رحلة في الجزيرة العربية الوسطى

شارل هوبير

رحلة في الجزيرة العربية الوسطى

المؤلف:

شارل هوبير


المترجم: إليسار سعادة
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: كتب
الطبعة: ١
ISBN: 9953-417-48-2
الصفحات: ١٦٦

بئرا الزهيري اللتان تتساويان في عمقهما مع بئري الشقيق ، تغوصان في التربة نفسها ومن المرجح أن تاريخهما يعود إلى الحقبة نفسها ، غير أننا لا نعرف لهما سوى اسمهما الأخير وفي حد علمي لم يجر قط ذكر اسم البئرين الأوليين.

السيد غوارماني الدقيق جدا في اصطلاحات الصحراء لم يرهما ، لذا فهو لم يذكر سوى بئر" شقيق" الذي يقول إن طلال بن رشيد قد دمره ليمنع غزوات الرولة. كل الرحالة الآخرين يقولون إن لهذه الآبار جدرانا. والحقيقة هي أن عبر طبقة الرمل التي تبلغ سماكتها ما بين ٧ و ٨ أمتار ، تتألف الجدران من حجارة مقصّبة وضعت دون ملاط. أما باقي البئر فقد حفر في الصخر بشكل بدائي. حافات الآبار بليت وباتت مصقولة بفعل الحبال التي ترفع السطول منذ قرون.

بالقرب من البئرين كانت بعض الأسمال مبعثرة على الأرض ، روى لي محارب بشأنها قصة محزنة تدعوا الى الرثاء. ففي الأيام الأخيرة من شهر نيسان الماضي ، غادر درويش جبه قاصدا الجوف سيرا على الأقدام وحيدا لا يحمل معه سوى قربة صغيرة فيها بضعة ليترات من الماء وقليلا من الطحين. ويبدو أنه وصل إلى بئري الشقيق ولكن لافتقاره الى الماء منذ يوم أو يومين ومن دون حبال ولا دلو لسحب الماء من البئر مات ميتة تدعو للشفقة. وقد رأى جثته بعض الفرسان الذين انطلقوا من حائل بعد عشرة أيام. هل فسدت المياه لطول ركودها بسبب عدم سحب الماء منها منذ فترة طويلة؟ أم ربما بسبب رمي جثة الدرويش في البئر سأل محارب؟ فالواقع هو أن مياه البئرين كانت تفوح منهما روائح نتنة لا تحتمل من حامض الهيدروجين المكبرت وحتى الجمال اشمأزت. ومع ذلك فقد اضطررنا إلى ملء القربة التي أفرغناها منذ مغادرتنا الجوف.

كانت حرارة الماء في الدلاء الأخيرة التي رفعت+ ١٠ ، ٢٣ درجة. إذا كان النفود مرادفا احيانا في الحديث في البلاد العربية لصحراء خالية من الماء ، فإن هذه الصحراء تبدأ فعليا من آبار الشقيق والزهيري وتنتهي في قرية جبه. غياب الماء هو نقيصة النفود الوحيدة. وهذه النقيصة الوحيدة تجعل اجتيازه مضنيا. ولو لا ذلك لتمتّع الناس والحيوانات فيه لوفرة العلف والخشب.

أعتقد أن بوركهاردت هو أول من لاحظ أنه باستثناء الصحراء الكبرى في الجنوب والربع الخالي والنفود ما بين آبار الشقيق وجبه ، لا يوجد في باقي الجزيرة العربية مسيرة أخرى بهذا الطول دون ماء. كان بإمكانه أن يضيف خط الجوف نحو العراق

٤١

وهو أكثر طولا إلى درجة يتعذر معها استخدامه. ولاجتيازه لا بد من القيام بانعطافة كبيرة عبر آبار الهازل ولوقه للوصول إلى آبار شبيكة على درب زبيدة (درب الحج العراقي).

ما إن تزوّدنا بالماء حتى استأنفنا مسيرتنا بسرعة. في اليوم التالي ، أي في ٣ حزيران ، لمحنا من مخيّمنا المسائي ومن قمة فلج كبير إحدى قمتي صخرتي العليّم الشهيرتين وفي ٤ حزيران في الحادية عشرة صباحا كنا نخيّم بجوارهما.

انقضى جزء من يوم ٣ حزيران ومن صبيحة ٤ حزيران في اجتياز منطقة النفود المسماة" الفلوح" (١) وهي الأكثر اضطرابا على طول الطريق من الجوف الى جبه والتي تشتمل على أكثر الأفلاج عمقا وأكثر أمواج الرمل إرتفاعا ومن ثمّ فهي أشد الأفلاج إرهاقا لدى اجتيازها. وهي في الوقت نفسه أصعبها بالنسبة إلى العرب ، إذ إن الانعطافات الكثيرة تجبرهم على الالتفاف حول الأفلاج واختيار أسهل الأماكن منالا لاجتياز القمم ، كثيرا ما تجعلهم يضيّعون الاتجاه وتطلقهم في مسارات خاطئة متسببة بهدر للوقت وبكثير من التعب دون جدوى.

يسبق الفلوح منطقة موجيان وهي أكبر من الفلوح وتستمد اسمها من تلة كبيرة جدا ترتسم بخط أبيض في الأفق من الشرق إلى الغرب خلال عدة ساعات وتحد الفلوح من الشمال.

في هذه المرة على الأقل لم يرتبك دليلي محارب. منذ انطلاقنا من الجوف كان قد سألني ما إذا كان لدي بوصلة وكلما انتابه شك حول الوجهة ، التفت إلي سائلا باقتضاب : " الدرب؟ " (الطريق) ، وبعد مراجعة جهازي كنت أجيبه بمزيد من الاقتضاب مشيرا إلى هدفنا على الطريقة العربية ، أي بشق الأفق بخط عمودي ويدي مفتوحة وذراعي ممدودة.

صخور عليّم السعد أو عليّم النفود والمسماة عادة عليم هي عبارة عن قمتين من الحجر الرملي (٢) تتباعدان بقرابة ٢٠٠ متر وتتجاوزان بحر الرمل ، الجنوبي بأربعين

__________________

(١) «الفلوح هي الجزء الأكثر وعورة من النفود والأصعب للاجتياز. إنها سلسلة من التلال الوعرة ومن الوديان العميقة حيث لا بد من القيام بالتفافات كثيرة في كل الاتجاهات والابتعاد في كثير من الأحيان عن الخط المستقيم واللحاق به فيما بعد بصعوبة كبيرة» (ص. ٢٠ غوارماني).

(٢) بلجريف يقول خطأ إنهما من الغرانيت.

٤٢

مترا تقريبا والشمالي بضعفها تقريبا. من بعيد وحتى مسافة قريبة نوعا ، تذكّر قمتاهما برؤوس الأهرام كما تبدو من القاهرة. أما منحدراتهما التي تشكل مع الأفق زاوية تبلغ ٤٥ درجة ، فصعبة التسلق لأنها مغطاة بأنقاض الصخور التي تعطيها عن قرب هيئة كومة من الحصى. وعلى مسافة ٤ كيلومترات شمال ـ شرق صخور العليّم ، تلة أخرى طولها كيلومتر واحد وتتجاوز بعض قممها الرمل بعشرة أمتار تقريبا.

رؤية هذه المنارة في بحر الرمل هذا ، يولد فرحا إذ بالإضافة إلى أنها تدل على أننا في الطريق الصحيح ، فهي تلفت المسافر القادم من الجنوب لحظة رؤيتها إلى أنه قطع ثلث طريقه.

