تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب - ج ٥

الشيخ محمّد بن محمّد رضا القمّي المشهدي

تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد بن محمّد رضا القمّي المشهدي


المحقق: حسين درگاهى
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الطبع والنشر التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٢

رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ ، حسدتهم إخوتهم بنو غنم بن عوف ، وقالوا : نبني مسجدا نصلي فيه ولا نحضر جماعة محمّد. فبنوا مسجدا إلى جنب مسجد قباء ، وقالوا لرسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ وهو يتجهز إلى تبوك : إنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه.

فقال : إني على جناح سفر.

ولمّا انصرف من تبوك ، نزلت. فأرسل من هدم المسجد وأحرقه ، وأمر أن يتّخذ مكانه كناسة تلقى فيها الجيف والقمامة.

(ضِراراً) : مضارة للمؤمنين : أصحاب مسجد قباء.

(وَكُفْراً) : وتقوية للكفر الّذي يضمرونه.

(وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ) : يريد الّذين كانوا يجتمعون للصّلاة في مسجد قباء ، وأرادوا أن يتفرّقوا عنه وتختلف كلمتهم.

(وَإِرْصاداً) : وإعدادا وترقّبا.

(لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ) ، يعني : أبا عامر الرّاهب.

قيل (١) : بنوه على قصد أن يؤمهم فيه أبو عامر ، إذا قدم من الشّام «من قبل» متعلّق «بحارب». أو «باتّخذوا» ، أي : اتخذوا مسجدا من قبل أن ينافق هؤلاء بالتّخلّف.

وفي الجوامع (٢) : إنّه كان قد ترهب في الجاهلية ، وليس المسوح. فلما قدم النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ المدينة ، حسده وحزب عليه الأحزاب. ثمّ هرب بعد فتح مكّة ، وخرج إلى الرّوم وتنصر. وكان هؤلاء يتوقعون رجوعه إليهم ، وأعدّوا هذا المسجد له ليصلي فيه ويظهر على رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ.

وإنّه كان يقاتل رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ في غزواته. إلى أن هرب إلى الشّام ، ليأتي من قيصر بجنود. يحارب بهم رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ ومات بقنسرين (٣) وحيدا.

(وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى) : ما أردنا بنيانه إلّا الخصلة الحسنى ، أو الإرادة الحسنى. وهي الصّلاة والذّكر ، والتّوسعة على المصلين.

__________________

(١) تفسير الصافي ٢ / ٣٧٥.

(٢) الجوامع / ١٨٦.

(٣) كذا في المصدر. وفي النسخ : «بعترين» بدل «بقنسرين».

٥٤١

(وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (١٠٧) : في حلفهم.

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم (١) : كان سبب نزولها ، أنّه جاء قوم من المنافقين إلى رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ فقالوا : يا رسول الله ، أتأذن لنا أن نبي مسجدا في بني سالم للعليل والليلة المطيرة والشّيخ الفاني. فأذن لهم رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ وهو على الخروج إلى تبوك. فقالوا : يا رسول الله ، لو أتيتنا فصلّيت فيه.

قال : أنا على جناح السفر. فإذا وافيت ان شاء الله ، أتيته فصليت فيه.

فلما أقبل رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ من تبوك ، نزلت عليه هذه الآية في شأن المسجد وأبي عامر الرّاهب. وقد كانوا حلفوا لرسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ إنّهم يبنون ذلك للصّلاح والحسنى. فأنزل الله على رسوله (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً) (الآية). قال : (وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ) ، يعني : أبا عامر الرّاهب.

كان يأتيهم ، فيذكر رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ وأصحابه.

وفي تفسير الإمام (٢) ـ عليه السّلام ـ عند قوله : (لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا) (٣) من سورة البقرة : أن رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ كان تأتيه الأخبار عن صاحب دومة الجندل (٤) : وكانت تلك النّواحي له مملكة عظيمة (٥) مما يلي الشّام. وكان يهدّد رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ بقصده وبقتل (٦) أصحابه. وكان أصحاب رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ خائفين وجلين من قبله.

قال : ثمّ أنّ المنافقين اتفقوا وبايعوا لأبي عامر الرّاهب ، الذي سماه رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ : الفاسق. وجعلوه أميرا ونجعلوا (٧) له بالطاعة.

__________________

(١) تفسير القمي ١ / ٣٠٥.

(٢) تفسير العسكري / ٤٨١ ببعض الاختلاف.

(٣) البقرة / ١٠٤.

(٤) دومة الجندل : حصن عادي بين المدينة والشام يقرب من تبوك ، وهي أقرب إلى الشام وهي لفصل بين الشام والعراق ، وهي احد حدود فدك. ويقال : إنّها تسمّى بالحوف.

قال الجوهريّ وأصحاب اللغة : يقولون بضم الدال وأصحاب الحديث يفتحونها.

(٥) كذا في المصدر. وفي النسخ : «وكان ملك النواحي له مملكة عظيمة».

(٦) المصدر : «بأن يقصده ويقتل» بدل «بقصده وبقتل».

(٧) كذا في المصدر. وفي النسخ : «أسيرا ونخعوا» بدل «أميرا عليهم ونجعلوا».

٥٤٢

فقال لهم : الرأي أن أغيب من المدينة ، لئلّا اتّهم إلى أن يتمّ تدبيركم.

وكانوا أكيدر صاحب دومة الجندل ، ليقصد المدينة.

فأوحى الله ـ تعالى ـ إلى محمّد ، وعرّفه ما أجمعوا عليه من أمره ، وأمره بالمسير إلى تبوك.

وكان رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ كلّما أراد غزوا ، ورّى بغيره. إلا غزاة تبوك ، فإنّه أظهر ما كان يريده وأمرهم أن يتزودوا لها. وهي الغزاة الّتي افتضح فيها المنافقون ، وذمّهم الله في تثبّطهم عنها. وأظهر رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ ما أوحى الله ـ تعالى ـ إليه ، أنّ الله سيظهره بأكيدر حتّى يأخذه ويصالحه على ألف أوقيّة ذهب في رجب ، ومائتي حلّة وألف أوقية في صفر ، [ومائتي حلّة] (١) وينصرف سالما إلى ثمانين يوما.

