آراء المستشرقين حول القرآن الكريم وتفسيره - ج ٢

د. عمر بن إبراهيم رضوان

آراء المستشرقين حول القرآن الكريم وتفسيره - ج ٢

المؤلف:

د. عمر بن إبراهيم رضوان


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

٣
٤

الفصل الرابع

شكل القرآن الكريم ومضمونه وشبههم حوله

المبحث الأول

تقسيم القرآن الكريم إلى ثلاثين جزءا

المبحث الثاني

عناصر السورة وما أثير حولها من شبهات

المبحث الثالث

ترتيب سور القرآن الكريم

٥
٦

الفصل الرابع

شكل القرآن الكريم ومضمونه وشبههم حوله

المبحث الأول :

تقسيم القرآن الكريم إلى ثلاثين جزءا :

زعم المستشرقون أن القرآن الكريم من أجل سهولة تلاوته قسم ثلاثون جزءا لتتلاءم مع عدد أيام شهر رمضان ـ حسب تعبير الموسوعة البريطانية ـ.

وقال «بلاشير» : إن تقسيمه كان لمجرد الباعث العملي وتسهيلا لتلاوته في الاحتفالات الدينية (١).

الجواب :

هذا الكلام بجملته بعيد كل البعد عن الدقة والموضوعية فتقسيم القرآن الكريم إلى ثلاثين جزءا كان إجراء متأخرا كثيرا عن نزول القرآن. أما فرضية رمضان ، ونافلة التراويح كان ذلك في عهد الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولا ريب أن المسلمين كانوا يحفظون القرآن ، ولا يجدون في ذلك صعوبة ولا عسرا قبل أن يجزأ القرآن إلى أجزاء ، وكانوا لا ريب كذلك يصلون التراويح وهي النافلة الرمضانية قبل أن يجزأ القرآن كذلك.

فربط التجزئة بشهر رمضان أو المواسم الدينية بعيدة عن الحقيقة والمنطق والتطبيق العملي ، بل بعيد حتى عن روح هذا الدين لأن اهتمامه دائما بالجوهر لا بالشكليات. والمسلمون مطلوب منهم أن يقرءوا القرآن في صلاتهم وفي صلاة

__________________

(١) قضايا قرآنية ص ـ ٣٣ ، والقرآن ـ لبلاشير طبعة دار الكتاب اللبناني ـ بيروت ص ـ ٣٨.

٧

التراويح في رمضان وغيرها من العبادات وأوقات الفراغ بقدر نشاطهم ، وظروف القارئ والمصلين من بعده لأن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه (١).

أما تجزئة القرآن لأجزاء ، وأحزاب ، وأرباع ، وسور ، وآيات ، ففي ذلك فوائد كثيرة لا يدركها أمثال هؤلاء المستشرقين وقد ذكرها العلماء في مؤلفاتهم ، من هذه الفوائد التي ذكروها :

١ ـ أن التجزئة للقرآن الكريم يدل على مقدار الاهتمام والعناية التي بذلت لهذا القرآن الكريم فيزداد المسلم له طمأنينة. وهي خاصية امتازت بها هذه الأمة في اعتنائها بكتاب ربها عزوجل بعكس الأمم السابقة.

٢ ـ تعرف المسلم على بداية كل جزء ونهايته ، وأنصاف القرآن وأرباعه .. إلخ وهذا تسهيل عليه لحفظه فيزداد المسلم رغبة في تلاوته. لأنه كلما أنهى سورة أو جزءا كان أنشط له للدخول في التي تليها فيزداد في التحصيل من الحفظ لكتاب الله سبحانه ويسهل عليه الوقوف على معانيه والعمل به.

٣ ـ أن الحافظ إذا حفظ السورة اعتقد أنه أخذ من كتاب الله طائفة مستقلة بنفسها فيعظم عنده ما حفظه ، ومنه حديث أنس ـ رضي الله عنه ـ «كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جد فينا» (٢) إلى غير ذلك من الفوائد التي لم أذكرها خيفة من الإطالة.

المبحث الثاني :

عناصر السورة وما أثير حولها من الشبه :

المسألة الأولى : حول معنى كلمة سورة :

زعم «بلاشير» أن معنى كلمة سورة لفظة غامضة نجدها في بعض الآيات

__________________

(١) (قضايا قرآنية) بتصرف ص ٣٣ ـ ٣٤.

