تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب - ج ٥

الشيخ محمّد بن محمّد رضا القمّي المشهدي

تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد بن محمّد رضا القمّي المشهدي


المحقق: حسين درگاهى
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الطبع والنشر التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٢

(اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً) حتى فرغ منها. فقلت : إنّا لسنا نعبدهم! قال : أليس يحرّمون ما أحلّ الله ، فتحرّمونه. ويحلّون ما حرّم الله ، فتستحلّونه؟

قال : فقلت : بلى.

قال : فتلك عبادتهم.

وفي أصول الكافي (١) : عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، [عن أبيه] (٢) عن عبد الله بن يحيى ، عن عبد الله بن مسكان ، عن أبي بصير قال : سألت أبا عبد الله ـ عليه السّلام ـ عن هذه الآية.

فقال : أما ، والله ، ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم. ولو دعوهم [إلى عبادة أنفسهم] (٣) ، لما أجابوهم. ولكن أحلّوا لهم حراما ، وحرّموا عليهم حلالا. فعبدوهم من حيث لا يشعرون.

عليّ بن محمّد (٤) ، عن صالح بن أبي حمّاد وعليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن رجل ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال : من أطاع رجلا في معصية الله (٥) ، فقد عبده.

وفي تفسير العيّاشيّ (٦) : عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ في هذه الآية قال : أمّا ، والله ، ما صاموا لهم ولا صلّوا. ولكنّهم أحلّوا لهم حراما وحرّموا عليهم حلالا ، فاتبعوهم.

وقال (٧) في خبر آخر ، عنه : ولكنّهم أطاعوهم في معصية الله.

عن جابر (٨) ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال : سألته عن هذه الآية.

قال : أما إنّهم لم يتّخذوهم آلهة ، إلّا أنّهم أحلوا حراما (٩) فأخذوا به ، وحرّموا حلالا (١٠) فأخذوا به. فكانوا أربابا لهم من دون الله.

(وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) : بأن جعلوه ابنا لله.

__________________

(١) الكافي ١ / ٥٣.

(١ و ٣) ـ ليس في المصدر.

(٤) الكافي ٢ / ٣٩٨.

(٥) ليس في المصدر.

(٦) تفسير العيّاشي ٢ / ٨٦.

(١ و ٨) ـ نفس المصدر والموضع.

(٩) كذا في المصدر. وفي النسخ : هو حلالا.

(١٠) كذا في المصدر. وفي النسخ : حراما.

٤٤١

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم (١) : وفي رواية أبي الجارود ، عن أبي جعفر ـ عليه السّلام ـ في هذه الآية : أمّا المسيح ، فعصوه ، وعظّموه في أنفسهم حتّى زعموا أنّه إله وأنّه ابن الله. وطائفة منهم قالوا : ثالث ثلاثة. وطائفة منهم قالوا : هو الله.

وأما أحبارهم ورهبانهم ، فإنّهم أطاعوهم وأخذوا بقولهم ، واتبعوا ما أمروهم به ، ودانوا (٢) بما دعوهم إليه ، فاتّخذوهم أربابا بطاعتهم لهم ، وتركهم أمر الله وكتبه ورسله ، فنبذوه (٣) وراء ظهورهم. وما أمرهم به الأحبار والرّهبان اتبعوه وأطاعوهم ، وعصوا الله ورسوله. وإنما ذكر هذا في كتابنا ، لكي نتّعظ بهم. فعيّر الله ـ تبارك وتعالى ـ بني إسرائيل بما صنعوا. بقوله (٤) : (وَما أُمِرُوا) ، أي : وما أمر المتّخذون ، أربابا. فيكون ، كالدّليل على بطلان الاتخاذ.

(إِلَّا لِيَعْبُدُوا) : ليطيعوا.

(إِلهاً واحِداً) : وهو الله ـ تعالى ـ. وأمّا طاعة الرّسل وسائر من أمر الله بطاعته ، فهي في الحقيقة طاعة الله.

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) : صفة ثانية. أو استئناف مقرر للتّوحيد.

(سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٣١) : تنزيله له عن أن يكون له شريك.

(يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا) : يخمدوا.

(نُورَ اللهِ) : حجته الدّالّة على وحدانيته وتقدسه عن الولد. أو القرآن. أو نبوة محمّد ـ صلّى الله عليه وآله ـ.

(بِأَفْواهِهِمْ) : بشركهم ، أو تكذيبهم.

(وَيَأْبَى اللهُ) : لا يرضى.

(إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) : بإعلاء التّوحيد وإعزاز الإسلام.

وقيل (٥) : إنّه تمثيل لحالهم في طلبهم إبطال نبوّة محمّد ـ صلّى الله عليه وآله ـ بالتكذيب ، بحال من يطلب إطفاء نور عظيم منبثّ في الآفاق يريد الله أن يزيده بنفخه.

__________________

(١) تفسير القمي ١ / ٢٨٨ ـ ٢٨٩.

(٢) المصدر : دانوا بهم.

(٣) أوب : فنبذوهم.

(٤) جعل المصنف نصّ الآية ضمن تفسيره.

(٥) أنوار التنزيل ١ / ٤١٣.

٤٤٢

وانّما صح الاستثناء المفرغ والفعل موجب ، لانّه في معنى النّفي.

(وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) (٣٢) : محذوف الجواب ، لدلالة ما قبله عليه.

وفي كتاب الاحتجاج (١) للطبرسيّ ـ رحمه الله ـ : عن أمير المؤمنين ـ عليه السّلام ـ في هذه الآية : يعني : أنّهم أثبتوا في الكتاب ما لم يقله الله ، ليلبسوا على الخليفة. فأعمى الله قلوبهم ، حتّى تركوا فيه ما دلّ على ما أحدثوه [وحرّفوا منه] (٢).

وفيه (٣) : عنه ـ عليه السّلام ـ : وجعل أهل الكتاب المقيمين به والعالمين بظاهره وباطنه من شجرة ، (أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ. تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها) ، أي : يظهر مثل هذا العلم لمحتمليه في الوقت بعد الوقت ، وجعل أعدائها أهل الشّجرة الملعونة الّذين حاولوا إطفاء نور الله بأفواههم. فأبى الله إلّا أن يتمّ نوره.

وفي كتاب الغيبة (٤) لشيخ الطائفة ـ قدس سرّه ـ : وروى محمّد بن أحمد بن يحيى ، عن بعض أصحابنا ، عن محمّد بن عيسى بن عبيد ، عن محمّد بن سنان قال : ذكر عليّ بن أبي حمزة عند الرّضا ـ عليه السّلام ـ فلعنه.