فقال لهم رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ : إنّ موسى وعد قومه أربعين ليلة ، وإني أعدكم ثمانين ، أرجع سالما غانما ظافرا بلا حرب يكون ولا يشتاك أحد من المؤمنين.

فقال المنافقون : لا والله ، ولكنها آخر كرّاته التي لا ينجبر بعدها. إنّ أصحابه ليموت بعضهم في هذه الحرب ورياح البوادي ومياه المواضع المؤذية الفاسدة ، ومن سلم من ذلك فبين أسير في يد أكيدر وقتيل وجريح.

واستأذنه المنافقون بعلل ذكروها ، بعضهم يعتل (٢) بالحرّ وبعضهم بمرض بجسده وبعضهم بمرض عياله. وكان يأذن لهم.

فلمّا أصبح وضحّ عزم رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ على الرّحلة إلى تبوك ، عمد هؤلاء المنافقون فبنوا خارج المدينة مسجدا وهو مسجد الضّرار. يريدون الاجتماع فيه ، ويوهمون أنه للصّلاة. وإنما كان يجتمعون فيه لعلّة الصلاة فيتمّ تدبيرهم ويقع هناك ما يسهل به لهم ما يريدون.

ثمّ جاء جماعة منهم إلى رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ وقالوا : يا رسول الله ، إنّ بيوتنا قاصية عن مسجدك ، فإنّا نكره الصلاة في غير جماعة ويصعب علينا الحضور ، وقد بنينا مسجدا. فإن رأيت أن تقصده وتصلي فيه ، لنتيمن ونتبرك بالصلاة في موضع

__________________

(١) ما بين المعقوفتين ليس في المصدر.

(٢) كذا في المصدر. وفي النسخ : يقتل.

٥٤٣

مصلاك.

فلم يعرفهم رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ ما عرفه الله ـ تعالى ـ من أمرهم ونفاقهم. وقال : ائتوني بحماري. فاتي باليعفور ، فركبه يريد نحو مسجدهم. فكلّما بعثه هو وأصحابه ، لم ينبعث ولم يمش. فإذا صرف رأسه عنه إلى غيره ، سار أحسن سيرة وأطيبه.

قالوا : لعلّ هذا الحمار قد رأى من الطريق شيئا كرهه ، ولذلك لا ينبعث نحوه.

فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ : ائتوني بفرس. فركبه ، فلمّا بعثه نحو مسجدهم لم ينبعث ، وكلما حرّكوه نحوه ، لم يتحرّك. حتى إذا فتلوا رأسه إلى غيره ، سار أحسن سيره.

فقالوا : ولعلّ هذا الفرس قد كره شيئا في هذا الطريق.

فقال : تعالوا نمش إليه. فلمّا تعاطى هو ومن معه المشي نحو المسجد ، جفوا في مواضعهم ولم يقدروا على الحركة. وإذا همّوا بغيره من المواضع ، خفّت حركاتهم ونقيت أبدانهم وبسطت قلوبهم. فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ : هذا أمر قد كرهه الله ، وليس يريده الآن. وأنا على جناح سفر ، فأمهلوني حتّى أرجع ـ إن شاء الله ـ. ثمّ أنظر في هذا نظرا يرضاه الله.

وجدّ في العزم على الخروج إلى تبوك ، وعزم المنافقون على اصطلام مخلّفيهم إذا خرجوا. فأوحى الله ـ تعالى ـ إليه : يا محمّد ، إنّ العليّ الأعلى يقرئك السّلام ، ويقول : إمّا أن تخرج أنت ويقيم عليّ ، وإمّا أن يخرج عليّ وتقيم أنت.

فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ ذلك لعليّ ـ عليه السّلام ـ.

فقال عليّ ـ عليه السّلام ـ : السّمع والطاعة لأمر الله وأمر رسوله. وإن كنت أحبّ أن لا أتخلّف عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ في حال من الأحوال.

فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ : أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنه لا نبيّ بعدي؟

قال : رضيت ، يا رسول الله.

فقال له رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ : يا أبا الحسن ، إنّ أجر خروجك معي في مقامك بالمدينة. وإنّ الله قد جعلك أمّة وحدك ، كما جعل إبراهيم ـ عليه السّلام ـ أمّة ، تمنع جماعة المنافقين والكفار هيبتك عن الحركة على المسلمين.

فلمّا خرج رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ وشيّعه عليّ ـ عليه السّلام ـ ، خاض

٥٤٤

المنافقون وقالوا : إنّما خلّفه محمّد بالمدينة ، لبغضه له وملاله منه ، وما أراد بذلك إلّا أن يتنبّه المنافقون فيقتلوه.

فاتصل ذلك برسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ. فقال عليّ ـ عليه السّلام ـ : أتسمع ما يقولون ، يا رسول الله؟

فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ : ما يكفيك أنّك جلدة ما بين عينيّ ، ونور بصري ، وكالرّوح في بدني؟

ثمّ سار رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ بأصحابه ، وأقام عليّ ـ عليه السّلام ـ بالمدينة. فكان كلّما دبر المنافقون أن يوقعوا بالمسلمين ، فزعوا من عليّ ـ عليه السّلام ـ وخافوا أن يقوم معه عليهم من يدفعهم عن ذلك. وجعلوا يقولون فيما بينهم : هي كرّة محمّد التي لا يؤوب منها.

ثمّ ذكر ـ عليه السّلام ـ قصّة رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ مع أكيدر ، وأخذه له ، وصلحه معه ـ على ما مرّ ذكره ـ.

ثمّ قال : وعاد رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ غانما ظافرا ، وأبطل الله كيد المنافقين. وأمر رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ بإحراق مسجد الضرار. فأنزل الله ـ تعالى ـ (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً) (الآيات). أبا عامر الراهب كان عجل هذه الأمّة ، كعجل قوم موسى. وأنه دمّر الله عليه ، وأصابه بقولنج وبرص وفالج ولقوة. وبقي أربعين صباحا في أشدّ العذاب ، ثمّ صار إلى عذاب الله.

(لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً) ، أي : لا تصلّ فيه أبدا. يقال : فلان يقوم باللّيل ، أي : يصلي.

(لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) : من أيام وجوده.

و «من» يعمّ الزّمان والمكان ، كقوله :

لمن الدّيار بقنّة (١) الحجر

أقوين من حجج ومن دهر

وفي الكافي (٢) : عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن حمّاد بن عيسى ، عن الحلبيّ ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال : سألته عن المسجد الّذي أسّس

__________________

(١) قنّة كلّ شيء : أعلاه.

