أحكام القرآن - ج ١-٢

عماد الدين بن محمد الطبري [ الكيا الهرّاسي ]

أحكام القرآن - ج ١-٢

المؤلف:

عماد الدين بن محمد الطبري [ الكيا الهرّاسي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٧
الجزء ١-٢ الجزء ٣-٤

واشتهر عن مالك إباحة (١) ذلك.

وقوله (أَنَّى شِئْتُمْ) يحتمل كيف شئتم ، ويحتمل أين شئتم (٢) فلفظ (أَنَّى) يحتملهما جميعا.

وروي عن جابر أن اليهود قالوا للمسلمين : «من أتى امرأته وهي مدبرة جاء ولده أحول» (٣) ، فأنزل الله تعالى : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مقبلة ومدبرة ما كان في الفرج».

ومالك يحتج بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ)(٤) ، وأن عموم ذلك يقتضي إباحة وطئهن في الموضع الذي جوزنا وطأهن فيه.

قيل قوله : (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ) دال على الإباحة المطلقة لا على موضع الإباحة ، كما لم يدل على وقت الإباحة في الحائض وغيرها.

ومما تعلق به من حرم الوطء أن قوله تعالى : (قُلْ هُوَ أَذىً) ، تعليل تحريم وطء الحائض ، بما يقتضي تحريم الوطء في الذي ينازعنا فيه فإنه موضع الأذى.

__________________

(١) أي وطأ المرأة في دبرها.

(٢) قال الطبري : وقال ابن عباس : (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) أي ائتها أني شئت مقبلة ومدبرة ، ما لم تأتها في الدبر والمحيض ، وعن عكرمة «يأتيها كيف شاء ما لم يعمل عمل قوم لوط».

(٣) رواه البخاري في صحيحه في كتاب التفسير ، باب نساؤكم حرث لكم. ورواه مسلم في صحيحه أيضا كتاب النكاح ، والترمذي ، وأبو داود عن جابر رضي الله عنه.

(٤) سورة المؤمنون آية ٥ ـ ٦.

١٤١

وهذا المعنى كان يقتضي تحريم وطء المستحاضة ، لو لا الحرج في تحريم وطئها ، لطول أمد الاستحاضة.

ومعنى الأذى ليس يستقل بتحريم الوطء ، لو لا إيماء الشرع إليه.

فإذا عرفت ذلك فاعلم أن قولنا : «ليس هذا موضع الحرث» ، لا يظهر دلالته على تحريم الوطء فيه ، كالوطء فيما دون الفرج ، ولكن دليل التحريم مأخوذ من غير ذلك في قوله تعالى :

(فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) مع قوله تعالى : (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ).

إذ يدل على أن في المأتي اختصاصا ، وأنه مقصور على موضع الولد.

وروي عن محمد بن كعب القرظي ، أنه كان لا يرى بذلك بأسا ويتأول فيه قوله تعالى:

(أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ)(١). ولو لم يبح مثله من الأزواج ، لما صح ذلك.

وليس المباح من الموضع الآخر مثاله ، حتى يقال : تفعلون ذلك وتتركون مثله من المباح.

وهذا فيه نظر ، إذ معناه : وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم مما فيه تسكين شهوتكم ، ولذة الوقاع حاصلة بهما جميعا ، فيجوز التوبيخ على هذا المعنى.

__________________

(١) سورة الشعراء آية ١٦٥ ـ ١٦٦.

١٤٢

قوله تعالى : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) (٢٢٤) فيه معنيان :

أحدهما : أن يتخذ يمينه حجة مانعة من البر والتقوى والإصلاح بين الناس ، فإذا طلبت منه المعاونة على البر والتقوى والإصلاح قال : قد حلفت. فيجعل اليمين معترضة بينه وبين ما ندب إلى فعله ، أو أمر به من البر والتقوى والإصلاح ، فلا جرم قال الشافعي:

الأيمان لا تحرم ما أحل الله ، ولا تحل ما حرمه الله عن فعل ، وإن الذي حل لكونه صلاحا ، لا يصير حراما باليمين ، فإن حلف حالف أن لا يفعل ذلك ، فليفعل وليدع يمينه.

ودل عليه قوله تعالى :

(وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى) إلى قوله : (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ)(١).

قال ابن سيرين : حلف أبو بكر رضي الله عنه ، في يتيمين كانا في حجره ، وكانا فيمن خاض في أمر عائشة ، أحدهما مسطح وقد شهد بدرا ، وقد أشهد الله تعالى أن لا يصلهما ولا يصيبان منه خيرا ، فنزلت هذه الآية. :

وفي الخبر : «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير» (٢).

