الحدائق الناضرة - ج ٢٣

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٣

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٥٦

١
٢

الجزء الثالث والعشرون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على خير خلقه محمد وآله الطاهرين.

كتاب النكاح

وفيه مقدمة وفصول ، المقدمة ـ وفيها فوائد :

الاولى : في بدو النكاح وأصله روى الصدوق في الفقيه عن زرارة (١) في الصحيح قال : «سئل أبو عبد الله (عليه‌السلام) عن خلق حواء وقيل له : إن أناسا عندنا يقولون : إن الله عزوجل خلق حواء من ضلع آدم الأيسر الأقصى ، فقال : سبحان الله وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، أيقول من يقول هذا : إن الله تبارك وتعالى لم يكن له من القدرة ما يخلق لآدم زوجة من غير ضلعه ، ويجعل للمتكلم من أهل التشنيع سبيلا إلى الكلام أن يقول : إن آدم كان ينكح بعضه بعضا إذا كانت من

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ٢٣٩ ح ١ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢ ح ١.

٣

ضلعه ، ما لهؤلاء! حكم الله بيننا وبينهم ، ثم قال عليه‌السلام : إن الله تبارك وتعالى لما خلق آدم عليه‌السلام من طين وأمر الملائكة فسجدوا له ألقي عليه السبات ، ثم ابتدع له حواء فجعلها في موضع النقرة التي بين وركيه ، وذلك لكي تكون المرأة تبعا للرجل ، فأقبلت تتحرك فانتبه لتحركها ، فلما انتبه نوديت أن تنحي عنه ، فلما نظر إليها نظر إلى خلق حسن ، يشبه صورته ، غير أنها أنثى ، فكلمها فكلمته بلغته ، فقال لها : من أنت؟ قالت : خلق خلقني الله كما ترى ، فقال آدم عليه‌السلام عند ذلك : يا رب ما هذا الخلق الحسن الذي قد آنسني قربه ، والنظر إليه؟ فقال الله تبارك وتعالى : يا آدم هذه أمتي حواء أفتحب أن تكون معك تؤنسك وتحدثك وتكون تبعا لأمرك؟ فقال : نعم يا رب ، ولك علي بذلك الحمد والشكر ما بقيت ، فقال له عزوجل : فاخطبها إلي فإنها أمتي ، وقد تصلح لك أيضا زوجة للشهوة ، وألقى الله عزوجل عليه الشهوة ، وقد علمه قبل ذلك المعرفة بكل شي‌ء فقال : يا رب فإني أخطبها إليك فما رضاك لذلك؟ فقال عزوجل : رضاي أن تعلمها معالم ديني ، فقال : ذلك لك يا رب علي إن شئت ذلك لي ، فقال عزوجل : وقد شئت ذلك ، وقد زوجتكها فضمها إليك ، فقال لها آدم عليه‌السلام : إلي فاقبلي فقالت له : بل أنت فأقبل إلي فأمر الله عزوجل آدم أن يقوم إليها ، ولو لا ذلك لكان النساء هن يذهبن إلى الرجال حتى يخطبن على أنفسهن فهذه قصة حواء صلوات الله عليها».

ثم قال في الفقيه بعد نقل الخبر المذكور وأما قول الله عزوجل (١) «يا أَيُّهَا النّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً» فإنه روي «إنه عزوجل خلق من طينتها زوجها ، (وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً)».

__________________

(١) سورة النساء ـ آية ١.

٤

والخبر الذي روي أن حواء خلقت من ضلع آدم الأيسر صحيح ، ومعناه من الطينة التي فضلت من ضلعه الأيسر ، فلذلك صارت أضلاع الرجل أنقص من أضلاع النساء بضلع».

ومنها ما رواه في الفقيه في الصحيح والشيخ في التهذيب في الضعيف عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في ميراث الخنثى ، يعد الأضلاع ، والحديث طويل ، قال فيه برواية الشيخ في التهذيب (١) «فقال الزوج : يا أمير المؤمنين امرأتي وابنة عمي ألحقتها بالرجال ممن أخذت هذه القضية ، قال : اني ورثتها من أبي آدم وأمي حواء خلقت من آدم ، وأضلاع الرجال أقل من أضلاع النساء بضلع».

