موسوعة كشّاف إصطلاحات الفنون والعلوم - ج ٢

محمّد علي التهانوي

موسوعة كشّاف إصطلاحات الفنون والعلوم - ج ٢

المؤلف:

محمّد علي التهانوي


المحقق: الدكتور علي دحروج
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مكتبة لبنان ناشرون
الطبعة: ٠
الصفحات: ١٠٨٦
الجزء ١ الجزء ٢

والرّزق يوما بيوم. وفي شرح القدوري (١) : العطاء ما يفرض للمقاتلين والرّزق ما يجعل لفقراء المسلمين إذا لم يكونوا مقاتلة كذا في المغرب ، هكذا في البرجندي في كتاب الجهاد في ذكر الجزية ، والعطيّة مرادف العطاء. وفي جامع الرموز الرّزق يقال للعطاء الجاري دنيويا أو دينيا وللنصيب ولما يصل إلى الجوف ويتغذى به. وفي فصل العاقلة (٢) العطاء ما فرض لإنسان في بيت المال في كلّ سنة لا لحاجته ، والرّزق ما فرض له بقدر حاجته ، والكفاية ما فرض له كلّ شهر أو يوم مما يكفيه كما في الكرماني. وفي الظهيرية أنّ العطية ما فرض للمقاتلة والرّزق ما لغيرهم من فقراء المسلمين ، فإن اجتمع العطية والرّزق في أحد أخذ الدّية من العطية كما في الاختيار انتهى.

العطف : [في الانكليزية] Inflexion ، conjunction ، coordination ـ [في الفرنسية] Inflexion ، conjonction ، coordination

بالفتح وسكون الطاء المهملة في اللغة الإمالة. وعند النحاة يطلق على المعنى المصدري وهو أن يميل المعطوف إلى المعطوف عليه في الإعراب أو الحكم كما وقع في المكمل (٣) ، وعلى المعطوف وهو مشترك بين معنيين الأول العطف بالحرف ويسمّى عطف النّسق بفتح النون والسين أيضا لكونه مع متبوعه على نسق واحد ، وهو تابع يقصد مع متبوعه متوسطا بينهما إلى إحدى الحروف العشرة ، وهي الواو والفاء وثم وحتى وأو وأمّا وأم ولا وبل ولكن ، وقد يجيء إلاّ أيضا على قلّة كما في المغني. والمراد بكون المتبوع مقصودا أن لا يذكر لتوطئة ذكر التابع ، فخرج جميع التوابع.

أمّا غير البدل فلعدم كونه مقصودا. وأمّا البدل فلكونه مقصودا دون المتبوع. ولا يخرج المعطوف بلا وبل ولكن وأم وأمّا وأو لعدم كون متبوعه مذكورا توطئة. وقيد التوسّط لزيادة التوضيح لأنّ الحدّ تام بدونه جمعا ومنعا هكذا في شروح الكافية ؛ إلاّ أنّهم زادوا قيد النسبة فإنهم قالوا هو تابع مقصود بالنسبة مع متبوعه لأنّهم أرادوا تعريف نوع منه وهو عطف الاسم على الاسم. وأمّا نحن فأردنا تعريفه بحيث يشتمل غيره أيضا كعطف الجملة على الجملة التي لا محلّ لها من الإعراب لظهور أنّ التابع هناك غير مقصود بالنسبة مع متبوعه ، إذ لا نسبة هناك مع المتبوع ، كما وقع في الهداد.

التقسيم

في المغني العطف ثلاثة أقسام. الأول العطف على اللفظ وهو الأصل ، نحو ليس زيد بقائم ولا قاعد بالجر ، وشرطه إمكان توجّه العامل إلى المعطوف. فلا يجوز في نحو ما جاءني من امرأة ولا زيد إلاّ الرفع عطفا على الموضع لأنّ من الزائدة لا تعمل في المعارف.

والثاني العطف على المحلّ ويسمّى بالعطف

__________________

(١) القدوري مختصر في فقه الحنفية ، سمّي باسم مؤلفه وهو العلامة ابو الحسين احمد بن محمد بن جعفر بن حمدان البغدادي المعروف. بالقدوري الحنفي (٤٢٨ ه‍). أما شرح القدوري فللزاهدي ، نجم الدين ابو الرجاء مختار بن محمود بن محمد الزاهري القزويني (٦٥٨ ه‍) سلسلة فهارس الكتبات الخطية النادرة ، فهرس كتب المكتبة الازهرية ١٣٦٤ ه‍ / ١٩٤٥ م ، ١٣٦٥ ه‍ ١٩٤٦ م طبعة الأزهر ، ج ٢ / ١٩٣ ، ٢٣٥.

(٢) فصل أو باب معروف في بعض كتب الفقه.

(٣) المكمل في شرح المفصل ، الشرح لمظهر الدين محمد من علماء القرن السابع الهجري على المفصل لأبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري (٥٣٨ ه‍) وقد فرغ من تأليفه أي الشرح عام (٦٥٩ ه‍)

كشف الظنون ٢ ١٧٧٦ ، فهرس الكتب العربية بدار الكتب المصرية لغاية ١٩٢٥ م ، طبع ١٣٤٥ ه‍ / ١٩٢٦ م ، ٢ ١٦٤.

١٤١

على الموضع أيضا نحو ليس زيد بقائم ولا قاعدا بالنصب ، وله عند المحقّقين شروط ثلاثة.

أولها إمكان ظهور ذلك المحلّ في الفصيح. ألا ترى أنّه يجوز في ليس زيد بقائم أن تسقط الباء فتنصب ؛ وعلى هذا فلا يجوز مررت بزيد وعمروا خلافا لابن جنّي لأنّه يجوّز مررت زيدا. ثانيها أن يكون الموضع بحق الأصالة فلا يجوز هذا ضارب زيدا وأخيه خلافا للبغداديين لأنّ الوصف المستوفي بشروط العمل الأصل أعماله لا الإضافة. ثالثها وجود المحرز أي الطالب لذلك المحلّ خلافا للكوفيين وبعض البصريين. ولذا امتنع أن زيدا وعمروا قائمان وذلك لأنّ الطالب لرفع زيد هو الابتداء أي التجرّد عن العوامل اللفظية وقد زال بدخول إنّ ومن الغريب قول أبي حيان ، إنّ من شرط العطف على الموضع أنّ يكون للمعطوف عليه لفظا وموضع فجعل صورة المسألة شرطا لها ، ثم إنّه أسقط الشرط الأول ولا بد منه. الثالث العطف عل التوهّم ويسمّى في القرآن العطف على المعنى نحو ليس زيد قائما ولا قاعد بالخفض على توهّم دخول الباء في الخبر ، وشرط جوازه صحّة دخول ذلك العامل المتوهّم وشرط حسنه كثرة دخوله هناك كما في المثال المذكور ، ويقع هذا في المجرور كما عرفت وفي المجزوم نحو : (لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) (١) لأنّ معنى لو لا أخرتني فأصّدّق ومعنى إن أخّرتني أصّدّق واحد. وفي المنصوب نحو قام القوم غير زيد وعمروا بالنصب فإنّ غير زيد في موضع إلاّ زيدا. قال سيبويه : إنّ من الناس من يغلطون فيقولون إنّهم أجمعون ذاهبون ، وإنّك وزيد ذاهبان وذلك أنّ معناه معنى الابتداء. ومراده بالغلط ما عبّر عنه غيره بالتوهّم. وفي المنصوب اسما نحو قوله تعالى : (وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) (٢) فيمن فتح الباء كأنّه قيل وهبنا له إسحاق ومن وراء اسحاق يعقوب ، وفعلا كقراءة بعضهم : (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) (٣) حملا على معنى ودّوا أن تدهن. وفي المركّبات كما قيل في قوله تعالى (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ) (٤) إنّه على معنى أرأيت كالذي حاجّ وكالذي مرّ ، انتهى ما في المغني.

فائدة :

عطف الاسمية على الفعلية وبالعكس فيه ثلاثة مذاهب ، الجواز مطلقا والمنع مطلقا والجواز في الواو فقط.

فائدة :

عطف الخبر على الإنشاء وبالعكس منعه البيانيون وابن مالك وابن عصفور (٥) ونقله عن الأكثرين وأجازه الصفار (٦) وجماعة ، ووفّق الشيخ بهاء الدين السبكي (٧) بينهما وحاصله أنّ

__________________

(١) المنافقون / ١٠.

(٢) هود ٧١.

(٣) القلم / ٩.

(٤) البقرة ٢٥٩.

(٥) علي بن مؤمن بن محمد الحضرمي الاشبيلي ، أبو الحسن المعروف بابن عصفور ، ولد في اشبيلية ٥٩٧ ه‍ / ١٢٠٠ م وتوفي في تونس عام ٦٦٩ ه‍ ١٢٧١ م. حمل لواء اللغة العربية في عصره وله الكثير من المؤلفات اللغوية الهامة. الاعلام ٥ / ٢٧ ، فوات الوفيات ٢ ٩٣ ، شذرات الذهب ٥ / ٣٣٠ ، عنوان الدراية ١٨٨.

(٦) هو قاسم بن علي بن محمد بن سليمان الانصاري البطليوسي الشهير بالصّفار. توفي بعد عام ٦٣٠ ه‍ ١٢٣٣ م. عالم بالنحو وله عدة مؤلفات. الاعلام ٥ / ١٧٨ ، بغية الوعاة ٣٧٨.

(٧) هو أحمد بن علي بن عبد الكافي ، ابو حامد بهاء الدين السبكي ، ولد عام ٧١٩ ه‍ ١٣١٩ م وتوفي قرب مكه عام ٧٦٣ ه‍ / ١٣٦٢ م. فاضل عالم له عدة مؤلفات. الاعلام ١ ١٧٦ ، البدر الطالع ١ / ٨١ ، الدرر الكامنة ١ ٢١٠.

١٤٢

أهل البيان متفقون على المنع بلاغة ، وأكثر النحاة قائلون بجوازه لغة كذا في المغني وشرحه. وفي الارشاد (١) عطف الفعل على الاسم جائز ويجوز عكسه ، وعطف الجملة على المفرد ويجوز عكسه ، وعطف الماضي على المضارع وعكسه أيضا ، ويحتاج كلّ إلى تأويل بالوفاق.

فائدة :

عطف القصة على القصة هو أن يعطف جمل مسوقة لغرض على جمل مسوقة لغرض آخر لمناسبة بين الغرضين. فكلّما كانت المناسبة أشدّ كان العطف أحسن من غير نظر إلى كون تلك الجمل خبرية أو إنشائية. فعلى هذا يشترط أن يكون المعطوف والمعطوف عليه جملا متعددة. وقد يراد بها عطف حاصل مضمون أحدهما على حاصل مضمون الأخرى من غير نظر إلى الإنشائية والخبرية ، هكذا ذكر المولوي عبد الحكيم في حاشية الخيالي في الخطبة.

فقوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) (٢) إلى قوله (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) (٣) ليس من باب عطف الجملة على الجملة بل من باب ضمّ جمل مسوقة لغرض إلى جمل أخرى مسوقة لغرض آخر. والمقصود بالعطف المجموع.