__________________

(١) سورة النور آية ٢٢ وأصل قصة أبي بكر مع مسطح في البخاري في تفسير سورة النور فارجع إليه.

(٢) أخرجه ابن ماجة في سننه عن تميم بن طرفة ، عن عدي بن حاتم ، وتمامه : (وليكفر عن يمينه) أه رقم ٢١٠٨ ص ٦٨١ ج ١.

١٤٣

وهو معنى قوله تعالى : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ).

والوجه الثاني في التأويل : أن يكون معنى قوله : (عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) ، يريد به كثرة الحلف ، وهو نوع من الجرأة على الله تعالى ، والابتذال لاسمه في كل حق وباطل ، ومن أكثر من ذكر شيء ، فقد جعله عرضة ، كقول القائل :

«قد جعلتني عرضة للومك».

وذم الله تعالى مكثر الحلف بقوله تعالى :

(وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ)(١).

والمعنى : لا تعرضوا اسم الله تعالى ، ولا تبتذلوه في كل شيء ، لأن تبروا إذا حلفتم ، وتتقوا المأثم فيها ، إذا قلت أيمانكم ، لأن كثرتها تبعد عن البر والتقوى ، وتقرب من المأثم والجرأة على الله تعالى ، وكأن المعنى : إن الله ينهاكم عن كثرة الأيمان والجرأة عليها ، لما في توقي ذلك من البر والتقوى والإصلاح ، فكونوا بررة أتقياء ، كقوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)(٢).

فأفادت الآية المعنيين ، ومتضمنهما النهي عن ابتذال اسم الله سبحانه واعتراضه باليمين في كل شيء ، حقا كان أو باطلا ، والنهي أيضا عن جعل اليمين مانعة من البر والتقوى والإصلاح.

ودل ذلك على أن اليمين يجوز أن يجعل سببا للكفارة كما قاله الشافعي لأن اسم الله المعظم ، صار متعرضا للابتذال بوصف الحنث ، ووصف

__________________

(١) سورة القلم آية ١٠.

(٢) سورة آل عمران آية ١١٠.

١٤٤

الحنث راجع إلى اليمين ، فكانت اليمين سببا ، وليست اليمين عبادة لا يمكن جعلها سببا للكفارة.

فإن الإكثار من العبادات مندوب إليه ، والإكثار من اليمين منهى عنه.

والإكثار من العبادات تعظيم الله تعالى ، والإكثار من اليمين تعريض الإسم للابتذال.

فصح على هذا المعنى جعل اليمين سببا ، على خلاف ما رآه أبو حنيفة ، وجاز لأجله تقديم الكفارة على الحنث ، وجاز لأجله فهم إيجاب الكفارة في اليمين ، على فعل الغير وعلى فعل نفسه ، وعلى ما يجب فعله ، وعلى ما لا يجب ، وهو أصل الشافعي في الأيمان ..

قوله تعالى : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ (١) فِي أَيْمانِكُمْ) (٢٢٥) :

اعلم أن اللغو مذكور في القرآن على وجوه ، والمراد به معاني مختلفة على حسب اختلاف الأحوال التي خرج الكلام عليها.

فقال الله تعالى : (لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً)(٢) يعني كلمة فاحشة قبيحة.

و (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً)(٣) على هذا المعنى ، وقال :

__________________

(١) قال الراغب الأصفهاني : «اللغو من الكلام ما لا يعتد به ، وهو الذي يورد لا عن روية وفكر ، فيجري مجرى (اللغا) وهو صوت العصافير ونحوها من الطيور» أه ص ٤٥١.

ويقول الفخر الرازي : (اللغو : الساقط الذي لا يعتد به ، سواء كان كلاما أو غيره ، ولغو الطائر تصويته ، ويقال لما لا يعتد به من أولاد الإبل لغو» أه ج ٦ ص ٨١.

(٢) سورة الغاشية آية ١١.

(٣) سورة الواقعة آية ٢٥.

١٤٥

(وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ)(١). يعني الكفر والكلام القبيح.

وقال : (وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ)(٢). يعني الكلام الذي لا يفيد شيئا ليشتغل السامعون عنه بذلك ، وقال :

(وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً)(٣). يعني بالباطل.

ويقال : لغا في كلامه يلغو إذا أتى بكلام لا فائدة فيه.

وقد روي في لغو اليمين معان عن السلف :

فروي عن ابن عباس أنه : هو في الرجل يحلف على الشيء يراه كذلك ، ولا يكون كذلك.