هذه الطريق التي كانت بدءا من الجوف تتجه إلى الجنوب الشرقي ، ستتجه الآن انطلاقا من صخور العليّم إلى الجنوب وتميل بضع درجات إلى الغرب.

بعد توقف دام ساعة تابعنا طريقنا. كانت الطريق سهلة نسبيا طيلة باقي هذا اليوم ولكن النباتات شحت عن السابق. الغضا غاب كليا تقريبا وفي المقابل" الأرطي" النادرة شمال العليم أصبحت شائعة في الجنوب ولكن نباتات الجمل المفضلة أي النصي وحامض الرمث فلا تزال وافرة.

بدت لي السماء صافية عشية هذا اليوم ، فاتخذت موقعا لقياس ارتفاع نجمة القطب وقد منحني ذلك فرصة مراقبة ظاهرة غريبة. كنت لم أزل أضبط أفقي في الزجاج عند ما هب نسيم غربي ناعم. وعند ما أصبحت في وضع المراقبة تعذر علي الحصول على تماس أطراف النجمة التي لم تكن واضحة. من جهة جهاز المسح ولولب التوقف كانا لا يعملان إلا بصرير. فتوقفت حالا واكتشفت انه مهما كان النسيم ضعيفا فهو يحمل رملا في غاية النعومة يشوّش الصورة المعكوسة بتراكمه على الأفق وفي الوقت نفسه يملأ كل أجزاء جهاز المسح بالرمل.

في اليوم التالي (٥ حزيران) انطلقنا منذ الثانية فجرا للاستفادة من البرودة. ولكن بعد نصف ساعة اضطررنا إلى التوقف. كان الليل حالكا وقد اختفى كل أثر للدرب فجأة فعدلنا عن السير حتى بواسطة البوصلة. وانتظرنا بوادر الفجر الأولى ممددين على الرمل فيما كانت جمالنا التي لم نتركها تغيب عن نظرنا ، ترعى وهي محمّلة.

قرابة السادسة والنصف صباحا التففنا حول فلج كبير يحمل اسم عيون قفيعة لأن

٤٣

قعر الصخرتين يشبه عينان طويلتان ضخمتان. وبعد ربع ساعة فلج ثان بأحجام الفلج الأول نفسه ولكنه لا يحمل اسما. قعره هو أيضا من الصخر العاري. قرابة الثامنة مررنا في طريقنا بقرب كومة من الحطب أضاف إليها محارب بضعة أغصان وتدعى" سميحة". وأضاف دليلي أن قصة حب ترجع إلى ألف عام ترتبط بها. هذا النصب الخشبي الذي شيّد تخليدا للموت يخدم منذ ذلك الحين على أنه مرقب لاجتياز النفود.

قرابة الواحدة والنصف من بعد الظهر ، التففنا حول فلج كبير يحمل قعره بقعتين ضخمتين بيضاوين. إنه عمق سجيلي يطفو هنا ويبدي مظهر الأرض المحيطة بآبار الزهري والشقيق. هذا الفلج يدعى البيضا.

أسجل هنا للمستكشفين في المستقبل خصوصية لافتة للانتباه. فبين سميحة وفلج البيضا نمرّ على تلة رملية نستطيع من قمتها أن نرى في آن واحد قمة جبل جبة وقمة أعلى صخرة للعليم.

الطريق التي قطعناها اليوم تجتاز منطقة من أهدأ مناطق النفود. فلا وجود لذيول الرمل شرقي الشجيرات ، ولا الشجيرات محنية بفعل الريح في أي اتجاه. ولكن اللافت أكثر هو أننا رأينا طوال اليوم آثارا عديدة لأخفاف الجمال وأظلاف الغزلان وبقرات الواحات (١) التي لا تلبث الريح أن تمحوها. وقد أزالت هذه الآثار العديدة كل تردد بشأن الاتجاه الذي يجب أن نسلكه ، فما علينا إلا أن نتبعها.

اليوم السادس والأخير منذ مغادرتنا الجوف كانت إلى حد ما نظير اليوم الذي سبق وصولي إلى هذه المدينة. فمياه بئر الشقيق تسببت بجعلي مريضا بالرغم من أني غليتها مع الفحم وخففتها بالشاي. صرت أعاني التعب والقيظ وأود الخروج من النفود. تلك كانت أيضا حال رفاقي الذين أصبحوا فجأة شديدي التجهّم.

انطلقنا في السير في الواحدة بعد منتصف الليل ولما كان الليل حالكا طلب مني محارب قنديلي فأشعلته وراح يسير في الطليعة على قدميه. سارت الدرب الآن دون انقطاع وما كان علينا سوى أن نتبعها. النباتات أصبحت أكثر ندرة منها في الأمس وكذلك بقيت آثار الجمال عديدة. في الثانية عشرة والنصف ظهرا ، وصلنا فجأة أمام

__________________

(١) ,Alcelaphus bubalus ,le Bubale de Pline [التحرير].

٤٤

جبل جبه. وأبعد بقليل ، رأيت الى اليسار في منخفض أرض ، سهلا كبيرا ناصع البياض كأنه" سبخة". في هذا القعر قرية جبه التي لا نراها بعد إذ تخفيها كتل صخرية. نسير ساعة بعد وفجأة من قمة آخر تلة رمل نكتشف كل الوادي. في العمق يبدو شريط طويل من شجر النخيل محاطا بجدران ، تختبئ فيها القرية. عند ما نطل فجأة على هذا الحوض الشاسع بانعكاساته الفضية الكامدة التي يتمايز عليها اخضرار النخيل الجميل بعد ما توالى أمام أعيننا على امتداد أيام لون النفود الزهري الرتيب وعند ما تنير كل هذا شمس الظهيرة نظل مبهورين أمام لوحة تبدو خلابة.

قبل دخول جبه أسمح لنفسي بإبداء بعض الآراء حول النفود.

من الصعب جدا تحديد مسار الخط المتبع لاجتياز النفود لأننا نلف باستمرار تقريبا حول الأفلاج ، فلا شئ سوى تعرجات وصعود وهبوط. أما الطريق الفعلية أو الدرب المتبعة كتلك التي كثيرا ما تشكل الطرق في الصحراء ، فلا وجود لها إنما نتبع دائما اتجاها. ومع إقراره بأن هذا الاتجاه" يحمل الاسم غير الملائم ، الطريق" إلا أن السيد غوارماني يروي أن" الدرب من جيوف ـ عامر هي من صنع بني هلال" (١). وفي سبيل ذلك ردمت وديان وسطحت تلال وسويت أرض النفود الرملية المضطربة كبحر هائج قدر الإمكان.

راضي ، دليل السيد والسيدة بلانت روى لهما أنه تحت الرمل ، طريق معبدة بالحجارة أنشئت بحجارة جلبت من جبل شمّر. وكان بإمكان المسافرين أن يسألاه لمإذا أتت هذه الحجارة من جبل شمّر طالما أن حجارة جبل الجبة هي أقرب بمسافة يومين سيرا على الأرض ، ولكن من الواضح أن هذه المعلومات فيها خطأ.

لاجتياز النفود هناك درب واحدة هي بعرض قائمة الجمل ٢٥ إلى ٣٠ سنتمترا علما بأن هذا المسار يختفي في الأماكن التي تلعب فيها الريح. لدى اجتيازنا الفلوح ، رأيت آثار جمال ممحية فورا مع ريح ضعيفة نسبيا. فالرمل كان قد عاد منسابا كبحيرة ماء على مسافة مترين وراءنا.