(٢) الكافي ٣ / ٢٩٦ ، ح ٢.

٥٤٥

على التقوى.

قال : مسجد قباء.

وفي تفسير العياشيّ (١) : عن زرارة وحمران ومحمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر وأبي عبد الله ـ عليهما السلام ـ. عن قوله : (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ).

قال : مسجد قباء.

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم (٢) ، يعني : مسجد قباء.

أسسه رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ وصلّى فيه أيّام مقامه بقباء.

قيل (٣) : من الاثنين إلى الجمعة.

وفسره (٤) بعضهم بمسجد رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ.

لقول أبي سعيد (٥) : سألت رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ. فقال : هو مسجدكم هذا ، مسجد المدينة. ولم يثبت رواية أبي سعيد.

(أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) : أولى أن تصلّي فيه.

وفي تفسير العيّاشيّ (٦) : قال : يعني : من مسجد النّفاق. وكان على طريقه رجل ، إذا أتى مسجد قباء فيأمر (٧) فينضح بالماء والسّدر ، ويرفع ثيابه عن ساقيه ويمشي على حجر في ناحية الطّريق ويسرع المشي ، ويكره أن يصيب ثيابه منه شيء.

فسألته : هل كان النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ يصلّي في مسجد قباء؟

قال : نعم.

(فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) (١٠٨).

في تفسير العيّاشيّ (٨) : عن الصّادق ـ عليه السّلام ـ : هو الاستنجاء بالماء.

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم (٩) : كانوا يتطّهرون بالماء.

__________________

(١) تفسير العيّاشي ٢ / ١١١ ، ح ١٣٦.

(٢) تفسير القمي ١ / ٣٠٥.

(٣) أنوار التنزيل ١ / ٤٣٢.

(٤) نفس المصدر والموضع.

(٥) ب : أبي سعد.

(٦) تفسير العياشي ٢ / ١١١ ـ ١١٢ ، ضمن ح ١٣٦.

(٧) المصدر : «فقام» بدل «فيأمر».

(٨) نفس المصدر والمجلّد / ١١٢ ، ضمن ح ١٣٦.

(٩) تفسير القمي ١ / ٣٠٥.

٥٤٦

وفي مجمع البيان (١) : قيل : يحبّون أن يتطهّروا بالماء من الغائط والبول. وهو المرويّ عن السّيدين الباقر والصّادق ـ عليهما السّلام ـ.

وروي (٢) عن النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ أنه قال لأهل قباء : ما ذا تفعلون في طهركم؟ فإن الله ـ عزّ وجلّ ـ قد أحسن عليكم الثناء.

قالوا : نغسل أثر الغائط.

فقال : أنزل الله فيكم (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ).

(أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ) : بنيان دينه.

(عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ) : على قاعدة محكمة ، هي التقوى من الله وطلب مرضاته بالطّاعة.

(خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ) : على قاعدة هي أضعف القواعد وأقلّها بقاء. وهو الباطل والنّفاق ، الّذي مثله ، مثل شفا جرف هار في قلّة.

الثّبات.

و «الشّفا» الشّفير. و «جرف الوادي» جانبه ، الّذي ينحفر أصله بالماء وتجرفه السّيول. و «الهار» الهائر ، الّذي أشفى على السّقوط والهدم.

(فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ) : لمّا جعل الجرف الهار مجازا عن الباطل ، قيل (٣) : «فانهار به في نار جهنّم».

والمعنى : فهوى به الباطل في نار جهنّم ، فكأنّ المبطل أسّس بنيانا على شفير جهنّم ، فطاح به إلى قعرها.

وقرأ (٤) نافع وابن عامر : «اسّس» على البناء للمفعول.

وقرئ (٥) : «أساس بنيانه» ، و «أسّ بنيانه» على الإضافة. و «أسس» ، و «آساس» ، و «إساس» بالكسر ، وثلاثتها جمع ، أسّ. و «تقوى» بالتّنوين ، على أنّ الألف للإلحاق لا للتّأنيث ، كتترى.

وقرأ (٦) ابن عامر وحمزة وأبو بكر : «جرف» : بالتّخفيف.

__________________

(١) المجمع ٣ / ٧٣.

(٢) نفس المصدر والموضع.

(٣) تفسير الصافي ٢ / ٣٧٩.

(١ و ٥) ـ أنوار التنزيل ١ / ٤٣٣.

(٦) نفس المصدر والموضع.

٥٤٧

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم (١) : وفي رواية أبي الجارود ، عن أبي جعفر ـ عليه السّلام ـ قال : مسجد الضّرار ، الّذي أسّس على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنّم وفي مصباح الشّريعة (٢) : قال الصّادق ـ عليه السّلام ـ : وكلّ عبادة مؤسّسة على غير التّقوى (٣) فهي هباء منثورا. قال الله ـ عزّ وجلّ ـ : (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ) من الله (٤) (خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ) (الآية).

وتفسير التقوى : ترك ما ليس بأخذه بأس (٥) ، حذرا عمّا به بأس.

(وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (١٠٩) : إلى ما فيه صلاح ونجاة.

وفي أمالي شيخ الطائفة (٦) ، بإسناده إلى خنيس بن معمّر (٧) قال : دخلت على أمير المؤمنين ، عليّ بن أبي طالب ـ عليه السّلام ـ. فقلت : السّلام عليك ، يا أمير المؤمنين ، ورحمة الله. كيف أمسيت؟

قال : أمسيت محبّا لمحبّنا ومبغضا لمبغضنا ، [أمسى محبّنا مغتبطا] (٨) برحمة من الله كان منتظرها (٩). وأمسى عدوّنا يؤسّس بنيانه على شفا جرف هار ، فكأنّ ذلك الشّفا قد انهار به في نار جهنّم.

وبإسناده (١٠) إلى أمير المؤمنين ـ عليه السّلام ـ أنّه قال : ليس عبد من عباد الله ممّن امتحن الله قلبه بالإيمان ، إلّا وهو يجد مودّتنا على قلبه ، فهو محبّنا. وليس عبد من عباد الله ممّن سخط الله عليه ، إلّا وهو يجد بغضنا على قلبه ، فهو مبغضنا. فأصبح محبّنا ينتظر الرّحمة ، وكأنّ أبواب الرّحمة قد فتحت له ، وأصبح مبغضنا على شفا جرف هار ، فانهار به في نار جهنّم فهنيّئا لأهل الرّحمة رحمتهم ، وهنيئا (١١) لأهل النّار مثواهم.