وروي عن مجاهد وإبراهيم ، قال مجاهد في قوله تعالى : (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ).

أنه يحلف على الشيء وأنه يعلم ، وهذا في معنى قوله : (بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ).

وقالت عائشة : «هو قول الرجل : لا والله ، بلى والله» (٤).

وكثرت أقاويل السلف فيه ، وأقربها قول سعيد بن جبير : هو الرجل يحلف (٥) على الحرام فلا يؤاخذه الله بتركه.

__________________

(١) سورة القصص آية ٥٥.

(٢) سورة فصلت آية ٢٦ ونص الآية : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ).

(٣) سورة الفرقان آية ٧٢.

(٤) أخرجه الامام البخاري في صحيحه ، ورواه أيضا الامام مالك عن عائشة رضي الله عنها.

(٥) سقط من قوله فجعلوا وجوب الصلاة والصوم الى هنا من نسخة رقم ١٤٤ بدار الكتب.

١٤٦

وذلك يقرب من أحد تأويلي قوله عز وجل : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ).

وقد ظن قوم أن المراد به ، المؤاخذة في الآخرة ، فتجب الكفارة في الدنيا ، وليس على ما ظنوه ، فإنه تعالى قال في موضع آخر :

(لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ)(١).

فذلك يدل على أن المؤاخذة المذكورة في القسم الثاني ، هي المتيقنة في القسم الأول.

وظن أبو حنيفة ، أن قوله عقدتم ، يدل على ما يتصور عقد العزم عليه من الأفعال ، حتى يخرج منه اليمين على الماضي ، وذلك إن صح له ، فيخرج منه الأيمان على فعل الغير ، وحنث النسيان وغيرهما ، فالأقرب في معانيه ، ما قالته عائشة وهو مذهب الشافعي ..

قوله تعالى : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ (٢) مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ (٣) أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) (٢٢٦) :

ليس في نظم القرآن ما يدل على الجماع ، ولا على الحلف على مدة معلومة ، وإنما قال : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ ... تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ).

__________________

(١) سورة المائدة آية ٨٩.

(٢) الإيلاء لغة كما يقول الراغب : الحلف الذي يقتضي النقيصة في الأمر المحلوف فيه من قوله تعالى : (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ) ، وفي الشرع عبارة عن الحلف المانع عن جماع المرأة : «آلوسي» فمعنى يؤلون : يحلفون على ترك جماع نسائهم.

(٣) التربص : الانتظار ومنه قوله تعالى : (قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) ، أي انتظروا فانا من المنتظرين معكم ، ومعنى الآية : فان رجعوا عما حلفوا عليه من ترك معاشرة نسائهم فان الله غفور رحيم لما حدث منهم من اليمين على الظلم.

١٤٧

واختلفت تصرفات العلماء في ذلك.

فمنهم من جرى على العموم ، ومنهم من خص.

فممن خص ذلك علي وابن عباس ، صارا إلى أنه لو حلف لا يقربها لأجل الرضاع ، لم يكن مؤليا ، وإنما يكون مؤليا إذا كان على وجه الغضب.

ومنهم من لم يفصل (١) بين اليمين المانعة من الجماع ، والكلام والاتفاق ، ولا بين الرضا والغضب ، وهو قول ابن سيرين.

والأكثرون على أنه لا يعتبر قصد المضارة ، حتى لو آلى في حالة رضاها ، كان به مؤليا.

والأولون يقولون : ما قصد حقها ولا مضارتها.

وفي قوله : (غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، ما يدل على اعتبار قصد الإضرار.

فالأكثرون اعتبروا اليمين على ترك الجماع.

وقال الشافعي : إذا آلى أربعة أشهر ومضت المدة لم يكن مؤليا (٢).

وأبو حنيفة يوقع به الطلاق ، وإن لم يبق الإيلاء بعده ، لأنه رأى أن قوله تعالى : (تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) يدل على ما قاله.

ولكن الشافعي يقول : قوله : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ ... تَرَبُّصُ) ، يدل على أن مدة الأربعة أشهر حق له خالص ، فلا يفوت به حق له ، ولا يتوجه عليه مطالبة ، أنه أجل مضروب له.

__________________

(١) يفصل : يفرق.

(٢) لأن الإيلاء عندهم لا يكون الا في أكثر من أربعة أشهر.

١٤٨

قوله تعالى : (فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢٢٦) :

والفيء في اللغة الرجوع ، قال الله تعالى :

(حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ)(١).

أي ترجع إلى أمر الله.