ويجوز أن يراد به عطف الحاصل على الحاصل ، يعني أنّه ليس المعتمد بالعطف هو الأمر حتى يطلب له مشاكل من أمر أو نهي يعطف عليه ، بل المعتمد بالعطف هو الجملة من حيث إنّها وصف ثواب المؤمنين ، فهي معطوفة على الجملة من حيث إنّها وصف عقاب الكافرين كما تقول زيد يعاقب بالقيد والإزهاق وبشّر عمروا بالعفو والإطلاق. ثم هذا المثال يمكن أن يجعل من عطف قصة على قصة بالمعنى الأول ، وإن لم يكن فيه جمل بل جملتان بأن يقال فيه عطف قصة عمرو الدالة على أحسن حاله على قصة زيد الدالة على أسوإ حاله ، لكنه اقتصر من القصتين على ما هو العمدة فيهما إذ يفهم منه الباقي منهما ، فكأنّه قال : زيد يعاقب بالقيد والإزهاق فما أسوأ حاله وما أخسره إلى غير ذلك وبشر عمروا بالعفو والإطلاق فما أحسن حاله وما أربحه ، هكذا في المطول وحواشيه في باب الوصل والفصل.

فائدة :

عطف التلقين وهو أن يلقّن المخاطب المتكلّم بالعطف كما تقول أكرمك فيقول المخاطب وزيدا أي قل وزيدا أيضا ، وعلى هذا قوله تعالى (قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) (٤) بعد قوله (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) أي قل (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي). قيل عليه تلقين القائل يقتضي أن يقال ومن ذريتك وأجاب عنه جدّي رحمة الله عليه في حاشيته على البيضاوي بأنّ معنى عطف التلقين أن يقول المخاطب للمتكلّم قل وهذا أيضا عطفا على ما قلت على وجه ينبغي لك لا على وجه قلت أنا مثل أن تقول ومن ذريتك لا أن تقول ومن ذريتي. وإنّما قال المخاطب ومن ذريتي مناسبا لحاله.

__________________

(١) الارشاد من النحو للشيخ ابي محمد عبد الله بن جعفر المعروف بابن درستويه النحوي (٣٤٧ ه‍). والارشاد أيضا للشيخ لعلها : الفاضل شهاب الدين أحمد شمس الدين ابن عمر الهندي الدولت آبادي شارح الكافية (٨٤٩ ه‍) حاجي خليفة ، كشف الظنون ١ / ٦٨.

(٢) البقرة ٢٤.

(٣) البقرة / ٢٥.

(٤) البقرة ١٢٤.

١٤٣

فائدة :

عطف أحد المترادفين على الآخر ويسمّى بالعطف التفسيري أيضا ، أنكر المبرّد وقوعه في القرآن. وقيل المخلّص في هذا أن يعتقد أنّ مجموع المترادفين يحصّل معنى لا يوجد عند انفرادهما. فإنّ التركيب يحدث أمرا زائدا. وإذا كانت كثرة الحروف تفيد زيادة المعنى فكذلك كثرة الألفاظ. وقد يعطف الشيء على نفسه تأكيدا كما في فتح الباري شرح صحيح البخاري.

فائدة :

عطف الخاص على العام التنبيه على فضله حتى كأنّه ليس من جنس العام. وسمّاه البعض بالتجريد كأنّه جرّد من الجملة وأفرد بالذّكر تفصيلا ومنه : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) (١).

فائدة :

عطف العام على الخاص أنكر بعضهم وجوده فأخطأ ، والفائدة فيه واضحة ، وهو التعميم وأفراد الأول بالذكر اهتماما بشأنه ، ومنه (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي) (٢) والنّسك العبادة فهو أعمّ كذا في الاتقان.

فائدة :

جمعوا على جواز العطف على معمولي عامل واحد نحو إنّ زيدا ذاهب وعمرا جالس ، وعلى معمولات عامل واحد نحو أعلم زيد عمرا بكرا جالسا وأبو بكر خالدا سعيدا منطلقا ، وأجمعوا على منع العطف على معمول أكثر من عاملين نحو إنّ زيدا ضارب أبوه لعمرو وأخاك غلامه بكر وأمّا معمولا عاملين مختلفين فإن لم يكن أحدهما جارا فقال ابن مالك هو ممتنع إجماعا ، نحو كان زيد آكلا طعامك عمرو وتمرك بكر ، وليس كذلك بل نقل الفارسي الجواز مطلقا عن جماعة ، وقيل إنّ منهم الأخفش. وإن كان أحدهما جارا فإن كان الجار مؤخرا نحو زيد في الدار والحجرة عمرو أو عمرو الحجرة فنقل المهدوي (٣) أنّه ممتنع إجماعا وليس كذلك ، بل هو جائز عند من ذكرناه ، وإن كان الجار مقدّما نحو في الدار زيد والحجرة عمرو فالمشهور عن سيبويه المنع وبه قال المبرّد وابن السّرّاج (٤). ومنع الأخفش الإجازة. قال الكسائي والفراء والزجاج فصل قوم منهم الأعلم (٥) فقالوا إن ولي المخفوض العاطف كالمثال جاز لأنّه كذا سمع ، ولأنّ فيه تعادل المتعاطفات ، وإلاّ امتنع نحو في الدار زيد وعمرو الحجرة. والثاني عطف البيان وهو تابع يوضّح أمر المتبوع من الدال عليه لا على معنى فيه. فبقيد الإيضاح خرج التأكيد والبدل وعطف النّسق لعدم كونها موضّحة للمتبوع.

وبقولنا من الدّال عليه أي على المتبوع لا على معنى فيه أي في المتبوع خرج الصفة فإنّ الصّفة

__________________

(١) البقرة / ٢٣٨.

(٢) الانعام ١٦٢.

(٣) هو محمد بن محمد ، شمس الدين المهدوي الأزهري المالكي ، توفي في مصر عام ١٠٢٦ ه‍ / ١٦١٧ م ، عالم بالنحو وله عدة كتب. الاعلام ٧ ٦٢ ، خلاصة الأثر ٤ / ١٦٠.

(٤) هو محمد بن السري بن سهل ، ابو بكر ، مات شابا عام ٣١٦ ه‍ ٩٢٩ م. إمام في الأدب واللغة والنحو ، له الكثير من المؤلفات. الاعلام ٦ / ١٣٦ ، بغية الوعاة ٤٤ ، وفيات الأعيان ١ ٥٠٣ ، الوافي ٣ / ٨٦.

(٥) يوسف بن سليمان بن عيسى الشنتمري الاندلسي ، ابو الحجاج المعروف بالأعلم. ولد عام ٤١٠ ه‍ ١٠١٩ م. وتوفي في اشبيلية عام ٤٧٦ ه‍ / ١٠٨٤ م. عالم في اللغة والادب ، له العديد من المؤلفات الهامة. الاعلام ٨ ٢٣٣ ، وفيات الاعيان ٢ / ٢٥٣ ، ارشاد الأريب ٧ ٣٠٧ ، مرآة الجنان ٣ / ١٥٩.

١٤٤

تدلّ على معنى في المتبوع بخلاف عطف البيان فإنّه يدلّ على نفس المتبوع نحو اقسم بالله أبو حفص عمر ، ولا يلزم من ذلك أن يكون عطف البيان أوضح من متبوعه بل ينبغي أن يحصل من اجتماعهما إيضاح لم يحصل من أحدهما على الانفراد ، فيصحّ أن يكون الأول أوضح من الثاني ، كذا في العباب والفوائد الضيائية ، وقد ذكر ما يتعلّق بهذا في لفظ التوضيح أيضا.

فائدة :

يفترق عطف البيان والبدل في أمور ثمانية. الأول : أنّ العطف لا يكون مضمرا ولا تابعا لمضمر لأنّه في الجوامد نظير النعت في المشتقّ ، وأمّا البدل فيكون تابعا لضمير بالاتفاق نحو قوله تعالى : (وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ) (١) وكذا يكون مضمرا تابعا لمضمر نحو رأيته إياه ، أو لظاهر كرأيت زيدا إياه وخالف في ذلك ابن مالك ، والصّواب في الأول قول الكوفيين أنّه توكيد كما في قمت أنت. الثاني : أنّ البيان لا يخالف متبوعه في تعريفه وتنكيره ولا يختلف النحاة في جواز ذلك في البدل نحو (بِالنَّاصِيَةِ ، ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ) (٢). الثالث أنّه لا يكون جملة بخلاف البدل نحو قوله تعالى : (ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ) (٣) ، وهو أصح الأقوال في عرفت زيدا أيؤمن هو الرابع : أنّه لا يكون تابعا لجملة بخلاف البدل نحو قوله تعالى (اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ، اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً) (٤) الخامس : أنّه لا يكون فعلا تابعا لفعل بخلاف البدل نحو قوله تعالى : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً ، يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ) (٥) السادس : أنّه لا يكون بلفظ الأول ويجوز ذلك في البدل بشرط أن يكون مع الثاني زيادة بيان كقراءة يعقوب (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا) (٦) بنصب كلّ الثاني ، قاله ابن الطراوة (٧) وتبعه على ذلك ابن مالك وابنه ، وحجتهم أنّ الشيء لا يبيّن بنفسه. والحقّ جواز ذلك في عطف البيان أيضا. السابع : أنّه ليس في النية إحلاله محلّ الأول بخلاف البدل فإنّه في حكم تكرير العامل ، ولذا تعيّن البدل في نحو أنا الضارب الرجل زيد. الثامن : أنّه ليس في التقدير من جملة أخرى بخلاف البدل ولذا تعيّن البدل في نحو هند قام عمرو أخوها ، ونحو مررت برجل قام عمرو أخوه ، ونحو زيدا ضربت عمروا أخاه. وإن شئت الزيادة على هذا فارجع إلى المغني.

عطف النّسق : [في الانكليزية] Conjunction ـ [في الفرنسية] Conjonction

عند النحاة هو العطف بالحرف كما مرّ.

العظم : [في الانكليزية] Bone ـ [في الفرنسية] Os

بالفتح وسكون الظاء المعجمة استخوان.

وعرّفه الأطباء بأنه عضو بسيط يبلغ صلابته إلى حدّ لا يمكن تثنيته ، ومن لا يعدّ الأسنان من العظام بل يعدّها من الأعصاب الصلبة الغضروفية يزيد قيد غير حساس لإخراجها ، فإنّهم اختلفوا في كون العظم حسّاسا ، ومجموع

__________________

(١) مريم ٨٠.

(٢) العلق / ١٥ ـ ١٦.

(٣) فصلت ٤٣.

(٤) يس / ٢٠ ـ ٢١.

(٥) الفرقان ٦٨ ـ ٦٩.

(٦) الجاثية / ٢٨.

(٧) هو سليمان بن محمد بن عبد الله السبائي المالقي ، ابو الحسين بن الطراوة ، توفي عام ٥٢٨ ه‍ ١١٣٤ م. أديب له شعر جيد ورسائل ، وله آراء نحوية تفرّد بها ، وله عدة كتب. الاعلام ٣ / ١٣٢ ، بغية الوعاة ٢٦٣.

١٤٥

العظام في البدن الإنساني مائتان وثمانية وأربعون ، سوى السمسانيات والعظم اللامي.