ثمّ قال : إنّ عليّ بن أبي حمزة أراد أن لا يعبد الله في سمائه وأرضه. (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ ... وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) ولو كره اللّعين المشرك.

قلت : المشرك.

قال : نعم ، والله ، وان رغم أنفه. كذلك هو في كتاب الله : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ). وقد جرت فيه وفي أمثاله ، أنّه أراد أن يطفئ نور الله.

بإسناده (٥) إلى الصّادق ـ عليه السّلام ـ حديث طويل. يقول فيه ـ عليه السّلام ـ وقد ذكر شقّ فرعون بطون الحوامل في طلب موسى ـ عليه السّلام ـ : كذلك بنو اميّة وبنو العبّاس لمّا أن وقفوا أن زوال ملك (٦) الأمراء والجبابرة منهم على يدي القائم ـ عليه السّلام ـ ، [منّا] (٧) ناصبونا العداوة (٨) ووضعوا سيوفهم في قتل أهل بيت رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ وإبادة نسله ، طمعا منهم في الوصول إلى قتل القائم ـ عليه السّلام ـ. فأبى الله أن يكشف

__________________

(١) الاحتجاج ١ / ٣٧١.

(٢) المصدر : فيه.

(٣) الاحتجاج ١ / ٣٧٦.

(٤) الغيبة / ٤٦.

(٥) الغيبة / ١٠٦.

(٦) المصدر : مملكة.

(٧) من المصدر.

(٨) المصدر : العداوة.

٤٤٣

أمره لواحد من الظّلمة (إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ ... وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ).

وفي كتاب كمال الدّين وتمام النّعمة (١) ، مثله سواء.

وفي تفسير العيّاشيّ (٢) : عن أحمد بن محمّد قال : وقف عليّ أبو الحسن الثّاني ـ عليه السّلام ـ في بني زريق ، فقال لي وهو رافع صوته (٣) : يا أحمد.

قلت : لبيك.

قال : إنّه لمّا قبض رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ جهد النّاس على إطفاء نور الله. فأبى الله إلّا أن يتمّ نوره بأمير المؤمنين.

وفي قرب الإسناد (٤) للحميريّ : معاوية بن حكيم ، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر قال : وعدنا أبو الحسن الرضا ـ عليه السّلام ـ [ليلة] (٥) إلى مسجد دار معاوية. فجاء ، فسلّم.

فقال : إنّ النّاس قد جهدوا على إطفاء نور الله حين قبض الله ـ تبارك وتعالى ـ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ. وأبى الله إلّا أن يتمّ نوره. وقد جهد عليّ بن أبي حمزة على إطفاء نور الله حين قبض (٦) أبو الحسن [الأوّل] (٧) ، فأبى الله إلّا أن يتمّ نوره. وقد هداكم الله [إلى من] (٨) جهله النّاس ، فاحمدوا الله على ما منّ عليكم به.

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) قيل (٩) : كالبيان لقوله : (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ). ولذلك كرّر (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (٣٣). غير أنّه وضع «المشركون» موضع «الكافرون» للدّلالة على أنّهم ضمّوا الكفر بالرّسول إلى الشّرك بالله.

والضّمير في «ليظهره» للدّين الحقّ ، أو للرّسول.

واللّام في «الدّين» للجنس ، أي : على سائر الأديان فينسخها ، أو على أهلها فيخذلهم.

__________________

(١) كمال الدّين / ٣٥٤.

(٢) تفسير العيّاشي ١ / ٣٧٢.

(٣) كذا في المصدر. وفي النسخ : حبوته.

(٤) قرب الإسناد / ١٥١.

(٥) من المصدر.

(٦) المصدر : مضى.

(٧) من المصدر.

(٨) المصدر : إليّ الأمر.

(٩) أنوار التنزيل ١ / ٤١٣.

٤٤٤

وفي كتاب كمال الدّين وتمام النّعمة (١) ، بإسناده إلى أبي بصير قال : قال أبو عبد الله ـ عليه السّلام ـ في هذه الآية. فقال : والله ما نزل تأويلها بعد ، ولا ينزل تأويلها حتّى يخرج القائم ـ عليه السّلام ـ فإذا خرج القائم ، لم يبق كافر بالله العظيم ولا مشرك بالإمام إلّا كره خروجه. حتّى لو كان كافر أو مشرك في بطن صخرة ، لقالت : يا مؤمن ، في بطني كافر فاكسرني وأقتله.

وبإسناده (٢) إلى [عبد الرحمن بن] (٣) سليط قال : قال الحسين بن عليّ بن أبي طالب ـ عليهما السّلام ـ : منّا اثنا عشرة مهديا. أوّلهم أمير المؤمنين ، عليّ بن أبي طالب ، وآخرهم التّاسع من ولدي. وهو القائم بالحقّ ، يحيى الله به الأرض بعد موتها ، ويظهر به الدّين الحقّ ([عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ] (٤) وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ).

والحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة.

وبإسناده (٥) إلى محمّد بن مسلم الثقفي قال : سمعت أبا جعفر محمّد بن عليّ ـ عليهما السلام ـ يقول : القائم منّا منصور بالرّعب ، مؤيّد بالنّصر ، تطوى له الأرض ، وتظهر له الكنوز ، ويبلغ سلطانه المشرق والمغرب ، ويظهر الله ـ عزّ وجلّ ـ به دينه على الدّين كله (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ). فلا يبقى في الأرض خراب ، إلّا عمر. ولا ينزل روح الله ، عيسى بن مريم ـ عليه السّلام ـ. فيصلي خلفه.

والحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة.

وفي أصول الكافي (٦) : عليّ بن محمّد ، عن بعض أصحابنا ، عن ابن محبوب ، عن محمّد بن الفضيل ، عن أبي الحسن الماضي ـ عليه السّلام ـ قال : قلت : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِ).

قال : هو الّذي أرسله (٧) بالولاية لوصيّه. والولاية هي دين الحقّ.

قلت : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ).

قال : يظهره على جميع الأديان عند قيام القائم. قال : يقول الله : «والله متمّ [نوره] (٨) ولاية القائم. (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) (٩) بولاية عليّ.

__________________

(١) كمال الدّين / ٦٧٠.

(٢) كمال الدّين / ٣١٧.

(١ و ٤) ـ من المصدر.

(٥) كمال الدين / ٣٣١.

(٦) الكافي ١ / ٤٣٢.

(٧) المصدر : أمر رسوله.

(٨) من المصدر.

(٩) الصف / ٩.

٤٤٥

قلت : هذا تنزيل؟

قال : نعم. أمّا هذا الحرف فتنزيل ، وأما غيره فتأويل. والحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة.