وفي رواية الفقيه «فقال زوجها : يا أمير المؤمنين ابنة عمي وقد ولدت مني تلحقها بالرجال؟!! فقال : اني حكمت عليها بحكم الله ، إن الله تعالى خلق حواء من ضلع آدم الأيسر الأقصى ، وأضلاع الرجال تنقص ، وأضلاع النساء تمام».

وروي في الفقيه أيضا عن السكوني (٢) عن جعفر بن محمد عن أبيه عليه‌السلام «أن علي بن أبي طالب عليه‌السلام كان يورث الخنثى فيعد أضلاعه ، فإن كانت أضلاعه أنقص من أضلاع النساء بضلع ، ورث ميراث الرجال ، لأن الرجل تنقص أضلاعه عن ضلع النساء بضلع ، لأن حواء خلقت من ضلع آدم عليه‌السلام القصوى اليسرى فنقص من أضلاعه ضلع واحد».

وما رواه العياشي في تفسيره (٣) «عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : خلقت حواء من قصيرا جنب آدم ، والقصيرا هو الضلع الأصغر ، وأبدل الله مكانه لحما».

وفي رواية (٤) «خلقت حواء من جنب آدم وهو راقد».

ومما يؤيد الخبر الأول ما رواه العياشي في تفسيره عن الباقر عليه‌السلام (٥) «أنه

__________________

(١) الفقيه ج ٤ ص ٢٣٩ ح ٤ ، التهذيب ج ٩ ص ٣٥٤ ح ٥ ، الوسائل ج ١٧ ص ٥٧٥ ح ٣.

(٢) الفقيه ج ٤ ص ٢٣٨ ح ٢ ، الوسائل ج ١٧ ص ٥٧٦ ح ٤.

(٣ و ٤ و ٥) تفسير العياشي ج ١ ص ٢١٥ ح ٢ و ٣ وص ٢١٦ ح ٧ ، البحار ج ١١ ص ١١٦.

٥

سئل من أي شي‌ء خلق الله حواء؟ فقال : أي شي‌ء يقولون هذا الخلق؟ قلت : يقولون ، إن الله خلقها من ضلع من أضلاع آدم فقال : كذبوا أكان الله يعجزه أن يخلقها من غير ضلعه؟ فقلت : جعلت فداك يا بن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من أي شي‌ء خلقها؟ فقال : أخبرني أبي عن آبائه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن الله تبارك وتعالى قبض قبضة من طين فخلطها بيمينه ـ وكلتا يديه يمين ـ فخلق منها آدم وفضلت فضلة من الطين فخلق منها حواء».

ومن الأخبار المنتظمة في سلك هذا النظام ما رواه في علل الشرائع بإسناده إلى عبد الله بن يزيد بن سلام (١) «أنه سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : فأخبرني عن آدم خلق من حواء أو خلقت حواء من آدم؟ قال : بل حواء خلقت من آدم ولو كان آدم خلق من حواء لكان الطلاق بيد النساء ، ولم يكن بيد الرجال.

قال : فمن كله خلقت أو من بعضه؟ قال : بل من بعضه ، ولو خلقت من كله لجاز القصاص في النساء ، كما يجوز في الرجال.

قال : فمن ظاهره أو باطنه؟ قال : بل من باطنه ، ولو خلقت من ظاهره لانكشفن النساء كما ينكشف الرجال ، فلذلك صارت النساء متسترات.

قال : فمن يمينه أو من شماله؟ قال : بل من شماله ، ولو خلقت من يمينه لكان للأنثى مثل حظ الذكر من الميراث ، فلذلك صار للأنثى سهم ، وللرجل سهمان ، وشهادة امرأتين مثل شهادة رجل واحد.

قال : فمن أين خلقت قال : من الطينة التي فضلت من ضلعه الأيسر ، قال : صدقت يا محمد». والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة.