العظم : [في الانكليزية] Greatne ، dimension ، measure ـ [في الفرنسية] Grandeur ، dimension ، mesure

بالضم عند المنجمين يطلق على قدر من الأقدار المتزايدة كما سيجيء. وعند المهندسين يطلق على قسم الكمية المتّصلة. وفي بعض حواشي تحرير أقليدس الكمية المتّصلة يقال لأقسامها وهي الخط والسطح والجسم والمكان والزمان أعظام. والأعظام إذا نسب بعضها إلى بعض وقدّر بعضها ببعض يقال لها مقادير انتهى كلامه.

العفّة : [في الانكليزية] Vertue ، chastity ـ [في الفرنسية] Vertu ، chastete

بالكسر وتشديد الفاء هي هيئة للقوة الشهوية متوسّطة بين الفجور والخمور كما مرّ في لفظ الخلق. وفي مجمع السلوك العفّة هو ترك الشهوات أي شهوات كلّ شيء.

العفو : [في الانكليزية] Exce ، what remains ـ [في الفرنسية] Excedent ، ce qui reste

بالفتح وسكون الفاء لغة الزائد على النفقة من المال. وشرعا ما زاد على النّصاب من المال كذا في جامع الرموز في كتاب الزكاة.

العفيفة : [في الانكليزية] Upright ، chaste ـ [في الفرنسية] Probe ، chaste ، integre

كاللطيفة ذات لها صفة بها تغلب على الشهوة ، وحاصله امرأة ذات عفّة. وشرعا امرأة برئة عن الوطء الحرام والتّهمة به ، وهذه هي التي يجب بقذفها اللّعان كذا في جامع الرموز في فصل اللعان.

العقاب : [في الانكليزية] Punishment ـ [في الفرنسية] Chatiment ، punition

بالكسر وبالقاف هو ما يلحق الإنسان بعد الذّنب من المحنة في الآخرة. وأمّا ما يلحقه من المحنة بعد الذّنب في الدنيا فيسمّى بالعقوبة كذا في البرجندي في كتاب الحدود. وقد يخصّ العقوبة بتعزير الذمّي كما ذكر في لفظ التعزير.

وتطلق العقوبات أيضا على الأحكام الشرعية المتعلّقة بأمر الدنيا باعتبار المدينة كما مرّ في تفسير علم الفقه في المقدّمة وهو أحد أركان الفقه.

العقار : [في الانكليزية] Piece of land ، site ، dwelling ، personal property or real estate ـ [في الفرنسية] Terrain ، logis ، mobilier ، biens mobiliers ou immobiliers

بفتح العين والقاف المخففة في اللغة الأرض والشجر والمتاع كما في الصحاح وغيره ، فهو شامل للمنقول أيضا. وفي الشريعة العرصة مبنية كانت أو لا ، وما في العمادي أنّه العرصة المبنية لا يخلو عن شيء فإنّ البناء ليس من العقار في شيء كما لا يخفى على المتتبّع ، كذا في جامع الرموز في كتاب النكاح في فصل النفقة.

العقد : [في الانكليزية] Contract ، pact ـ [في الفرنسية] Contrat ، pacte

بالفتح وسكون القاف في الأصل الجمع بين أطراف الجسم. وشرعا الإيجاب والقبول مع الارتباط المعتبر شرعا كذا في جامع الرموز ، فهو شامل لأمور ثلاثة : الإيجاب والقبول والارتباط كما في العارفية حاشية شرح الوقاية في كتاب النكاح. وعند البلغاء أنّ ينظم نثر قرآنا كان أو حديثا أو مثلا أو غير ذلك لا على طريق الاقتباس. فالنثر الذي قصد نظمه إن كان غير القرآن أو الحديث فنظمه عقد على أيّ طريق كان إذ لا دخل فيه للاقتباس ، وإن كان قرآنا أو حديثا فإنّما يكون عقدا إذا غيّر تغييرا كثيرا لا يتحمل مثله في الاقتباس ، أو لم يغيّر تغييرا كثيرا ولكن أشير إلى أنّه من القرآن أو الحديث وحينئذ يكون لا على طريق الاقتباس.

١٤٦

فمثال العقد من القرآن قوله :

أنلني بالذي استقرضت خطأ

وأشهد معشرا قد شاهدوه

فإنّ الله خلاّق البرايا

عنت لجلال هيبته الوجوه

يقول إذا تداينتم بدين

إلى أجل مسمّى فاكتبوه

ومثال العقد من الحديث قول الإمام الشافعيّ : عمدة الخير عندنا كلمات قالهن خير البريّة اتّق الشّبهات وازهد ودع ما ليس يعنيك واعملن بنيّة

عقد قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات) (١) ، وقوله عليه‌السلام : (ازهد في الدنيا يحبّك الله) (٢) ، وقوله عليه‌السلام : (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) (٣) ، وقوله عليه‌السلام : (إنّما الأعمال بالنيات) (٤). ومثال العقد من غير القرآن والحديث قول أبي العتاهية.

ما بال من أوّله نطفة

وجيفة آخره يفخر

عقد قول عليّ رضي‌الله‌عنه : وما لابن آدم والفخر وإنّما أوله نطفة وآخره جيفة.

عقد الوضع : [في الانكليزية] Position ـ [في الفرنسية] Position

عند المنطقيين هو اتصاف ذات الموضوع بوصفه العنواني ، كما أنّ عقد الحمل عندهم اتصاف ذات الموضوع بوصف المحمول.

والأول تركيب تقييدي والثاني تركيب خبري.

ومحصّل مفهوم القضية يرجع إلى هذين العقدين ، كذا في شرح الشمسية في تحقيق المحصورات.

العقدة : [في الانكليزية] Knot ، zenith and nadir ـ [في الفرنسية] Noeud ، zenith et nadir

بالضم وسكون القاف عند أهل الهيئة اسم للرأس والذّنب ، وعقدة الرأس تسمّى أيضا بالعقدة الشمالية وعقدة الذّنب تسمّى بالعقدة الجنوبية على ما في شجرة الثمرة (٥) وقد سبق أيضا في لفظ الجوزهر. وعند الشّعراء بيت يأتي بعد كلّ قسم من الترجيع كما مرّ (٦).

العقر : [في الانكليزية] Dowry given to a woman ـ [في الفرنسية] Dot donne a la femme

بالضمّ وسكون القاف. المهر الذي يصير واجبا بشبهة الوطء. كذا في الصراح (٧). وفي الجوهرة النيرة العقر إذا ذكر في الحرائر يراد به مهر المثل وإذا ذكر في الإماء فهو عشر قيمتها إن كانت بكرا وإن كانت ثيّبا فنصف عشر قيمتها كذا ذكره السّرخسي. وفي جامع الرموز في كتاب المكاتب العقر مقدار مهر المثل. وقيل مقدار بدل إجارة المرأة للوطء لو كان الاستئجار مباحا ، والفتوى على الأول.

العقص : [في الانكليزية] Suppreion of two syllables (in prosody) ـ [في الفرنسية] Suppreion de deux syllabes (en prosodie)

بالفتح وسكون القاف عند أهل العروض هو اجتماع الخرم والعصب والكفّ ، أو نقول

__________________

(١) صحيح البخاري ، كتاب الايمان ، باب فضل من استبدأ لدينه ، ح ٥١ ، ١ ٣٥.

(٢) سنن ابن ماجه كتاب الزهد ، باب الزهد في الدنيا ، ح ٤١٠٢ ، ٢ / ١٣٧٤.

(٣) مسند احمد ، ١ ٢٠١.

(٤) ورد سنده وذكره سابقا.

(٥) شجرة ثمرة شرح ثمرة الشجرة المنسوب إلى الشيخ الأكبر محي الدين ابن عبد الله محمد بن علي ... بن العربي الطائي.

ترجمة بابا حسن محمد الشرواني. نسخة مخطوطة تمت كتابتها سنة ١٢٦٥ ه‍ فهرس المخطوطات التركية العثمانية ، القسم الثالث ، ص ٣.

(٦) وعقده نزد شعراء بيتى است كه بعد هر قسمى از ترجيع مى آيد چنانچه در فصل عين از باب راي مهمله گذشت.

(٧) بالضم وسكون القاف كابين كه بشبهه وطي واجب شود كذا في الصراح.

١٤٧

هو جمع والخرم والنقص والنقص الكف بعد العصب ، فمفاعلتن بالنقص يصير مفاعيل ، ثم بالخرم يصير فاعيل ، ولعدم كونه مستعملا يوضع موضعه مفعول ، كذا في عنوان الشرف وجامع الصنائع ورسالة قطب الدين السرخسي.

العقل : [في الانكليزية] Wind ، reason ، intellect ـ [في الفرنسية] Vent ، raison ، intellect

بالفتح وسكون القاف يطلق على معان منها إسقاط الخامس المتحرّك كذا في عنوان الشرف. وفي رسالة قطب الدين السرخسي العقل إسقاط الخامس بعد العصب انتهى ، والمآل واحد إلاّ أنّ الأول لقلة عمله أولى.

ويقول في منتخب اللغات العقل هو إسقاط التاء من مفاعلتن (١). وعلى هذا اصطلاح أهل العروض ، ومنها الشكل المسمّى بالطريق في علم الرمل ومنها عنصر الهواء. وأهل الرّمل يسمّون الريح عقلا ، الريح الأولى يسمّونها العقل الأول ، حتى إنهم يسمّون ريح العتبة الداخلة العقل السابع ، حسب ترتيب وضع جدول الأنوار في الطالب والمطلوب كما مرّ. وهذا اصطلاح أهل الرّمل (٢). ومنها التعقّل صرّح بذلك المولوي عبد الحكيم في حاشيته لشرح المواقف في تعريف النّظر ، وهو إدراك شيء لم يعرضه العوارض الجزئية الملحقة بسبب المادة في الوجود الخارجي من الكم والكيف والأين والوضع وغير ذلك. وحاصله إدراك شيء كلّي أو جزئي مجرّد عن اللواحق الخارجية ، وإن كان التجرّد حصل بالتجريد فإنّ المجرّدات كلّية كانت أو جزئية معقولة بلا احتياج إلى الانتزاع والتجريد ، والماديات الكلّية أيضا معقولة لكنها محتاجة إلى الانتزاع والتجريد عن العوارض الخارجية المانعة من التعقّل. وأما الماديات الجزئية فلا تتعقّل ، بل إن كانت صورا تدرك بالحواس وإن كانت معاني فبالوهم التابع للحسّ الظاهري ، هكذا حقّق السّيد السّند في حواشي شرح حكمة العين. ومنها مطلق المدرك نفسا كان أو عقلا أو غيرهما كما يجيء في لفظ العلم. ومنها موجود ممكن ليس جسما ولا حالا فيه ولا جزءا منه ، بل هو جوهر مجرّد في ذاته مستغن في فاعليته عن آلات جسمانية.

وبعبارة أخرى هو الجوهر المجرّد في ذاته وفعله أي لا يكون جسما ولا جسمانيا ولا يتوقّف أفعاله على تعلّقه بجسم. وبعبارة أخرى هو جوهر مجرّد غير متعلّق بالجسم تعلّق التدبير والتصرّف ، وإن كان متعلّقا بالجسم على سبيل التأثير. فبقيد الجوهر خرج العرض والجسم.