وعند ذلك قد يظن الظان : أن ظاهر اللفظ ، يدل على أنه إذا حلف أن لا يجامعها على وجه الضرار ، ثم قال : قد فئت إليك ، وقد أعرضت عما عزمت عليه من هجران فراشك باليمين ، أن يكون قد فاء إليها ، سواء كان قادرا على الجماع أو عاجزا.

وقد اتفق أهل العلم على أنه إذا أمكنه الوصول إليها ، لم يكن فيؤه إلا الجماع.

وأبو حنيفة يقول فيمن آلى وهو مريض ، أو بينه وبين زوجته المؤلي منها ، مسيرة أربعة أشهر وهي رتقاء (٢) أو صغيرة ، أو هو مجبوب (٣) أنه إذا فاء إليها بلسانه ، ومضت المدة والعذر قائم ، فذلك في صحيح.

والشافعي يخالفه على أحد مذهبيه ، ووجه قوله : أنه إذا قال القائل : والله لا أجامع فلانة ، فلا يكون حانثا بقوله أجامعك ، وإنما يكون حانثا

__________________

(١) سورة الحجرات آية ٩.

(٢) الرتق : الضم والالتحام خلقة كان أم صنعة ، قال تعالى في سورة الأنبياء الآية ٣٠ : (كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) أي منضمتين ، والرتقاء : الجارية المنضمة الشفرتين ، وفلان راتق وفاتق في كذا أي هو عاقد وحال ، أنظر الراغب.

(٣) المجبوب : مقطوع الذكر من أصله.

١٤٩

بما يكون (١) منه مخالفا ، وإنما يكون مخالفا بما يكون به حانثا (٢) ، ثم لا يكون حانثا بمجرد القول ، وكذلك لا يكون قد فاء بمجرد قوله : وإنما هو وعد الفيئة ، إذ لو كان قد فاء حقا لما احتاج بعده إلى تحقيق مقتضى قوله بالجماع ، وهذا بين.

نعم اختلف قول الشافعي في المجبوب إذا آلى.

ففي قول : لا إيلاء له.

وفي قول : يصح إيلاؤه ويفيء باللسان.

والأول أصح (٣) وأقرب إلى مقتضى الكتاب ، فإن الفيء هو الذي يسقط اليمين. والفيء بالقول لا يسقطه. فإذا بقيت اليمين المانعة من الحنث ، بقي حكم الإيلاء.

قوله عز وجل : (وَإِنْ عَزَمُوا)(٤)(الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٢٢٧) :

وذلك يقتضي أن لا يقع الطلاق بمجرد مضي المدة على ما قاله قوم ، لأن مضي المدة لا يكون عزيمة على الطلاق ، وإنما عزيمة الطلاق ما يتوقف على قصده.

فأما حكم الله تعالى الحاصل بمضي المدة ، فلا يصح العزم عليه ، فلا يقال : عزموا على مضي الشهر ، أو غروب الشمس ، أو طلوعها.

__________________

(١) أي يحصل الحنث بسبب ما يقع منه من مخالفة وهو الفعل لا القول.

(٢) أي يعد مخالفا بما يقع به الحنث من الفعل.

(٣) إذ أن الإيلاء لا يتحقق الا بالفعل والمجبوب لا يتصور منه ذلك.

(٤) أي وقع العزم منهم عليه والقصد له ، ويقول الراغب : العزم والعزيمة عقد القلب على إمضاء الأمر ، يقال عزمت الأمر وعزمت عليه واعتزمت ، قال تعالى : (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ).

١٥٠

ومن فوائد هذه الآية : دلالة عمومها على صحة إيلاء الكافر والمسلم ، سواء كان الإيلاء بعتق ، أو طلاق ، أو صدقة ، أو حج ، أو يمين بالله.

وأبو حنيفة يقول : لا يصح من الكافر ما كان بالتزام صدقة أو حج ، ويصح ما كان بطلاق ، أو عتاق ، أو حلف بالله ، وإن لم يلزمه بالحلف بالله عز وجل شيء ، وصحح الإيلاء ممن لا يلتزم بالوقاع شيئا ، يتوقى الوقاع لأجل ذلك الأمر ، مع أنه لو آلى بطلاق زوجته ، أو عتاق عبده ، فمات العبد قبل مضي المدة ، بطل الإيلاء ، لأنه لا يخشى التزاما ، فكذلك قياس قوله أن لا يصح منه الإيلاء إذا حلف بالله ، لأنه لا كفارة عليه بالمخالفة.