(٢) مسند الإمام أحمد ٣ / ١٢٠.

٨

المكية (١).

الجواب :

كلمة «سورة» كلمة معروفة في العربية ولا غموض فيها كما زعم «بلاشير».

والسورة : فيها لغتان بالهمز وبدونه وهو الأشهر.

وقيل : في معناها أقوال منها : أنها من السور وهو حائط المدينة المشتمل عليها كذلك.

إن كلمة «سورة» القرآنية ليست غامضة ، بل هي مشتقة من كلمة سور ، كأن كل مجموعة من الآيات محاطة بسور معنوي لا يسمح لنقطة أو لحرف من غيرها بالدخول فيها ، أو بشيء منها بالخروج منها ، وهذا كناية عن الحفظ والعصمة (٢).

وهذا هو الاسم القرآني سورة مما امتاز به هذا القرآن العظيم على ما كان معهودا عند العرب.

نقل السيوطي عن الجاحظ قوله : [سمى الله كتابه اسما مخالفا لما سمى العرب كلامهم على الجمل والتفصيل :

سمى جملته قرآنا كما سموا ديوانا ، وبعضه سورة كقصيدة وبعضها آية كالبيت ، وآخرها فاصلة كقافية].

وذهب الإمام السيوطي ـ رحمه‌الله ـ أن أسماء السور توقيفية (٣).

__________________

(١) القرآن ـ بلاشير ص ٢٨.

(٢) نفس المرجع (المعلق) ولمحات في علوم القرآن واتجاهات التفسير محمد الصباغ المكتب الإسلامي ص ٤٣.

(٣) نفس المرجع ـ (المعلق) ولمحات في علوم القرآن واتجاهات التفسير ص ٤٣.

٩

المسألة الثانية : عناوين السور :

ذكر أصحاب الموسوعة البريطانية : [أن السورة تحتوي على العناصر الآتية :

١ ـ العنوان وهذا مشتق من كلمة واضحة جلية في السورة مثل البقرة والنحل والشعراء ، وحيث لا يدل العنوان على محتويات السورة (١).

الجواب :

عبارة «العنوان» لا يدل دائما على محتويات السورة فهو بحاجة إلى بيان فبعض العلماء يعتبر أسماء السور توقيفية ، أي لا مجال فيها لاجتهاد ، ولا يمنع أن يكون هناك أسماء توقيفية استنبطها العلماء من موضوع السورة كتسمية سورة النحل بسورة النعم ، وذلك لما ذكر فيها من نعم الله الكثيرة على الناس. وتسمية سورة الحجرات بسورة الآداب ، وذلك لأنها اشتملت في معظمها على توجيهات وآداب لا بد منها للأفراد والجماعات ..

وإذا كانت عناوين هذه السور لا تدل لأول وهلة على محتويات هذه السور ، فمما لا ريب فيه أن عنوان السورة إنما يشير إلى قضية بارزة فيها تدور جميع موضوعات السورة حولها. فسورة براءة مثلا كانت في معظمها حديث عن المشركين والمنافقين ، الذين لا بد أن يتبرأ منهم المسلمون ، وذلك لأسباب كثيرة ذكرتها السورة ، وسورة نوح كانت كلها حديثا عنه مع قومه عليه‌السلام ، وسورة الجن كانت حديثا عن الجن ، وهكذا .. فكثير من السور عنوانها يدل على محتواها.

أما ما يجده بعض الناس من عناوين لبعض السور لا تدل على موضوعاتها فإن ذلك يحتاج منهم إلى إمعان نظر وإجالة فكر فيجدوا هناك نقطة أو قضية أرادت السورة إبرازها والتأكيد عليها لأنها من الأهمية بمكان ، لذا عنونت بها.

__________________

(١) قضايا قرآنية في الموسوعة البريطانية ص ٣٨.

١٠

فسورة البقرة مثلا إشارة إلى قصة البقرة التي ذكرت لتخدم غرض السورة الرئيسي وهو قدرة الله سبحانه على إحياء الموتى فجاءت قصة إبراهيم عليه‌السلام وقصة عزيز لتخدما هذا الغرض الرئيسي نفسه.