وبقيد المجرّد خرج الهيولى والصورة. وبالقيد الأخير خرج النفس الناطقة. والعقل بهذا المعنى أثبته الحكماء. وقال المتكلّمون لم يثبت وجود المجرّد عندنا بدليل ، فجاز أن يكون موجودا وأن لا يكون موجودا ، سواء كان ممكنا أو ممتنعا. لكن قال الغزالي والرّاغب في النفس إنّه الجوهر المجرّد عن المادة. ومنهم من جزم امتناع الجوهر المجرّد. وفي العلمي حاشية شرح هداية الحكمة : هذا الجوهر يسمّيه الحكماء عقلا ويسمّيه أهل الشرع ملكا ، وفي بعض حواشي شرح الهداية القول بأنّ العقول المجرّدة هي الملائكة تستّر بالإسلام لأنّ الملائكة في الإسلام أجسام لطيفة نورانية قادرة على أفعال شاقّة متشكّلة بأشكال مختلفة ولهم أجنحة وحواس. والعقول عندهم مجرّدة عن المادة ، وكأنّ هذا تشبيه ، يعني كما أنّ عندكم

__________________

(١) ودر منتخب اللغات گويد عقل ساقط كردن تاست از مفاعلتن.

(٢) ومنها عنصر الهواء أهل رمل باد را را عقل نامند وباد اوّل عقل اوّل نامند تا باد عتبه داخل را عقل هفتم نامند بترتيب وضع جدول ادوار در طالب ومطلوب چنانكه گذشت واين اصطلاح اهل رمل است.

١٤٨

المؤثّر في العالم أجسام لطيفة فكذلك عندنا المؤثّر فيه عقول مجردة انتهى.

فائدة :

قال الحكماء : الصادر الأول من البارئ تعالى هو العقل الكلّ وله ثلاثة اعتبارات : وجوده في نفسه ووجوبه بالغير وإمكانه لذاته ، فيصدر عنه أي عن العقل الكلّ بكل اعتبار أمر فباعتبار وجوده يصدر عنه عقل ثان ، وباعتبار وجوبه بالغير يصدر نفس ، وباعتبار إمكانه يصدر جسم ، وهو فلك الأفلاك. وإنّما قلنا إنّ صدورها عنه على هذا الوجه استنادا للأشرف إلى الجهة الأشرف والأخسّ إلى الأخسّ ، فإنّه أحرى وأخلق. وكذلك يصدر من العقل الثاني عقل ثالث ونفس ثانية وفلك ثان ، هكذا إلى العقل العاشر الذي هو في مرتبة التاسع من الأفلاك ، أعني فلك القمر ، ويسمّى هذا العقل بالعقل الفعّال ، ويسمّى في لسان أهل الشرع بجبرئيل عليه‌السلام كما في شرح هداية الحكمة ، وهو المؤثّر في هيولى العالم السّفلي المفيض للصّور والنفوس والأعراض على العناصر والمركّبات بسبب ما يحصل لها من الاستعدادات المسبّبة من الحركات الفلكية والاتصالات الكوكبية وأوضاعها. وفي الملخص إنهم خبطوا فتارة اعتبروا في الأول جهتين : وجوده وجعلوه علّة التعقّل ، وإمكانه وجعلوه علّة الفلك. ومنهم من اعتبر بدلهما تعلّقه بوجوده وإمكانه علّة تعقّل وفلك وتارة اعتبروا فيه كثرة من وجوه ثلاثة كما مرّ ، وتارة من أربعة أوجه ، فزادوا علمه بذلك الغير وجعلوا إمكانه علّة لهيولى الفلك ، وعلمه علّة لصورته. وبالجملة فالحقّ أنّ العقول عاجزة عن درك نظام الموجودات على ما هي عليه في نفس الأمر.

فائدة :

قالوا العقول لها سبعة أحكام. الأول أنّها ليست حادثة لأنّ الحدوث يستدعي مادة.

الثاني ليست كائنة ولا فاسدة ، إذ ذاك عبارة عن ترك صورة ولبس صورة أخرى ، فلا يتصوّر ذلك إلاّ في المركّب المشتمل على جهتي قبول وفعل. الثالث نوع كلّ عقل منحصر في شخصه إذ تشخّصه بماهيته ، وإلاّ لكان من المادة هذا خلف. الرابع ذاتها جامعة لكمالاتها أي ما يمكن أن يحصل لها فهو حاصل بالفعل دائما وما ليس حاصلا لها فهو غير ممكن. الخامس أنّها عاقلة لذواتها. السادس أنّها تعقل الكليات وكذا كلّ مجرّد فإنّه يعقل الكليات. السابع أنّها لا تعقل الجزئيات من حيث هي جزئية لأنّ تعقّل الجزئيات يحتاج إلى آلات جسمانية. وإن شئت أن يرتسم خبطهم في ذهنك فارجع إلى شرح المواقف.

فائدة :

قال الحكماء أول ما خلق الله تعالى العقل كما ورد به نصّ الحديث. قال بعضهم وجه الجمع بينه وبين الحديثين الآخرين (أول ما خلق الله القلم) (١) و (أول ما خلق الله نوري) (٢) أنّ المعلول الأول من حيث إنّه مجرّد يعقل ذاته ومبدأه يسمّى عقلا ، ومن حيث إنّه واسطة في صدور سائر الموجودات في نقوش العلوم يسمّى قلما ، ومن حيث توسّطه في إفاضة أنوار النّبوّة كان نورا لسيّد الأنبياء عليه وعليهم‌السلام ، كذا في شرح المواقف. قال في كشف اللغات : العقل الأول في لسان الصوفية هو مرتبة

__________________

(١) سنن ابي داود ، كتاب السنة ، باب في القدر ، ح ٤٧٠٠ ، ٥ / ٧٦.

(٢) العجلوني ، كشف الخفاء ، ح ٨٢٧ ، ١ ٣١١ ، وجاء بلفظ : (اوّل ما خلق الله نور نبيك يا جابر) والارجح أن الحديث موضوع.

١٤٩

الوحدة. ويقول في لطائف اللغات : العقل هو عبارة عن النّور المحمدي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (١). وفي الإنسان الكامل العقل الأول هو محلّ تشكيل العلم الإلهي في الوجود لأنّه العلم الأعلى ثم ينزل منه العلم إلى اللوح المحفوظ ، فهو إجمال اللوح واللوح تفصيله ، بل هو تفصيل علم الإجمال الإلهي واللوح محلّ تنزّله. ثم العقل الأول من الأسرار الإلهية ما لا يسعه اللوح كما أنّ اللوح من العلم الإلهي ما لا يكون العقل الأول محلا له ، فالعلم الإلهي هو أمّ الكتاب والعقل الأول هو الإمام المبين واللوح هو الكتاب المبين ، فاللوح مأموم بالقلم تابع له ، والقلم الذي هو العقل الأول حاكم على اللوح مفصّل للقضايا المجملة في دواة العلم الإلهي المعبّر عنها بالنون. والفرق بين العقل الأول والعقل الكلّ وعقل المعاش أنّ العقل الأول بعد علم إلهي ظهر في أول تنزلاته التعيينية الخلقية.

وإن شئت قلت أول تفصيل الإجمال الإلهي.

ولذا قال عليه الصلاة والسلام (أنّ أول ما خلق الله تعالى العقل) (٢) فهو أقرب الحقائق الخلقية إلى الحقائق الإلهية ، والعقل الكلّ هو القسطاس المستقيم وهو ميزان العدل في قبّة الروح للفصل. وبالجملة فالعقل الكلّ هو العاقلة أي المدركة النورية التي ظهر بها صور العلوم المودعة في العقل الأول. ثم إنّ عقل المعاش هو النور الموزون بالقانون الفكري فهو لا يدرك إلاّ بآلة الفكر ، ثم إدراكه بوجه من وجوه العقل الكلّ فقط لا طريق له إلى العقل الأوّل ، لأنّ العقل الأوّل منزّه عن القيد بالقياس وعن الحصر بالقسطاس ، بل هو محلّ صدور الوحي القدسي إلى نوع النفس ، والعقل الكلّ هو الميزان العدل للأمر الفصلي ، وهو منزّه عن الحصر بقانون دون غيره ، بل وزنه للأشياء على معيار وليس لعقل المعاش إلاّ معيار واحد وهو الفكر وكفّة واحدة وهي العادة وطرف واحد وهو المعلوم وشوكة واحدة وهو الطبيعة ، بخلاف العقل الكلّ فإنّ له كفّتين الحكمة والقدرة ، وطرفين الاقتضاءات الإلهية والقوابل الطبعية ، وشوكتين الإرادة الإلهية والمقتضيات الخلقية ، وله معاير شتّى. ولذا كان العقل الكلّ هو القسطاس المستقيم لأنّه لا يحيف ولا يظلم ولا يفوته شيء بخلاف عقل المعاش فإنّه قد يحيف ويفوته أشياء كثيرة لأنّه على كفة واحدة وطرف واحد.

فنسبة العقل الأول مثلا نسبة الشمس ، ونسبة العقل الكلّ نسبة الماء الذي وقع فيه نور الشمس ، ونسبة عقل المعاش نسبة شعاع ذلك الماء إذا بلغ على جدار ، فالناظر في الماء يأخذ هيئة الشمس على صحته ويعرف نوره على حليته كما لو رأى الشمس لا يكاد يظهر الفرق بينهما ، إلاّ أنّ الناظر إلى الشمس يرفع رأسه إلى العلو والناظر إلى الماء ينكس رأسه إلى السفل ، فكذلك الآخذ علمه من العقل الأول يرفع بنور قلبه إلى العلم الإلهي ، والآخذ علمه من العقل الكلّ ينكس بنور قلبه إلى المحلّ الكتاب فيأخذ منه العلوم المتعلّقة بالأكوان وهو الحدّ الذي أودعه الله في اللوح المحفوظ ، إمّا يأخذ بقوانين الحكمة وإمّا بمعيار القدرة على قانون وغير قانون ، فهذا الاستقراء منه انتكاس لأنّه من اللوازم الخلقية الكلّية لا يكاد يخطئ إلاّ فيما استأثر الله به بخلاف العقل الأول فإنّه يتلقّى من الحقّ بنفسه.

اعلم أنّ العقل الكلّ قد يستدرج به أهل الشقاوة فيقبح عليهم أهويتهم فيظفرون على أسرار القدرة من تحت سجف الأكوان كالطبائع والأفلاك والنور والضياء وأمثالها ، فيذهبون إلى عبادة هذه الأشياء ، وذلك بمكر الله لهم. والنكتة

__________________

(١) ودر لطائف اللغات ميگويد عقل عبارت از نور محمدي است صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٢) السيوطي ، اللآلئ المصنوعة ١ / ٦٨.