وفي كتاب الاحتجاج (١) للطبرسيّ ـ رحمه الله ـ : عن أمير المؤمنين ـ عليه السّلام ـ حديث طويل. وفيه : وغاب صاحب هذا الأمر بإيضاح العذر له في ذلك ، لاشتمال الفتنة على القلوب ، حتّى يكون أقرب النّاس إليه أشدّهم عداوة له. وعند ذلك يؤيّده الله بجنود لم تروها ، ويظهر دين نبيه ـ صلّى الله عليه وآله ـ [على يديه] (٢) (عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ).

وفي تفسير العيّاشيّ (٣) : عن أبي المقدام ، عن أبي جعفر ـ عليه السّلام ـ في هذه الآية : يكون أن لا يبقى أحد إلّا أقرّ بمحمّد ـ صلّى الله عليه وآله ـ.

وفي مجمع البيان (٤) : قال المقداد بن الأسود : سمعت رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ يقول : لا يبقى على وجه الأرض بيت مدر ولا وبر ، إلّا أدخله الله كلمة الإسلام.

إمّا بعزّ عزيز ، أو بذلّ ذليل. إمّا يعز بهم فيجعلهم الله من أهله ، فيعزّوا به ، وإمّا يذلّهم ، فيدينون له.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) : ليأخذونها بالرشى في الأموال. سمّى أخذ المال أكلا ، لأنه الغرض الأعظم منه.

(وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) : دينه.

(وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ) : يجوز أن يراد به الكثير من الأحبار والرّهبان ، فيكون مبالغة في وصفهم بالحرص على المال والضّنّ به. وأن يراد المسلمون الّذين يجمعون المال ويقتنونه ، ولا يؤدون حقّه. ويكون اقترانه بالمرتشين من أهل الكتاب ، للتغليظ قيد الكنز بعدم الإنفاق ، لئلّا يعمّ من جمع للإنفاق وبعد إخراج الحقوق.

__________________

(١) الاحتجاج ١ / ٣٨٢.

(٢) من المصدر.

(٣) تفسير العيّاشي ٢ / ٨٧.

(٤) المجمع ٣ / ٢٥.

٤٤٦

(فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٣٤) : هو الكيّ بهما.

(يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ) ، أي : يوم القيامة توقد النّار ذات حمى شديد عليها.

وأصله : تحمى بالنّار ، فجعل الإحماء للنّار مبالغة فيه. ثمّ حذفت النّار وأسند الفعل إلى الجارّ والمجرور ، تنبيها على المقصود. فانتقل من صيغة التأنيث إلى صيغة التّذكير. وانّما قال : «عليها» والمذكور شيئان ، لأنّ المراد بهما دراهم ودنانير كثيرة.

وكذا قوله : «ولا ينفقونها».

وقيل (١) : الضّمير فيهما للكنوز ، أو للأموال. فإن الحكم عامّ ، وتخصيصهما بالذّكر ، لأنّهما قانون التّمول. أو للفضة ، وتخصيصها لقربها ودلالة حكمها على أنّ الذّهب أولى بهذا الحكم.

(فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ).

قيل (٢) : لأن جمعهم وإمساكهم [إيّاه] (٣) ، كان لطلب الوجاهة بالغنى والتنعم (٤) بالمطاعم الشّهيّة والملابس البهية. أو لأنهم ازورّوا عن السّائل وأعرضوا عنه وولّوه ظهورهم. أو لأنّها أشرف الأعضاء الظّاهرة ، فانّها المشتملة على الأعضاء الرّئيسية ، التي هي الدماغ والقلب والكبد. أو لأنّها أصول الجهات الأربع ، التي هي مقاديم البدن ومآخيره وجنباه (٥).

(هذا ما كَنَزْتُمْ) : على إرادة القول.

(لِأَنْفُسِكُمْ) : لمنفعتها. وكان عين مضرتها ، وسبب تعذيبها.

(فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) (٣٥) ، أي : وبال كنزكم ، أو ما تكنزونه.

وقرئ : «تكنزون» ، بضمّ النّون.

في الكافي (٦) : محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ، عن محمّد بن سنان ، عن معاذ بن كثير قال : سمعت أبا عبد الله ـ عليه السّلام ـ يقول : موسع على شيعتنا أن ينفقوا ممّا في أيديهم بالمعروف. فإذا قام قائمنا ، حرم على كلّ ذي كنز كنزه حتّى يأتيه به فيستعين به

__________________

(١ و ٢) ـ أنوار التنزيل ١ / ٤١٤.

(٣) من المصدر.

(٤) كذا في المصدر. وفي النسخ : المتنعم.

(٥) كذا في المصدر. وفي النسخ : مؤخره وجنبتاه.

(٦) الكافي ٤ / ٦١.

٤٤٧

على عدوّه. وهو قول الله ـ تعالى ـ : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ـ إلى قوله ـ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ).

وفي أمالي (١) شيخ الطائفة ـ قدس سره ـ بإسناده : لما نزلت هذه الآية ، قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ : كل مال تؤدى زكاته ، فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين. وكل مال لا تؤدّى زكاته ، فهو كنز وان كان فوق الأرض.

وفي مجمع البيان (٢) : وروي عن عليّ ـ عليه السّلام ـ : ما زاد على أربعة آلاف ، فهو كنز أدّى زكاته أو لم يؤدها. وما دونها فهي نفقة.

قيل (٣) : لعلّ التوفيق بين هذه الأخبار ، أن يقال بجواز الجمع لغرض صحيح إلى ألفي درهم أو إلى أربعة آلاف ، بعد إخراج الحقوق. ومن جملة الحقوق حقّ الإمام ـ عليه السّلام ـ إذا كان ظاهرا ، وهو ما زاد على ما يكفّ صاحبه.

وروى (٤) سالم بن أبي جعدان ، عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ : لمّا نزلت هذه الآية ، قال : تبا للذّهب ، تبّا للفضّة ـ يكررها ثلاثا ـ. فشقّ ذلك على أصحابه.

فسأله عمر ، فقال : يا رسول الله ، أيّ المال نتّخذ؟

فقال : لسانا ذاكرا ، وقلبا شاكرا ، وزوجة مؤمنة تعين أحدكم على دينه.

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم (٥) ، حديث طويل. وفيه : نظر عثمان بن عفّان إلى كعب الأحبار ، فقال له : يا أبا إسحاق ، ما تقول في رجل أدّى زكاة ماله المفروضة ، هل يجب عليه فيما بعد ذلك شيء (٦)؟

فقال : لا ، ولو اتخذ لبنة من ذهب ولبنة من فضّة ما وجب عليه شيء.