كما أن السورة ذكرت موقف بني إسرائيل من هذه القصة ومن غيرها ، فذكرت أمورا لم تذكرها كتب بني إسرائيل ، وصورت نفسيتهم خير تصوير وموقفهم من أنبيائهم ؛ وذلك ليتعرف المسلمون على هؤلاء القوم وأخلاقهم فيعرفون كيف يتعاملون معهم.

وسورة آل عمران إذا أمعنا النظر فيها نجدها نتحدث عن آل عمران في أكثر أجزائها ، مريم ، والمسيح ـ عليهما‌السلام ـ.

وسورة النساء كانت أبرز موضوعاتها النساء وحقوقهن أيا كانت هذه الحقوق وهكذا بقية هذا الصنف من السور.

فاسم السورة ـ العنوان ـ ليس كما يقول المستشرقون لا يدل على محتويات السورة بل كل عنوان أشار إلى موضوعات السورة تمام الدلالة. أو أشار إلى جوانب بارزة في السورة يريد الله سبحانه إبرازها وإظهارها (١).

وقد كان «بلاشير» أكثر صراحة منهم حيث قال : [لقد ترسخت العادة منذ زمن بعيد أن يطلق على كل سورة عنوان يستخرج غالبا من أول آية فيها ، أو من قصة موسعة ، أو من عنصر راسخ أو من إشارة عرضية موجودة في السورة ، كما في السورة الثانية المسماة «البقرة» ويبدو أحيانا أن تسميات مختلفة قد أطلقت على السورة الواحدة تبعا للاهتمامات الدينية والأخلاقية المختلفة](٢).

وهكذا نجد أن عنوان السورة لم يكن عبثا ، وإنما وضع واختير لغاية ولهدف مقصود مما يدل أن دوائر المعارف تتبنى الأقوال التي فيها إساءة للإسلام في بعض القضايا مع وجود أقوال أكثر اعتدالا.

__________________

(١) انظر كتاب أستاذي د / فضل عباس قضايا قرآنية ص ـ ٣٩ ـ ٤١ (بتصرف).

(٢) القرآن ـ بلاشير ص ـ ٤٠ ـ ٤١.

١١

المسألة الثالثة :

الحروف المقطعة :

زعم «جرجس سال» أن هذه الحروف لغو لا فائدة فيها وهذا يخالف كون القرآن الكريم هدى وبيان. وقد غاب معناها حتى عن الراسخين في العلم فالخطاب بها كالخطاب بالمهمل.

وذكر بعضهم أن هذه الحروف مما وضعه كتبة محمد من اليهود.

وذكر أصحاب دائرة المعارف البريطانية أنها اختصار لكلمات أو أن لها أهمية سحرية(١).

وكل كلامهم هذا ليستدلوا منه أنه ليس بكلام الله سبحانه (٢).

أما بعض المستشرقين فقد اعتبر أن هذه الحروف لها معان ودلالات فقد زعم «هيرشفيلد» و «نولديكه» وغيرهما أنها اختصار لأسماء الأشخاص الذين سبق لهم تدوين بعض السور ، أو جمع شيء من القرآن.

١ ـ أما «أدوارد جوستر» فزعم أن هذه الحروف اختصارات لعناوين لم تعد تستعمل لتلك السور (٣).

الجواب :

هذه الحروف قد نالت عند العلماء من التوضيح والشرح والعناية ما تستحق. فهي ليست كما زعم «سال» لغو لا معنى لها ، أو لها أهمية سحرية فحسب على رأي أصحاب الموسوعة البريطانية. بل إن العلماء وبعض السلف ـ رضوان الله عليهم ـ كابن عباس من رواية أبي ظبيان ، والشعبي ، والثوري ،

__________________

(١) قضايا قرآنية في الموسوعة البريطانية ص ٤١.

(٢) أسرار عن القرآن ص ٤٧ ـ ٤٨.

(٣) مقدمة القرآن واط ص ٦٣.

١٢

وبعض علماء الخلف كأبي حيان ، والسيوطي ، والشوكاني ، عدوها من المتشابه الذي انفرد الله بعلمه ، وخفي على الخلق معرفته ، ومع هذا فقد أثبتوا لها معنى خفي على الخلق معرفته وأسره الله عنده ابتلاء واختبارا لإيمانهم ، وهذا في حد ذاته لون من ألوان البيان والهدى ، ففيه يعرف المؤمنون من المنافقين لأن الإيمان بالغيب والمتشابه من القرآن من أركان الإيمان.