١٥٠

فيه أنّ الله سبحانه يتجلّى لهم في لباس هذه الأشياء فيدركها هؤلاء بالعقل فيقولون بأنّه هي الفعّالة والآلهة ، لأنّ العقل الكلّ لا يتعدّى الكون ، فلا يعرفون الله به لأنّ العقل لا يعرف إلاّ بنور الإيمان ، وإلاّ فلا يمكن أن يعرفه العقل من نظيره وقياسه سواء كان العقل معاشا أو عقلا كلاّ ؛ على أنّه قد ذهب أئمتنا إلى أنّ العقل من أسباب المعرفة ، وهذا من طريق التوسّع لإقامة الحجّة ، وكذلك عقل المعاش فإنّه ليس له إلاّ جهة واحدة وهي النظر والفكر. فصاحبه إذا أخذ في معرفة الله به فإنّه يخطئ ، ولهذا إذا قلنا بأنّ الله لا يدرك بالعقل أردنا به عقل المعاش. ومتى قلنا إنّه يعرف بالعقل أردنا به عقل المعاش. ومتى قلنا إنّه يعرف بالعقل أردنا به العقل الأول.

اعلم أنّ علم العقول الأوّل والقلم الأعلى نور واحد فبنسبته إلى العبد يسمّى العقل الأول وبنسبته إلى الحق يسمّى القلم الأعلى. ثم إنّ العقل الأول المنسوب إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خلق الله جبرئيل عليه‌السلام منه في الأول فكان محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا لجبرئيل وأصلا لجميع العالم. فاعلم إن كنت ممّن يعلم أنّه لهذا وقف عنه جبرئيل في إسرائه وتقدّم وحده ، ويسمّى العقل الأول بالروح الأمين لأنّه خزانة علم الله وأمينه ، ويسمّى بهذا الاسم جبرئيل من تسمية الفرع بأصله انتهى ما في الإنسان الكامل. ويقول في كشف اللغات : العقل الأوّل والعقل الكلّي هو جبرائيل عليه‌السلام. وفي القاموس : إنّهم يسمّون العرش عقلا ، وكذلك أصل وحقيقة الإنسان من حيث أنّه فيض وواسطة لظهور النفس الكلّية. وقد أطلقوا عليه أربعة أسماء : الأول : العقل. الثاني القلم الأول. الثالث الروح الأعظم. الرابع أمّ الكتاب.

وعلى وجه الحقيقة : إنّ آدم هو صورة العقل الكلّي وحواء هي صورة النّفس الكلّية ، انتهى كلامه (١). ومنها النفس الناطقة باعتبار مراتبها في استكمالها علما وعملا وإطلاق العقل على النفس بدون هذا الاعتبار أيضا شائع كما في بديع الميزان من أنّ العقل جوهر مجرّد عن المادة لذاته ، مقارن لها في فعله ، وهو النفس الناطقة التي يشير إليها كلّ واحد بقوله أنا. منها نفس تلك المراتب. ومنها قواها في تلك المراتب. قال الحكماء بيان ذلك أنّ للنفس الناطقة جهتين : جهة إلى عالم الغيب وهي باعتبار هذه الجهة متأثّرة مستفيضة عمّا فوقها من المبادئ العالية وجهة إلى عالم الشهادة وهي باعتبار هذه الجهة مؤثّرة متصرّفة فيما تحتها من الأبدان ، ولا بد لها بحسب كلّ جهة قوة ينتظم بها حالها هناك. فالقوة التي بها تتأثّر وتستفيض من المبادئ العالية لتكميل جوهرها من التعقّلات تسمّى قوة نظريّة وعقلا نظريا ، والتي بها تؤثّر في البدن وتتصرّف فيه لتكميل جوهره تسمّى قوة عملية وعقلا عمليا ، وإن كان ذلك أيضا عائدا إلى تكميل النفس من جهة أنّ البدن آلة لها في تحصيل العلم والعمل. ولكلّ من القوتين أربع مراتب. فمراتب القوة النظرية أولها العقل الهيولاني وهو الاستعداد المحض لإدراك المعقولات ، وهو قوّة محضة خالية عن الفعل كما للأطفال ، فإنّ لهم في حال الطفولية وابتداء الخلقة استعدادا محضا وإلاّ امتنع اتصاف النفس بالعلوم. وكما يكون النفس في بعض الأوقات خالية عن مبادئ نظري من النظريات فهذه الحالة عقل هيولاني لذلك النفس بالاعتبار إلى هذا النظري ، وليس هذا الاستعداد حاصلا لسائر الحيوانات. وإنّما نسب إلى الهيولى لأنّ النفس

__________________

(١) ودر كشف اللغات ميگويد عقل اوّل وعقل كل جبرئيل عليه‌السلام را گويند ودر فرهنگ است كه عرش را نامند ونيز اصل وحقيقت انسان را گويند از آنكه مفيض وواسطه ظهور نفس كل است وآن را به چهار نام ناميده اند يكى عقل دوم قلم اوّل سوم روح اعظم چهارم أمّ الكتاب واز روي حقيقت آدم صورت عقل كل است وحوا صورت نفس كل.

١٥١

في هذه المرتبة تشبه الهيولى الأولى الخالية في حدّ ذاتها عن الصور كلّها وتسمّى النفس وكذا قوة النفس في هذه المرتبة بالعقل الهيولاني أيضا. وعلى هذا فقس سائر المراتب. وفي كون هذه المرتبة من مراتب القوة النظرية نظر لأنّ النفس ليس لها هاهنا تأثّر بل استعداد تأثّر ، فينبغي أن تفسّر القوة النظرية بالتي يتأثّر بها النفس أو تستعد بها لذلك ، ويمكن أن يقال استعداد الشيء من جملته. فمبنى هذا على المساهلة وإنّما بني على المساهلة تنبيها على أنّ المراد هو الاستعداد القريب من الفعل إذ لو كان مطلق الاستعداد لما انحصرت المراتب في الأربع إذ ليس لها باعتبار الاستعداد البعيد مرتبة أخرى فوق الهيولاني وهي المرتبة الحاصلة لها قبل تعلّق النفس بالبدن. وثانيتها العقل بالملكة وهو العلم بالضروريات واستعداد النفس بذلك لاكتساب النظريات منها ، وهذا العلم حادث بعد ابتداء الفطرة ، فله شرط حادث بالضرورة دفعا للترجيح بلا مرجّح في اختصاصه بزمان معيّن ، وما هو إلاّ الإحساس بالجزئيات والتنبيه لما بينها من المشاركات والمباينات ، فإنّ النفس ، إذا أحسّت بجزئيات كثيرة وارتسمت صورها في آلاتها الجسمانية ولاحظت نسبة بعضها إلى بعض استعدّت لأن تفيض عليها من المبدأ صور كلّية وأحكام تصديقية فيما بينها ، فهذه علوم ضرورية ، ولا نريد بها العلم بجميع الضروريات فإنّ الضروريات قد تفقد إمّا بفقد التصوّر كحسّ البصر للأكمه وقوة المجامعة للعنّين ، أو بفقد شرط التصديق ، فإنّ فاقد الحسّ فاقد للقضايا المستندة إلى ذلك الحسّ ، وبالجملة فالمراد بالضروريات أوائل العلوم وبالنظريات ثوانيها سمّيت به لأنّ المراد بالملكة إمّا ما يقابل الحال ، ولا شكّ أنّ استعداد الانتقال إلى المعقولات راسخ في هذه المرتبة ، أو ما يقابل العدم كأنّه قد حصل للنفس فيها وجود الانتقال إليها بناء على قربه ، كما سمّي العقل بالفعل عقلا بالفعل لأنّ قوته قريبة من الفعل جدا. قال شارح هداية الحكمة : العقل بالملكة إن كان في الغاية بأن يكون حصول كلّ نظري بالحدس من غير حاجة إلى فكر يسمّى قوة قدسية. وثالثتها العقل بالفعل وهو ملكة استنباط النظريات من الضروريات أي صيرورة الشخص بحيث متى شاء استحضر الضروريات ولا حظها واستنتج منها النظريات ، وهذه الحالة إنّما تحصل إذا صار طريقة الاستنباط ملكة راسخة فيه. وقيل العقل بالفعل هو حصول النظريات وصيرورتها بعد استنتاجها من الضروريات بحيث استحضرها متى شاء بلا تجشّم كسب جديد ، وذلك إنّما يحصل إذا لاحظ النظريات الحاصلة مرة بعد أخرى حتى يحصل له ملكة نفسانية يقوى بها على استحضارها متى أراد من غير فكر ، وهذا هو المشهور في أكثر الكتب. وبالجملة العقل بالفعل على القول الأول ملكة الاستنباط والاستحصال وعلى القول الثاني ملكة الاستحضار. ورابعتها العقل المستفاد وهو أن يحصّل النظريات مشاهدة سمّيت به لاستفادتها من العقل الفعّال ، وصاحب هداية الحكمة سمّاها عقلا مطلقا وسمّى معقولاتها عقلا مستفادا. وقال شارحها لا يخفى أنّ تسمية معقولات تلك المرتبة بالعقل المستفاد خلاف اصطلاح القوم.

اعلم أنّ العقل الهيولاني والعقل بالملكة استعدادان لاستحصال الكمال ابتداء والعقل بالفعل بالمعنى الثاني المشهور استعداد لاسترجاعه واسترداده فهو متأخّر في الحدوث عن العقل المستفاد لأنّ المدرك ما لم يشاهد مرات كثيرة لا يصير ملكة ومتقدّم عليه في البقاء لأنّ المشاهدة تزول بسرعة وتبقى ملكة الاستحضار مستمرة فيتوصّل بها إلى مشاهدته ، فبالنظر إلى الاعتبار الثاني يجوز تقديم العقل

١٥٢

بالفعل على العقل المستفاد ، وبالنظر إلى الاعتبار الأول يجوز العكس ، أمّا العقل بالفعل بالمعنى الأول فالظاهر أنّه مقدّم على العقل المستفاد. واعلم أيضا أنّ هذه المراتب تعتبر بالقياس إلى كلّ نظري على المشهور فيختلف الحال إذ قد تكون النفس بالنسبة إلى بعض النظريات في المرتبة الأولى وبالنسبة إلى بعضها في الثانية وإلى بعضها في الثالثة وإلى بعضها في الرابعة. فما قال صاحب المواقف من أنّ العقل المستفاد هو أن يصير النفس مشاهدة لجميع النظريات التي أدركتها بحيث لا يغيب عنها شيء لزمه أنّ لا يوجد العقل المستفاد لأحد في الدنيا بل في الآخرة. ومنهم من جوّز ذلك لنفوس نبوية لا يشغلها شأن عن شأن ، وهم في جلابيب من أبدانهم قد نضوها وانخرطوا في سلك المجرّدات التي تشاهد معقولاتها دائما.

فائدة :

وجه الحصر في الأربع أنّ القوة النظرية إنّما هي لاستكمال الناطقة بالإدراكات إلاّ أنّ البديهيات ليست كمالا معتدّا به يشاركه الحيوانات العجم لها فيها بل كمالها المعتدّ به الإدراكات الكسبية ، ومراتب النفس في الاستكمال بهذا الكمال منحصرة في نفس الكمال واستعداده لأنّ الخارج عنهما لا يتعلّق بذلك الاستكمال ، فالكمال هو العقل المستفاد أعني مشاهدة النظريات ، والاستعداد إمّا قريب وهو العقل بالفعل أو بعيد وهو الهيولاني أو متوسّط وهو العقل بالملكة. وأمّا مراتب القوة العملية فأولها تهذيب الظاهر أي كون الشخص بحيث يصير استعمال الشرائع النبوية والاجتناب عما نكره عادة له ، ولا يتصوّر منه خلافه عادة.