وبإسناده إلى الحسن بن عبد الله (٢) عن آبائه عن جده الحسن بن علي بن

__________________

(١) العلل ص ٤٧٠ طبع النجف الأشرف سنة ١٣٨٥ ح ٣١ من باب ٢٢٢ النوادر البحار ج ١١ ص ١٠١.

(٢) علل الشرائع ص ٥١٢ ب ٢٨٦ ح ١.

٦

أبي طالب عليهما‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث طويل يقول فيه عليه‌السلام «خلق الله عزوجل آدم من طين ومن فضلته وبقيته خلقت حواء».

أقول : والجمع بين هذه الأخبار محتمل بأحد وجهين.

أحدهما ـ حمل ما تدل على أنه خلقت من ضلعه على التقية ، لما عرفت من نسبة القول بذلك إلى العامة ، وتشديدهم في إنكاره ، ولا ينافي ذلك أخبار الخنثى ، لأن الحكم عليها بذكورية انما وقع من حيث كونها مثل الذكور في عدد الأضلاع ، فألحقت بهم ، وأما تعليل ذلك بما ذكر فإنما خرج مخرج التقية.

وثانيهما ـ أن المراد بخلقها من ضلعه الأيسر يعنى من طينة ضلعه الأيسر كما صرح به الخبر الأخير ، وأجمل في غيره من الأخبار بأنها خلقت من فضل طينته ، فمعنى قولهم أن حواء خلقت من آدم أو من ضلعه ليس على ما يتبادر في الظاهر كما فهمه العامة وقالوا به ، بل المراد إنما هو باعتبار الطينة ، وحينئذ فالتكذيب للعامة إنما هو فيما فهموه من الخبر وحملوه عليه ، وإلى هذا يأول كلام الصدوق في الفقيه المتقدم فإنه جعله وجه جمع بين الأخبار.

ومثل هذا الاختلاف في الأخبار قد وقع في تزويج آدم بناته من بنيه وعدمه ، فجملة من الأخبار دلت على الأول وجملة دلت على الثاني بأبلغ وجه في إنكار الأول كما تضمنه بعضها ، والجمع بينهما بحمل الأخبار الدالة على الأول على التقية كما هو قول المخالفين المنسوب إليهم وفي بعض الأخبار بالنسبة إلى كلا الأمرين أنه كان حلالا ثم حرم ، وهو ما رواه في كتاب الاحتجاج عن علي بن الحسين (١) عليه‌السلام في حديث طويل وربما جعل وجها للجمع بين الأخبار.

وفيه أن الأخبار إنما تصادمت وتعارضت في فعل آدم ونكاحه حواء مع كونها خلقت منه ، وتزويج بناته بأولاده وقد دلت أخبار المنع على إنكاره في

__________________

(١) الاحتجاج ج ٢ ص ٤٤ طبع النجف الأشرف.

٧

كلا الموضعين أشد الإنكار ، فكيف يجعل هذا وجها في الجمع بينهما ، وهي ظاهرة في رده.

نعم حمل هذا الخبر على التقية كما حملنا عليه تلك الأخبار لا يخلو من البعد لأن المخالفين قائلون بوقوع ذلك من آدم من غير نسخ ولا تحريم بعد ذلك إلا أنه يمكن ايضا رجوعه إلى تلك الأخبار بنوع من الاعتبار ، بان يكون منشأ التقية فيها فعلة آدم وأن حكمهم بصحة فعله في كلا المقامين تقية ، أعم من أن يكون نسخ ذلك أو لم ينسخ ، والله العالم.

الثانية : قد استفاضت الأخبار بل ربما بلغت حد التواتر المعنوي بالحث على النكاح والترغيب فيه ، وعضدتها جملة من الآيات القرآنية.

قال الله عزوجل (١) «وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ، وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ» ، وقال تعالى شأنه (٢) «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» إلى غير ذلك من الآيات.

وروى المشايخ الثلاثة نور الله تعالى مراقدهم ، عن القداح (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «ركعتان يصليهما متزوج أفضل من رجل عزب يقوم ليله ويصوم نهاره».