إلا أن «سال» ومن قال بقوله من المستشرقين يزعمون أن هذه الحروف لا معنى لها بلا دليل علمي. أو لفهمهم معنى المتشابه فهما خطأ.

وقد ذكر علماء المسلمين لهذه الحروف ما يقرب من واحد وعشرين قولا أشهرها :

١ ـ اسم الله الأعظم إلا أنا لا نعرف تأليفه منها وهو منسوب لابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.

٢ ـ سر من أسرار هذا الكتاب ، والقرآن كتاب سماوي لا بد أن يكون له أسرار كأي كتاب سماوي.

٣ ـ اعتبرها ابن جني للفصل بين السور (١).

٤ ـ أسماء للسور القرآنية.

٥ ـ للتنبيه «كياء النداء» والتحدي وذلك لما أعرض المشركون عن سماع القرآن أنزل الله هذه الحروف ليستغربوها لعدم تعودهم عليها فيفتحوا أذانهم لها ولما بعدها من القرآن الكريم ، وأما جانب التحدي فيها فلأن هذه الحروف منها يتكون كلام العرب ومع هذا عجزوا أن يأتوا بمثل هذا القرآن. أو بشيء منه فثبت عجزهم وقامت عليهم الحجة.

وهذا قول المبرد وقطرب (٢). وهذا القول هو أرجحها. والله تعالى أعلم.

__________________

(١) براعة الاستهلال في فواتح القصائد والسور د. محمد بدري ص ٩٨.

(٢) انظر التفسير الكبير للرازي ٢ / ٧ ، والمحرر الوجيز لابن عطية ١ / ٩٥.

١٣

أما قول «هيرشفيلد» وغيره إنها اختصار لأسماء الأشخاص الذين سبق لهم تدوين بعض السور أو جمع شيء من القرآن فيرد عليه بما يلي :

إن العمدة في فهم ومعرفة هذه المعاني وهذه الحروف يعتمد على النقل وعلى ملاءمته لروح العربية.

٢ ـ لم يستطع أصحاب هذا الرأي أن يجدوا اسما لكل حرف في (الم) فأطلقوها على شخص واحد هو المغيرة وهذا خروج عن القاعدة المطردة عندهم أن كل حرف يطلق على شخص ك (ص) لحفصة ، و (ن) لعثمان وهكذا (١).

فهذا ينقض دعواهم ويبطل قولهم ، ويظهر التناقض في آرائهم.

٣ ـ لو كان هذا الأمر صوابا كما زعم «هيرشفيلد» ومن قال بقوله لما تأخر اكتشافه ، ولجاء على لسان السلف والخلف من علماء الإسلام الذين بذلوا قصارى جهدهم في كشف أسرارها والتعرف على معانيها.

أما نولديكه فقد كان يقول برأي «هيرشفيلد» أنها أسماء ، لجمعة القرآن ، ثم عدل عن هذا القول لرأي «سال» أنها سحرية ولا معنى لها ، ثم استقر به الرأي في مقالاته المتأخرة ، أنها تقليد لكتابة الكتاب السماوي الذي كان ينقل إلى محمد من اليهود (٢).

فقوله الأول أنها أسماء لجمعة القرآن ، والثاني أنها سحرية لا معنى لها قد رددنا عليهما ولا دليل عليه ، بل هي من جنس حروف الهجاء ، فهي معروفة لكل عارف بالعربية. أما تعليقي على القول الثالث :

فالناظر في كتاب (تاريخ القرآن الكريم) ل «نولديكه» يجد أنه يحاول أن يرد كثيرا من تعاليم الإسلام لليهودية. وقد رددت على هذا الرأي في باب

__________________

(١) انظر مقدمة القرآن ـ واط ـ ص ٦٣.

(٢) انظر مقدمة القرآن ـ واط ـ ص ٦٤.

١٤

المصادر.

والذي يزيد هذا القول بطلانا أن هذه الحروف لم تنزل في كتاب سماوي سبق نزوله القرآن الكريم ، فهي مما تفرد به هذا القرآن الكريم.