وثانيتها تهذيب الباطن من الملكات الرديئة ونفض آثار شواغله عن عالم الغيب. وثالثتها ما يحصل بعد الاتّصال بعالم الغيب وهو تجلّي النفس بالصور القدسية ، فإنّ النفس إذ هذبت ظاهرها وباطنها عن رذائل الأعمال والأخلاق وقطعت عوائقها عن التوجّه إلى مركزها ومستقرها الأصلي الذي هو عالم الغيب بمقتضى طباعها إذ هي مجرّدة في حدّ ذاتها وعالم الغيب أيضا كذلك ، وطبيعة المجرّد تقتضي عالمها كما أنّ طبيعة المادي تقتضي عالم المادّيات الذي هو عالم الشهادة اتصلت بعالم الغيب للجنسية اتصالا معنويا لا صوريا ، فينعكس إليها بما ارتسمت فيه من النقوش العلمية ، فتتجلّى النفس حينئذ بالصور الإدراكية القدسية ، أي الخالصة عن شوائب الشكوك والأوهام ، إذ الشكوك والشبهات إنّما تحصل من طرق الحواس ، وفي هذه لا يحصل العلم من تلك الطرق. وفي بعض حواشي شرح المطالع بيانه أنّ حقائق الأشياء مسطورة في المبدأ المسمّى في لسان الشرع باللوح المحفوظ فإنّ الله تعالى كتب نسخة العالم من أوله إلى آخره في المبدأ ثم أخرجه إلى الوجود على وفق تلك النسخة ، والعالم الذي خرج إلى الوجود بصورته تتأدّى منه صورة أخرى إلى الحواس والخيال ويأخذ منها الواهمة معاني ، ثم يتأدّى من الخيال أثر إلى النفس فيحصل فيها حقائق الأشياء التي دخلت في الحسّ والخيال. فالحاصل في النفس موافق للعالم الحاصل في الخيال ، وهو موافق للعالم الموجود في نفسه خارجا من خيال الإنسان ونفسه ، والعالم الموجود موافق للنسخة الموجودة في المبدأ ، فكأنّ للعالم أربع درجات في الوجود ، وجود في المبدأ وهو سابق على وجوده الجسماني ويتبعه وجوده الجسماني الحقيقي ويتبع وجوده الحقيقي وجوده الخيالي ويتبع وجوده الخيالي وجوده العقلي ، وبعض هذه الوجودات روحانية وبعضها جسمانية ، والروحانية بعضها أشدّ روحانية من بعض. إذا عرفت هذا فنقول النفس يتصوّر أن يحصل فيها

١٥٣

حقيقة العالم وصورته تارة من الحواس وتارة من المبدأ ، فمهما ارتفع حجاب التعلّقات بينها وبين المبدأ حصل لها العلم من المبدأ فاستغنت عن الاقتباس من مداخل الحواس ، وهناك لا مدخل للوهم التابع للحواس. ومهما أقبلت على الخيالات الحاصلة من المحسوسات كان ذلك حجابا لها من مطالع المبدأ ، فهناك تتصوّر الواهمة وتعرض للنفس من الغلط ما يعرض ، فإذا للنفس بابان ، باب مفتوح إلى عالم الملكوت وهو اللوح المحفوظ وعالم الملائكة والمجرّدات ، وباب مفتوح إلى الحواس الخمس المتمسّكة بعالم الشهادة والملك وهذا الباب مفتوح للمجرّد وغيره. والباب الأول لا يفتح إلاّ للمتجرّدين من العلائق والعوائق. ورابعتها ما يتجلّى له عقيب اكتساب ملكة الاتصال والانفصال عن نفسه بالكلّية وهو ملاحظة جمال الله أي صفاته الثبوتية وجلاله أي صفاته السلبية ، وقصر النظر على كماله في ذاته وصفاته وأفعاله حتى يرى كلّ قدرة مضمحلّة في جنب قدرته الكاملة وكلّ علم مستغرقا في علمه الشامل ، بل يرى أنّ كلّ كمال ووجود إنّما هو فائض من جنابه تعالى شأنه. فان قيل بعد الاتصال بعالم الغيب ينبغي أن يحصل له الملاحظة المذكورة وحينئذ لا تكون مرتبة أخرى غير الثالثة بل هي مندرجة فيها. قلت المراد الملاحظة على وجه الاستغراق وقصر النظر على كماله بحيث لا يلتفت إلى غيره ، فعلى هذا الغاية القصوى هي هذه المرتبة كما أنّ الغاية القصوى من مراتب النظري هو الثالثة أي العقل بالفعل.

اعلم أنّ المرتبتين الأخيرتين أثران للأوليين اللتين هما من مراتب العملية قطعا ، فصحّ عدّهما من مراتب العملية وإن لم تكونا من قبيل تأثير النفس فيما تحتها. هذا كله هو المستفاد من شرح التجريد وشرح المواقف في مبحث العلم وشرح المطالع وحواشيه في الخطبة.

اعلم أنّ العقل الذي هو مناط التكاليف الشرعية اختلف أهل الشرع في تفسيره. فقال الأشعري هو العلم ببعض الضروريات الذي سمّيناه بالعقل بالملكة. وما قال القاضي هو العلم بوجوب الواجبات العقلية واستحالة المستحيلات وجواز الجائزات ومجاري العادات أي الضروريات التي يحكم بها بجريان العادة من أنّ الجبل لا ينقلب ذهبا ، فلا يبعد أن يكون تفسيرا لما قال الأشعري ، واحتجّ عليه بأنّ العقل ليس غير العلم وإلاّ جاز تصوّر انفكاكهما وهو محال ، إذ يمتنع أن يقال عاقل لا علم له أصلا وعالم لا عقل له أصلا ، وليس العقل العلم بالنظريات لأنّه مشروط بالنظر والنظر مشروط بكمال العقل ، فيكون العلم بالنظريات متأخرا عن العقل بمرتبتين ، فلا يكون نفسه ، فيكون العقل هو العلم بالضروريات وليس علما بكلها ، فإنّ العاقل قد يفقد بعضها لفقد شرطه كما مرّ ، فهو العلم ببعضها وهو المطلوب.

وجوابه أنّا لا نسلّم أنّه لو كان غير العقل جاز الانفكاك بينهما لجواز تلازمهما. وقال الإمام الرازي والظاهر أنّ العقل صفة غريزية يلزمها العلم بالضروريات عند سلامة الآلات وهي الحواس الظاهرة والباطنة. وإنّما اعتبر قيد سلامة الآلات لأنّ النائم لم يزل عقله عنه وإن لم يكن عالما حالة النوم لاختلال وقع في الآلات ، وكذا الحال في اليقظان الذي لا يستحضر شيئا من العلوم الضرورية لدهش ورد عليه ، فظهر أنّ العقل ليس العلم بالضروريات.

ولا شكّ أنّ العاقل إذا كان سالما عن الآفات المتعلّقة كان مدركا لبعض الضروريات قطعا.

فالعقل صفة غريزية يتبعها تلك العلوم ، وهذا معنى ما قيل : قوة للنفس بها تتمكّن من إدراك الحقائق. ومحلّ تلك القوة قيل الرأس ، وقيل القلب ، وما قيل هو الأثر الفائض على النفس

١٥٤

من العقل الفعال. والمعتزلة القائلون بأنّ الحسن والقبح للعقل فسّروه بما يعرف به حسن المستحسنات وقبح المستقبحات ، ولا يبعد أن يقرب منه ما قيل هو قوة مميزة بين الأمور الحسنة والقبيحة. وقيل هو ملكة حاصلة بالتجارب يستنبط بها المصالح والأغراض.

وهذا معنى ما قيل هو ما يحصل به الوقوف على العواقب. وقيل هو هيئة محمودة للإنسان في حركاته وسكناته. وقيل هو نور يضيئ به طريق يبتدأ به من حيث ينتهي إليه درك الحواس ، فيبدأ المطلوب للطالب فيدركه القلب بتأمّله وبتوفيق الله تعالى. ومعنى هذا أنّه قوة للنفس بها تنتقل من الضروريات إلى النظريات ويحتمل أن يراد به الأثر الفائض من العقل الفعّال كما ذكره الحكماء من أنّ العقل الفعّال هو الذي يؤثّر في النفس ويعدّها للإدراك ، وحال نفوسنا بالنسبة إليه كحال أبصارنا بالنسبة إلى الشمس. فكما أنّ بإفاضة نور الشمس تدرك المحسوسات كذلك بإفاضة نوره تدرك المعقولات. فقوله نور أي قوة شبيهة بالنور في أنها يحصل به الإدراك ويضيئ أي يصير ذا ضوء أي بذلك النور طريق يبتدأ به أي بذلك الطريق ، والمراد به أي بالطريق الأفكار وترتيب المبادئ الموصلة إلى المطلوب. ومعنى إضاءتها صيرورتها بحيث يهتدي القلب إليها ويتمكّن من ترتيبها وسلوكها توصلا إلى المطلوب. وقوله من حيث ينتهي إليه متعلّق بقوله يبتدأ ، وضمير إليه عائد إلى حيث ، أي من محلّ ينتهي إليه إدراك الحواس ، فيبدأ أي يظهر المطلوب للقلب أي الروح المسمّى بالقوة العاقلة والنفس الناطقة فيدركه القلب بتأمّله أي التفاته إليه والتوجّه نحوه بتوفيق الله تعالى وإلهامه ، لا بتأثير النفس أو توكيدها ، فإنّ الأفكار معدات للنفس وفيضان المطلوب إنّما هو بإلهام الله سبحانه. فبداية درك الحواس هو ارتسام المحسوسات في إحدى الحواس الخمس الظاهرة ، ونهاية دركها ارتسامها في الحواس الباطنة. ومن هاهنا بداية درك العقل ، ونهاية درك العقل ظهور المطلوب كما عرف في الفكر بمعنى الحركتين ، هذا كله خلاصة ما في شرح التجريد وشرح المواقف والتلويح.

وفي خلاصة السلوك قال أهل العلم : العقل جوهر مضيء خلقه الله في الدماغ وجعل نوره في القلب ، وقال أهل اللسان : العقل ما ينجّي صاحبه من ملامة الدنيا وندامة العقبى وقال حكيم : العقل حياة الروح والروح حياة الجسد. وقال حكيم ركّب الله في الملائكة العقل بلا شهوة وركّب في البهائم الشهوة بلا عقل ، وفي ابن آدم كليهما. فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة ومن غلب شهوته عقله فهو شرّ من البهائم. وقال أهل المعرفة العاقل من اتّقى ربّه وحاسب نفسه وقيل من يبصر مواضع خطواته قبل أن يضعها. وقيل الذي ذهب دنياه لآخرته. وقيل الذي يتواضع لمن فوقه ولا يحتقر لمن دونه ويمسك الفضل من منطقه ويخالط الناس باختلافهم. وقيل الذي يترك الدنيا قبل أن تتركه ويعمّر القبر قبل أن يدخله وأرضى الله قبل أن يلقاه ، وقيل إذا اجتمع للرجل العلم والعمل والأدب يسمّى عاقلا ، وإذا علم ولم يعمل أو عمل بغير أدب أو عمل بأدب ولم يعلم لم يكن عاقلا.