أفضل دليل والدليل الوحيد في هذا العبور المضني هو بعر الجمل. فالجمل ينتزع

__________________

(١)Itine ? raire de Je ? rusalem au Neged Septentrional, par M. Guarmani, Bulletin de la Socie ? te ? de Ge ? o ـ

ص. ٥٠٤ ، ١٨٥٦graphie ,Novembre

٤٥

وهو يمشي لقمة من كل النباتات الموجودة على طريقه. فهو يمضغ ويجتر ويهضم باستمرار دون ان يتوقف. وبعره هو الذي خطط الطريق عبر النفود. وشكل البعر وحجمه هو شكل وحجم تمرة أو زيتونة كبيرة. إنه أسطواني ، مخروطي ، متماسك جدا ، يجف بسرعة ويصبح قاسيا جدا ويظل تحت سماء الجزيرة العربية الرؤوفة سنوات عديدة.

في مناطق النفود الوعرة والمعرّضة للرياح يغطيها الرمل بسهولة ، وهذا مفهوم ، ولكن النسيم التالي يعود فيكشفها بالسهولة نفسها.

تحمل وجهة عبور النفود هذه اسم خط أبو زايد وأيضا اسم ضيعة عيّاش ، ويستعمل الأول في شمال النفود والثاني في الجنوب.

قضى والين ستين ساعة لاجتياز المسافة بين الجوف وجبة. والسيد غوارماني قطعها بتسع وأربعين ساعة ونصف الساعة. وحسبت السيد بلجريف أنه قد صرف على الأقل خمسا وثمانين ساعة. أما أنا فقد اجتزت المسافة في ست وسبعين ساعة. من هنا ترى مدى صعوبة وضع خطوط سير أو خريطة منطقة عند ما لا يشير المسافر إلى السرعة التي سار فيها.

فيما يخصني ، على الرغم من جودة مطيتي ، كانت لدي أسباب لعدم الاستعجال اذ كنت ارغب في رؤية النفود على راحتي ومراقبته ، لذلك فقد سرت تقريبا باستمرار على الأقدام بمعدل ٤ كيلومترات تقريبا في الساعة. ولكن أن يكون السيد بلجريف الذي عانى كثيرا في هذه الصحراء وكان مستعجلا للخروج منها قد قضى خمسا وثمانين ساعة فلا بد أن يكون مرد ذلك الى ركوب جمال من نوعية متدنية جدا. وما يفسر سرعة والين هو أنه لم يكن لديه أي متاع وكان يتنقل على ظهر ذلول شراري أي على جمل من أفضل الأنواع في الجزيرة العربية الشمالية. بالنسبة الى السيد غوارماني ، نعرف أنه اجتاز النفوذ مستعجلا على ظهر حصان. وفي المحصلة مع ذلول جيد بالإمكان دون إرهاق المطيّة إنجاز هذا العبور في ثلاثة أيام بسهولة.

جبّة

ما إن هبطنا منحدر آخر تلة من النفود حتى وجدنا أنفسنا في سهل جبة التي لا تبتعد أكثر من ٥٠٠ متر والتي يبدو مظهرها الجديد متعة للعين. بعض

٤٦

غرسات إثل Ithel هرمة خارج الجدران تنعش المنظر.

على غرار الجوف فإن جبة مبنية من الآجرّ المطبوخ في الشمس. غير أن جدران بعض المنازل مصنوعة من الحصى. الانطباع الأول في منتهى الإيجابية. جدران الأسوار والأبراج التي تتخللها محفوظة جيدا ومظهرها سار. أما الداخل فلا يتجاوب مع الخارج كما هو الحال في كل مكان تقريبا في الشرق.

الحوض الذي تقع فيه جبة له شكل طوبوغرافي خاص. فهو حوض يبلغ طوله ما بين ٨ و ٩ كيلومترات من الشرق إلى الغرب وعرضه ٥ كيلومترات من الشمال الى الجنوب. أما قعره البالغ عمقه ٨٣٥ مترا فيقع على مستوى أدنى من مستوى النفود ب ٦٠ مترا تقريبا.

لقد تمت مطابقة جبة بأينا بطليموس (١) مما يثبت عراقة قدمها. وعلى أي حال فإن الاسمين ذوا دلالة واحدة ومعناهما البئر أو النبع. وقد احتفظ السكان بذكرى نبع غزير كان يتدفق من جبل جبه.

السكان البالغ عددهم حوالي ٨٠٠ نسمة يتحدرون من قبيلة شمّر الرمال. وهي سلالة صغيرة قليلة التطور. وهم غير محبوبين على الإطلاق في الجبل بسبب عدم انفتاحهم واختلاطهم وبخلهم على الضيف. وتروي الليدي آن بلانت أنها شكت من معاملتهم.

لا وجود لأي زراعة بأستثناء النخيل التي يستخدمون من أجلها قرابة أربعين بئرا تقع مياهها على عمق ١٢ أو ١٥ مترا تقريبا ، ولا يتبدل مستواها ابدا كما أكدوا لي. الدوالي ، وهي عديمة الطعم ، ولكنني أفضلها على ماء الجوف. بعض الآبار يعطي مياها مالحة غير قابلة للشرب. الحرارة التي قيست في بعض الآبار التي كانت تسحب منها المياه منذ عدة ساعات كانت في كل مرة تسجل+ ٩ ، ٢٢ درجة.

التمور صغيرة ورديئة ، ويعزو السكان ذلك إلى المياه المالحة ، ولكنني أعتقد أنهم هم وحدهم سبب ذلك لأن أشجار النخيل مهملة. الكميات القليلة من الأرز والقمح التي يحتاجون إليها يستقدمونها من حائل. وموقعهم في وسط النفود يسمح لهم لحسن الحظ بتربية بعض قطعان الإبل بسهولة.

__________________

(١) ـ A. Sprenger, Die Alte Geographie Arabiens. Aus Grundlage der Entwicklungs geschichte der Semi

ص. ١٧١. ١٨٧٥tismus.Nachdruck D.Ausgabe ,Bern ,

٤٧

على مسافة ٣ كيلومترات غربي القرية ، تنتصب بعض قمم الصلصال الرملي وأعلاها هي أم السلمان (١). وقد تسلقتها غداة وصولي إلى جبه ، بالرغم من تحذيرات السكان الذين قالوا لي إنه لا يوجد طريق اليها ، وقد تأكد لي صحة ذلك. إلى مستوى ثلثي الارتفاع لا يواجه الصعود أي صعوبة. ولكن من بعد ذلك يصبح المنحدر وعرا جدا تغطيه شظايا من الحجر الرملي تبدو وكأنها متفحمة وتشبه في شكلها القرميد المكسّر. ويبدو وكأن الجبل كان مغطى بقشرة بسماكة ٣ الى ٤ سنتيمترات تمّ تكسيرها في مكانها. هذه الشظايا هي في حالة انعدام توازن بسبب قوة انحدار القمة لدرجة أن أدنى ملامسة لها تجعلها تسقط جارفة معها كتلة ضخمة من الحجارة. وبديهي في هذه الحالة أن القدمين لا تكفيان وحدهما لبلوغ القمة وهما أقل كفاية للنزول.

عند بلوغي القمة بعد شروق الشمس بقليل ، تسنى لي التمتع بمشهد رائع ومؤثر.