فرفع أبو ذرّ ـ رضي الله عنه ـ عصاه فضرب بها رأس كعب. ثمّ قال له : يا ابن اليهوديّة الكافرة ، ما أنت والنّظر في أحكام المسلمين. قول الله أصدق من قولك حيث قال : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ) (الآية).

وفي رواية أبي الجارود (٧) ، عن أبي جعفر ـ عليه السّلام ـ في قوله :

__________________

(١) الأمالي ٢ / ١٣٣.

(٢) المجمع ٣ / ٢٦.

(٣) تفسير الصافي ٢ / ٣٤١.

(٤) مجمع البيان ٣ / ٤٦.

(٥) تفسير القمي ١ / ٥٢.

(٦) كذا في المصدر. وفي النسخ : فيء.

(٧) نفس المصدر ١ / ٢٨٩.

٤٤٨

(وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ) (الآية) فإن (١) الله حرّم كنز الذّهب والفضّة ، وأمر بإنفاقه في سبيل الله. وقوله : (يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى) (الآية). قال : كان أبو ذرّ الغفاريّ يغدو كلّ يوم ، وهو بالشّام ، فينادي بأعلى صوته : بشر أهل الكنوز بكيّ في الجباه وكيّ بالجنوب وكيّ بالظّهور أبدا ، حتّى يتردد (٢) الحرّ في أجوافهم.

وفي من لا يحضره الفقيه (٣) : عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ حديث طويل ، يذكر فيه الكبائر. وفيه منع (٤) الزّكاة المفروضة ، لأن الله ـ عزّ وجلّ ـ يقول : (يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى) (الآية).

وفي كتاب الخصال (٥) : عن الحارث قال : قال أمير المؤمنين ـ عليه السّلام ـ : قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ : الدينار والدرهم أهلكا من كان قبلكم ، وهما مهلكاكم.

عن محمّد بن أحمد بن يحيى (٦) بن عمران ، رفع الحديث قال : الذهب والفضّة حجران ممسوخان. فمن أحبّهما ، كان معهما.

(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ) : إنّ مبلغ عددها.

(عِنْدَ اللهِ) : معمول «عدّة». لأنّها مصدر.

(اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ) : في اللّوح المحفوظ ، أو في حكمه. وهو صفة «لاثناعشر». وقوله : (يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) : متعلّق بما فيه من معنى الثّبوت. أو بالكتاب ، ان جعل مصدرا.

والمعنى أنّ هذا الأمر ثابت في نفس الأمر منذ خلق الله الأجرام والأزمنة.

(مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) : يحرم فيها القتال. واحد فرد ، وهو رجب. وثلاثة سرد ، ذو القعدة وذو الحجّة والمحرّم.

(ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) ، أي : تحريم الأشهر الأربعة هو الدين القويم ، دين إبراهيم وإسماعيل ـ عليهما السّلام ـ. والعرب ورثوه منهما.

(فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) : بهتك حرمتها ، وارتكاب حرامها.

وفي الكافي (٧) : عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن عبد الله بن المغيرة ، عن عمرو

__________________

(١) كذا في المصدر. وفي النسخ : قال.

(٢) كذا في المصدر. وفي النسخ : تبرد.

(٣) الفقيه ٣ / ٣٦٩.

(٤) كذا في المصدر. وفي النسخ : موضع.

(١ و ٦) ـ الخصال / ٤٣.

(٧) الكافي ٤ / ٦٥ ـ ٦٦.

٤٤٩

الشّاميّ ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال : (إِنَّ [عِدَّةَ] (١) الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ). فغرّة الشّهور (٢) شهر الله ـ عزّ ذكره ـ. وهو شهر رمضان. [قلب شهر رمضان] (٣) ليلة القدر. ونزل القرآن في أوّل ليلة من شهر رمضان ، فاستقبل الشّهر بالقرآن.

عليّ بن إبراهيم (٤) ، عن أبيه ومحمّد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان جميعا ، عن ابن أبي عمير ، عن عمرو بن أذينة ، عن زرارة قال : كنت قاعدا إلى جنب أبي جعفر ـ عليه السّلام ـ وهو محتب مستقبل القبلة.

فقال أما إنّ النظر إليها عبادة.

فجاءه رجل من بجيلة ، يقال له : عاصم بن عمر. فقال لأبي جعفر ـ عليه السّلام ـ : إنّ كعب الأحبار كان يقول : إنّ الكعبة تسجد لبيت المقدس في كلّ غداة.

فقال أبو جعفر ـ عليه السّلام ـ : فما تقول فيما قال كعب؟ أصدق؟

قلت : أقول : القول ما قال كعب.

فقال أبو جعفر ـ عليه السّلام ـ : كذبت وكذب كعب الأحبار معك. وغضب.

قال زرارة : ما رأيته استقبل أحدا يقول : كذبت ، غيره.

ثمّ قال : ما خلق الله بقعة في الأرض أحبّ إليه منها ـ ثمّ أومأ بيده نحو الكعبة ـ ولا أكرم على الله ـ تعالى ـ منها بها (٥) حرم الله الأشهر الحرم في كتابه (يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ). ثلاثة متوالية للحجّ : شوّال ، وذو القعدة ، وذو الحجّة. وشهر مفرد للعمرة ، رجب.

وفي تفسير العيّاشيّ (٦) : عن أبي خالد الواسطيّ ، عن أبي جعفر ـ عليه السّلام ـ قال : حدثني أبي (٧) ، عليّ بن الحسين ، عن أمير المؤمنين ، أنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ لمّا ثقل في مرضه ، قال : أيّها النّاس ، إن السّنة اثنا عشر شهرا ، منها أربعة حرم.

ثمّ قال بيده : رجب مفرد ، وذو القعدة وذو الحجة والمحرّم ثلاث متواليات. ألا

__________________

(١ و ٣) ـ من المصدر.

(٢) كذا في المصدر. وفي النسخ : الشهر.

(٤) الكافي ٤ / ٢٣٩ ـ ٢٤٠.

(٥) كذا في المصدر. وفي النسخ : ما.

(٦) تفسير العيّاشي ٢ / ٨٨.

(٧) المصدر : أبي عن.

٤٥٠

وهذا الشّهر المفروض رمضان ، فصوموا للرّؤية (١) وأفطروا للرؤية (٢). فإذا خفي الشّهر ، فأتموا العدّة شعبان ثلاثين وصوموا الواحد والثّلاثين.

وقال بيده : الواحد والاثنين والثّلاثة.