قال في غيره (٤) «وروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : أكثر أهل النار العزاب».

وروي في الكافي عن كليب الأسدي (٥) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قال رسول الله

__________________

(١) سورة النور ـ آية ٣٢.

(٢) سورة الروم ـ آية ٢١.

(٣) الكافي ج ٥ ص ٣٢٩ ح ٦ ، التهذيب ج ٧ ص ٢٣٩ ح ٣ ، الفقيه ج ٣ ص ٢٤٢ ح ١١٤٧.

(٤) الفقيه ج ٣ ص ٢٤٢ ح ١١٤٩.

(٥) الكافي ج ٥ ح ٣٢٨ ح ٢.

وهذه الروايات في الوسائل ج ١٤ ص ٧ ح ٣ وص ٨ ح ٧ وص ٥ ح ١١.

٨

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من تزوج أحرز نصف دينه». قال : وفي حديث آخر «فليتق الله في النصف الآخر أو الباقي».

أقول : لعل المراد ـ والله سبحانه وقائله أعلم ـ أن الداعي إلى ارتكاب المحرم إما أن يكون من جهة الشهوة الحيوانية ، أو من جهة الضرورة البدنية بالمأكل والملبس ، والأول يندفع بالتزويج ، ويبقي الباقي وليتق الله سبحانه فيه بتحصيله من حله.

وروي في الكافي والفقيه (١) «عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن أراذل موتاكم العزاب».

وروي في الكافي في الحسن أو الصحيح عن عبد الله بن سنان (٢) «عن أبي عبد الله عليه‌السلام «قال : لما لقي يوسف أخاه قال : يا أخي كيف استطعت أن تتزوج النساء بعدي؟ فقال : إن أبي أمرني وقال : إذا استطعت أن تكون لك ذرية تثقل الأرض بالتسبيح فافعل».

وفي الفقيه عن عمرو بن شمر (٣) «عن الباقر عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما يمنع المؤمن أن يتخذ أهلا ، لعل الله أن يرزقه نسمة تثقل الأرض بلا إله إلا الله».

وروي في الفقيه في الصحيح عن ابن رئاب عن محمد بن مسلم (٤) «عن أبي عبد الله عليه‌السلام» قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم غدا في القيامة حتى أن السقط ليجي‌ء محبنطئا (٥) على باب الجنة فيقال له : أدخل فيقول : لا حتى يدخل أبواي قبلي».

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٣٢٩ ح ٣ ، الفقيه ج ٣ ص ٢٤٢ ح ٣.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٣٢٩ ح ٤.

(٣ و ٤) الفقيه ج ٣ ص ٢٤١ ح ١.

وهذه الروايات في الوسائل ج ١٤ ص ٧ ح ٣ وص ٥ ح ٩ وص ٣ ح ٣ و ٢.

(٥) المحبنطئ بالحاء المهملة ثم الباء الموحدة ثم النون ثم الطاء المهملة يهمز ولا يهمز هو الممتلئ غضبا وغيضا المستبطئ للشي‌ء ، وقيل : هو الممتنع امتناع طلب لا امتناع إباء (منه ـ رحمه‌الله ـ).

٩

وروي في الكافي عن محمد بن مسلم (١) «عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : تزوجوا فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : من أحب أن يتبع سنتي فإن من سنتي التزويج».

وروي في الكافي والتهذيب عن القداح (٢) «عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : جاء رجل إلى أبي عبد الله عليه‌السلام فقال له : هل لك من زوجة؟ فقال لا فقال : أبو عبد الله عليه‌السلام : ما أحب أن الدنيا وما فيها لي وإني بت ليلة ليست لي زوجة».

ثم قال : ركعتان يصليهما متزوج أفضل من رجل عزب يقوم ليله ويصوم نهاره.

ثم أعطاه أبي سبعة دنانير وقال : تزوج بهذه ، ثم قال : قال أبي : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : اتخذوا الأهل فإنه أرزق لكم».