وبإسناده (١٢) إلى صالح بن ميثم التمّار ـ رحمه الله ـ قال : وجدت في كتاب ميثم

__________________

(١) تفسير القمي ١ / ٣٠٥.

(٢) مصباح الشريعة / ٤٥٣ ـ ٤٥٤.

(٣) المصدر : كل عبادة غير مؤسسة على التقوى.

(٤) ليس في المصدر : من الله.

(٥) كذا في المصدر. وفي النسخ : «يأخذه» بدل «يأخذه بأس».

(٦) أمالي الطوسي ١ / ١١٢.

(٧) المصدر : خنيس بن المعتمر.

(٨) من المصدر.

(٩) المصدر : ينتظرها.

(١٠) أمالي الطوسي ١ / ٣٢.

(١١) المصدر : تعسا.

(١٢) أمالي الطوسي ١ / ١٤٧ ـ ١٤٨.

٥٤٨

ـ رضي الله عنه ـ قال : تمسّينا ليلة عند أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ـ عليه السّلام ـ.

فقال لنا : ليس من عبد امتحن الله قلبه بالإيمان ، إلّا أصبح يجد مودّتنا على قلبه. ولا أصبح عبد ممّن سخط الله عليه ، إلّا يجد بغضنا على قلبه. فأصبحنا نفرح بحبّ المحبّ لنا ، ونعرف بغض المبغض لنا. وأصبح محبنا مغتبطا بحبنا ، برحمة من الله ينتظرها كلّ يوم. وأصبح مبغضنا يؤسّس بنيانه على شفا جرف هار ، فكأنّ ذلك الشّفا قد انهار به في نار جهنّم ، وكأنّ أبواب الرّحمة قد فتحت لأصحاب الرّحمة (١). فهنيئا لأصحاب الرّحمة رحمتهم ، وتعسا لأصحاب النّار مثواهم.

(لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا) : بناؤهم الّذي بنوه. مصدر ، أريد به المفعول ، وليس بجمع ، ولذلك قد تدخله التّاء. ووصف بالمفرد ، واخبر عنه بقوله : (رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ) ، أي : شكّا ونفاقا.

والمعنى : أنّ بناءهم هذا لا يزال سبب شكّهم وتزايد نفاقهم ، فإنّه حملهم على ذلك. ثمّ لما هدمه الرّسول ـ صلّى الله عليه وآله ـ رسخ ذلك في قلوبهم وازداد ، بحيث لا يزول وسمه عن قلوبهم.

(إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ) : قطعا ، بحيث لا يبقى لها قابليّة الإدراك والإضمار.

وهو في غاية المبالغة والاستثناء من أعمّ الأزمنة.

وقيل (٢) : المراد بالتقطع : ما هو كائن بالقتل ، أو في القبر ، أو في النّار.

وقيل (٣) : التّقطع بالتّوبة ، ندما وأسفا.

وقرأ (٤) يعقوب : «إلى» بحرف الانتهاء. «وتقطّع» ، بمعنى : تتقطّع. وهو قراءة ابن عامر وحمزة وحفص.

وقرئ (٥) : «يقطع» بالياء. و «تقطع» بالتّخفيف. و «تقطع قلوبهم» على خطاب الرّسول ، أو كلّ مخاطب. و «لو تقطعت» على البناء للفاعل أو المفعول.

وفي الجوامع (٦) : عن الصّادق ـ عليه السّلام ـ أنه قرأ : «إلى أن تقطّع».

__________________

(١) كذا في المصدر. وفي النسخ : لأهل اصحاب الرّحمة.

(٢ و ٣ و ٤) ـ أنوار التنزيل ١ / ٤٣٣.

(٥) نفس المصدر والموضع.

(٦) الجوامع / ١٨٧ بتصرّف.

٥٤٩

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم (١) ، يعني : حتّى ينقطع قلوبهم.

(وَاللهُ عَلِيمٌ) : بنيّاتهم.

(حَكِيمٌ) (١١٠) : فيما أمر بهدم بنائهم.

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم (٢) : فبعث رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ مالك بن جشم (٣) الخزاعيّ وعامر بن عديّ ، أخا بني عمرو بن عوف ، على أن يهدموه ويحرقوه. فجاء مالك فقال لعامر : انتظرني حتّى اخرج نارا من منزلي. فدخل وجاء بنار وأشعل في سعف النّخل ، ثمّ أشعله في المسجد فتفرّقوا. وقعد زيد بن حارثة حتّى احترقت البنية ، ثمّ أمر بهدم حائطه.

وفي مجمع البيان (٤) : وروي أنّه أرسل عمّار بن ياسر ووحشيا ، فحرقاه. وأمر بأن يتخذ كناسة يلقى فيه الزّبل و (٥) والجيف.

(إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) : تمثيل لإثبات الله إيّاهم الجنة على بذل أنفسهم وأموالهم في سبيله.

(يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) : استئناف ببيان ما لأجله الشّري.

وقيل (٦) : «يقاتلون» في معنى الأمر.

وقرأ (٧) حمزة والكسائي ، بتقديم المبنيّ للمفعول. وقد عرفت أن الواو لا توجب التّرتيب ، وأنّ فعل البعض قد يسند إلى الكلّ.

(وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا) : مصدر مؤكّد لما دلّ عليه الشّري ، فإنّه في معنى : الوعد. أو فعله محذوف ، أي : وعد ذلك على نفسه وعدا ثابتا.

(فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ) : مذكورا فيهما ، كما اثبت في القرآن.

(وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ) : مبالغة في الإنجاز ، وتقرير لكونه حقّا.

(فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ) : فافرحوا به غاية الفرح. فإنّه أوجب لكم عظائم المطالب ، كما قال : (وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١) التَّائِبُونَ) : رفع

__________________

(١) تفسير القمي ١ / ٣٠٥ ، بتصرّف في صدره.

(٢) نفس المصدر والموضع.

(٣) المصدر : الدجشم. ور : جثم. وأ ، ب : خيثم.

(٤) المجمع ٣ / ٧٣.