ثمّ ثنّى إبهامه ، ثمّ قال : إنّها شهر كذا وشهر كذا.

وفي كتاب الخصال (٣) : عن محمّد بن أبي عمير ، يرفعه إلى أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ في قول الله ـ عزّ وجلّ ـ : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ).

قال : المحرّم ، وصفر ، وربيع الأول ، وربيع الآخر ، وجمادي الأول ، وجمادي الآخرة ، ورجب ، وشعبان ، ورمضان ، وشوّال ، وذو القعدة ، وذو الحجّة. منها أربعة حرم ، عشرون من ذي الحجّة والمحرّم وصفر وشهر ربيع الأوّل ، وعشر من ربيع الآخر.

عن أبي جعفر ـ عليه السّلام ـ : إنّ الله ـ تعالى ـ خلق الشّهور اثني عشر شهرا ، وهي ثلاثمائة وستّون يوما ، فحجز (٤) منها ستّة أيّام خلق فيها السّموات والأرض. فمن ثمّ تقاصرت الشّهور.

وفي شرح الآيات الباهرة (٥) ، ذكر (٦) الشيخ المفيد ـ رحمه الله ـ في كتاب الغيبة [قال] (٧) حدثنا عليّ بن الحسين قال : حدّثنا محمّد بن يحيى ، عن محمّد بن الحسين ، عن محمّد بن عليّ ، عن إبراهيم بن محمّد ، عن محمّد بن عيسى ، عن عبد الرّزاق ، عن محمّد بن سنان ، عن فضّال بن سنان (٨) ، عن أبي حمزة الثّماليّ قال : كنت عند أبي جعفر ، محمّد بن عليّ الباقر ـ عليه السّلام ـ ذات يوم. فلمّا تفرّق من كان عنده ، قال : يا أبا حمزة ، من المحتوم الّذي حتمه الله قيام قائمنا. فمن شكّ فيما أقول ، لقى الله وهو كافر به وله جاحد.

ثمّ قال : بأبي وأمي ، المسمّى باسمي ، المكنّى بكنيتي ، السّابع من ولدي. يأتي فيملأ الأرض عدلا وقسطا ، كما ملئت جورا وظلما. يا أبا حمزة ، من أدركه فيسلّم ما سلّم لمحمّد ـ صلّى الله عليه وآله ـ وعليّ ، فقد وجبت له الجنة. ومن لم يسلّم ، فقد حرّم الله عليه

__________________

(١ و ٢) ـ المصدر : لرؤية.

(٣) الخصال / ٤٨٧ ـ ٤٨٨ ، ح ٦٤.

(٤) المصدر : فحجر.

(٥) تأويل الآيات الباهرة ١ / ٢٠٢ ـ ٢٠٦.

(٦) المصدر : تأويله ما ذكره بدل ذكر.

(٧) من المصدر.

(٨) المصدر : «فضيل الرسان» بدل «فضّال بن سنان».

٤٥١

الجنّة ومأواه النّار وبئس مثوى الظّالمين. وأوضح من هذا ، بحمد الله وأنور وأبين وأزهر لمن هداه وأحسن إليه ، قول الله في محكم كتابه : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ، مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ، ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ).

ومعرفة الشّهور ، المحرّم وصفر وربيع وما بعده. والحرم منها ، رجب وذو القعدة وذو الحجّة والمحرّم. وذلك لا يكون دينا قيّما. لأنّ اليهود والنّصارى والمجوس وسائر الملل والنّاس جميعا من الموافقين والمخالفين يعرفون هذه الشّهور ويعدونها بأسمائها ، وليس هو كذلك. وإنّما عنى بهم : الأئمة القوّامين بدّين الله. والحرم منها أمير المؤمنين عليّ الّذى اشتقّ الله ـ سبحانه ـ له اسما من أسمائه العلى (١) ، كما اشتق لمحمّد ـ صلّى الله عليه وآله ـ اسما من أسمائه (٢) المحمود. وثلاثة من ولده أسماؤهم [عليّ وهم] (٣) عليّ بن الحسين وعليّ بن موسى وعليّ بن محمد. فصار لهذا الاسم المشتق من أسماء الله ـ عزّ وجلّ ـ حرمة به ، يعني : أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ.

وقال أيضا ـ رحمه الله ـ : أخبرنا سلامة بن محمّد قال : حدثنا أبو الحسن ، عليّ بن معمر (٤) قال : حدّثنا حمزة بن القاسم ، عن جعفر بن محمّد ، عن عبيد بن كثير ، عن أحمد بن موسى ، عن داود بن كثير الرّقيّ قال : دخلت على أبي عبد الله ، جعفر بن محمّد ـ عليهما السّلام ـ [بالمدينة] (٥).

فقال : ما الّذي أبطأك عنّا ، يا داود؟

قلت : حاجة لي عرضت بالكوفة.

فقال : من خلّفت بها؟

قلت : جعلت فداك ، خلّفت بها عمّك زيدا. تركته راكبا على فرس ، متقلدا مصحفا ، ينادي بعلو صوته سلوني قبل أن تفقدوني ، فبين جوانحي علم جمّ. قد عرفت الناسخ والمنسوخ والمثاني والقرآن [ضرابه علم جم] (٦) العظيم. وإني العلم بين الله وبينكم.

__________________

(١) المصدر : اسمه العلي.

(٢) المصدر : اسمه.

(٣) من المصدر.

(٤) بعض نسخ المصدر : عمر

(٥) من المصدر.

(٦) ليس في المصدر.

٤٥٢

فقال : يا داود ، لقد ذهبت بك (١) لمذاهب.

ثمّ نادى : يا سماعة بن مهران ، ائتني بسلّة الرّطب.

فأتاه بسلّة فيها رطب. فتناول رطبة وأكلها ، واستخرج النّواة من فيه ، وغرسها في الأرض. ففلقت ، ونبتت ، وأطلعت ، وأعذفت (٢). فضرب بيده إلى بسرة (٣) من عذق منها ، فشقّها واستخرج منها رقا أبيض ، [ففضّه] (٤) ودفعه إليّ.

وقال : اقرأه.

فقرأته ، وإذا فيه مكتوب سطران ، الأوّل : لا إله إلا الله ، محمّد رسول الله.

والثاني : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ، مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ). أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ، الحسن بن عليّ ، الحسين بن عليّ ، عليّ بن الحسين ، محمّد بن عليّ ، جعفر بن محمّد ، موسى بن جعفر ، عليّ بن موسى ، محمّد بن عليّ ، عليّ بن محمد ، الحسن بن علي ، الخلف الحجّة ـ عليهم السّلام ـ.