ولو كانت معروفة عند اليهود ـ كما زعم نولديكه ـ لما سكت عن ذلك اليهود ولكشفوا هذه السرقات من كتبهم. كما أن هذه الحروف كان نزولها في مكة قبل اختلاط المسلمين باليهود (١).

إلا إذا قصد «نولديكه» ما كان معروفا عند اليهود «بحساب الجمل» بأن يحولوا الحروف العربية لأرقام حسابية والذي تأثر به بعض المفسرين المسلمين الذين تأثروا بالثقافة اليهودية فهذا قول باطل على كل من قال به. وقد رده كثير من المفسرين والعلماء من المسلمين. والمعروف أن الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ كانوا شديدي الحرص على كتاب الله سبحانه فلا يسمحوا بدخول شيء إليه من اليهودية أو غيرها ولا بنقصان شيء منه.

أما ما ذكره «أدوارد جوستر» أن هذه الحروف اختصارات لعناوين سور لم تعد تستعمل اليوم فهذا القول ليس جديدا بل هو لزيد بن أسلم كما ذكره عنه أبو حيان في تفسيره (٢). وهو قول قرره أكثر المتكلمين فهو اختيار الخليل ١٧٥ ه‍ وسيبويه ١٨٠ ه‍. حتى إنه عقد له سيبويه بابا لأسماء السور ، وقال به يونس ١٨٧ ه‍ ، وذهب إليه أبو عبيدة وابن قتيبة ٢٧٦ ه‍ والرازي ودافع عنه وذكره ابن جرير ٣١٠ ه‍ ورأى أن من اعتبرها أسماء للسور مصيب وذلك لأنه يجوز التسمية بالكلمة الواحدة وبالجملة وبالبيت من الشعر.

وقال ابن قتيبة : فإن كانت أسماء للسور فهي أعلام تدل على ما تدل عليه الأسماء من أعيان الأشياء ، وتفرق بينها فإذا قال : قرأت (المص) دل على ما قرأ.

__________________

(١) المدخل لدراسة القرآن الكريم ص ٢٥٠.

(٢) انظر المحرر الوجيز ١ / ٩٥ ، وتفسير البحر المحيط ١ / ٣٤.

١٥

كما أن حجتهم أن بعض العرب سمى ببعض هذه الحروف أسماء أشخاص كتسمية والد حارثة (لام) والطائي (ز) فهذا القول يرده الواقع المنقول والتاريخي لأسماء السور ومعاني هذه الحروف.

فالأقوال التي وردت في كونها أسماء للسور لو صح قولهم هذا فإن هذه الحروف ستطلق على عدة سور لذا فسيصعب التمييز بين السور المتشابهة بين هذه الحروف (١).

أما زعمهم أن هذه السور قد جاء لها أسماء أخرى حجبت هذه التسمية المزعومة وكانت الشهرة لها والذي يرد هذا القول كذلك أن هذا القول لم ينتشر عنها بل الثابت أن الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان كلما نزل عليه شيء من الوحي قال : ضعوا هذه في سورة كذا في مكان كذا ، ولم نعلم أنه كان يذكرها كأسماء لهذه السور.

فالراجح فيها إذن ما سبق أن ذكرته.

وهو يظهر بطلان أقوال المستشرقين ، ويبين أن إلقاءهم أقوالهم كان بلا دليل علمي ، ولا مستند عقلي. ويؤكد أن لا حرف في كتاب الله سبحانه إلا وله معنى ، فلا شيء فيه لغو لا فائدة منه ، فالله غالب على أمره ولو كره الكافرون.

المبحث الثالث :

ترتيب سور القرآن الكريم :

زعم بعض المستشرقين أن القرآن الكريم لم يكن مرتبا وأنه كان مختلطا في عهد الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقد رتبه أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ لذا استحلوا لأنفسهم أن يجعلوا له ترتيبا خاصا يختلف عن ترتيب المصحف الحالي في كثير من السور (٢) معتمدين في ذلك على طريقة الأسلوب ومحتويات السورة. وكان

__________________

(١) انظر كتاب براعة الاستهلال في فواتح القصائد والسور ص ١٥٢ وما بعدها.

(٢) انظر أسرار القرآن ـ جرجس سال ص ٢١.

