا طريق إلى الخلاص عن المظلمة إلا من هذه الجهة.

فأما الشهادة فلا تدعو الضرورة فيها إلى العبيد لقيام الحر بها دونهم ، فهذا تمام هذا المعنى.

فأما الشهادة فلا تدعو الضرورة فيها إلى العبيد الحر بها دونهم ، فهذا تمام هذا المعنى.

وفيه معنى آخر ، وهو أن قبول قول زيد على عمرو ، بعيد عن قياس

__________________

(١) أي أن يقوموا بالعدل فلا يعدلوا عنه يمينا ولا شمالا ، ولا تأخذهم في الله لومة لائم ، ولا يصرفهم عنه صارف ، وأن يكونوا متعاونين متساعدين متناصرين فيه ، سورة النساء آية ١٣٥.

(٢) سورة النحل آية ٧٥.

(٣) حاجزة.

٢٤٦

الأصول ، إلا أن الشرع رأى ذلك لمصلحة إحياء الحقوق وخوفا من ضياعها ، ولأجل ذلك كانت الشهادة من فروض الكفايات كالجهاد ، فإذا لم يكن من أهل الخطاب بالجهاد ، ولو حضر وقاتل لم يسهم له ، وجب ألا يكون من أهل الخطاب بالشهادة ، ومتى شهد لم تقبل شهادته ، ولم يكن له حكم الشهود ، كما لم يثبت له حكم المجاهد ، وإن شهد القتال في استحقاق السهم.

ولما أثر نقص لأنوثة في منصب الولاية ، سلب استقلال المرأة بالشهادة ، إلا أن يكون معها رجل.

فإثبات استقلال العبيد بالشهادة إيفاء (١) رتبتهم على رتبة النساء ، فإن كان كذلك ، فلتكن رتبتهم موفية على رتبتهن في الولاية ، والأمر بالعكس من ذلك ، وذلك يدل على سقوط رتبة الشهادة في حق العبيد.

نعم يقبل خبر العبيد على الانفراد وخبر النسوة كمثل ، لأن طريق قبول الخبر شيء ، وطريق قبول الشهادة شيء ، فليس يتعلق بالخبر دعوى واستحضار لأداء الشهادة ، ويتعلق ذلك بالشهادة.

فالذي يروي الخبر ، يخبر عما علمه ، سواء استشهد أو لم يستشهد ، وليس يتعلق قبوله بحاكم ومجلس حكم ، وإنما سبيله إخبار عن شيء شاهده إن كان قد شاهده.

وأما الشهادة ، فسبيلها سبيل إيجاب حق على ممتنع باستحضار واستدعاء ، ولا يتأتى ذلك للعبد على ما بيناه من قبل.

وقد نقل عن علي رضي الله عنه إجازة شهادة الصبيان ، وذلك لم يثبت عنه ، مع أن قوله (مِنْ رِجالِكُمْ) لا يتناوله.

__________________

(١) اشراف ورفع.

٢٤٧

ولا يقبل خبره أيضا ، ولا يلزم بخبره حكم ، فإن عدالته غير ثابتة ، ولا أنه بالمعاصي يأثم ، فلا عبرة بقوله.

وكيف يوثق بقول من يعلم أنه لو كذب فلا يؤاخذ بالكذب (١) ، ولا تبعة عليه في الآخرة؟

ودلت الآية على أن الأعمى من أهل الشهادة فإنه من رجالنا ، ولكن إذا علم يقينا ، مثل ما روى ابن عباس قال :

سئل النبي صلّى الله عليه وسلم عن الشهادة فقال : ترى هذه الشمس فاشهد على مثلها أو دع.

وذلك يدل على اشتراط معاينة الشاهد لما يشهد به ، لا من يشهد بالاستدلال الذي يجوز أن يخطئ.

نعم يجوز له وطء امرأته إذا عرف صوتها ، لأن الإقدام على الوطء جائز بغالب الظن ، فلو زفت اليه امرأة وقيل هذه امرأتك ، وهو لا يعرفها جاز له وطؤها.

ويحل له قبول هدية جاره بقول الرسول.