(٥) المصدر : «فيها» بدل «فيه الزّبل و».

(١ و ٧) ـ أنوار التنزيل ١ / ٤٣٣.

٥٥٠

على المدح ، أي : هم التّائبون ، والمراد بهم : المؤمنون المذكورون.

ويجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف ، تقديره : التّائبون من أهل الجنة وإن لم يجاهدوا ، لقوله : (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى). أو خبره ما بعده ، أي : التّائبون عن الكفر على الحقيقة ، هم الجامعون لهذه الخصال.

وقرئ (١) ، بالياء ، نصبا على المدح. أو جرّا ، صفة للمؤمنين.

وفي قراءة الباقر والصّادق ـ عليهما السلام ـ : «التائبين ـ إلى قوله ـ والحافظين».

رواها في مجمع البيان (٢) عنهما ـ عليهما السّلام ـ.

وفي روضة الكافي (٣) : محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد [بن عليّ] (٤) ، عن عليّ بن الحكم ، عن عليّ بن أبي حمزة ، عن أبي بصير ، عن أبي جعفر ـ عليه السّلام ـ قال : تلوت «التائبون العابدون».

فقال : لا ، اقرأ : «التّائبين العابدين» (إلى آخرها).

فسئل عن العلّة في ذلك.

فقال : اشترى من المؤمنين التّائبين العابدين.

(الْعابِدُونَ) : الّذين عبدوا الله مخلصين له.

(الْحامِدُونَ) : بنعمائه.

(السَّائِحُونَ) : الصّائمون ، لقوله ـ عليه السّلام ـ : سياحة أمّتي ، الصّوم.

شبه بها ، من حيث أنّه يعوق عن الشّهوات. أو لأنّه رياضة نفسانية ، يتوصّل بها إلى الاطّلاع على خفايا الملك والملكوت. أو السائحون للجهاد ، أو لطلب العلم.

(الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) : في الصلاة.

(الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) : بالإيمان والطّاعة.

(وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) : عن الشرك والمعاصي.

قيل (٥) : العاطف فيه للدّلالة على أنّه بما عطف عليه في حكم خصلة واحدة ، كأنّه قال : الجامعون بين الوصفين.

__________________

(١) أنوار التنزيل ١ / ٤٣٤.

(٢) المجمع ٣ / ٧٤.

(٣) الكافي ٨ / ٣٧٧ ـ ٣٧٨ ، ح ٥٦٩.

(٤) ليس في المصدر.

(٥) أنوار التنزيل ١ / ٤٣٤.

٥٥١

وفي قوله : (وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) ، أي : فيما بيّنه وعيّنه من الحقائق والشّرائع. للتّنبيه على أنّ ما قبله مفصّل الفضائل ، وهذا مجملها.

وقيل (١) : إنّه للإيذان بأنّ التعداد قد تمّ بالسّابع ، من حيث أنّ السّبعة هو العدد التّام. والثّامن ابتداء تعداد آخر معطوف عليه ، ولذلك سمي : واو الثّمانية.

وفي الكافي (٢) : عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد بن خالد ، عن عثمان بن عيسى ، عن سماعة بن مهران ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال : من أخذ سارقا فعفا عنه ، فذاك له. فإن رفعه إلى الإمام ، قطعه. فإن قال الّذي سرق منه : أنا أهب له ، لم يدعه الإمام حتّى يقطعه إذا رفعه إليه ، وإنما الهبة قبل أن يرفع إلى الإمام ، وذلك قول الله ـ عزّ وجلّ ـ : (وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ). فإنّ انتهى الحد إلى الإمام ، فليس لأحد أن يتركه.

(وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (١١٢) ، يعني به : هؤلاء الموصوفين بتلك الفضائل. ووضع المؤمنين موضع ضميرهم ، للتّنبيه على أنّ إيمانهم دعاهم إلى ذلك ، وأنّ المؤمن الكامل من كان كذلك. وحذف المبشّر به ، للتعظيم ، كأنّه قيل : وبشّرهم بما يجلّ عن إحاطة الإفهام وتعبير الكلام.

وفي الكافي (٣) : محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن الحسن بن محبوب ، عن بعض أصحابه قال : كتب أبو جعفر ـ عليه السّلام ـ في رسالة إلى بعض خلفاء بني أميّة : ومن ذلك من ضيّع الجهاد الذي فضله الله ـ تعالى ـ على الأعمال وفضّل عامله على العمّال ، تفضيلا في الدرجات والمغفرة والرّحمة. لأنّه ظهر به الدين ، وبه يدفع عن الدّين ، وبه اشترى الله من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بالجنّة بيعا مفلحا منجحا ، أشترط عليهم فيه حفظ الحدود. وأوّل ذلك الدّعاء إلى طاعة الله ـ عزّ وجلّ ـ من طاعة العباد ، وإلى عبادة الله من عبادة العباد ، وإلى ولاية الله من ولاية العباد. والحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة.

عليّ بن إبراهيم (٤) ، عن أبيه ، عن بكر بن صالح ، عن القاسم بن يزيد ، عن أبي عمرو الزّبيريّ ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال : قلت له : أخبرني عن الدّعاء إلى

__________________

(١) نفس المصدر والموضع.

(٢) الكافي ٧ / ٢٥١ ، ح.

(٣) الكافي ٥ / ٣ ، صدر ح ٤.

(٤) الكافي ٥ / ١٣ ـ ١٥ ، صدر ح ١.

٥٥٢

الله والجهاد في سبيل الله ، أهو لقوم لا يحل إلّا لهم ولا يقوم به إلّا من كان منهم ، أم هو مباح لكلّ من وحّد الله ـ عزّ وجلّ ـ وآمن برسوله ـ صلّى الله عليه وآله ـ. ومن كان كذا ، فله أن يدعو إلى الله ـ عزّ وجلّ ـ وإلى طاعته وأن يجاهد في سبيله؟

فقال : ذلك لقوم لا يحلّ إلّا لهم ، ولا يقوم بذلك إلّا من كان منهم.

قلت : من أولئك؟

قال : من قام بشرائط الله ـ تعالى ـ في القتال والجهاد على المجاهدين ، فهو المأذون له في الدّعاء إلى الله. ومن لم يكن قائما بشرائط الله في الجهاد على المجاهدين ، فليس بمأذون له في الجهاد ولا إلى (١) ولا الدّعاء إلى الله حتّى يحكّم في نفسه ما أخذ الله عليه من شرائط الجهاد.