واحتج محمد بن الحسن على امتناع جواز الكفارة قبل الحنث ، بأن قال :

إنه لما حكم الله تعالى للمولى بأحد حكمين ، من فيء أو عزيمة للطلاق ، فلو جاز تقديم الكفارة على الحنث ، لبطل الإيلاء بغير فيء ولا عزيمة طلاق ، لأنه إن حنث فلا يلزمه بالحنث شيء ، ومتى لم يلزم الحالف بالحنث شيء ، لم يكن مؤليا ، وفي جواز تقديم الكفارة إسقاط حكم الإيلاء بغير ما ذكره الله تعالى ، وذلك خلاف الكتاب.

وهذا غير صحيح لأن الله تعالى إنما أبقى (١) حكم الإيلاء إذا بقيت المضارة ، وإنما تبقى المضارة إذا كان يتوقع التزام أمر بالوقاع ، فشرط بقاء الإيلاء بقاء حكمه ، فإذا قدمه زال هذا المعنى ، كما يزول بموت العبد المحلوف على عتقه ، أو المرأة المحلوف على طلاقها ، وليس يقتضي ذلك مخالفة الكتاب بل يطابق معناه إذا تأمل ..

__________________

(١) في الأصل : بقي.

١٥١

قوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ (١) يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ)(٢) (٢٢٨) :

واختلف أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعلماء السلف في الثلاثة :

فقال قوم : الثلاثة من الحيض ، فما لم تغتسل المرأة من الحيض فزوجها أحق بها.

وقالت عائشة : إذا دخلت في الحيضة الثالثة فلا سبيل له عليها.

فالثلاثة إذا من الأطهار.

وأما اسم الأقراء فيتناول الحيض والطهر جميعا.

واختلفوا في كونه حقيقة فيهما ، أو مشتركا اشتراكا لا يظهر رجحان أحد المعنيين على الآخر.

وقال قوم : هو حقيقة في الحيض ومجاز في الطهر ، وذلك بحسب النظر في موضع الاشتقاق ، واختلف فيه :

فمنهم من قال : القرء من الوقت ، وعلى ذلك شواهد من اللغة.

وقال آخرون : هو من الجمع والتأليف ، وعلى ذلك شواهد.

فإن كانت حقيقته الوقت ، فقد ظن بعض أصحاب أبي حنيفة أن الحيض أولى به ، لأن الوقت في الأصل إنما كان وقتا لما يحدث فيه ،

__________________

(١) المراد بالمطلقات هنا المدخول بهن ، البالغات من غير الحوامل ، أو اليائسات إذ أن غير المدخول بها لا عدة عليها.

(٢) وفي القاموس المحيط : «والقرء بالفتح وبضم : الحيض والطهر والوقت ، وأقرأت حاضت وطهرت ، وجمع الطهر قروء وجمع الحيض اقراء» وقال الأخفش : (أقرأت المرأة إذا صارت صاحبة حيض فإذا حاضت قلت : قرأت».

١٥٢

والحيض هو الحادث ، وليس الطهر شيئا أكبر من عدم الحيض ، وزوال العارض ، والرجوع إلى ما كان في الأصل ، فكان الحيض أولى بمعنى الإسم.

وهذا غير صحيح ، فإن الحيض والطهر وصفان يعتوران (١) على المرأة ، ولكل واحد منهما وقت معلوم أقله وأكثره.

وهم يقولون : لكن الطهر إنما يعلم بغيره لا بنفسه ، فإن الطهر لا نهاية لأكثره إذ هو عدم الحيض ، وإنما يعلم بوجود الحيض.

قالوا : وإن كان القرء اسما للضم والجمع ، فهو أولى بالدم المجتمع.

ولا يتيقن كونه حالة الطهر ، إذ لا يتعلق به حكم ، وليس يبين لنا أن الدم يجتمع في حالة الطهر ، بل يجوز أن يجتمع في حالة الحيض ويسيل فيه ، فلا مستند لهذا القول.

وزعموا أن حد الحقيقة وجد في الحيض ، لأن اسم القرء لا ينتفي عنه أصلا ، ولا يتحقق ذلك في الطهر ، لأنه يوجد الطهر ولا يسمى قرءا بحال مثل طهر الآيسة والصغيرة ، فيظهر أن الطهر سمي قرءا لمجاورته للحيض ، فالحيض بذلك أولى.

وادعوا تطرق المجاز إلى قولنا من حيث اللغة من وجهين ، ومن وجه ثالث ، وهو أن مقتضى قولنا الاكتفاء بقرءين وبعض الثالث ، وإطلاق اسم الجمع على شيئين وبعض الثالث مجاز على خلاف الحقيقة ، وإنما يعلم ذلك بدليل مثل حمل أشهر الحج على شهرين وبعض الثالث ،

__________________

(١) التعاور التداول للشيء ، واعتوروا الشيء تداولوه فيما بينهم. وكذا تعوروه وتعاوروه (المختار).