١٦

من هؤلاء المستشرقين «غريم» و «ويل» و «بل» و «رودويل» و «بلاشير» و «نولديكه».

فمثلا «تيودور نولديكه» نشر كتابا بعنوان (تاريخ القرآن) سنة ١٨٦٠ م حيث نظم فيه السور إلى أربع مجموعات معتمدا في ذلك على ثلاث فترات زمنية في مكة وفترة رابعة في المدينة (١) وقد أثنى على هذا التقسيم «بلاشير» كثيرا لأنه في نظره يجعل قراءة المصحف سهلة بل ممتعة (٢) ..

الجواب :

لقد شغلت هذه القضية علماء المسلمين ابتداء من عصر الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ ولا عجب في ذلك أن يخصوها بجهد عظيم وبحث جاد لأنها تتصل اتصالا مباشرا بأقدس كتاب حرص المسلمون أن يدفعوا عنه كل شبهة .. وكان بحثهم مبنيا على أسس من المنطق العقلي والدليل النقلي ويمكن تلخيص منهجهم بعبارة نصها : (إن كنت ناقلا فالصحة ، أو مدعيا فالدليل) منهج خاضع لقواعد علمية نقدية ما زال فخرا للمسلمين. فعناية المسلمين إذن بكتابهم كانت تعتمد على الروايات بعد نخالتها وتمييز غثها من سمينها فيذهب الزبد جفاء ، ويطرح الضعيف والموضوع منها ، وتؤخذ الرواية الصحيحة التي تثبت بعد درس وتمحيص.

أما المستشرقون فكان جهدهم معتمدا على جهود العلماء السابقين ، ولكن تخليطهم ناتج من عدم قدرتهم على التمييز بين الروايات فأخذوا بكثير من الروايات الضعيفة والموضوعة. كما ترجع كثير من أخطائهم لجهلهم باللغة العربية ولأن عملهم نابع من أهداف نفسية ودينية خاصة بهم ، والمستشرقون يسوقون الاحتمالات العقلية مساق الحقائق المسلمة ، وهم يجمعون الآراء والظنون والأوهام والتصورات ويعتبرونها أصلا يصلح للفحص والدراسة والاستنتاج منه لقضايا من

__________________

(١) قضايا قرآنية في الموسوعة البريطانية ص ١٨٠.

(٢) القرآن ـ بلاشير ص ٤٤.

١٧

أخطر القضايا في الإسلام (١).

فهذه النقاط تعتبر هي أهم أسباب أخطاء المستشرقين في كثير من القضايا الإسلامية عامة والقضايا القرآنية على وجه الخصوص.

فمما يدل على فساد منهجهم واختلال ميزانهم اختلافهم في القضية الواحدة كترتيب المصحف مثلا على عدة أقوال : فبعضهم قسمه إلى ست مراحل. وبعضهم إلى خمس. وبعضهم إلى أربع. وبعضهم إلى غير ذلك. ومن هذه القضايا : قضية ترتيب السور القرآنية ترتيبا زمنيا.

وسأعرض لمحاولاتهم في ترتيب سور القرآن الكريم ، ودراسة مراحله التاريخية لهذا الترتيب الذي صنعوه باختصار والتي بلغت عشر محاولات في أوربا :

١ ـ محاولة الأستاذ «هيوبرت غريم» :

الذي حاول أن يبحث الموضوع بطريقة لا تختلف كثيرا عن طريقتنا فاعتمد في محاولته على الروايات الصحيحة والضعيفة والموضوعة. وفي نهاية الأمر تخلى عن المنهج الذي اشترطه على نفسه من احترام الروايات ليصدر في نهاية المطاف في مواطن مختلفة عن رأي المستشرق «نولديكه» في وصف المراحل المتعاقبة على الوحي القرآني (٢).

وقد قسم «غريم» السور لثلاث مجموعات معتمدا على الروايات الحديثة بصحيحها وضعيفها وأسلوب النص القرآني. وهذه المجموعات هي :

أ ـ السور التي تمتاز بجرس وإيقاع مميز جدا كالتي تتكلم عن التوحيد والبعث .. إلخ.

ب ـ السور ذات الجرس والإيقاع الأكثر تحررا والتي يركز موضوعها على نعم الله سبحانه ، وتتضمن بعض قصص الأولين.