قلت : فبيّن لي ، يرحمك الله.

قال : الله ـ تبارك وتعالى ـ أخبر [نبيّه] (٢) في كتابه الدّعاء إليه ، ووصف الدّعاة إليه. فجعل ذلك لهم درجات يعرف بعضها بعضا ، ويستدلّ ببعضها على بعض. فأخبر أنّه ـ تبارك وتعالى ـ أوّل من دعا إلى نفسه ودعا إلى طاعته واتّباع أمره.

إلى قوله : ثمّ ذكر من أذن له في الدّعاء إليه بعده وبعد رسوله في كتابه ، فقال : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

ثمّ أخبر عن هذه الأمة وممّن هي ، وأنها من ذرّيّة إبراهيم ومن ذرّيّة إسماعيل ، من سكّان الحرم ، ممّن لم يعبدوا غير الله قطّ ، الّذين وجبت لهم دعوة إبراهيم وإسماعيل ، من أهل المسجد الّذين أخبر عنهم في كتابه أنّه أذهب عنهم الرّجس وطهرهم تطهيرا ، الّذين وصفناهم قبل هذا في صفة أمّة محمّد (٣) ، الّذين عناهم الله ـ تبارك وتعالى ـ في قوله : (أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) ، يعني : أوّل من اتّبعه على الإيمان به والتصديق له بما جاء من عند الله ـ عزّ وجلّ ـ من أمّته التي بعث فيها ومنها وإليها قبل الخلق ، ممّن لم يشرك بالله قطّ ولم يلبس إيمانه (٤) بظلم وهو الشّرك.

__________________

(١) المصدر : «ولا» بدل «ولا إلى ولا».

(٢) من المصدر. ويوجد المعقوفتان فيه أيضا.

(٣) بعض نسخ المصدر : «إبراهيم» بدل «محمد».

(٤) كذا في المصدر. وفي النسخ : ولم يلبسوا إيمانهم.

٥٥٣

ثمّ ذكر أتباع نبيّه ـ صلّى الله عليه وآله ـ وأتباع هذه الأمة ، الّتي وصفها بكتابه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجعلها داعية إليه وأذن لها في الدّعاء إليه ، فقال : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (١).

ثمّ وصف أتباع نبيّه ـ صلّى الله عليه وآله ـ من المؤمنين فقال : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ ، وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ ، تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً ، سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ، ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ) (٢). وقال : يوم لا يخزي الله النّبيّ والّذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم» (٣) يعني : أولئك المؤمنين. وقال : (أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) (٤).

ثمّ حلاهم ووصفهم كيلا يطمع في اللّحاق بهم إلّا من كان منهم ، فقال فيما حلالهم به ووصفهم : (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ـ إلى قوله ـ أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ ، الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٥). وقال في صفتهم وحليتهم أيضا : (الَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ ، وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً ، يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً) (٦).

ثمّ أخبر أنّه اشترى من هؤلاء المؤمنين ومن كان على مثل صفتهم (أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ، يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ، وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ).

ثمّ ذكر وفاءهم له بعهده ومبايعته (٧) ، فقال : (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ ، فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ ، وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٨).

فلما نزلت هذه الآية (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ)

__________________

(١) الأنفال / ٦٤.

(٢) الفتح / ٢٩.

(٣) التحريم / ٨.

(٤) المؤمنون / ٢.

(٥) المؤمنون / ٣ ـ ١١.

(٦) الفرقان / ٦٨ ـ ٦٩.

(٧) كذا في المصدر. وفي النسخ : ثم ذكر وآفاهم (وأتاهم ـ خ ل) له بعده ومتابعته.

(٨) التوبة / ١١١.

٥٥٤

قام رجل إلى النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ فقال : يا نبيّ الله ، أرأيتك الرّجل يأخذ سيفه فيقاتل حتّى يقتل إلا أنّه يقترف من هذه المحارم ، أشهيد هو؟

فأنزل الله ـ عزّ وجلّ ـ على رسوله (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ) (١) (الآية). فبشر (٢) النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ المجاهدين من المؤمنين الّذين هذه صفتهم وحليتهم بالشّهادة والجنّة ، وقال : «التّائبون» من الذنوب. [«العابدون»] (٣) الّذين لا يعبدون إلّا الله ولا يشركون به شيئا. «الحامدون» الّذين يحمدون الله على كلّ حال في الشدّة والرّخاء.

و «السّائحون» الصّائمون. (الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) الذين يواظبون على الصلوات الخمس ، الحافظون لها والمحافظون عليها بركوعها وسجودها والخشوع فيها وفي أوقاتها.

(الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) بعد ذلك ، والعاملون به. (وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) والمنتهون عنه.

قال : فبشّر من قتل وهو قائم بهذه الشّروط بالشّهادة والجنة.

والحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة.

عليّ بن إبراهيم (٤) ، عن أبيه ، عن عثمان بن عيسى ، عن سماعة ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال : لقي عبّاد البصريّ عليّ بن الحسين ـ عليهما السلام ـ في طريق مكّة.

فقال له : يا عليّ بن الحسين ، تركت الجهاد وصعوبته وأقبلت على الحجّ ولينته. إنّ الله ـ تعالى ـ يقول : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ـ إلى قوله ـ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ). فقال له عليّ بن الحسين ـ صلوات الله عليهما ـ : أتمّ الآية.

فقال : (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ ـ إلى قوله ـ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ).

فقال عليّ بن الحسين ـ عليهما السلام ـ : إذا رأينا هؤلاء الّذين هذه صفتهم ، فالجهاد معهم أفضل من الحجّ.

عدّة من أصحابنا (٥) ، عن سهل بن زياد ، عن جعفر بن محمّد ، عن ابن القداح ، عن أبيه الميمون ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ : أنّ أمير المؤمنين ـ عليه السّلام ـ كان إذا أراد القتال ، قال هذه الدعوات : اللهم ، إنّك أعلمت (٦) سبيلا من سبلك ، جعلت فيه

__________________

(١) التوبة / ١١٢.

(٢) المصدر : «ففسّر» بدل «فبشر».

(٣) من المصدر. (٤) الكافي ٥ / ٢٢ ، ح ١. (٥) الكافي ٥ / ٤٦ ، صدر ح ١.