العقل الكلّ : [في الانكليزية] Universal intellect ، road ـ [في الفرنسية] Intellect universel ، chemin

قد عرفت معناه ، وعند أهل الرمل اسم للطريق. وأهل الرّمل يسمّون الطريق عقلا وعقلا كلّيا (١).

__________________

(١) طريق را اهل رمل عقل وعقل كل نامند.

١٥٥

العقلة : [في الانكليزية] Knot ،

figure composed of two lines and two points (geomancy) ـ [في الفرنسية] Noeud ،

figure composee de deux lignes et deux points (en geomancie)

بالضّم عند أهل الرّمل اسم لشكل هذه صورته. (١)

العقلي : [في الانكليزية] Intellectual ، rational ـ [في الفرنسية] Intellectuel ، rationnel

هو ما لا يكون للحسّ الباطن فيه مدخل ، هذا هو المشهور. وقد يطلق على ما لا يدرك هو ولا مادته بتمامها بإحدى الحواس الظاهرة ، سواء أدرك بعض مادته أو لا ، وقد سبق في لفظ الحسّي.

العكس : [في الانكليزية] Contrary ـ [في الفرنسية] Contraire ، oppose

بالفتح وسكون الكاف يطلق على معان.

منها نفي الشيء ، قالوا عكس الإثبات نفي. ولذا قيل العكس في باب المعرّف مفسّر بأنّه كلّما انتفى الحدّ انتفى المحدود ، أي كلّما لم يصدق عليه الحدّ لم يصدق عليه المحدود والطّرد مفسّر بأنّه كلما صدق عليه الحدّ صدق عليه المحدود ، وقد سبق في لفظ الطرد. ويؤيّده ما قال في شرح المواقف في مبحث المبصرات.

من أنّ الضوء كيفية لا يتوقّف إبصارها على إبصار شيء آخر ، واللون عكسه ، أي كيفية يتوقّف إبصارها على إبصار شيء آخر انتهى.

ومنها ما هو قسم من المعارضة كما سيجيء.

ومنها الرّجعة وهي حركة الكوكب على خلاف التوالي ، وعلى هذا اصطلاح المنجّمين وأهل الهيئة وقد سبق. لكن مولانا عبد العلي البرجندي في شرح زيج «الغ بيكي» في الباب الثامن يقول : الكوكب الراجع حينما ينتقل من برج إلى برج مقدّم فذلك ما يقال له العكس.

وكذلك نقل رأس العمر وذنبه إلى برج آخر يقال له عكس. انتهى كلامه (٢). ومنها العمل بعكس ما أفاده السائل ويسمّى بالتعاكس والتعكيس والتحليل ، وعليه اصطلاح المحاسبين ؛ وطريقه أنّه إن ضعّف السائل عددا فينصف المجيب له أو جذّر فيربّع أو ضرب فيقسم أو زاد فينقص أو عكس فيعكس مبتدئا للعمل من آخر السؤال ليخرج الجواب. فلو قيل : أيّ عدد ضرب في نفسه وزيد على الحاصل اثنان وضعّف وزيد على الحاصل ثلاثة وقسم المجتمع على خمسة وضرب الخارج في عشرة حصل خمسون؟

فاقسم الخمسين على العشرة واضرب الخارج وهو الخمسة في نفسها وأنقص من الحاصل وهو خمسة وعشرون ثلاثة يبقى اثنان وعشرون ، وانقص من منصّف ذلك اثنين يبقى تسعة ، وجذر التسعة وهو ثلاثة هو الجواب ، كذا في شرح خلاصة الحساب. وعكس النسبة عندهم يجيء في لفظ النسبة. ومنها أن تقدّم في الكلام جزءا ثم تعكس فتقدّم ما أخّرت وتؤخّر ما قدّمت ويسمّى تبديلا أيضا ، وهذا من مصطلحات أهل البديع المعدود في المحسنات المعنوية ، ويقع على وجوه : منها أن يقع بين أحد طرفي جملة وما أضيف إليه ذلك الطرف نحو عادات السّادات سادات العادات ، فإنّ العكس فيه قد وقع بين العادات وهو أحد طرفي الكلام وبين السّادات وهو الذي أضيف إليه العادات. ومعنى وقوعه بينهما أنّه قدّم العادات على السّادات ثم عكس فقدم السّادات على العادات. ومنها أن يقع بين متعلّقي فعلين في جملتين نحو (تُولِجُ

__________________

(١) بالضم نزد اهل رمل اسم شكلى است بدين صورت.

(٢) ليكن مولانا عبد العلي برجندي در شرح زيج الغ بيكي در باب هشتم ميفرمايد كوكب راجع چون از برجي به برجي مقدم نقل كند آن را عكس گويند ونقل راس وذنب قمر راى ببرج ديگر نيز عكس گويند انتهى كلامه.

١٥٦

اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) (١).

ومنها أن يقع بين لفظين في طرفي جملتين نحو (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) (٢) ومنها أن يقع بين طرفي الجملة كما قيل :

طويت لإحراز الفنون ونيلها

رداء شبابي والجنون فنون

فحين تعاطيت الفنون وحظّها

تبيّن لي أنّ الفنون جنون

كذا في المطول. وفي الاتقان بعد تعريف العكس بما ذكر قال ابن أبي الإصبع : ومن غريب أسلوب هذا النوع قوله تعالى : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) (٣) ، (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) (٤) فإن نظم الآية الثانية عكس نظم الأولى لتقدّم العمل في الأولى عن الإيمان وتأخّره في الثانية عن الإسلام. ومنه نوع يسمّى القلب والمقلوب المستوي وما لا يستحيل بالانعكاس وهو أن تقرأ الكلمة من آخرها إلى أولها كما تقرأ من أولها إلى آخرها نحو (كُلٌّ فِي فَلَكٍ) (٥) (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) (٦) ولا ثالث له في القرآن ، انتهى. لكن صاحب التلخيص ذكر القلب والمقلوب المستوي في المحسّنات اللفظية ، فعلى هذا لا يكون هو من أنواع العكس. ومنها ما يسمّى عكسا مستويا وعكسا مستقيما وهو تبديل كلّ من طرفي القضية بالآخر مع بقاء الصدق والكيفية أي الإيجاب والسّلب بحالهما ، وهذا من مصطلحات المنطقيين ، وهو المتبادر عند إطلاق لفظ العكس كما في شرح إشراق الحكمة. وقد يطلقون العكس مجازا على القضية الحاصلة من هذا التبديل. وقيل الظاهر أنّه حقيقة لكثرة الاستعمال في ذلك فيقال عكس الموجبة الكلّية موجبة جزئية ، وهكذا في بواقي القضايا ، وذلك أن تجمع بينهما بأنّ العكس نقل أولا من المعنى اللغوي إلى المعنى المصدري الذي يشتقّ منه سائر الصيغ ، كقولهم عكس وانعكس وينعكس ونحوها ، ثم استعمل في القضية المخصوصة بعلاقة السّببية ، ثم كثر استعماله فيها حتى صار حقيقة بالغلبة. ثم المراد بتبديل الطرفين التبديل المعنوي أي المغيّر للمعنى حتى يخرج تبديل طرفي المنفصلة فإنّهم قالوا لا عكس للمنفصلات. ويحتمل أن يكون مرادهم أنّه ليس للمنفصلات عكس معتدّ به ، فحينئذ لا حاجة إلى تخصيص التبديل ، وذكر الطرفين أولى من الموضوع والمحمول كما ذكره البعض لشموله عكس الحمليات والشرطيات.

والمراد بطرفي القضية طرفاها في الذّكر فلا يرد أنّ طرفي القضية الحقيقية لم يدخلا في التعريف فإنّ الطرف الأول منها ذات

الموضوع والثاني وصف المحمول ، وفي العكس يصير ذات المحمول موضوعا ووصف الموضوع محمولا ، والمراد ببقاء الصدق لزوم بقائه بمعنى أنّه لو فرض الأصل صادقا لزم منه لذاته مع قطع النظر عن خصوص المادة صدق الفرع بلا واسطة فرع آخر لصدق المفروض في الأصل في الفرع لذاته بلا واسطة ، ليدخل في التعريف عكس القضية الكاذبة ، وليخرج عنه تبديل طرفي القضية بحيث يحصل منه قضية لازمة الصدق مع الأصل

__________________

(١) آل عمران ٢٧.

(٢) الممتحنة / ١٠.

(٣) النساء ١٢٤.

(٤) النساء / ١٢٥.

(٥) الأنبياء ٣٣.

(٦) المدّثر / ٣.

١٥٧

لحصول المادة ، كتبديل الموجبة الكلّية بالموجبة الكلّية في قولنا كلّ إنسان ناطق وكلّ ناطق إنسان ، وليخرج عنه تبديل طرفيها بحيث يحصل منه قضية أعمّ من العكس كتبديل طرفي السّالبة الكلّية بحيث يحصل سالبة جزئية ، وتبديل طرفي الضرورية بحيث يحصل ممكنة عامة. وإنّما اشترطوا بقاء الصدق لأنّ العكس لازم خاص من لوازم الأصل ويستحيل صدق الملزوم بدون اللازم ، فعند التحقيق العكس بالمعنى المصدري تبديل طرفي القضية بحيث يحصل منه أخصّ قضايا لازمة لها لذاتها موافقة لها في الكيف ، وبالمعنى الحاصل بالمصدر أخصّ قضايا حاصلة بتبديل طرفي القضية لازمة للأصل لذاته ، موافقة له في الكيف ، فلا بد في إثبات انعكاس قضية إلى قضية من بيان لزوم العكس للأصل في جميع المواد بدليل أو تنبيه ، ومن بيان عدم لزوم قضية أخصّ منه ، كذلك بتخلّفها عنه في بعض المواد ، كما يقال الموجبة كلّية أو جزئية تنعكس موجبة جزئية للزومها لهما في جميع المواد وعدم لزوم الموجبة الكلية لشيء منهما في جميعها لتخلّفها عنهما فيما إذا كان المحمول أعمّ من الموضوع والتالي أعمّ من المقدّم ، كما في قولك كلّ إنسان حيوان وقولنا إذا كان الشيء إنسانا كان حيوانا ، إذ لا يصدق العكس هناك كلّية مع صدق الأصلين قطعا ، ولم يعتبروا بقاء الكذب لجواز لزوم الصدق الكاذب ، والمراد ببقاء الكيف بقاء الكيف الموجود في الأصل في الفرع ، بمعنى أن يكون عكس الموجبة موجبة وعكس السّالبة سالبة. اعلم أنّ معنى انعكاس القضية أنّه يلزمها العكس لزوما كليا ، ومعنى عدم انعكاسها أنّه ليس يلزمها العكس لزوما كلّيا.