ان قمة أم السلمان بمنحدرها الوعر جدا من الجهة الشرقية ، تنزل عموديا من الجهة الغربية. وعلى امتداد مترين ، لا يتعدى عرض القمة مترا واحدا بحيث لا يتسع إلا لجلوس شخصين. كانت ريح الظهر تعصف قوية ولا تسمح بالوقوف ، فجلست مستندا الى الصخر.

لحسن الحظ لقيت مكافأة على تعبي وآلامي (إذ تجرحت يداي وبالأخص قدماي) برؤية مشهد رائع وبالأخص في رأس أعلى صخرتي العليّم وهو الدافع الرئيس لصعودي. فإن ارتفاع هذه القمة يسمح لي بالتأكد من مسار طريقي. كما استطعت أن أرى جبلا طويلا قرب الجوف وجبل شمّر في الجنوب وجبل عوثة على مسافة عشرة كيلومترات شرقي جبة.

تبدو لي أم السلمان فوهة بركان لم يتبق منها سوى جدارها الشرقي. هذا الافتراض يفسر وعورة المنحدر الخارجي للقمة من الجهة الشرقية وعموديّة الجدار الغربي. مغادرتي المفاجئة لجبه لم تسمح لي بالتوغل أكثر من أبحاثي بهذا الصدد لكنني ألفت نظر المستكشفين المقبلين كما أوصي بتسلق القمة لهواة الانفعالات.

وقد سجل جهازي لقمة رأس سلمان ، ارتفاعا بلغ ٣٧٠ مترا فوق مستوى أرض جبة.

__________________

(١) والين يسميها مسلمان ، غوارماني أمّ سنمان ، ام السلمان ، كما وأن جبل جبة يشير الى مجمل الجبل الذي تبلغ مساحته ما بين ٣ و ٤ كيلومترات مربعة. وأعلى قمة فيه لا تزال تدعى رأس سلمان.

٤٨

واستكمالا لما عرفته عن جبل جبة (١) ، لا بد من الإضافة ، وفق ما أورده السكان ، لأنني لم أعثر على أثر لذلك لدى المؤلفين العرب ، أن اسمه كان قديما القطيفة. وإلى ذلك فإن مظهره الموحش ومنحدراته المكسوة بالردم أكسبته سمعة سيئة ساهم فيها الى حد بعيد الجن الذين كان لديهم قصر وكنوز مخفية على قمة هذا الجبل في غابر الزمان. لذا يجب عدم الإلحاح على السكان للحصول على دليل أو رفيق تسلّق. يكفي أنهم يسمحون لك بالقيام بذلك وأن يستقبلوك لدى عودتك بينهم إذ لا بد أن تكون رائحة كبريت تفوح منك.

لدى عودتي الى مضافة شيخ عقيل الذي كنت ضيفا عنده ، وجدت بدويا يروي أن الأمير محمد بن رشيد قد غادر عاصمته حائل منذ بضعة أيام وأنه موجود حاليا في أم القلبان وهي قرية في النفود تقع على مسافة يوم شرق ـ جنوب ـ شرقي جبه التي جاء منها البدوي. فسألته ما إذا كان الأمير سيبقى بعض الوقت في هذا المكان ويعود بعد ذلك الى حائل أو إنه سينطلق في رحلة في الصحراء ولكنه لم يستطع إجابتي.

إلى أم القلبان

كنت أعلق أهمية بالغة على لقاء أمير شمّر. ولم اكن واثقا من الاستقبال الذي سألقاه من الأمير وإن كنت لا أشاطر دليلي المخاوف التي بدأ يكشفها تدريجيا بهذا الخصوص كلما اقتربنا من الجبل ، لكنني كنت أفضل أن يستقبلني الأمير بنفسه. دون أن يعكر ذلك تصرف شخص من اتباعه يسيء الي ولا يريد الأمير منعه.

لاحقا ، وبعد ما تعرفت بصورة أفضل إلى الرجال وشتى الأمور ، تأكد لي أنني حزرت. ومنذ عودتي إلى أوروبا ، جاءت معرفتي بالمحن التي تعرض لها

__________________

(١) ليدي آن بلانت تفترض هنا وجود بحر قديما. ولكن من دون نفي هذا الاحتمال قطعيا ، فإنني ألفت الى أن تأكل الصخور الواقعة غرب جبة والذي قد يوحي بهذه الفكرة يمكن أن نعزوه الى سبب آخر. فقد لاحظت مرارا خلال أسفاري خطوطا أفقية عميقة على مجموعات صخرية توحي فورا وبالأخص من بعيد بأنها ناجمة عن ملامسة المياه بالرغم من استحالة القبول بهذا السبب. لذا ، لا بد في الغالب من ان ننسب هذه الخطوط الى تفتت طبقة متوسطة تتفتت تحت تأثير كل العوامل الجوية. وإنني أعطي هنا دورا ثانويا للغاية لفعل الريح الذي أعتقد أنه ضخم في كثير من الأحيان.

٤٩

السيد شارل دوتي في ظرف مماثل لترسخ قناعتي (١).

قررت المغادرة فورا الى أم القلبان. وبعد ما ضمدت كل جروحي التي أصابتني خلال تسلقي ونزولي لرأس سلمان امتطيت الرحل مجددا وغادرت جبة بعد الثالثة مساء. وبعد ساعتين كنا نخيم قرب صخور عوثة لصنع الخبز. ولم تمض ساعة حتى انطلقنا للاستفادة من برودة المساء وسرنا لمدة ساعتين إضافيتين. وإذ بدا النفود صعبا من جديد أقمنا مخيما لقضاء الليل. ابتداء من جبة وحتى صخور عوثة تخلو الأرض من الرمل ولكنها محرومة أيضا من كل النباتات. إن مظهرها الأبيض يجعل اجتيازها صعبا جدا خلال النهار إذ إن انعكاس النور يرهق العيون.

في اليوم التالي ٨ حزيران ، انطلقنا في الثالثة فجرا. وعلى الرغم من تضاؤل عدد الأفلاج المنتظمة فإن النفود لم يكن سهلا البتة فأودية كثيرة تتخلله ، وكثيرا ما يبرز الصخر العاري.

لم نتوقف إلا ساعة واحدة في الصباح لتناول الفطور ثم تابعنا سيرنا نحث الجمال باستمرار للوصول قبل هبوط الليل. كلما تقدمنا ، كنت أرى محاربا يزداد قلقا من الاستقبال الذي ينتظرنا هناك. فإذا كان استقبالي سيئا ربما تأثر مثلي من غضب الأمير. ومن جهة أخرى فإن محاربا يصلّي بانتظام ، إذ هو مؤمن حقا ومن ثم ليست قيادة شخص غير مؤمن إلى الأمير مسألة سهلة بالنسبة إليه. وقد سألني مرتين أو ثلاث مرات خلال اليوم الأخير بشيء من القلق ما إذا كنت متأكدا وجازما أنني سألقى استقبالا جيدا. فطمأنته وتمكنت من إقناعه تقريبا.

منذ ما قبل الظهر بدأنا نصادف بدوا ، إمّا فرادى أو مع قطعان إبل أو ماعز أو خراف. وعلمنا من هؤلاء الرعاة أنّ الأمير في أم القلبان لتفقد جزء من قطعانه وأنه باق فيها لبضعة أيام.