(٦) كذا في المصدر. وفي النسخ : أعملت.

٥٥٥

رضاك وندبت إليه أولياءك ، وجعلته أشرف سبلك (١) عندك ثوابا وأكرمها لديك مآبا وأحبّها إليك مسلكا. ثمّ اشتريت فيه (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ، يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ، وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا). فاجعلني ممّن اشترى فيه منك نفسه ، ثمّ وفى لك ببيعه الّذي بايعك عليه ، غير ناكث ولا ناقض عهدا ولا مبدّلا تبديلا.

والدّعاء طويل أخذت منه موضع الحاجة.

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم (٢) : قال : نزلت في الأئمة ـ صلوات الله عليهم ـ.

حدثني أبي (٣) ، عن بعض رجاله قال : لقي الزّهريّ عليّ بن الحسين ـ عليهما السّلام ـ في طريق الحجّ.

فقال له : يا عليّ بن الحسين ، تركت الجهاد وصعوبته وأقبلت على الحجّ ولينته. إن الله ـ تبارك وتعالى ـ يقول : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ، يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ، وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ ، وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ ، وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

فقال عليّ بن الحسين ـ عليه السّلام ـ : إنّما هم الأئمة ـ صلوات الله عليهم ـ.

فقال : (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ ـ إلى قوله ـ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ).

فقال له عليّ بن الحسين ـ صلوات الله عليهما ـ : إذا رأينا هؤلاء الّذين هذه صفتهم ، فالجهاد معهم أفضل من الحجّ.

وفيه (٤) ـ أيضا ـ : أنزلت في الأئمّة ، لأنّه وصفهم بصفة لا تجوز في غيرهم.

فالآمرون بالمعروف هم الّذين يعرفون المعروف كلّه ، صغيره وكبيره ودقيقه وجليله (٥) و (النَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) هم الّذين يعرفون المنكر كلّه ، صغيره وكبيره. و (الْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) هم الّذين يعرفون حدود الله ، صغيرها وكبيرها ودقيقها وجليلها (٦). ولا يجوز أن يكون بهذه الصّفة غير الأئمّة.

وفي نهج البلاغة (٧) : إنّه ليس لأنفسكم ثمن إلّا الجنّة ، فلا تبيعوها إلّا بها.

__________________

(١) كذا في المصدر. وفي النسخ : سبيلك.

(٢) تفسير القمي ١ / ٣٠٦.

(٣) نفس المصدر والموضع.

(٤) تفسير القمي ١ / ٣٠٦ بتصرّف في صدره.

(٥) المصدر : جليّه.

(٦) المصدر : جليّها.

(٧) نهج البلاغة / ٥٥٦ ، ذيل حكمة ٤٥٦.

٥٥٦

وفيه (١) : فلا أموال بذلتموها للّذي رزقها ، ولا أنفس خاطرتم بها للّذي خلقها.

وفي تفسير العيّاشيّ (٢) : عن أبي بصير ، عن أبي جعفر ـ عليه السّلام ـ قال : سألته (٣) أنّه سئل عن قول الله ـ تعالى ـ : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى) (الآية).

فقال : يعني : في الميثاق.

ثمّ قرأت عليه : (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ).

فقال : لا ، ولكن اقرأها : التائبين العابدين (إلى آخر الآية).

وقال : إذا رأيت هؤلاء ، فعند ذلك هؤلاء اشترى منهم أنفسهم وأموالهم ، يعني : في الرّجعة.

(ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ)

في مجمع البيان (٤) ، وفي تفسير الحسن : أنّ المسلمين قالوا للنّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ : ألا تستغفر لآبائنا الّذين ماتوا في الجاهلية؟

فأنزل الله هذه الآية.

(وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) (١١٣) : بأن ماتوا على الكفر ، أو بوحي من الله : أنّهم لن يؤمنوا.

وفيه دليل على جواز الاستغفار لأحيائهم ما لم يعلم موتهم على الكفر ، فإنّه طلب توفيقهم للإيمان.

وبه دفع النّقض باستغفار إبراهيم لأبيه الكافر ، سواء كان أباه الّذي ولده أو جده لأمّه أو عمّه ، على ما رواه (٥) أصحابنا.

فقال : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) : وعدها إبراهيم أباه بقوله : «لأستغفرنّ لك» ، أي : لأطلبنّ مغفرتك بالتّوفيق للإيمان ، فإنّه يجب ما قبله. ويدل عليه قراءة من قرأها : «أباه». أو «وعدها إبراهيم أبوه» وهي الوعد بالإيمان.

__________________

(١) نفس المصدر / ١٧٤ ، صدر خطبة ١١٧.

(٢) تفسير العيّاشي ٢ / ١١٢ ـ ١١٣ ، ح ١٤٠.

(٣) كذا في المصدر. وفي النسخ : «أنه سئل» بدل «قال : سألته».

(٤) المجمع ٣ / ٧٦.

(٥) المجمع ٢ / ٣٢٢.

٥٥٧

(فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ) : بأن مات على الكفر. [فإنّه يجب ما قبله ويدلّ على الكفر] (١) أو أوحى إليه الله ، بأنّه لن يؤمن.

(تَبَرَّأَ مِنْهُ) : قطع استغفاره.

وفي تفسير العيّاشي (٢) : عن إبراهيم بن أبي البلاد ، عن بعض أصحابه قال : قال أبو عبد الله ـ عليه السّلام ـ : ما يقول النّاس في قول الله ـ عزّ وجلّ ـ (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ)؟

قلت : يقولون : إنّ إبراهيم وعد أباه أن يستغفر (٣) له.

قال : ليس هو هكذا. إنّ إبراهيم وعده أن يسلم ، فاستغفر له. فلمّا تبين له أنّه عدوّ لله ، تبرأ منه.

أبو إسحاق الهمدانيّ (٤) ، عن الخليل (٥) ، عن أبي عبد الله قال : صلّى رجل إلى جنبي فاستغفر لأبويه ، وكانا ماتا في الجاهلية.

فقلت : تستغفر لأبويك ، وقد ماتا في الجاهليّة؟

قال : فقد استغفر إبراهيم لأبيه.

فلم أدر ما أردّها عليه ، فذكرت ذلك للنبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ. فأنزل الله (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ ـ إلى قوله (٦) ـ وَعَدَها إِيَّاهُ ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ).