فائدة :

السالبة الكلية تنعكس كنفسها ، والجزئية لا تنعكس لجواز عموم الموضوع ، والموجبة مطلقا تنعكس جزئية ولا عكس للمنفصلات والاتفاقيات لعدم الجدوى. وأمّا بحسب الجهة فمن السوالب الكلّية تنعكس الدائمتان والعامّتان كنفسهما والخاصتان عامتين مع اللاّدوام في البعض ، ولا عكس للبواقي. ومن السوالب الجزئية لا تنعكس إلاّ الخاصّتان كنفسهما. ومن الموجبات تنعكس الوجوديتان والوقتيتان والمطلقة العامة مطلقة عامة ، والخاصتان حينية لا دائمة. ومنها ما يسمّى عكس النقيض وهو تبديل نقيضي الطّرفين مع بقاء الصدق والكيف بحالهما. وقد يطلق عكس النقيض أيضا على القضية الحاصلة من هذا التبديل والمعنى الأول أصل بالنسبة إلى الثاني ، والثاني منقول منه والمراد بتبديل نقيضي الطرفين تبديل كلّ من الطرفين بنقيض الطرف الآخر. والمراد ببقاء الصدق والكيف ما عرفت في العكس المستوي.

والحاصل أنّ عكس النقيض قد يطلق على جعل نقيض المحكوم به محكوما عليه ونقيض المحكوم عليه محكوما به على وجه يحصل أخصّ القضايا اللازمة للأصل بهذا التبديل مع الموافقة في الكيف بلا واسطة ، ومع قطع النظر عن خصوص المادة. وقد يطلق على أخصّ القضايا اللازمة للأصل على الوجه المذكور.

فإذا قلنا كلّ إنسان حيوان كان عكس نقيضه كلّما ليس بحيوان ليس بإنسان وهذان الإطلاقان مبنيان على اصطلاح قدماء المنطقيين. وقالوا المستعمل في العلوم هو هذا المعنى ، وحكم الموجبات فيه حكم السوالب في العكس المستوي والبيان البيان. وأمّا عند المتأخّرين منهم فعكس النقيض جعل نقيض المحكوم به من الأصل محكوما عليه وعين المحكوم عليه منه محكوما به مع بقاء الصدق دون الكيف ، أي على وجه يحصل أخصّ القضايا اللازمة للأصل على هذا التبديل مع المخالفة في الكيف بلا واسطة ، ومع قطع النظر عن خصوص المادة.

١٥٨

وقد يستعمل في هذا الاصطلاح أيضا في أخصّ القضايا اللازمة للأصل على هذا الوجه. فعكس نقيض قولنا كلّ إنسان حيوان لا شيء مما ليس بحيوان بإنسان وحكم الموجبات عندهم أيضا حكم السوالب في العكس المستوي لا بالعكس ، أي ليس حكم السوالب من عكس النقيض حكم الموجبات في العكس المستوي كما قاله المتقدّمون.

فائدة :

قال المولوي عبد الحكيم في حاشية القطبي : لا يفهم من تقييد العكس بالمستوي وإضافته إلى النقيض أنّ للعكس معنى اصطلاحيا مشتركا بينهما ، بل بعد تخصيص العكس اللغوي بالصفة والإضافة استعمل كل من القيدين في معنى اصطلاحي ، وليس لفظ العكس مشتركا لفظيا بينهما ، إذ لا دليل على وضعه للمعنيين انتهى.

فائدة :

للقوم في بيان انعكاس القضايا طرق ثلاث : الأول الخلف ، والثاني الافتراض ، والثالث وهو أن يعكس نقيض الأصل أو جزئه ليحصل ما ينافي الأصل. هذا كله خلاصة ما في تكملة الحاشية الجلالية وما في حاشية القطبي للمولوي عبد الحكيم.

العلاقة : [في الانكليزية] Relation ، relationship ، link ـ [في الفرنسية] Relation ، rapport ، lien

بالفتح رابطة بازبستن معنى بمعنى ـ ربط معنى بمعنى آخر ـ وبالكسر رابطة بازبستن جسم بجسم ـ ربط جسم بجسم آخر ـ كما في كنز اللغات ، فهي بالفتح تستعمل في المعاني وبالكسر في الأمور المحسوسة كما قيل في بعض رسائل الاستعارة. قال المولوي عبد الحكيم في حاشية شرح الشمسية : العلاقة بالفتح في اصطلاح المنطقيين شيء بسببه يستصحب شيء شيئا ، استصحبه دعاه إلى الصحبة كما في القاموس. فالمعنى أنّ العلاقة شيء بسببه يطلب الشيء الأول أن يكون الشيء الثاني مصاحبا له وهي قد تكون موجبة ومقتضية لذلك الاستصحاب كما في القضايا الشرطية المتّصلة اللزومية وقد لا تكون كما في الشرطيات المتّصلة الاتفاقية ، فالعلاقة بين اللزوميات هي ما يقتضي الاتصال بين طرفيها في نفس الأمر كالعلّية والتضايف ، فالتضايف كقولنا إن كان زيد أبا عمرو كان عمرو ابنه.

وأمّا العلّية فبأن يكون المقدّم علّة موجبة للتّالي ، سواء كانت علّة ناقصة أو تامة كقولنا إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود ، أو معلولا له فإنّ وجود المعلول يستلزم وجود العلّة كقولنا إن كان النهار موجودا فالشمس طالعة ، أو يكونا معلولي علّة واحدة لا كيف ما اتفق وإلاّ لكانت الموجودات بأسرها متلازمة لكونها معلولة للواجب تعالى ، بل لا بد مع ذلك من اقتضاء تلك العلة ارتباط أحدهما بالآخر بحيث يمتنع الانفكاك بينهما لئلاّ يكون مجرّد مصاحبة كما في معلولي العقل الأول ، أي الفلك الأول والعقل الثاني ، فإنّه لا تلازم ولا ارتباط بينهما ، بل مجرّد مصاحبة. والسّرّ فيه أنّه موجب لكل واحد بجهة غير ما هو جهة إيجاب الآخر ، فلا يمتنع الانفكاك بينهما ، بخلاف قولنا إن كان النهار موجودا فالعالم مضيء فإنّ وجود النهار وإضاءة العالم معلولان لطلوع الشمس ، وطلوع الشمس مقتض لعدم الانفكاك بينهما ، والعلاقة بين الاتفاقيات ما به مجرّد المصاحبة ، والتوافق بين الطرفين من غير اقتضائه إياها أي تلك المصاحبة. والعلاقة بين الشرطيات المنفصلة العنادية هي ما يقتضي العناد بين طرفيها ، وفي المنفصلات الاتفاقية هي ما لا يقتضي العناد والتنافي بل مجرّد أن يتفق في الواقع أن يكون

١٥٩

بين طرفيها منافاة ، انتهى ما قال المولوي عبد الحكيم. وعلاقة المجاز عندهم وعند الأصوليين.

وأهل العربية هي اتصال ما للمعنى المستعمل فيه بالمعنى الموضوع له ، أي تعلّق ما للمعنى المجازي بالحقيقي أعمّ من أن يكون اتصالا في المجاورة أو في غيرها. والعمدة في حصر أنواعها الاستقراء ، ويرتقي ما ذكره القوم إلى خمسة وعشرين ، وضبطه ابن الحاجب في خمسة. الأولى الاشتراك في الشّكل كالإنسان للصورة المنقوشة على الجدار. الثانية الاشتراك في الوصف ويجب أن يكون الصفة ظاهرة لينتقل الذهن إليها ، فيفهم الآخر باعتبار ثبوتها له ، كإطلاق الأسد على الشجاع بخلاف إطلاق الأسد على الأبخر. والثالثة أنّه كائن عليه مثل العبد للمعتق لأنّه كان عبدا. والرابعة أنّه آئل إليه كالخمر للعصير لأنّه في المآل يصير خمرا.

والخامسة المجاورة مثل جري الميزاب والمراد بالمجاورة ما يعمّ كون أحدهما في الآخر بالجزئية أو الحلول وكونهما في محلّ وكونهما متلازمين في الوجود أو العقل أو الخيال أو غير ذلك. وصاحب التوضيح ضبطه في تسعة : الكون والأول والاستعداد والمقابلة والجزئية والحلول والسّببية والشرطية والوصفية ، لأنّ المعنى الحقيقي إمّا أن يكون حاصلا بالفعل للمعنى المجازي في بعض الأزمان خاصّة أو لا ، فعلى الأول إن تقدّم ذلك الزمان على زمان تعلّق الحكم بالمعنى المجازي فهو الكون عليه ، وإن تأخّر فهو الأول إليه إذ لو كان حاصلا في ذلك الزمان أو في جميع الأزمنة لم يكن مجازا بل حقيقة ، وعلى الثاني إن كان حاصلا بالقوة فهو الاستعداد ، وإلاّ فإن لم يكن بينهما لزوم واتصال في العقل بوجههما فلا علاقة ، وإن كان فإمّا أن يكون لزوما في مجرّد الذهن وهو المقابلة أو منضمّا إلى الخارج ، وحينئذ إن كان أحدهما جزءا للآخر فهو الجزئية والكلّية ، وإلاّ فإن كان اللازم صفة للملزوم فهو الوصفية له أعني المشابهة ، وإلاّ فاللزوم إمّا بأن يكون أحدهما حاصلا في الآخر وهو الحالية والمحلّية أو سببا له وهو السّببية والمسبّبية ، أو شرطا له وهو الشرطية ، كذا في التلويح.

العلامة : [في الانكليزية] Mark ، signe ـ [في الفرنسية] marque ، signe ، indice

بالفتح عند الأصوليين ما تعلّق بالشيء من غير تأثير فيه ولا توقّف له عليه إلاّ من جهة أنّه يدلّ على وجود ذلك الشيء ، فتباين الشرط والعلّة والسّبب. والمشهور أنّها ما يكون علما على الوجود من غير أن يتعلّق به وجوب ولا وجود كتكبيرات الصلاة فإنّها تدلّ على الانتقال من ركن إلى ركن ، كذا في التلويح في باب الحكم.

العلّة : [في الانكليزية] cause ، sickne ـ [في الفرنسية] cause ، maladie

بالكسر وتشديد اللام لغة اسم لعارض يتغيّر به وصف المحلّ بحلوله لا عن اختيار ، ولهذا سمّي المرض علّة. وقيل هي مستعملة فيما يؤثّر في أمر سواء كان المؤثّر صفة أو ذاتا. وفي اصطلاح العلماء تطلق على معان منها ما يسمّى علّة حقيقية وشرعية ووصفا وعلّة اسما ومعنى وحكما ، وهي الخارجة عن الشيء المؤثّرة فيه. والمراد بتأثيرها في الشيء اعتبار الشارع إيّاها بحسب نوعها أو جنسها القريب في الشيء الآخر لا الإيجاد كما في العلل العقلية.

ولهذا قالوا : العلل الشّرعية كلّها معرّفات وأمارات لأنّها ليست في الحقيقة مؤثّرة بل المؤثّر هو الله تعالى. فبقولهم الخارجة خرج الركن. وبقولهم المؤثّرة خرج السّبب والشرط والعلامة إذ المتبادر بالتأثير ما هو الكامل منه وهو التأثير ابتداء بلا واسطة. ولهذا قيل العلّة في الشرع عبارة عما يضاف إليه وجوب الحكم ابتداء. فالمراد بالإضافة الإضافة من كلّ وجه ،

١٦٠