قبل وصولنا إلى مقصدنا بساعتين قال لي محارب إنه يستحسن أن يسبقني ليعلن

__________________

(١) دوتي وصل الى حائل خلال غياب الأمير واستقبله عنبر ، أحد عبيده الذي عينه واليا حتى يعود. وقد أصدر عنبر ، بالاعتداد الذي يميزه والذي تبين لي فيما بعد ، أمرا الى السيد دوتي بمغادرة أراضي شمر فورا وهدد الرجلين من هتيم اللذين أتيا به بالموت إذا لم يعودا أدراجهما معه من حيث أتوا مع العلم أن السيد دوتي كان مزودا برسالة توصية للأمير من والي المدينة.

) Wanderungen zwrischen Teima, Hail, Khaibar und Bereida, von Charles Mac Doughty Globus, ٢٨٨١,

(ص. ٢٥٠

٥٠

وصولي إلى الأمير. ولكي يزيد من تشريفي ومن أجل السرعة طلب مني استخدام ذلولي. كنت امتطي كما في كل رحلاتي جملا رائعا يسري في شرايينه دم شراري. كانت ناقة في السابعة من العمر تثير إعجاب البدو بشكلها الأنيق. فتبادلنا المطايا ورحل مسرعا ، سعيدا بمطيته الرائعة.

كلما تقدمنا ازداد عدد القطعان وأصبحت الحركة أكثر نشاطا. كانت رؤية النفود فجأة عارما بالحركة ، مشهدا جديدا علينا بعد ما أمضينا أياما في الصحراء المطلقة. وقد حافظت الصحراء على مظهرها الذي بدت فيه منذ مغادرتنا جبه أي إن الأفلاج كانت نادرة وكأن تلالا استبدلت بها كان جزء منها موازيا لطريقنا لحسن الحظ. فبدلا من أن نضطر إلى اجتيازها ما كان علينا إلا أن نسير بمحاذاتها.

قبل وصولنا بدقائق ، رأيت محاربا يطل علينا من جديد منفرج الأسارير معلنا أنه قابل الأمير الذي بدا مسرورا وأراد أن يستقبلني على الفور. ما عاد دليلي يتوقف عن الثرثرة ارتياحا وفرحا ويصيح في كل لحظة" الحمد لله" ، وهذا ما ردّدته كل مرة بورع.

كنا نهبط عندئذ فلجا ضخما ، أحد أكبر الأفلاج التي شاهدتها في النفود حيث تقوم في قعره أم القلبان بنخيلها الأخضر المتمايز بشكل لطيف جدا عن الرمل الأحمر. كانت تسودها حركة هائلة. صفوف لا متناهية من الإبل تطلق كلها خوارها كما تفعل عادة لدى عودتها من المراعي في المساء ، تروح وتجيء. وصوت السواني يشنف الآذان.

انبسطت أمامنا ملكية واسعة سرنا بمحاذاتها حتى وسطها ورأينا آنذاك بابا كبيرا بمصراع واحد مواجها الشمال. وبدا في المحيط بعض الرجال بقمصان ناصعة البياض. فمنذ غادرت سورية لم أعد معتادا على هذه النظافة الفخمة. كان هؤلاء الرجال بكوفياتهم الحمراء الصارخة ، مزودين بعصي طويلة من أغصان النخيل يبلغ طولها حوالي ٦٠ ، ١ متر طردوا بها البدو الجالسين بالقرب من الباب بقساوة شديدة.

اخذ أحد هؤلاء الرجال ناقتي من اللجام وسار بها عبر ممر طويل إلى باحة كبيرة ثم فتح بابا آخر يفضي إلى فناء حيث ترجلت. كان بانتظاري هنا رجل يعتمر كوفية من الحرير الأصفر وعقالا مقصب بالذهب وعلى كتفيه عباءة سوداء مطرزة بالذهب

٥١

حول العنق ، يحمل بيده سيفا بمقبض وزينة من الفضة الخالصة ، وبادرني ب" السلام عليك" فرددت بتودد" وعليك السلام" فأبلغني تحية الأمير وأنه مكلف بمرافقتي إليه.

أخذني بيميني ليثبت لي أنني في أمان وجعلني أعبر بابا صغيرا فوجدنا أنفسنا أمام حوض يغذيه ماء جار. وأبعد منه يمتد بستان جميل ، مزروع بشكل شبه حصري بالرمان يسود فيه ظل وبرودة لذيذان.

درنا حول الحوض ووجدت نفسي في حضرة أربعين رجلا مصفوفين بشكل دائري يجلسون جميعا القرفصاء على الأرض. ويمتد السجاد أمام منزل صغير. هنا كان يجلس الأمير وحيدا وظهره مسند إلى سرجه لدى وصولي ، وقف اثنان من المساعدين ليسمحا لي بدخول الدائرة. حييت الأمير فنهض عندئذ وأضاف في رده على تحيتي : " مرحبا" ثم أعطاني يده على الطريقة العربية أي دون أن يشدها ثم قبّل السبابة وجعلني أجلس إلى جانبه.

وسألني بكثير من الاهتمام ما إذا كانت رحلتي موفقة ولم ألق مشقة أو تعبا ثم استفسر عن هدف رحلتي وتطرق إلى هذا الموضوع مرارا ليس في هذا المساء فحسب بل لاحقا أيضا. فهو لا يعتقد أبدا أن العلم وحده يدفع أيا كان للسفر في صحاري الجزيرة العربية حيث لا يرى هو فيها أي شيء علمي على الإطلاق. ثم طلب مني أخبارا سياسية وبالأخص ما قيل في دمشق وحوران بشأن الغزو الذي قام به قبل شهرين في وادي سرحان متوغلا إلى ما هو أبعد من القصر الأزرق إلى ما يقل عن مسافة يوم من جبل الدروز وقد شعر مدحت باشا ، والي دمشق في ذلك الحين ، بقلق عميق من جراء ذلك. وحدثني أيضا عن السيد والسيدة بلانت اللذين امضيا ثمانية عشر شهرا في حائل. وقد احتفظ بذكرى طيبة عنهما ولكنه ابدى تعجبا شديدا لرؤية السيد بلانت لا يقبل أبدا فنجان القهوة إلا بعد زوجته ويجعلها دائما تمر قبله ، وتجلس دائما في المرتبة الثانية إلخ ... وسألني ما إذا كانت الأمور تجري على هذا النحو عند جميع النصارى. ولكن أكثر ما أدهش الأمير وجميع العرب كذلك هو رؤية ليدي آن بلانت تمتطي حصانا وعلى اكمل وجه.

بلغ الأمير محمد بن رشيد من العمر ستا وأربعين سنة طوله ٦٥ ، ١ م. وجهه ينضح بالعزم ومعبّر. نظره ثاقب وكثير الحركة وهو يتنقل باستمرار من شخص إلى آخر

٥٢

مما يجعله يبدو دائم القلق. في المقابل ابتسامته سخية وعذبة جدا ولحيته الخفيفة الشعر والسوداء تشهد على أنه بدوي. وهو محدث ويحب الدعابة.

رأيته شديد الاهتمام باستمرار بضيفه ، بأن يكون مرتاحا في جلوسه ويأخذ راحته تماما. وقد أوصاني دائما بألا أقلد مواطنيه بل أن أتبع تقاليدنا نحن مؤكدا لي أن ذلك يسعده.