١٥٣

وإذا جعل للقرء بدل ، وهو الأشهر ، لا جرم كانت الأشهر ثلاثة تامة من غير نقصان ولا حطيطة ، فليكن الطهر كذلك.

والذي توجه لأصحاب الشافعي على هذه الكلمات : أن الذي ذكره هؤلاء من مواضع الاشتقاق ، لا يصح التعويل عليه في هذا الباب ، فإنه لو قدر التصريح بمحال الاشتقاق على ما قالوه ، لم ينتظم الكلام.

وإذا كان الإسم مشتقا من شيء ، فيجب أن يكون بحيث لو صرح بموضع الاشتقاق يستقيم معنى الكلام ، مثل قول القائل في قوله تعالى :

(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي). (١)

والزاني مشتق من الزنا ، فلو ذكر موضع الاشتقاق وعلق عليه الحد ، يستقيم معنى الكلام.

وها هنا : إن كان اشتقاق القرء من الوقت ، فإذا ذكر الوقت في نفسه ، أو الضم بلفظ الثلاث ، لم يكن الكلام مستقيم النظم ، فإنه لو قال :

«والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة أوقات ، أو ثلاثة اجتماعات» ، ولم يضف الوقت إلى شيء ، والاجتماع إلى شيء ، لم يصح معنى الكلام في إرادة الحيض والطهر جميعا ..

نعم إنما يستقيم النظر إلى موضع الاشتقاق من وجه آخر ، وهو أن يجعل القرء مشتقا من الانتقال من حال إلى حال ، فعل هذا يستقيم الكلام ، إذا ذكر موضع الاشتقاق ، فإنه إذا قيل : معنى الكلام :

__________________

(١) سورة النور آية ٢.

١٥٤

والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة أدوار ، أو ثلاثة انتقالات ، فهي متصفة بحالتين فقط.

فتارة تنتقل من طهر إلى حيض.

وتارة تنتقل من حيض إلى طهر.

فيستقيم معنى الكلام في دلالته على الحيض والطهر جميعا ، فيصير الإسم مشتركا.

أو يقال : إذا ثبت أن القرء هو الانتقال ، فخروجها من حيض إلى طهر غير مراد بالآية أصلا ، ولذلك لم يكن الطلاق في الحيض طلاقا سنيا (١) مأمورا به.

وقيل : إنه ليس طلاقا على الوجه المأمور به ، وهو الطلاق للعدة ، فإن الطلاق للعدة ما كان في الطهر ، وذلك يدل على كون القرء مأخوذا من الانتقال.

فإذا كان الطلاق في الطهر سببا ، فتقدير الكلام عدتهن ثلاثة انتقالات ، فأولها :

هي الانتقال من الطهر الذي وقع فيه الطلاق ، والذي هو الانتقال من حيض إلى طهر لم يجعل قرءا ، لأن اللغة لا تدل عليه ، لكن عرفنا بدليل آخر ، أن الله تعالى لم يرد من حيض إلى طهر ، واللفظ دل على الانتقال ، والانتقال محصور في الحيض والطهر ، فإذا خرج أحدهما عن كونه مرادا ، بقي الآخر ، وهو الانتقال من الطهر إلى الحيض مرادا ، فعلى هذا عدتها ثلاثة انتقالات : أولها : الطهر ، وعلى هذا يمكن استيفاء

__________________

(١) أي أمرت به السنة أو أقرت عليه.

١٥٥

ثلاثة أقراء كاملة ، إذا كان الطلاق في حالة الطهر ، فلا يكون ذلك حملا على المجاز بوجه ما ، وهذا نظر دقيق في غاية الاتجاه لمذهب الشافعي.

وأكثر ما يرد على هذا الكلام وجوه :

منها : أن ذلك خلاف ما قالته عامة العلماء ، من أن القرء طهر أو حيض ، وذلك إحداث قول ثالث.

وهذا لا وجه له ، فإن القرء حقيقة في الانتقال ، ثم اختلف العلماء في المراد من الانتقال : فإنه متردد في اللغة بين الحيض والطهر ، فأما أن يكون القرء اسما لنفس الطهر ، أو اسما لنفس الحيض حقيقة فلا ، والدليل على موضع الاشتقاق قولهم : قرأ النجم : إذا طلع ، وقرأ النجم إذا أفل ، بمعنى تبدل الأحوال عليه.