إلى غير ذلك من الأخبار الجارية في هذا المضمار.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنه لا خلاف بين أصحابنا (رضى الله عنهم) في استحبابه استحبابا مؤكدا لمن تاقت نفسه إليه ، بل ادعي على ذلك إجماع المسلمين إلا من شذوذ منهم ، حيث ذهب إلى الوجوب.

وإنما الخلاف فيمن لم تتق نفسه إليه ، فالمشهور الاستحباب أيضا لما تقدم من الآيات والروايات ، فإنها دالة بإطلاقها وعمومها على ذلك ، وهو الحق الحقيق بالاتباع ، فإن استحباب النكاح لا ينحصر في كسر الشهوة ، ليكون عدمها رافعا لاستحبابه ، بل قد عرفت من الأخبار المتقدمة أن له فوائد وغايات عديدة.

منها : كثرة النسل ، وما يترتب عليه من الفوائد المذكورة في الأخبار كمباهاته صلى‌الله‌عليه‌وآله بهم الأمم ، وشفاعة الطفل لأبويه ونحو ذلك.

__________________

(١ و ٢) الكافي ج ٥ ص ٣٢٩ ح ٥ و ٦، التهذيب ج ٧ ص ٢٣٩ ح ٣ ، الوسائل ج ١٤ ص ٦ ح ١٤ وص ٧ ح ٤.

١٠

ومنها : الزيادة في الرزق كما دل عليه الخبر الأخير ، وفي معناه أخبار أخر أعرضنا عن التطويل بنقلها ، ومنها : مزيد الثواب في عباداته.

ونقل عن الشيخ في المبسوط أن من لا يشتهي النكاح يستحب له أن لا يتزوج مستدلا بقوله تعالى (١) عن يحيى «سَيِّداً وَحَصُوراً» حيث مدحه على كونه حصورا ، وهو الذي لا يشتهي النساء ، وقيل : الذي يمكنه أن يأتي ولا يفعله.

واستدل له أيضا بأن في النكاح تعريضا لتحمل الحقوق الزوجية والاشتغال عن كثير من المطالب الدينية ، وحصول الولد الصالح والزوجة الصالحة غير معلوم ، وبالذم المتبادر عن قوله تعالى (٢) «زُيِّنَ لِلنّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ» خرج منه ما أجمع على رجحانه فيبقى الباقي.

وأجيب بأن مدح يحيى بذلك لعله مختص بشرعه ، فلا يلزمنا مثله ، ورد بأن المدح في كتابنا وهو شرعنا وهو مطلق ، فلا دلالة على اختصاصه بشرعه وعلى تقدير نقله عن شرعه ففي تعديته إلى شرعنا مع نقل القرآن له وعدم الإشارة إلى نسخه دليل إلى ثبوته ، وكون شرعنا ناسخا لما قبله من الشرائع يفيد نسخ المجموع من حيث هو مجموع ، وأما الأفراد فلا ، للقطع ببقاء كثير منها في شرعنا كأكل الطيبات ونكاح الحلائل وغير ذلك ، انتهى.

أقول : لا يخفى على من راجع الأخبار وجاس خلال الديار أن المعلوم منها هو استحباب النكاح مطلقا والتأكيد فيه كما قدمنا ذكره ، وأن ما كان في الأمم السابقة من الرهبانية والتبتل بترك النكاح وغيره منسوخ في شرعنا وأن ما دلت عليه الآية المزبورة من مدح يحيى بكونه حصورا لا يأتي النساء أو لا يشتهي غير محمول عليه في شرعنا.

فمن الأخبار الدالة على ما ذكرنا بأوضح دلالة زيادة على ما تقدم ما رواه

__________________

(١ و ٢) سورة آل عمران ـ آية ٣٩ و ١٤.

١١

في الكافي (١) «عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : جاءت امرأة عثمان بن مظعون إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت : يا رسول الله إن عثمان يصوم النهار ويقوم الليل.

فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مغضبا يحمل نعليه حتى جاء إلى عثمان فوجده يصلي ، فانصرف عثمان حين رأي رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فقال له : يا عثمان لم يرسلني الله تعالى بالرهبانية ، ولكن بعثني بالحنفية السهلة السمحة أصوم وأصلي وألمس أهلي ، فمن أحب فطرتي فليستن بسنتي ، ومن سنتي النكاح».

وروى في الكتاب المذكور (٢) «عن أبي عبد الله عليه‌السلام إن ثلاث نسوة أتين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت إحداهن : إن زوجي لا يأكل اللحم ، وقالت أخرى : إن زوجي لا يشم الطيب ، وقالت اخرى : إن زوجي لا يقرب النساء ، فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجر ردائه حتى صعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : ما بال أقوام من أصحابي لا يأكلون اللحم ، ولا يشمون الطيب ، ولا يأتون النساء أما إني آكل اللحم وأشم الطيب وآتي النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني».

وروى فيه (٣) بسنده «عنه عليه‌السلام قال : نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النساء أن يتبتلن ويعطلن أنفسهن عن الأزواج».

وروى فيه عن عبد الصمد بن بشير (٤) قال : «دخلت امرأة على أبي عبد الله عليه‌السلام قالت : أصلحك الله إني امرأة متبتلة ، قال : وما التبتل عندك؟ قالت : لا أتزوج قال : ولم؟ قالت ألتمس بذلك الفضل ، فقال : انصرفي : فلو كان ذلك فضلا لكانت فاطمة عليها‌السلام أحق بذلك منك ، إنه ليس أحد يسبقها إلى الفضل».

وروى فيه بسنده (٥) الى أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دخل بيت أم سلمة فشم ريحا طيبة ، فقال : أتتكم الحولاء ، فقالت : هوذا هي تشكو زوجها

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤ و ٥) الكافي ج ٥ ص ٤٩٤ ح ١ وص ٤٩٦ ح ٥ وص ٥٠٩ ح ١ و ٣ وص ٤٩٦ ح ٤ ، الوسائل ج ١٤ ص ٧٤ الباب ٤٨ ح ١ و ٢ وص ١١٧ الباب ٨٤ ح ١ و ٢ وص ٧٥ ح ٢.

١٢

فخرجت عليه الحولاء فقالت : بأبي أنت وأمي إن زوجي عني معرض ، فقال : زيديه قالت : ما أترك شيئا طيبا إلا أتطيب له به وهو عني معرض ، فقال : أما لو يدري ما له بإقباله عليك ، قالت : وما له بإقباله علي؟ فقال : أما إنه إذا أقبل اكتنفه ملكان فكان كالشاهر سيفه في سبيل الله ، فإذا هو جامع تحات عنه الذنوب كما يتحات ورق الشجر ، فإذا هو اغتسل انسلخ من الذنوب».

ونقل الشيخ محمد بن الحسن الحر في كتاب الوسائل عن المرتضى في رسالة المحكم والمتشابه نقلا عن تفسير النعماني (١) بإسناده «عن علي عليه‌السلام قال : إن جماعة من الصحابة كانوا حرموا على أنفسهم النساء ، والإفطار بالنهار ، والنوم بالليل ، فأخبرت أم سلمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فخرج إلى أصحابه فقال : أترغبون عن النساء إني آتي النساء وآكل بالنهار وأنام بالليل ، فمن رغب عن سنتي فليس مني ، فأنزل الله سبحانه (٢) (لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)» الحديث.

وروى الثقة الجليل علي بن إبراهيم (٣) القمي في تفسيره في تفسير قوله سبحانه «لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ» بسنده «عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : نزلت هذه الآية في أمير المؤمنين عليه‌السلام وبلال وعثمان بن مظعون ، فأما أمير المؤمنين عليه‌السلام فحلف أن لا ينام بالليل أبدا ، وأما بلال فحلف أن لا يفطر بالنهار أبدا ، وأما عثمان بن مظعون فإنه حلف أن لا ينكح أبدا ، فدخلت امرأته على عائشة وكانت امرأة جميلة فقالت عائشة : مالي أراك معطلة ، فقالت : ولمن أتزين؟ فوالله ما قاربني زوجي منذ كذا وكذا ، فإنه قد ترهب ولبس المسوح وتزهد في الدنيا ، فلما دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أخبرته عائشة بذلك ، فخرج فنادى : الصلاة جامعة ، فاجتمع الناس

__________________

(١) الوسائل ج ١٤ ص ٨ ح ٩.