قال : لمّا مات (٧) تبيّن أنّه عدوّ لله ، فلم يستغفر له.

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم (٨) : قوله : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ).

قال : قال إبراهيم لأبيه : إن لم تعبد الأصنام ، استغفرت لك. فلمّا لم يدع الأصنام ، تبرأ منه.

(إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ) ، أي : يكثر التأوّه. وهو كناية عن فرط ترحّمه ورقّة قلبه.

__________________

(١) ما بين المعقوفتين ليس في المتن.

(٢) تفسير العياشي ٢ / ١١٤ ، ح ١٤٦.

(٣) المصدر : «ليستغفر» بدل «أن يستغفر».

(٤) تفسير العياشي ٢ / ١١٤ ، ح ١٤٨.

(٥) في بعض نسخ المصدر : عن رجل.

(٦) المصدر : «إلّا عن موعدة» بدل «إلى قوله».

(٧) المصدر : [مات].

(٨) تفسير القمي ١ / ٣٠٦.

٥٥٨

(حَلِيمٌ) (١١٤) : صبور على الأذى.

والجملة لبيان ما حمله على الاستغفار له ، مع شكايته عليه.

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم (١) : وفي رواية أبي الجارود ، عن أبي جعفر ـ عليه السّلام ـ قال : «الأوّاه» المتضرّع إلى الله في صلاته ، وإذا خلا في قفرة (٢) من الأرض وفي الخلوات.

وفي مجمع البيان (٣) روى أصحابنا : «إنّ إبراهيم لأوّاه» ، أي : دعّاء ، كثير الدّعاء [والبكاء] (٤). وهو المروي عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ.

وقيل (٥) : هو الخاشع المتذلل. رواه ابن شدّاد ، عن النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ.

وقيل (٦) : هو المتأوّه شفقا وفرقا ، المتضرّع (٧) يقينا بالإجابة ولزوما للطّاعة. عن أبي عبيدة.

وفي أصول الكافي (٨) : عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن عبد الرّحمن بن الحجّاج قال : قلت لأبي الحسن موسى ـ عليه السّلام ـ : أرأيت إن احتجت إلى متطبّب (٩) وهو نصرانيّ ، أن أسلم عليه وأن أدعو له؟

قال : نعم ، لا ينفعه دعاؤك.

محمّد بن يحيى (١٠) ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن ابن محبوب ، عن عبد الرّحمن بن الحجّاج قال : قلت لأبي الحسن ـ عليه السّلام ـ : أرأيت إن احتجت إلى الطّبيب وهو نصراني ، أن أسلم عليه وأدعو له؟

قال : نعم ، إنّه لا ينفعه دعاؤك.

عدّة من أصحابنا (١١) ، عن أحمد بن محمّد بن خالد ، عن محمّد بن عيسى ، بن (١٢)

__________________

(١) تفسير القمي ١ / ٣٠٦.

(٢) القفرة : الخلاء من الأرض ، لا ماء به ولا نبات.

(٣) المجمع ٣ / ٧٧. وليس فيه : روى أصحابنا.

(٤) من المصدر.

(١ و ٦) ـ نفس المصدر والموضع.

(٧) كذا في المصدر. وفي ر ، ب : للتضرع. وفي سائر النسخ : للمتضرّع.

(٨) الكافي ٢ / ٦٥٠ ، ح ٧.

(٩) أ ، ب : الطبيب. والمتطبّب : المتعاطي علم الطّب.

(١٠) نفس المصدر والموضع ، ح ٨.

(١١) نفس المصدر والموضع ، ح ٩.

(١٢) كذا في المصدر. وفي النسخ : «عن» بدل «بن».

٥٥٩

عبيد ، عن محمّد بن عرفة ، عن أبي الحسن الرضا ـ عليه السّلام ـ قال : قيل لأبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ : كيف أدعو لليهوديّ والنصرانيّ؟

قال : تقول : بارك الله لك في دنياك.

(وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً) : ليحملهم على الضّلالة. أو ليسمّيهم : ضلالا. أو يؤاخذهم مؤاخذتهم.

(بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ) : للإسلام.

(حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) : حتّى يبيّن لهم خطر ما يجب اتقاؤه. وهو دليل على أنّ الغافل غير مكلّف.

وفي أصول الكافي (١) : عليّ بن محمّد ، عن إسحاق بن محمّد ، عن شاهويه (٢) بن عبد الله الجلّاب قال : كتب إليّ أبو الحسن في كتاب : أردت أن تسأل عن الخلف بعد أبي جعفر ، وقلقت (٣) لذلك. فلا تغتم ، فإن الله ـ عزّ وجلّ ـ لا يضل (قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ). وصاحبكم بعدي أبو محمّد ، ابني. وعنده (٤) ما تحتاجون إليه ، يقدّم ما يشاء الله ويؤخر ما يشاء. (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) (٥). قد كتبت بما فيه بيان وقناع لذي عقل يقظان.

وفي قرب الإسناد (٦) للحميريّ ـ رحمه الله ـ : أحمد بن محمّد بن عيسى (٧) ، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر قال : سمعت الرّضا ـ عليه السّلام ـ يقول ـ إلى أن قال ـ : وعنه ، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر قال : دخلت عليه بالقادسيّة.

فقلت له : جعلت فداك ، إنّي أريد أن أسألك عن شيء وأنا أجلّك والخطب فيه جليل. وإنّما أريد فكاك رقبتي من النّار ، فرآني وقد زمعت (٨).

فقال : لا تدع شيئا تريد أن تسألني عنه (٩) ، إلّا سألتني عنه.

__________________

(١) الكافي ١ / ٣٢٨ ، ح ١٢.

(٢) كذا في المصدر وجامع الرواة ١ / ٣٩٨. وفي النسخ : شاوية.

(٣) كذا في المصدر. وفي النسخ : قلت.

(٤) كذا في المصدر. وفي النسخ : عندي.

(٥) البقرة / ١٠٦.

(٦) قرب الإسناد / ١٦٥ ـ ١٦٦.

(٧) أ ، ب ، ر : عن أحمد بن محمد بن عيسى.

(٨) كذا في المصدر. وفي النسخ : ربعت. وزمع : دهش.

(٩) كذا في المصدر. وفي النسخ : «تسأله» بدل «تسألني عنه».

٥٦٠