ولو أخبر مخبر عن زيد بإقرار أو بيع أو قذف أو غصب ، لما جاز له إقامة الشهادة على المخبر عنه ، لأن سبيل الشهادة اليقين والمشاهدة ، وفي غيرها يجوز استعمال غالب الظن ، ولذلك قال الشافعي وابن أبي ليلى وأبو يوسف : إذا علمه قبل العمى جازت له الشهادة بعد العمى ، ويكون العمى الحائل بينه وبين المشهود عليه ، كالغيبة والموت في المشهود عليه ، فهذا مذهب هؤلاء.

__________________

(١) يقصد بذلك أن الصبي معفو عنه حتى يبلغ سن التكليف لحديث «رفع القلم عن ثلاثة : عن النائم حتى يستيقظ ، وعن المبتلى حتى يبرأ ، وعن الصبي حتى يكبر». رواه أحمد ، وأبو داود والنسائي وابن ماجة عن عائشة رضي الله عنها.

٢٤٨

والذي يمنع أداء الأعمى فيما يحمل بصيرا لا وجه لقوله على ما يجب بعد أن كان الأعمى مرضيا عدلا.

وتصح شهادته بالنسب الذي يثبت بالخبر المستفيض ، كما يخبر عما تواتر حكمه من الرسول صلّى الله عليه وسلم.

ومن العلماء من قبل شهادة الأعمى فيما طريقة الصوت ، لأنه رأى أن الاستدلال بذلك يترقى إلى حد اليقين ، ورأى أن اشتباه الأصوات كاشتباه الصور والألوان ، وهو ضعيف يلزم منه جواز الاعتماد على الصوت للبصير.

ومقتضى عموم كتاب الله تعالى ، تجويز شهادة البدوي على القروي ، لأنه قد يكون عدلا مرضيا وهو من رجالنا وأهل ديننا ، وكونه بدويا ككونه من أهل بلد آخر.

وفي السلف من لا يجوز ذلك ، وهو رواية ابن وهب عن مالك ، ومذهب أحمد.

والعمومات في القرآن الدالة على قبول شهادة العدول ، تسوي بين القروي والبدوي ، مثل قوله : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ)(١).

(وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ) ـ إلى قوله ـ (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) (٢٨٢).

واختلاف الأماكن أيّ أثر له؟

وقد روى أبو هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال :

«لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية» (٢).

__________________

(١) سورة الطلاق آية ٢.

(٢) رواه ابن ماجة رقم ٢٣٦٧ ، وأبو داود في القضاء.

٢٤٩

وليس فيه فرق بين القروي في الحضر أو في السفر ، ومتى كان في السفر فلا خلاف في قبوله.

وروى عكرمة عن ابن عباس ، أنه شهد أعرابي عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم على رؤية الهلال ، فأمر بلالا أن ينادي في الناس فيصوموا غدا (١).

فقبل شهادة الأعرابي وأمر الناس بالصيام.

وجائز أن يكون خبر أبي هريرة في وقت كان الشرك والنفاق والتساهل في أمر الدين غالبا على أهل البادية ، كما قال تعالى :

(وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ)(٢).

فإنما منع قبول شهادة من هذه صفته من الأعراب.

وقد وصف الله تعالى قوما آخرين من الأعراب فقال :

(وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ)(٣) الآية. فمن كانت هذه صفته فبعيد أن لا تقبل شهادته ، مع قبولها على البدوي الآخر المماثل له ، وقبولها على القروي في السفر.

قوله تعالى : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ)(٤) من رجالكم فإن

__________________

(١) رواه ابن ماجة رقم : ١٦٥٢ ، ورواه أبو داود في باب شهادة الواحد على رؤية هلال رمضان.

(٢) سورة التوبة آية ٩٨.

(٣) سورة التوبة آية ٩٩.

(٤) أي شاهدان لأن الشهيد والشاهد واحد ، كما أن عليم وعالم واحد ، وقادر وقدير واحد ، قاله الجصاص.

٢٥٠

لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ)(١) الآية (٢٨٢) :

اعلم أن ظاهر الآية يقتضي أن تكون شهادة النساء شهادة ضرورة معدولا بها عن أصل الشهادة ، فإنه قال : واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين.