__________________

(١) قضايا قرآنية ص ١٨٢.

(٢) قضايا قرآنية في الموسوعة البريطانية ص ١٨٤.

١٨

ج ـ سور مدنية ذات المضمون الثانوي والتنظيمي ، والتي تناولت شيئا عن يوم الحساب والانتقام من المكذبين. فكان تركيزه على خصائص السور العقدية (١).

٢ ـ محاولة السير «وليم موير» :

كانت هذه المحاولة منه من المحاولات العشر في منتصف القرن التاسع عشر. وقد قسم «موير» القرآن الكريم لست مراحل : خمس في مكة وسادستها في المدينة. وكانت دراسته قائمة على السيرة النبوية والحديث النبوي الشريف وقد حشد لدراسته النقدية الكثير من المعلومات التاريخية ، ولكنه وقع مع ذلك ـ مثل غريم ـ في أخطاء عديدة ، وأخذ بروايات واهية مردودة. مما جعل محاولته كمحاولة «غريم» فاشلة (٢).

٣ ـ محاولة «ويل» :

التي بدأها سنة ١٨٤٤ م ولم تتخذ صورتها النهائية إلا سنة ١٨٧٢ م. ولم يقم «ويل» وزنا للروايات والأسانيد الإسلامية لذلك كانت في نظر «بلاشير» (الطريقة الوحيدة المثمرة حقا) وكانت من قبله في نظر «نولديكه» نقطة الانطلاق في إجراء محاولة لترتيب القرآن الكريم ، فبها أخذ «نولديكه» وعلى كثير من أسسها بنى دراسته.

ولم يعتبر «ويل» التاريخ الإسلامي هاديا يعتمد عليه. لذا أضاف له معايير أخرى ثلاثة ينبغي استخدامها من أجل ترتيب القرآن في نظره وهي :

أ ـ تلميحات القرآن إلى حوادث معروفة.

ب ـ مضمون النص القرآني.

ج ـ أسلوب النص القرآني.

__________________

(١) مقدمة القرآن ـ بلاشير ص ٢٥١.

(٢) مباحث في علوم القرآن ـ صبحي الصالح ص ١٧٦ ـ ١٧٧ وقضايا قرآنية ص ١٨٥.

١٩

وعلى هذه القواعد التي وضعها «ويل» لنفسه قسم القرآن الكريم إلى أربع مراحل : ثلاث في مكة ، ورابعة في المدينة.

وقد تابعه في طريقته هذه كل من «نولديكه» سنة ١٨٦٠ م ولكن مع بعض التعديلات الطفيفة كترتيب بعض السور في كل فترة. و «شيفالي» في طبعة كتاب «نولديكه» (تاريخ القرآن) الثانية سنة ١٩١٩ م مع بعض التعديلات الطفيفة كذلك ، كما تأثر بطريقته كل من «ريتشارد» و «روديل» و «بلاشير» و «ديرنبورج» (١).

٤ ـ محاولة «ه. ديرنبرج» :

كانت محاولة الأستاذ «ديرنبورج» أستاذ علم الأديان والدراسات الإسلامية في القرن الثالث عشر ـ منطلقة من محاولة الأستاذ «ويل» وتتفق مع طريقة الأستاذ نولديكه» كثيرا : وقد وضع لنفسه أربع قواعد يرجع إليها عمله وهي :

أ ـ الرؤى السماوية التي يصعب تأريخها ولكنها قديمة.

ب ـ القصص التي ينافح بها النبي خصومه ، وتحتوي على وصف يوم الحساب.

ج ـ النصوص التي تتضمن قصصا ثابتة.

د ـ النصوص المدنية (٢).

٥ ـ محاولة «تيودور نولديكه» وتلميذه «شفالي» :

تأثر «نولديكه» في طريقته في هذه الدراسة بمحاولة «ويل» إلا أنه خالفه في ترتيب بعض السور القرآنية مما أدى إلى اختلاف ترتيب بعض السور بعض الشيء في داخل كل فترة.

__________________

(١) قضايا قرآنية ص ١٨٥ ـ ١٨٦ ومقدمة القرآن ـ بلاشير ص ٢٤٩.

(٢) مقدمة القرآن ـ بلاشير ص ٢٥١.

٢٠