(٢) سورة المائدة ـ آية ٨٧.

(٣) تفسير على بن إبراهيم ج ١ ص ١٧٩.

١٣

فصعد المنبر ، فحمد الله وأثني عليه ، ثم قال : ما بال أقوام يحرمون علي أنفسهم الطيبات ألا إني أنام بالليل وأنكح وأفطر بالنهار ، فمن رغب عن سنتي فليس منى فقام هؤلاء فقالوا : يا رسول الله لقد حلفنا على ذلك فأنزل الله (١) (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ). إلى آخر الآية».

فانظر إلى هذه الأخبار وصراحتها في دفع ما توهمه ذلك القائل من الاستدلال بالآية المذكورة وضعف ما رد به الجواب المتقدم (٢) ، فإنه لو كان ما ذكره (رحمه‌الله) حقا من استحباب ذلك في شرعنا كما كان في تلك الشريعة السابقة لما صدر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله هذه الإنكارات العديدة في هذه الأخبار ، والنسبة إلى مخالفة سنته ، وإن ذلك من الرجال والنساء ، إنما هو من الرهبانية التي كانت سنة في الأمم السابقة ونسخت بسنته.

وأما باقي تعليلاته العليلة فهي في مقابلة ما ذكرنا من الأخبار أظهر في الضعف من أن يقابل بالإنكار.

ونزيده إيضاحا ، فنقول : إنه إذا ثبت من الشارع الحث على هذا الفعل والترغيب فيه ، وبيان ما فيه من الأجر والثواب والمنافع الدينية والدنيوية ، فهو من جملة المطالب الدينية المأمور بها ، بل هو من أفضلها وأشرفها لما عرفت من زجره

__________________

(١) سورة البقرة ـ آية ٢٢٥.

(٢) أقول : ومن ذلك ما رواه في كتاب مكارم الأخلاق ، عن الصادق عليه‌السلام قال : قيل لعيسى بن مريم : ما لك أن تتزوج؟ قال : ما أصنع بالتزويج؟ قالوا : يولد لك ، قال : وما أصنع بالأولاد ، ان عاشوا فتنوا ، وان ماتوا حزنوا. أقول : ومقتضى ما ذكره القائل المذكور ، ان ما روى في شرعنا يلزم أن يكون الحكم فيه كذلك عندنا ، فيلزم بمقتضى هذا الخبر مرجوحية التزويج في شرعنا والاخبار المستفيضة كما عرفت بخلافه ، وبالجملة فرواية ذلك أو ذكره في القرآن أعم من ذلك ، والعام لا دلالة فيه على الخاص ، والمرجع في تعيين الأمرين منه الى السنة والاخبار ، ففي مثل هذا الموضع يحمل كلامهم عليهم‌السلام على مجرد الحكاية وفي بعض المواضع يحمل على العمل بذلك في شرعنا ، كما أوضحنا ذلك في المباحث المتقدمة (منه ـ رحمه‌الله ـ).

١٤

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما عدل عنه إلى العبادات ، وإنكاره عليهم أتم الإنكار ، فلو لا أنه أفضل لما حسن هذا الإنكار في العدول عنه إلى تلك العبادات.

وأما التمسك بآية (١) «زُيِّنَ لِلنّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ» الآية ، وحصول الذم فيها لهذه الأشياء ، ففيه أنه لا يخفى استفاضة الأخبار وتكاثرها بالأمر بجملة من هذه الأشياء كالنساء وحب الأولاد وطلبهم لما عرفت من أخبار مباهاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأمم بكثرة أمته ، وتعليله ذلك بتثقيل الأرض بالتهليل ونحو ذلك ، وجمع المال من الحلال ، كما ورد أيضا.