فاقتضى الظاهر عدم القدرة على الرجلين ، إلا أنه جوز على خلاف الظاهر للإجماع ، وشرط كون الرجل معهن ، فلم يجعل لهن رتبة الاستقلال ، فدل مجموع ذلك على أن شهادة النساء شرعت في المداينات التي كثر الله تعالى أسباب (٢) توثيقها ، لكثرة جهات تحصيلها وعموم البلوى بها وتكررها ، فجعل التوثيق :

تارة بالكتابة.

وتارة بالإشهاد.

وتارة بالرهن.

وتارة بالضمان.

فأدخل في جميع ذلك شهادة النساء مع الرجال.

ولا يتوهم عاقل أن قوله : (إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ) يشتمل على دين المهر مع البضع ، وعلى الصلح عن دم العمد ، فإن تلك الشهادة ليست شهادة على الدين ، بل هي شهادة على النكاح ، ولو شهد على المهر فيقبل ، نعم لا يصير النكاح تبعا للمهر بحال.

نعم ، ما ليس بمال إذا كان تبعا للمال ، مثل الأجل المذكور في

__________________

(١) أي اطلبوهما ليتحملا الشهادة على المداينة.

(٢) في نسخة جهات.

٢٥١

المداينة ، فيقبل فيه شهادة النساء مع الرجال ، لأن الأجل يؤول إلى المآل.

فإن قال قائل : المهر في النكاح تابع للنكاح ، ولا يجب إلا معه ، فلم يثبت بشهادة النساء ، وليس المهر من جملة المداينات المذكورة في الآية؟

قلنا : لأن المهر من حيث كان دينا ، سلك به مسلك الديون كلها في أنواع التوثيق ، كالرهون والضمان وغيرهما ، فألحق بقياس الأموال.

فإن قال قائل : العتق تعددت جهات تحصيله ، وكذلك الطلاق ، وتزيد جهاتها من الكنايات والصرائح والتعليق والتنجيز على جهات تحصيل الأموال ، فلم لم يجعل ذلك ملحقا بالأموال؟

فالجواب : أن الحاجة لا تتكرر إلى توثيق جهات الطلاق مسيس الحاجة إلى الوثائق في المداينات ، ولذلك بالغ الشرع في إبانة جهات الوثائق فيها ، وقال في الرجعة والطلاق :

(وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ).

قوله تعالى : (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) ، يدل على تفويض الأمر إلى اجتهاد الحكام ، فربما تفرس في الشاهد غفلة أو ريبة ، فيرد شهادته لذلك.

وفيه دليل على جواز استعمال الاجتهاد في الأحكام الشرعية.

ويدل قوله : (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) على أنه لا مبالاة يكونه مسلما (١) فإنه قال : (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ).

__________________

(١) أي لا يكفى انتسابه الى الإسلام ، أو ادعاؤه له.

٢٥٢

فقسم المسلمين إلى مرضيين وغير مرضيين ، فلم تقبل شهادة غير مؤمنين.

وليس يعلم كونه مرضيا بمجرد الإسلام ، وإنما يعلم بالنظر في أحواله.

ولا يعتبر بظاهر قوله : (أنا مسلم) فربما انطوى على ما يوجب رد شهادته مثل قوله تعالى :

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ) إلى قوله: (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ)(١).

وقال : (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ)(٢) الآية ..

فكل ذلك دليل على ما قلناه.

وظاهر قوله : (مِنَ الشُّهَداءِ) يقتضي قبول شهادة الأب لابنه والولد لأبيه ، لأن الشاهد مرضي ولو لم يكن مرضيا ، وتطرقت التهمة إلى حاله باستيلاء الهوى عليه لامتنعت شهادته مطلقا ، ولأمكن أن يقال : إن الذي يشهد لولده كاذبا ، يشهد للأجنبي لعرض يتعجله من مال أو جاه أو غيره ، فيشهد التابع لمتبوعه ، والمرؤوس لرئيسه ، إلى غير ذلك.

غير أنه لا ينظر إلى شيء من ذلك ، خاصة إذا شهد لأحد ولديه على الآخر.

__________________

(١) سورة البقرة آية ٢٠٤ ، ٢٠٥ وسبب نزولها يوضح هذا المعنى حيث أنها نزلت كما قال السدي ، في الأخنس بن شريق الثقفي حينما جاء الى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأظهر الإسلام وفي باطنه خلاف ذلك.

(٢) سورة المنافقون آية ٤.