ثم قال : يا داود ، أتدري متى كتب هذا في هذا؟

قلت : الله ورسوله وأنتم أعلم.

قال : قبل أن يخلق الله آدم بألفي عام.

وفي هذا المعنى ما رواه المقلد بن غالب الحسني ـ رحمه الله ـ عن رجاله ، بإسناد متصل إلى عبد الله بن سنان الأسدي ، عن جعفر بن محمّد ـ عليهما السّلام ـ قال : قال أبي ، يعني : محمّد الباقر ـ عليه السّلام ـ لجابر بن عبد الله : لي إليك حاجة. أخلو [بك فيها] (٥).

فلمّا خلا به ، قال : يا جابر ، أخبرني عن اللّوح الّذي رأيته عند أمي ، فاطمة.

فقال : أشهد بالله ، لقد دخلت على سيدتي ، فاطمة ، لاهنئها (٦) بولدها (٧) الحسين (٨). فإذا بيدها لوح أخضر ، من زمرّدة خضراء ، في كتابة أنور من الشّمس وأطيب

__________________

(١) كذا في المصدر. وفي النسخ : تلك.

(٢) كذا في المصدر. وفي النسخ : أعزقت.

(٣) كذا في المصدر. وفي النسخ : شيء.

(٤) من المصدر.

(٥) كذا في المصدر. وفي النسخ : فيه.

(٦) كذا في المصدر. وفي النسخ : لأهنا.

(٧) ب : بولديها.

(٨) أ ، ب : الحسنين.

٤٥٣

رائحة من المسك الأذفر.

فقلت : ما هذا ، يا بنت رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ؟

فقالت : هذا لوح أنزله الله على أبي ، وقال : لي احفظيه. ففعلت. فإذا فيه اسم أبي ، واسم (١) بعلي ، واسم ابنيّ والأوصياء من بعد ولدي الحسين.

فسألتها أن تدفعه إليّ ، لأنسخه. ففعلت.

فقال له [أبي : ما فعلت بنسختك (٢)؟] (٣).

[فقال : هي عندي.

قال : فهل لك أن تعارضني عليها؟

قال : فمضى جابر إلى منزله ، فأتاه بقطعة جلد أحمر.

فقال له :] (٤) انظر في صحيفتك حتّى أقرأها عليك.

فكانت في صحيفته : بسم الله الرّحمن الرّحيم ، هذا كتاب من الله العزيز العليم ، نزل به (٥) الرّوح الأمين على محمّد خاتم النبيين. يا محمّد ، (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ، مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ، فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ).

يا محمّد ، عظّم أسمائي واشكر نعمائي ولا تجحد آلائي ولا ترج سواي ولا تخش غيري. فإنّه من يرجو سواي ويخشى (٦) غيري ، أعذّبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين.

يا محمّد ، إني اصطفيتك على الأنبياء واصطفيت وصيّك [عليا] (٧) على الأوصياء. وجعلت الحسن عيبة علمي ، بعد انقضاء مدّة أبيه. والحسين خير أولاد الأولين والآخرين ، فيه تثبت الإمامة [ومنه] (٨) العقب. وعليّ بن الحسين زين العابدين.

والباقر العلم الدّاعي إلى سبيلي على منهاج الحقّ. وجعفر الصادق في القول والعمل ، تلبس من بعده فتنة [صمّاء] (٩) ، فالويل كلّ الويل لمن كذّب عترة نبيي وخيرة خلقي.

__________________

(١) ليس في المصدر.

(٢) كذا في المصدر. وفي النسخ : بنسخك.

(٣) ليس في «ب».

(٤) ما بين المعقوفتين ليس في المصدر.

(٥) كذا في المصدر. وفي النسخ : أنزله.

(٦) المصدر : سوائي ويخش.

(٧) من المصدر.

(٨) من المصدر.

(٩) من المصدر.

٤٥٤

وموسى الكاظم الغيظ. وعليّ الرضا ، يقتله عفريت كافر ، يدفن بالمدينة الّتي بناها العبد الصّالح إلى جنب شر خلق الله. ومحمّد الهادي شبيه جده الميمون. وعليّ الدّاعي إلى سبيلي ، والذّابّ عن حرمي ، والقائم في رعيّتي (١). والحسن الأغر يخرج منه ذو الاسمين (٢) خلف محمّد ، يخرج في آخر الزمان وعلى رأسه عمامة بيضاء تظله [عن] (٣) الشّمس.

وينادي مناد بلسان فصيح يسمعه الثّقلان ومن بين الخافقين : هذا المهديّ من آل محمد.

فيملأ الأرض عدلا ، كما ملئت جورا. (انتهى ما في شرح الآيات الباهرة).

وقال ـ أيضا ـ في كتاب الغيبة (٤) روى جابر الجعفيّ قال : سألت أبا جعفر ـ عليه السّلام ـ عن تأويل قول الله ـ عزّ وجلّ ـ : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ) (الآية). فتنفّس [سيّدي] (٥) الصّعداء. ثمّ قال : يا جابر ، أما السّنة ، فهي جدي رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ. وشهورها اثنا عشر شهرا ، فهو أمير المؤمنين ، وإليّ ، وإلى ابني (٦) جعفر ، وابنه موسى ، [وابنه عليّ] (٧) وابنه محمّد ، وابنه عليّ ، وإلى ابنه الحسن ، وإلى ابنه محمّد الهادي المهديّ ، اثنا عشر اماما حجج الله في خلقه وأمناؤه على وحيه وعلمه. والأربعة الحرم الّذين هم الدّين القيّم ، أربعة منهم يخرجون باسم واحد : عليّ أمير المؤمنين ، وأبي عليّ بن الحسين ، وعليّ بن موسى ، وعليّ بن محمّد. فالإقرار بهؤلاء هو (الدِّينُ الْقَيِّمُ ، فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) ، أي : قولوا بهم جميعا ، تهتدوا.

(وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً).

في تفسير عليّ بن إبراهيم (٨) : عن الباقر ـ عليه السّلام ـ يقول : جميعا.

وهو مصدر ، كفّ عن الشيء. فإنّ الجميع مكفوف عن الزّيادة ، وتقع موقع الحال.

(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (٣٦) : بشارة وضمان لهم بالنضرة ، بسبب تقواهم.

(إِنَّمَا النَّسِيءُ) ، أي : تأخير حرمة الشّهر إلى شهر آخر. كانوا إذا جاء شهر

__________________

(١) المصدر : رغبتي.

(٢) كذا في المصدر. وفي النسخ : الأمين.

(٣) من المصدر.

(٤) الغيبة / ٩٦.

(٥) من المصدر.

(٦) المصدر : ابنه.

(٧) من المصدر.