وسرعان ما كسبت وده وقبل وصولي إلى حائل كنت متاكدا من أنه لن يضع أي مانع لإنجاز مهمتي. أما فيما يتعلق بعزمي على الذهاب إلى القصيم وأبعد منه ، فقد حثني منذ اليوم الأول على عدم تحقيق ذلك فتلك البلاد سيئة من كل الأوجه كما قال. وأضاف : " ستبقى معنا" ولكي أتكيف فورا مع المحيط الجيد الذي سيصبح محيطي بعد الآن ، شرع يعطيني أسماء ضباطه الرئيسين الماثلين أمامنا في الدائرة. إنما هاكم سمة تصور المسلم ، وهي من وراء المظاهر الأكثر توددا ولطافة تسمح ببروز الوهابي.

منذ اللحظات الأولى من محادثتنا ، بعد تبادل اللياقات ، وما إن عرف نيتي بالإقامة في بلد عربي ، حتى شعر بوخز ضمير إزاء البقاء طويلا على اتصال مع شخص غير مؤمن ، لكن فكره المتنور من نواح أخرى دفعه إلى كتم هذا الوخز. ولكي يريح ضميره سألني بغتة ما إذا كنت أعرف شهادة الدين الإسلامي فأجبت بالإيجاب فقال" ردّدها" فتلوت في الحال بمنتهى الجدية : " لا إله إلا الله محمد رسول الله".

الدقة تقضي بأن اذكر كلمة" أشهد" قبل الجملة المقدسة ، إلا أنه شاء التغاضي عن هذه الثغرة. ولم أكد ألفظ الشهادة العزيزة على المؤمنين والتي استقبلها كل الجمع بهمس مؤيد ، حتى صاح الأمير فرحا : " والله انت مسلم عندي". منذ تلك اللحظة التي لم يعد يخالجه فيها أي تأنيب ضمير ، تحرر من كل قيد وعاملني كأخ في الدين ، أي كندّ له.

وفي ختام دراسة العادات الموجزة ، أضيف أنه طوال إقامتي في الجبل وباستثناء مرة أو مرتين أصابتني بسبب حسد أشخاص آخرين ، فقد تمتعت بحظوة الأمير وابن عمه حمود وكل عائلتهما الثابتة. فكنت أدخل بحرية تامة إلى كل مكان والجميع كانوا ينادونني بالأخ والصديق. وفي نهاية إقامتي ، قال لي الأمير مرارا إنني اصبحت الآن واحدا منهم وإنني شمّري.

٥٣

أوفر حظا من بالغرايف وليدي آن بلانت. لم أختبئ قطّ لتدوين ملاحظاتي وكتابة مذكراتي. وفي كثير من الأحيان عند ما كنت أرغب في الحصول على الكتابة الصحيحة للأسماء الجغرافية ، كان الأمير يكتبها لي بنفسه. الرسائل العديدة التي تسلّمتها من الأمير ومن أصدقائي في الجبل منذ مغادرتي الجزيرة العربية تثبت لي أنني تركت ذكرى طيبة فعلا. وأنا مدين للأمير بكل ما أنجزته في مهمتي وسأحفظ له امتناني دوما.

لقد بذل جهده باستمرار لثنيي عن القيام برحلاتي في القصيم وفي الحجاز لأن الخطر فيهما كان ، كما تبين لي لاحقا ، حقيقيا. ولكن عند ما أعطاني موافقته ، بذل كل ما في وسعه لضمان نجاحي. فعلى الرغم من غرابة الأمر وخطره على هيبته كأمير مسلم ووهابي كان دوما يعطيني رسائل توصية عند ما كان يرى ذلك ضروريا.

بعد وصولي بأربعة أيام ، غادر الأمير وحاشيته أم القلبان للعودة إلى حائل.

في فجر ١٢ حزيران كان الجميع ممتطين الرحال فسرنا ثلاث ساعات خببا باتجاه الجنوب الشرقي. في ختام هذا الوقت وصلنا إلى أحد حصون جبل شمر المسمى الاصور. وكانت مطابخ الأمير التي سبقتنا بوقت طويل ، قد أعدت الفطور. تلت الوجبة قيلولة طويلة وبعدها وضعت علامة تسديد من ورق على صخرة مجاورة ومارسنا الرماية لمدة ساعة. واكتشفت بهذه المناسبة أن الأمير كان في عداد رماة الجبل الماهرين.

الاصور هو مورد حيث تحبس مياه المطر على ارتفاع معين في الجبل في شق غرانيتي ، بقي فيه ماء إلى ما بعد رحيلنا.

على مسافة ساعة سير من أم القلبان ، توقف النفود فجأة كما بدأ. والحد الفاصل حاد إلى درجة يمكن معها وضع قدم في النفود والأخرى على الغرانيت الذي يليه. عند الثالثة من بعد الظهر ، امتطينا الجمال وغادرنا الاصور. وخببا وصلنا بعد ساعتين إلى اللقيثة (١) وهي قرية جميلة يملك فيها الأمير ملكية رائعة من النخيل وأشجار الفاكهة. فقضينا الليل فيها.

__________________

(١) والين يسميها لقيطة ، غوارماني ليشيته ، السيدة بلانت الاميتت.

٥٤

فور وصولنا ، قدم لنا شيء من اللبن والفاكهة : بطيخ وشمام لذيذان وعنب لم ينضج بعد.

حائل

في اليوم التالي انطلقنا في الرابعة والنصف صباحا ووصلنا بعد ساعتين إلى حائل (١) عاصمة شمّر.

عند ما نصل من الشمال ، تكون حائل مخفية ، بفعل ارتفاع بزلتي يبلغ ١٠٠ متر بالحد الأقصى ويمتد من جبل أجا إلى جبل سلمى شرقي حائل. نجتاز هذه السلسلة الصغيرة عبر ممر يعلو ٢٠ مترا تقريبا عن الأرض. وعند ما نصل إلى ذروة الممر ، يتراءى لنا فجأة منظر حائل الفرح. إلى اليسار وعلى مسافة قريبة جدا تهيمن كتلة سمرا السوداء على المدينة كليا. وإلى اليمين وعلى بعد بضعة كيلومترات ، ينطلق خط أجا جنوبا على مد النظر. شمالا وغربا تتناثر خمسون خيمة تقريبا لكل قبائل شمر. يأتي هؤلاء الزوار لبضعة أيام لتصريف منتوجاتهم وشراء بعض الحاجات ثم يعودون الى الصحراء. إنهم ينعشون الجزء الخارجي للمدينة بطريقة جذابة جدا.

لرغبتي في تقديم لمحة عن الطريق من سورية حتى جبل شمّر ، أسهبت حتى الآن في التفاصيل. أما اليوم فإنني لن أعطي سوى ملاحظة جغرافية عن المناطق التي قطعتها ، لذلك سأرجئ إلى وقت لاحق فصل العادات والتاريخ والمعطيات الإحصائية. حاليا أقدم وصفا سريعا لمختلف خطوط سيري. ومن ثم أقدم لائحة البلدات التي تؤلف حاليا إمارتي شمر والقصيم اللتين عبرتهما.

لقد جعلت حائل مركز عملياتي لأتمكن من تنفيذ سفرات طويلة جدا بسهولة اكبر. وقد سمح لي ذلك بجعل متاعي خفيفا جدا فلا احمل إلى جانب أسلحتي ومعدّاتي العلمية ، سوى بساط وبطانيتين. أما المؤن والماء فكان البدوي أو البدو المرافقون لي كمرشدين يحملونها.