٢٥٣

إلا أن العلماء أجمعوا على خلاف ذلك ، إلا خلاف شاذ لا يعتد به يحكى عن عثمان البتى (١).

ولعل السبب فيه أن الذي بينه وبين الابن من الاتحاد في الذات ، حتى يقال هو بعضه ، يقتضي جعل شهادته له في معنى شهادته لنفسه ، فإذا كانت فيه شبهة الشهادة لنفسه ، كان مدعيا من تلك الجهة ، والبينة على المدعي ، ولا تسمع شهادته لنفسه فيما هو مدع فيه.

ولا شك أن هذا في غاية الجلاء مع المصير إلى تمييز أملاكهما التي هي محل الشهادة.

ويجب على الابن الحد بوطء جارية أبيه ، ولا يجعل الاتحاد بينهما شبهة في الحد ، فكذلك لا يجعل شبهة في شهادته وإلحاقها بالدعوى ..

نعم ظن أبو حنيفة أن شهادة الزوج لزوجته لا تقبل ، لتواصل منافع الأملاك بينهما ، وهي محل الشهادة ، والذي يخالفه يقول :

ولكن ذلك التواصل يعرض للزوال ، فليس كتواصل الولادة ، فإذا ظهر التفاوت من وجه.

والأصل قبول الشهادة إلا حيث خص ، فما عدا المخصوص يبقى على الأصل.

وزاد أبو حنيفة على هذا وقال :

كل شهادة ردت للتهمة فإنها لا تقبل أبدا ، مثل شهادة الفاسق ، إذا ردت لفسقه ثم تاب وأصلح ، ومثل شهادة أحد الزوجين للآخر إذا ردت ، ثم شهد بها بعد زوال الزوجية.

__________________

(١) حيث قال كما في الجصاص : تجوز شهادة الولد لوالديه ، وشهادة الأب لابنه ولامرأته إذا كانوا عدولا مهذبين معروفين بالفضل ولا يستوي الناس في ذلك.

٢٥٤

فجعل العلة مجرد التهمة في الذي تقدم من الشهادة ، وزاد عليه فقال :

لا تقبل شهادة الأجير للمستأجر ، وقبل شهادة من له الدين لمن عليه الدين ، فلم ير الزوجية لعينها مانعة قبول الشهادة حتى إذا زالت قبلت ، وقال : لو شهد العبد فردت شهادته ثم عتق فأعاد قبلت ، وكذا الصبي ، لأن زوال الرق معلوم حقيقة ، وزوال التهمة غير معلوم حقيقة ، وزوال الزوجية معلوم حقيقة ، غير أن الرد لم يكن لها وإنما كان للتهمة ، ولا يعلم زوالها حقيقة ، فجعلوا التهمة مانعة.

ولا شك أن التهمة في الشهادات كلها خاصة ، هي تهمة المعصية ، وتهمة المعصية شبهة في الحدود ، فهلا ردت شهادته في الحدود مثلا.

فعلم أن سبب رد الشهادة للولد ليس هو تهمة الكذب ، ولكن ما بينهما من الاتحاد ، مع خروج شهادته عن كونها شهادة لنفسه ، حتى لا يكون من وجه مدعيا ، وهذا المعنى بعيد عن التهمة ، فلم يقتض رد شهادة أخرى ، أو بحال ذلك على الإجماع ولا يقيد بخلاف البتى ولا يصح النقم فيه ، فهذا تمام البيان في ذلك.

والحوالة على التعبد أولى لضعف المعنى ، لولا أن الشافعي رد شهادة العدو على العدو مع العدالة ، وقبل شهادته في حادثة أخرى ، وإن كانت تسفط بالتهمة.

ويمكن أن يقال : إن رد شهادة العدو على تعبد ثبت بخبر ورد فيه ، فإن المعنى كيفما قدر ضعيف جدا.

وحاصل القول أن العدالة ، وقلة الغفلة ، هي من شرائط الشهادات وقد انتظمها قوله تعالى : (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) ـ مع قلة حروفه وبلاغة لفظه ووجازته واختصاره وظهور فوائده ، وجميع ما

٢٥٥

ذكرناه من المعاني التي استنبطها السلف من مضمونه وتحريهم موافقته مع احتماله لجميع ذلك ، يدل على أنه كلام الله تعالى ومن عنده ، إذ ليس في وسع البشر إيراد لفظ على هذه الوجازة يتضمن هذه المعاني البديعة.