نعم وضع اللغة يقضي أن يكون انتقالها من الطهر إلى الحيض قرءا ومن الحيض إلى الطهر قرءا ثانيا ، ومن الطهر الثاني إلى الحيض الثاني قرءا ثالثا ، وتنقضي عدتها بدخولها في الحيضة الثالثة ، غير أن تحريم الطلاق في خاصة الحيض دل على أن ذلك الانتقال ـ وهو من الحيض إلى الطهر ـ ليس مرادا بالآية.

ويمكن أن يذكر في ذلك شيء لا يبعد فهمه من دقائق حكم الشريعة ، وهو أن الانتقال من الطهر إلى الحيض ، إنما جعل قرءا لدلالته على براءة الرحم ، فإن الحامل لا تحيض في الغالب ، فحيضتها علم على براءة رحمها ، والانتقال من حيض إلى طهر بخلافه ، فإن الحائض يجوز أن تحبل من أعقاب حيضتها ، وإذا تمادى أمد الحمل ، وقوي الولد انقطع دمها ، ولذلك تمدح العرب بحبل نسائهم في حالة الطهر ، ومدحت عائشة رسول الله بقول تأبط شرا :

١٥٦

ومبرأ من كل غبر(١)حيضة

وفساد مرضعة وداء مغيل

تعني أن أمة لم تحمل به في الحيضة الثانية.

ومن أجل ذلك كان الاستبراء بحيضة ، لأن المسبية لا تعرف حبلها فتستبرئ بحيضة ، فإذا حاضت علمت براءة رحمها ، إلا أن الاحتياط في العدة أكثر ، فلم يكتف بدلالة واحدة دون الدلالات الثالثة ، فيحصل من مجموعها ما يقرب من اليقين ، أو ما يتضاعف به الظن ويقوى ، وإذا تقرر أن الأمر كذلك فالانتقال من الطهر إلى الحيض ، جعل قرءا معتبرا لهذا المعنى.

فإن قالوا : فإذا كان الانتقال من الطهر إلى الحيض جعل قرءا ، لدلالة ذلك الانتقال على براءة الرحم ، فذلك الانتقال لم يدل على براءة الرحم لأجل الطهر ، وإنما دلالته للحيض ، فالحيض هو الأصل في الدلالة ومتى كان هو الأصل في البراءة والدلالة عليها ، فهو أولى بأن يجعل أصلا في العدة من الطهر ، فإن الطهر يقارن الحمل ، فكيف يقع به الاستبراء؟ وإنما يقع الاستبراء بما ينافيه وهو الحيض ، فيكون دلالة على براءة رحمها من الحمل.

وربما قرروا ذلك فقالوا : إن الحيضة الثانية اعتبرت احتياطا ، لأن في التكرار زيادة دلالة على البراءة.

فلا جرم؟ قيل إن الاستبراء (٢) يكتفي فيه بحيضة واحدة ، ويعتبر في العدة الكاملة زيادة عدد ، لزيادة الدلالة على قدر رتبة العدة ، فإذا

__________________

(١) في القرطبي : أي أن أمه لم تحمل به في بقية حيضها ، والغيل لبن المرأة التي أتيت وهي ترضع الولد ، وكذلك إذا حملت وهي ترضعه ، وإذا سقت ابنها ذلك اللبن فهي مغيل.

(٢) أي براءة الرحم.

١٥٧

تعذر ذلك ، وقيل : الثلاثة ها هنا مثل الواحدة في الاستبراء ، فليكن العدد المعتبر في العدة الكاملة من جنس ما اعتبر في الاستبراء ، وليكن العدد عددا يزيد في الدلالة من جنس الأصل ، والطهر لا دلالة فيه ، فاعتبار العدد من الطهر لا معنى له ، فعدد الثلاثة يجب أن يوجد من الحيض ، فإذا شرعت في الحيضة الثالثة فليقل : يعتبر تمام دلالة هذه الثالثة ، كما دلت الحيضتان من قبل ، فاعتبار العدد من الطهر الذي لا دلالة لأصله مما وجه له.

وربما قالوا : الحمل إذا ظهر كان أولى من الحيض ، لأن الوضع أقوى (١) من الحيض ، فتفاوت ما بين الحيض والطهر ، كتفاوت ما بين الحيض والحمل ، ثم الحمل أصلا فليكن الحيض أصلا.