__________________

(١) غوارماني Kail ، بلجريف Ha\'yel.

٥٥

كنت أترك صناديقي في بيتي في حائل خلال غيابي ويودع مفتاح المنزل لدى أحد ضباط الأمير الرئيسين المدعو حمود الإبراهيم المجراد (١).

واني أعرض فيما يلي تعداد مختلف رحلاتي وفق الترتيب الذي أجريتها به :

(١) رحلة في عقده ، وادي جبل شمّر (٣٠ حزيران).

(٢) في جبل سرا (٩ تموز).

(٣) في جبل شمّر (١٧ تموز).

(٤) رحلة الى القصيم ، الى عنيزه والعودة (٣١ تموز).

(٥) رحلة في جبل جلديه (٢٢ أيلول).

(٦) رحلة في الحجاز ، الى تيماء ، الهجر أو مداين صالح ، العلا والعودة عن طريق خيبر والحايط (٣٠ تشرين الأول).

(٧) من حائل إلى بغداد.

(٨) من بغداد الى دمشق عبر الحماد.

عقدة

عقدة (٢) هي سلسلة من الوديان الصغيرة داخل جبل شمّر ، والممر الوحيد الضيق جدا الذي بعبرها يقع على بعد ٩ كيلومترات تقريبا جنوبا ، ٧٠ درجة غربي حائل. وقد ظهر اسم عقدة هذا للمرة الأولى كاسم جغرافي في الجزيرة العربية في تاريخ الوهابيين ل كورانسيز (٣) في مدونة أسماء بلدات الجبل. غير أن هذا المكان كما برهنت ذلك لاحقا ، هو الأول وعلى الأرجح الوحيد على امتداد زمن طويل الذي سكنته قبيلة طيء التي قدمت من الجنوب.

__________________

(١) بديهي ان جيش أمير شمّر ليس جيشا بالمعنى الأوروبي للكلمة. فلا تجنيد ولا ثكنات. وهو يتألف من خمسمئة رجل تقريبا معظمهم من مدن الجبل يستخدمهم الأمير بشكل خاص للقيام بغزواته ولفرض وجباية الضرائب من القبائل الرحل واخيرا لمواكبة قافلة الحجاج العراقيين من بغداد الى مكة ذهابا وايابا. وهم لا يتقاضون اجرا ثابتا ولا يتلقون إلا ما هو ضروري لحياتهم. ما يقارب العشرين منهم الذين تميزوا بخدمات أسديت أو بالأحرى بذكائهم والذين يلازمون القصر باستمرار ولا يفارقون الأمير ، يلقون معاملة أفضل. من بين هؤلاء حمود الذي سبق للامير ان أرسله مرارا في مهمات استثنائية الى مصر لدى الخديوي.

(٢) عقده عند : ص. ٣٥٣Ritter ,Die Erdkunde von Asien ,Arabien II وعند غواراماني اكده ، وعند بلانت اجده

(٣) ص. ١١٨ ص. ٢١٤ ، ١٨١٠

Corancez, Histoire des Wahabis, ed. SyIvestre de Sacy, Paris,

٥٦

ولا بد من البحث في عقدة نفسها عن مكان سكن حاتم طيء أكرم قدامى العرب. يتم الدخول الى عقدة من سهل حائل عبر ممر تضيق فتحته التي تبلغ بداية قرابة مئة متر تدريجيا حتى تصل ما بين ٢٥ إلى ٣٠ مترا. وقد بنى الأمير في هذه النقطة حائطا بارتفاع ٣ أمتار وبسماكة متر لقطع الممر كليا. وقد تركت في طرف الحائط الجنوبي فتحة تبلغ ٥ ، ١ متر للمرور.

وما ان نجتاز هذا السور حتى نجد أنفسنا في واد صغير يضم قرية القني El Qeny التي تعدّ ١٥٠ نسمة. وابتداء من هذه البلدة ، تنفتح الوديان من كل الجهات وجميعها على مستويات أعلى من الوادي الأول ومن ثمّ أعلى من سهل حائل أيضا.

الوادي التالي ، وداي القني ، يضم قرية أكبر من الأولى تدعى الويبار وتعد ٣٠٠ نسمة. هاتان المقاطعتان الأوليان هما الكبريان من حيث تعداد السكان ومن حيث مساحتهما. في الوديان الأخرى تتوزع ثماني مجموعات سكانية صغيرة مجموعها ٥٠٠ نسمة وهذه هي أسماؤها : النبيتة ، السقا ، حسنا ، المعا ، غضيان ، الحايط (١) رميض والعليّا.

في قرية الحايط جنوبي القني والويبار جزء من ترسانة ابن رشيد. إنه مبنى من الآجرّ ككل مباني الجبل يحتل مساحة تقارب ٨٠ مترا مربعا إنما تجاوره بعض المباني أكثر حداثة شيّدها الأمير الحالي.

الأمير طلال هو الذي شيد المبنى الرئيس مكان مبنى آخر هدمه ومن المرجح أن قبيلة طيىء شهدت هنا اول استقرار لها منذ احتلالها الجبل لدى هجرتها من الجنوب. وحين وصل محمد ، الأمير الحالي ، الى الحكم ، كان هذا المبنى الترسانة الوحيدة لسلالة شمر. لكن محمد الذي كبر القصر الذي بناه الأمير طلال ، نقل إليه القسم الأكبر من الأسلحة التي كانت محفوظة في عقده. أما اليوم فإن هذا القصر ببابه الكبير المغطى بلوح من الفولاذ بات مجرد مخزن للطعام ولم يعد يحوي إلا مخزونا كبيرا من التمور وبعض السيوف والبنادق بفتيل التي لا قيمة لها. أما شجرات نخيل الحايط فملك الأمير ابن رشيد الخاص.

ما يميز عقدة هو النخيل الذي لا يحتاج إلى ري بفضل موقع الوديان بقاعها

__________________

(١) يجب تمييزها عن الحايث في حراه شرق ـ شمال ـ شرق خيبر.

٥٧

الغرانيتي المملوء بالبطحا أو حصى الغرانيت (١) حتى ارتفاع ٤ أو ٥ أمتار والتي تشكل التربة. القاع على شكل أحواض تحجز ماء المطر الذي يهطل على عقدة في هذه الأحواض الطبيعية الصغيرة حيث تغوص جذور النخيل.

في كل الأماكن الأخرى ، عند ما تكون المياه على عمق بالغ لا تستطيع جذور النخيل الوصول إليها ، يجب حفر آبار واسعة جدا وسحب الماء منها عشرة أشهر على اثني عشر بمعدل خمس عشرة ساعة يوميا على الأقلّ. كما إن ذلك يجبر على شراء الإبل والعناية بها لهذا الغرض كذلك يلزم رجل لتشغيلها. ولكن سكان عقدة السعداء لا يعرفون شيئا من هذا ولا يأبهون. وجل تعبهم ينحصر في أن يتمنوا أن تمطر في الشتاء. وهم يتمادون في سعادتهم إلى حد الكسل إذ إنهم لا يبذلون أي عناية بشجرات النخيل التي كان بالإمكان ان تكون أجمل واكثر إنتاجا. وعلى أي حال فإن ضعف نخيلهم كان وبالا عليهم خلال شتاء ١٨٧٩ ـ ١٨٨٠ الذي انعكست قسوته على كلّ أرجاء الجزيرة العربية. فكثير منها مات وعدد أكبر منها لن يعطي سوى محصول لا يذكر لفترة طويلة.