قوله تعالى : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى).

يدل على أنه لا يجوز لأحد أن يشهد على الآخر ، وإن رأى الخط ، إلا أن يكون ذاكرا لما يشهد به.

ثم قال : (ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا) ، فدل ذلك على أن الكتاب إنما أمر به ليتذكر به كيفية الشهادة ، وأنها لا تقام إلا بعد حفظها وإتقانها.

وفيه الدلالة على أن الشاهد إذا قال لا أذكر ، ثم تذكر ، يجوز له إقامة الشهادة (١).

ثم إن الله تعالى إنما ذكر في المداينات الحجج التي تستقل بإثبات المداينات ، ولم يتعرض لما سواها ، وقد ظن ظانون من أصحاب أبي حنيفة ، أن إسقاط العدد المذكور في القرآن لا يجوز ، وأن الذي جعله الشرع سببا لا يجوز تغييره والنقصان منه ، ولا يحط منه وصف الرضا وهو العدالة ، ولا الوصف الآخر وهو العدد ، ثم قال :

(ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا).

__________________

(١) إذ معنى «أن تضل» أن تنسى لأن الضلال هو الذهاب عن الشيء فلما كان الناس ذاهبا عما نسيه جاز أن يقال ضل عنه بمعنى أنه نسيه (جصاص).

٢٥٦

وأبان أن ذلك أدنى ما يتعلق به مقصود الشرع ، وأن القدر المقصود من الاحتياط والحجة المعتبرة هذا المذكور في القرآن ، وذلك ينفي إيجاب الحكم بالشاهد واليمين ، فإن اليمين دون الشهادة لا محالة ، وقد أبان الله تعالى أن أدنى درجات الاحتياط هو المذكور ، فلا يثبت بما دونه ، وهذا حسن بين.

والذي يقبل الشاهد واليمين يقول :

معنى قوله تعالى : (وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا) في الشهادة وحدها ، لا فيها وفي غيرها ، والشاهد واليمين جنسان مختلفان لا تعرض لهما في القرآن.

ويقول أصحاب الشافعي في قول : إن الحكم باليمين ، غير أن الشاهد يقوى جانبه ، ويصير هو بمثابة المدعى عليه الذي ظهر جانبه باليد ، فعلى هذا لا يستقيم التعلق بالقرآن في تحقيق غرضهم ..

قوله تعالى : (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا).

روي عن جماعة من المفسرين (١) أن المراد به : إذا دعوا لإقامتها.

وعن قتادة : إذا دعوا إلى إثبات الشهادة في الكتاب ، فأما عند الإثبات فلا يجب على الشهود الحضور عند المتعاقدين ، وإنما على المتداينين أن يحضرا عند الشهود ، فإذا حضراهم وسألاهم إثبات شهادتهم في الكتاب ، فهذه الحال هي التي يجوز أن تراد بقوله : (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) لإثبات الشهادة ، فأما إن ثبتت بشهادتهم ، ثم دعوا لإقامتها عند الحاكم ، فهذا الدعاء هو لحضورهما عند الحاكم ، ولا يحضر الحاكم

__________________

(١) منهم سعيد بن جبير ، وعطاء ، ومجاهد ، والشعبي ، وطاوس.

٢٥٧

عند الشاهدين ، ليشهدا عنده وإنما على الشهود الحضور عند الحاكم.

فالدعاء الأول إنما هو لإثبات الشهادة في الكتاب ، والدعاء الثاني لحضورهم عند الحاكم وإقامة الشهادة عنده.

واللفظ يحتمل الأمرين جميعا ، ولا معنى لاختلاف المفسرين في معناه ، إذا كان اللفظ يدل عليهما من طريق العموم.

وقوله : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) ، يجوز أن يكون متناولا للأمرين جميعا ، وإن كان قوله : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) ، يرجع جانب التحمل ، ولكن ذكر بعض ما يتناوله اللفظ لا يمنع التعلق بعمومه فيما أمكن تعميمه فيه ، على رأي أكثر الأصوليين ، وإن خالفهم قوم في ذلك وادعوا التوقف ، وليس ذلك بالبعيد عندنا على ما شرحناه في الأصول ، مع أن اسم الشهداء لا يكون حقيقة ، إلا في حالة إقامة الشهادة عند الحاكم ، وإن كان ينطلق على غيره بطريق المجاز مثل قوله :

(وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ).