(٨) تفسير القمي ١ / ٢٨٩ ـ ٢٩٠ ببعض التصرّف

٤٥٥

حرام ، وهم محاربون ، أحلّوه وحرّموا مكانه شهرا آخر. حتّى رفضوا خصوص الأشهر ، واعتبروا مجرّد العدد.

وعن نافع (١) : «انّما النّسيّ» بقلب الهمزة ياء ، وادغام الياء فيها.

وقرئ (٢) : «النّسي» بحذفها : كالرّمي. ونسبه في مجمع البيان (٣) إلى الباقر ـ عليه السّلام ـ. وفي الجوامع (٤) إلى الصّادق ـ عليه السّلام ـ. و «النّسء» و «النّساء» وثلاثتها مصادر نسأه : إذا أخّره.

(زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) : لأنه تحريم ما أحلّ الله ، وتحليل ما حرّمه. فهو كفر آخر ضمّوه إلى كفرهم.

(يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) : إضلالا زائدا.

وقرأ (٥) حمزة والكسائي وحفص : «يضلّ» على البناء للمفعول.

وعن يعقوب (٦) : «يضلّ» ، على أنّ الفعل لله.

(يُحِلُّونَهُ عاماً) : يحلّون «النّسيء» من الأشهر الحرم سنة ، ويحرّمون مكانه شهرا آخر.

(وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً) : فيتركونه على حرمته.

والجملتان تفسير للضّلال ، أو حال.

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم (٧) : كان سبب نزولها ، أنّ رجلا من كنانة كان يقف في الموسم فيقول : قد أحللت دماء المحلّين طيء وخثعم في شهر المحرّم ، وأنسأته وحرّمت بدله صفر. فإذا كان العام المقبل يقول : قد أحللت صفر وأنسأته ، وحرّمت بدله شهر المحرّم. فأنزل الله «إنّما النّسيء» (الآية).

وقيل (٨) : أوّل من أحدث ذلك جنادة بن عوف الكنانيّ. كان يقوم على جمل في الموسم فينادي : إن آلهتكم قد أحلّت لكم المحرّم ، فأحلّوه. ثمّ ينادي في القابل : إنّ آلهتكم قد حرّمت عليكم المحرّم ، فحرّموه.

__________________

(١) أنوار التنزيل ١ / ٤١٤.

(٢) نفس المصدر ، والموضع.

(١ و ٤) ـ مجمع البيان ٣ / ٢٨ ، وجوامع الجامع / ١٧٨.

(٥) أنوار التنزيل ١ / ٤١٥.

(٦) أنوار التنزيل ١ / ٤١٥.

(٧) تفسير القمي ١ / ٢٩٠.

(٨) أنوار التنزيل ١ / ٤١٥.

٤٥٦

(لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ) ، أي : ليوافقوا عدة الأربعة المحرّمة.

و «اللّام» متعلقة «بيحرّمونه». أو بما دلّ عليه مجموع الفعلين.

(فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ) : بمواطأة العدة وحدّها ، من غير مراعاة الوقت.

(زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ).

وقرئ (١) ، على البناء للفاعل ، وهو الله ـ تعالى ـ. والمعنى : خذلهم وأظلّهم ، حتّى حسبوا قبيح أعمالهم حسنا.

(وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) (٣٧) : هداية موصلة إلى الاهتداء.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ) : تباطأتم.

وقرئ (٢) : «تثاقلتم» ، على الأصل. و «اثاقلتم» ، على الاستفهام للتّوبيخ.

(إِلَى الْأَرْضِ) : متعلّق به ، كأنّه ضمن معنى : الإخلاد والميل ، فعدي «بإلى».

وفي الجوامع (٣) : كان ذلك في غزوة تبوك ، في سنة عشر ، بعد رجوعهم من الطائف. استفروا في وقت قحط وقيظ مع بعد الشقّة وكثرة العدوّ ، فشقّ ذلك عليهم.

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم (٤) : وذلك أنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ لم يسافر سفرا بعد ولا أشدّ منه. وكان سبب ذلك ، أنّ الصيّافة (٥) كانوا يقدمون المدينة من الشّام معهم الدّرموك (٦) والطّعام ، وهم الأنباط ، فأشاعوا بالمدينة أنّ الرّوم قد اجتمعوا يريدون غزو رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ في عسكر عظيم ، وأنّ هرقل قد سار (٧) في [جنوده ، وجلب] (٨) معهم غسّان وجذام وبهراء وعاملة ، وقد قدم عساكره البلقاء (٩) ، ونزل هو حمص.

فأمر رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ أصحابه بالتّهيّؤ إلى تبوك ، وهي من بلاد البلقاء (١٠) ، وبعث إلى القبائل حوله وإلى مكة وإلى من أسلم من خزاعة ومزينة وجهينة ،

__________________

(١) أنوار التنزيل ١ / ٤١٥.

(٢) أنوار التنزيل ١ / ٤١٥.

(٣) جوامع الجامع / ١٧٨.

(٤) تفسير القمي ١ / ٢٩٠ ـ ٢٩١.

(٥) أصاف القوم إذا دخلوا في الصيف وصائفة القوم مسيرتهم في الصيف.

(٦) الدرمك كجعفر : الدقيق الأبيض.

(٧) كذا في المصدر. وفي النسخ : صار.

(٨) المصدر : جنود رحلت.

(١ و ١٠) ـ كذا في المصدر. وفي النسخ : البلغا.

٤٥٧

وحثّهم على الجهاد. وأمر رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ بعسكره فضرب في ثنية الوداع.

وأمر أهل الجدة أن يعينوا من لا قوة به ، ومن كان عنده شيء أخرجه. وحمّلوا وقوّوا (١) وحثّوا على ذلك. ثمّ خطب خطبته (٢) ، ورغّب النّاس في الجهاد.

[لما سمعوا هذا من رسول الله] (٣) قدمت القبائل من العرب ممّن استنفرهم ، وقعد عنه قوم من المنافقين [وغيرهم] (٤).

(أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا) : وغرورها.

(مِنَ الْآخِرَةِ) : بدل الآخرة ونعيمها.

(فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) : فما التّمتّع بها.

(فِي الْآخِرَةِ) : في جنب الآخرة.

(إِلَّا قَلِيلٌ) (٣٨) : مستحقر.

(إِلَّا تَنْفِرُوا) : إن لا تنفروا إلى ما استنفرتم إليه.

(يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) : بالإهلاك بسبب فظيع ، كالقحط وظهور عدوّ.

(وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) : ويستبدل بكم آخرين مطيعين ، كأهل اليمن وأبناء فارس.

(وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً) : إذ لا يقدح تثاقلكم في نصر دينه شيئا. فإنّه الغنيّ عن كلّ شيء والنصرة. وفي كلّ أمر.

وقيل (٥) : الضّمير الرّسول ـ صلّى الله عليه وآله ـ ، أي : ولا تضرّوه ، فإنّ الله وعد له بالعصمة والنّصرة ، ووعده حقّ.

(وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٣٩) : فيقدر على التّبديل وتغيير الأسباب والنّصرة بلا مدد ، كما قال : (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ) : ان لم تنصروه فسينصره الله ، كما نصره.

(إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ) : ولم يكن معه إلّا رجل واحد. فحذف الجزاء وأقيم ما هو ، كالدّليل عليه ، مقامه. أو ان لم تنصروه ، فقد أوجب الله له النصرة

__________________

(١) كذا في المصدر. وفي النسخ : قرّوا.

(٢) الخطبة بتمامها في المصدر.

(٣) من المصدر وفي النسخ : بدل ما بين المعقوفتين قال.

(٤) ليس في المصدر.

(٥) أنوار التنزيل ١ / ٤١٥.

٤٥٨

حتّى نصره في مثل ذلك الوقت ، فلن يخذله في غيره. وإسناد الإخراج إلى الكفرة ، لأنّ همّهم بإخراجه أو قتله ، تسبّب لإذن الله له بالخروج.

وقرئ (١) : «ثاني اثنين» بالسّكون ، على لغة من يجري المنقوص مجرى المقصور في الإعراب. ونصبه على الحال.

وفي كتاب كمال الدّين وتمام النّعمة (٢) ، بإسناده إلى محمّد بن مروان ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال : إن أبا طالب أظهر الكفر وأسرّ (٣) الإيمان. فلمّا حضرته الوفاة ، أوحى الله ـ عزّ وجلّ ـ إلى الرّسول ـ صلّى الله عليه وآله ـ : اخرج منها ، فليس لك بها ناصر [فهاجر الى المدينة] (٤)

(إِذْ هُما فِي الْغارِ) : بدل من «إذ أخرجه» بدل البعض ، إذ المراد به زمان متّسع.

و «الغار» نقب في أعلى ثور. وهو جبل في يمين مكّة على مسيرة ساعة ، مكثا فيه ثلاثا.

وفي كتاب كمال الدّين وتمام النّعمة (٥) ، بإسناده إلى سعد بن عبد الله القميّ : عن الحجّة القائم ـ عليه السّلام ـ حديث طويل. يقول فيه : يا سعد ، وحين ادّعى خصمك أنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ ما أخرج من نفسه مختار هذه الأمة إلى الغار ، الا علما منه أنّ الخلافة له من بعده ، وأنّه هو المقلّد أمور التأويل ، [والملقى] (٦) إليه أزمّة الأمّة ، وعليه المعوّل في لمّ الشّعث وسدّ الخلل وإقامة الحدود وتسرية (٧) الجيوش لفتح بلاد الكفر.

فلمّا (٨) أشفق على نبوّته ، أشفق على خلافته. إذ لم يكن من حكم الاستتار والتّواري ، أن يروم الهارب من الشّرّ مساعدة من غيره إلى مكان يستخفي فيه. وإنّما أبات عليا ـ عليه السّلام ـ على فراشه ، لما لم [يكن] (٩) يكترث له [ولم يحفل به] (١٠).

__________________

(١) أنوار التنزيل ١ / ٤١٥.

(٢) كمال الدين / ١٧٤ ح ٣١.

(٣) كذا في المصدر. وفي النسخ : ستر.

(٤) من المصدر.

(٥) كمال الدين / ٤٦٢ ـ ٤٦٣.

(٦) من المصدر.

(٧) المصدر : تسريب.

(٨) فكما.

(٩) من المصدر.

(١٠) كذا في المصدر. وفي النسخ : لا تجعل له.

٤٥٩

لاستثقاله إيّاه وعلمه ، أنه إن قتل لم يتعذر عليه نصب غيره مكانه للخطوب (١) الّتي كانت يصلح لها.

فهلّا نقضت (٢) دعواه بقولك : أليس قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ : الخلافة بعدي ثلاثون سنة ، فجعل هذه موقوفة على أعمار الأربعة الّذين هم الخلفاء الرّاشدون في مذهبكم؟ وكان لا يجد بدا من قوله لك : بلى.

قلت له (٣) حينئذ : أليس كما علم رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ أنّ الخلافة من بعده لأبي بكر ، علم أنها من بعد أبي بكر لعمر ومن بعد عمر لعثمان ومن بعد عثمان لعليّ ـ عليه السّلام ـ فكان ـ أيضا ـ لا يجد بدّا من قوله لك : نعم.

ثمّ كنت تقول له : فكان الواجب على رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ أن يخرجهم جميعا على التّرتيب (٤) إلى الغار ، ويشفق عليهم ، كما أشفق على أبي بكر. ولا يستخف بقدر هؤلاء الثلاثة بتركه إياهم ، وتخصيصه أبا بكر وإخراجه مع نفسه دونهم.

وفي كتاب علل الشّرائع (٥) ، بإسناده إلى ابن مسعود قال : احتجّوا في مسجد الكوفة ، فقالوا : ما بال أمير المؤمنين لم ينازع الثّلاثة ، كما نازع طلحة والزّبير وعائشة ومعاوية؟

فبلغ ذلك عليا ـ عليه السّلام ـ فأمر أن ينادى : الصلاة الجامعة. فلمّا اجتمعوا ، صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه. ثمّ قال : يا معاشر النّاس ، إنّه بلغني عنكم كذا وكذا.

قالوا : صدق أمير المؤمنين ، قد قلنا ذلك.

قال : إنّ لي بسنة الأنبياء قبلي (٦) اسوة فيما فعلت. قال الله ـ تعالى ـ في محكم كتابه : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (٧).

قالوا : ومن هم ، يا أمير المؤمنين.

قال : أوّلهم إبراهيم ـ عليه السّلام ـ.

ـ إلى أن قال ـ : ولي بمحمّد ـ صلّى الله عليه وآله ـ أسوة حين فرّ من قومه ولحق

__________________

(١) كذا في المصدر. وفي النسخ : للخطور.

(٢) المصدر : نقضت عليه.

(٣) في المصدر : «فكيف تقول» بدل «له».

(٤) المصدر : [على الترتيب].

(٥) علل الشرائع ١٤٨ ـ ١٤٩ ، ح ٧.

(٦) ليس في المصدر.

(٧) الأحزاب : ٢١.

٤٦٠