وقد أكد لي حمود والمجراد بأن عقدة تملك سبعين ألف شجرة نخيل وقد يكون هذا صحيحا. يعود حوالي خمس هذا العدد إلى الأمير وخمسان إلى البدو المقيمين في البلدة طوال العام والباقي يعود إلى شمر الرحل.

يأتي هؤلاء الأخيرون من الصحراء في شهر مايو (أيار) لإخصاب إناث شجرات النخيل فيبنون لأنفسهم أكواخا من ورق النخيل ويقيمون هنا حتى القطاف في أيلول. أحد افراد العائلة يبقى في الصحراء مع القطعان. ويغتنم عدد منهم إقامتهم لزرع البطيخ والشمّام ويسقونها من مياه الآبار. ويبيعونها في حائل.

بما ان جزءا من السكان بدو فإن عادات الصحراء هي السائدة في عقدة. وتتمثل بالنسبة للغريب الذي يصل إليها بالضيافة. خلال الأيام الثلاثة التي أمضيتها فيها ، اضطررت الى الدخول إلى تسعة عشر منزلا أو خيمة حيث قدمت لي القهوة وطبق كبير من البطيخ أو الشمام المقطع مكعبات. أقول" اضطررت" إذ إن أحدهم ما ان يلمحني سائرا حتى يأخذ مطيتي من الرسن ويقودني الى بيته متجاهلا ملاحظاتي.

__________________

(١) ثمة خطا هنا على الارجح. فالكلمة العربية بطحاBathha كما كتبها السيد هوبير تعني باللغة الفصحى" مجرى نهر واسع جاف مملوء بالحصى" وقد احتفظت بهذا المعنى حتى عند عرب Wadai ويكون السيد هوبير قد خلط في الجزيرة العربية بين المحتوى والحاوي. [التحرير]

٥٨

صحيح أن ما كان يقدّمه لي قليل وأن هذا القليل كان يعوضه تعويضا سخيا استقبال الشيخ الفرنساوي ، صديق الأمير والذي سيكون له الحق لاحقا بأن يناديه الأخ. إلا أنه لا بد لي من التصريح بأن البدوي الذي كان يراني في المساء خلال سعينا لإيجاد مأوى ، كان يبدي مسارعة مماثلة للتمسك بي مع علمه بأن هذا سيكلفه خروفا وإن حصته منه ستكون صغيرة نظرا لوجود رجلين من رجال الأمير معي.

من بعد ما ذكرته عن طوبوغرافية عقدة التي لا تملك سوى ممر مقطوع اصطناعيا بجدار ، والمحاطة كليا بصخور من الغرانيت لا يمكن الوصول إليها من الخارج ، ندرك كيف إن أمير حائل يعتبرها كمعقل وملجأ منيع في حال الاجتياح لكونها موفورة التموين وفي حماية فرقة شجاعة. وأنا من هذا الرأي شرط ان لا يكون المجتاحون قوات أوروبية وأن لا يكونوا متسلحين بمدفع لاقتحام الثغرة.

جبل سرا

في إحدى أولى السهرات التي أمضيتها عند الأمير علمت بوجود نقوش قديمة في الجبل ودلني الأمير على جبل سرا على مسافة يوم جنوبي حائل كنقطة يمكنني أن أعثر فيها على نقش. وقد استدعى مطوع شمّر ، الشيخ عواد الذي نسخها ذات يوم على غلاف كتاب زودني به.

وعرفت في الحال انها كتابة حميرية وسمح لي بأن أفترض أنها ليست الوحيدة وانه بإمكاني العثور على المزيد منها.

في ٩ تموز أعطاني الأمير رجلين ليقوداني إلى جبل سرا. اذ غادرنا حائل في السابعة صباحا من الباب الغربي ، لم نلبث أن انعطفنا نحو اليسار تاركين جبل سرا إلى الشرق. كان اتجاهنا جنوبا تقريبا ، ١٠ درجات غربا بصرف النظر عن تبدلات العقرب.

بعد ساعتين من مغادرتنا حائل وصلنا إلى مستوى قفار التي تركناها إلى يميننا. عند الظهر توقفنا لتناول بعض التمر أمام صخرة عرجان التي كانت ترمي بعض الظل الى الشمال وبعد ساعة استأنفنا مسيرتنا.

منذ مغادرتي حائل كان جبل أجا باستمرار إلى يميني وتقريبا على المسافة نفسها.

٥٩

فقط جنوبي قفار ابتعدت طريقي قليلا عن الجبل. أسجل هذه الملاحظة بشكل عابر لأبرر الاتجاه الذي أعطيته لهذا الجبل على خريطتي وهو اتجاه جديد ومغاير على نحو ملحوظ للاتجاه الذي اعتمدته أحدث الخرائط.

إلى بضعة كيلومترات شمالي جبل سرا يستمر السير بثبات على حصى الغرانيت الكبيرة واسمها البطحا كما ذكرت سابقا وهي قاحلة تماما. لكن طبقة الحصى ليست متساوية العمق في كل الأمكنة ومن حين إلى آخر يسمح برؤية التربة التحتية المكونة من حجر صلصالي رمادي صفراوي صلب. في هذه الأماكن تظهر أحيانا شجرة هزيلة أو ساق حنظل زاحفة.

كانت الشمس تلامس الأفق عند ما وصلت أمام النقش في جبل سرا. وهو في معبر يبلغ عرضه ٨٠ مترا تقريبا ويفتح الطريق إلى مستجدMestagged والحجاز. كانت الكتابة محفورة في الصخر على الجدار الجنوبي للمعبر ، على ارتفاع ٦ أمتار من الأرض وتواجه الشمال. بفضل انهيارات الصخور يمكن الاقتراب منها حتى مسافة مترين تقريبا. أخذت فورا وضعية تمكنني من نسخها وتبين لي أن الشيخ عواد قد نسخ بالضبط نصف الأحرف تقريبا وهذا ما اعتبره مرضيا بالنسبة الى شمّري متعلم ، خاصة بالنظر إلى حالة هذه الكتابة الخشنة وإلى التأثيرات البصرية التي يحدثها النور على هذا الغرانيت الفظ بحبوبه المتعددة الألوان والتي تتعب تموجاتها المتعرجة النظر بسرعة. وقد اغتبطت لاحقا بالعناية البالغة التي بذلتها في نسخ هذه الكتابة. فمن بين كل النقوش الحميرية التي صادفتها في رحلاتي اللاحقة ، لم تكن ولا واحدة بهذا الحجم. فقد كانت تحوي ٩٨ حرفا.

هذا النقش الكبير موجود كما ذكرت آنفا على جدار الجبل بالذات. وقد عثرت على خمسة نقوش أصغر حجما على كتل ضخمة من الغرانيت يبلغ حجمها عدة أمتار مكعبة كانت قد انهارت على جانب النقش وأمامه. وقد بدا على إحدى الكتل رسم حيوان لا بد أنه كلب سلوقي كبير أو غزال. خط هذا الرسم جريء ، محدد ويدل على موهبة فنان. من بين مئات تماثيل الحيوانات المنحوتة في الصخر التي صادفتها ، كانت هذه الأخيرة الفضلى.

هبط الليل فيما كنت أنجز نسخي. وامتطينا جمالنا التي لم ننزع عنها خروجنا (١)

__________________

(١) الخرج حقيبة سفر مزدوجة تتدلّى على جانبي الجمل [التحرير].

٦٠