فسماهم شهيدين وأمرنا باستشهادهما قبل أن يشهدا. وهو بمثابة قوله :

(فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) (٢٣٠).

فسماه زوجا قبل أن يتزوج.

وقوله : (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) ، الآية) ، يدل على أن إقامة الشهادة تجب حيث لا يجد المستشهد غيره ، وهو فرض على الكفاية ، كالجهاد والصلاة على الجنائز وغسل الموتى ودفنهم ، متى قام به قوم سقط عن الباقين.

٢٥٨

ومعنى الفرض على الكفاية ، أنه لا يجوز للكل الامتناع منه لما فيه من إبطال الوثائق وضياع الحقوق ، ولا يتعين فرضه على كل أحد ، فإنه لا خلاف أنه ليس على كل أحد من الناس تحملها ، هذا أصل في فروض الكفايات الواجبة على الكافة ، إلا أنهم إذا أدى بعضهم سقط عن الباقين ، فإذا لم يكن في الكتاب إلا شاهدان ، فقد تعين الفرض عليهما متى دعيا لإقامتهما بقوله : (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا).

وقال تعالى : (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) (٢٨٣).

وقال تعالى : (وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ)(١).

وقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ)(٢).

وإذا كان عنهما مندوحة بإقامة غيرهما فقد سقط الفرض عنهما (٣) لما وصفناه.

قوله تعالى : (وَلا تَسْئَمُوا)(٤)(أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ) يعني القليل الذي يعتاد تأجيله ، ومعلوم أنه لم يرد به القيراط والدانق ، إذ لا يعتاد المداينة بمثله إلى أجل.

وقوله (إِلى أَجَلِهِ) يعني إلى محل أجله ، فيدل ذلك على أنه يكتب الأجل في الكتاب ومحله ، كما يكتب أصل الدين.

__________________

(١) سورة الطلاق آية ٢.

(٢) سورة النساء آية ١٣٥.

(٣) في نسخه : فيهما.

(٤) أي لا تملوا ولا تضجوا.

٢٥٩

ويستدل به على أنه يكتب صفة الدين ونقده وجودته ومقداره ، لأن الأجل بعض أوصافه ، فحكم سائر أوصافه بمنزلته ..

قوله تعالى : (ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ).

فيه بيان الغرض الذي لأجله أمر بالكتاب واستشهاد الشهود ، والوثيقة والاحتياط للمتداينين عند الحاجة ورفع الخلاف ، وبين الغرض الذي لأجله أمر بالكتاب ، وأخبر بأن ذلك أنفى للريب ، وأبقى للحق ، وأدعى إلى رفع النزاع ، وأنه إذا لم يكتب فيرتاب الشاهد ، فلا ينفك بعد ذلك من أن يقيمها على ما فيها من الاختلاط والاحتياط ، غير مراع شرائط الاحتياط ، فيقدم على محظور أو يتركها فلا يقيمها (١) فيضيع حق الطالب.

ويستدل بذلك على أن الشهادة لا تصح إلا مع القطع واليقين ، وأنه لا يجوز إقامتها إذا لم يذكرها وإن عرف خطه ، لأن الله تعالى أخبر أن الكتاب مأمور به لئلا يرتاب بالشهادة.

ويستدل به أيضا على أن هذا الاستشهاد والكتاب ، إذا كان الاحتياط في المداينات فهي للاحتياط للنكاح ، حتى لا يستشهد بمن ليس بمرضي من فاسق ، ومجلود في قذف ، وكافر وعبد ، خلافا لمن زعم أن تلك الشهادة ليست للاحتياط ، ومعلوم أن الشهادة في موضع الندب ، إذا كانت للاحتياط ، ففي موضع الوجوب أولى أن تكون للاحتياط ..

قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ) (٢٨٢) ، فرخص في ترك الكتاب في التجارة الحاضرة رفعا للحرج.

ودل ظاهر قوله : (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) ، على أن الشهادة عامة في التجارات كلها.

__________________

(١) في الأصل : أو يتركه فلا يقيمه.

٢٦٠