الجواب : أن الذي قالوه ليس كلاما في مقتضى اللفظ ، وإنما هو قياس في معاني الفقه ، وليس الكلام فيه ، وإنما الكلام في اللفظ ، وهو أن الله تعالى إذا قال : يتربصن ثلاثة انتقالات ، وعرفنا أنه لم يرد به الانتقالات كلها من الحيض إلى الطهر ، ومن الطهر إلى الحيض ، فإن ذلك يزيد على الثلاثة ، فعرفنا أنه إنما عنى به الانتقال الذي هو من الطهر إلى الحيض.

فهذا ما فهمناه من اللفظ ، وجاز مع ذلك أن يقترن بالعدة قصدان وراء براءة الرحم ، كالاختلاف بالحرية والرق ، ووجوبها إلى سن اليأس ، في حق التي انقطع حيضها لعلة ، وغير ذلك من المسائل ، فإذا ثبت ذلك لم يرد عليه كل ما قالوه.

ودل على ما قلناه ، أن الله تعالى قال : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ)(٢)

__________________

(١) أي أن ظهور الحمل أقوى في الاستدلال.

(٢) سورة الطلاق آية ١.

١٥٨

وقال صلّى الله عليه وسلم لعمر حين طلق ابنة امرأته وهي حائض : مره فليراجعها حتى تحيض ثم تطهر ثم يجامعها وليدعها حتى تطهر ثم ليطلقها إن شاء ، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء.

وذلك إشارة إلى الطهر فدل أن العدة (١) الطهر ، وأمر بإحصاء العدة عقيب الطهر ، فليكن المحصي بقية الطهر.

وأبو حنيفة لا يرى ذلك أصلا ، ولا يحصي عقيب الطلاق شيئا. وقوله تعالى : (لِعِدَّتِهِنَّ) لا يجوز أن يريد به عدة ماضية قبل الطلاق ، كما يقال : «صوموا لرؤيته» (٢) أي لرؤية ماضية ...

فإن قيل : الطلاق ليس بعدة بالاتفاق ، ولا يخطر ببال عاقل أن يقول : قوله عليه السلام لعمر : «حتى تحيض ثم تطهر ثم إن شاء طلق فتلك العدة» ، معناه : فتلك العدة الماضية ، أعني الحيضة الماضية ، أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء ، فإذا كان الطلاق في الطهر والانتقال منه إلى الحيض ، فتقدير الكلام :

إذا طلقتم النساء يتربصن بعد الطلاق السنى البدعي (٣) ثلاثة انتقالات :

أولها : الانتقال مما سن الطلاق فيه ، وذلك لا يكون إلا الطهر ، وهذا بين ظاهر في تحقيق مذهب الشافعي من معنى الآية.

فإن قيل : العدة وأحكامها ثابتة في حالتي الطهر والحيض ، فما معنى قوله تعالى لعدتهن؟

__________________

(١) أي على أن ابتداء العدة طهر فمجموعها أطهار.

(٢) رواه أحمد والشيخان والترمذي والنسائي.

(٣) لعل «البدعي» زائدة.

١٥٩

قيل : العدة مأخوذة من العد ، فكأنه تعالى قال : فطلقوهن لزمن بعد ذلك من العدة ، وذلك الطهر ، فإن عدد الثلاث مأخوذ منه وهذا بين.

قالوا : فالمرأة قبل الدخول يجوز طلاقها في الحيض ، فكيف يصح مطلق الآية على هذا التأويل؟

الجواب : أن معنى الكلام : إذا طلقتم النساء ذوات العدة ، فطلقوهن لعدتهن.

قالوا : فإذا طلقها في طهر جامعها فيه ، فبقية الطهر محسوبة ، وإن لم يكن الطلاق سنيا.

الجواب : أن ذلك مخصوص من هذا العموم بدليل ، وذلك لا ينافي دلالة اللفظ على ما تعلقنا به ، وعلى أن في حق التي جومعت في طهرها ، وإنما خرج الطلاق عن كونه سببا لوجود ما يحتمل خروج الطهر به ، عن أن يكون عدة تحصى بأن يبين حملها ، حتى لو كانت آيسة (١) لم يحرم طلاقها في طهر جامعها فيه.

ثم قوله تعالى : (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) ، وإن كان عاما في حق المنكوحة الحرة ، والمنكوحة الأمة ، ولكن الإجماع انعقد على أن عدة الأمة المنكوحة على النصف فتركناه لذلك.

قوله تعالى : (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ) (٢٢٨) :

قال قائلون : لما وعظها بترك الكتمان ، دل على وجوب قبول قولها

__________________

(١) أي تيقن من عدم حملها لعقمها.

١٦٠