وقد تقدمت الأخبار بذلك في مقدمات كتاب التجارة ، واستفاضت الروايات بالحث على التجارة ، كما تقدم أيضا ونحو ذلك.

ولا ريب أن الشهوة إنما هي من الله عزوجل ليس للعبد فيه اختيار.

قال أمين الإسلام الطبرسي (قدس‌سره) في كتاب مجمع البيان (٢) : والشهوة من فعل الله عزوجل ليس للعبد فيه اختيار فلا يمكننا دفعها عن نفوسنا ، فلا يقدر عليها أحد من البشر وهي ضرورية فينا لأنا لا يمكننا دفعها عن نفوسنا ، انتهى.

وحينئذ فإذا ثبت ذلك علم أن الذم لا يترتب على هذه الأشياء من حيث هي ، ولا باعتبار قصد غاية راجحة شرعا منها كامتثال تلك الأوامر الشرعية ، واكتساب الولد ، وكسر الشهوة الحيوانية في النكاح ، وحب المال للتوصل به إلى الطاعات والقربات ، ونحو ذلك.

وإنما يترتب عليها باعتبار الاختصاص بالانهماك في الشهوة البهيمية ، وعدم قصد شي‌ء من الغايات الأخروية ، وعلى هذا لا دلالة في الآية على ما ادعاه ذلك المستدل.

__________________

(١) سورة آل عمران ـ آية ١٤.

(٢) مجمع البيان ج ٢ ص ٤١٦.

١٥

ثم إنهم قد اختلفوا أيضا في أنه على القول بأفضلية النكاح لمن تتق نفسه إليه هل هو أفضل من التخلي للعبادة ، أم التخلي للعبادة أفضل؟ قولان : والمفهوم من الأخبار المتقدمة هو الأول ، سيما الأخبار الأخيرة الواردة في ترهب عثمان ابن مظعون واختياره الصلاة على النكاح.

والأخبار الدالة على ذم العزاب ، والأخبار الدالة على أن ركعتين يصليهما متزوج خير من عزب يقوم ليله ويصوم نهاره ، فإنها دالة بعمومها أو إطلاقها على أفضلية النكاح ، تاقت نفسه أم لم تتق ، إذ لا تفصيل فيها.

احتج من قال بالقول الثاني بما يتضمن التزويج من القواطع والشواغل وتحمل الحقوق.

أقول : لا ريب أن هذا القول إنما يتجه على قواعد الصوفية ، المعرضين عن العمل بالأخبار المعصومية ، المبنية قواعد مذهبهم على مجرد الاختراعات الوهمية ، والخيالات الفكرية ، وإلا فلا يخفى أن القول بهذا القول موجب لرد تلك الأخبار المتكاثرة بمجرد هذه الخيالات الفاسدة.

والآمر بذلك عالم بما يترتب عليه من هذه الأمور المذكورة ، ومع ذلك حث وأكد عليه أتم الحث والتأكيد ، وليس إلا من حيث رجحانه وأفضليته ، وأن هذه الأشياء موجبة لزيادة الأجر فيه.

وفي بعض الأخبار (١) أن أصحاب عيسى على نبينا وآله وعليه‌السلام كانوا يمشون على الماء ، وأصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لم يكونوا كذلك ، فقال عليه‌السلام ، «إن هؤلاء ابتلوا بالمعاش» ، وحاصله أن هؤلاء كلفوا بتكاليف شاغلة لهم عن نيل تلك المرتبة ، ومن الظاهر ثبوت الأمر على هذه التكاليف ، وأن مرتبتهم في الفضل لا ينقص عن أولئك ، فأولئك لتجرد نفوسهم بالرهبانية التي كانوا عليها ، والسياحة والتخلي عن الدنيا بكليتها نالوا تلك المرتبة.

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٧١ ح ٣ ، الوسائل ج ١٢ ص ١٢ ح ١٠.

١٦

وهؤلاء لما كلفوا بخلاف ذلك كما عرفت من الأخبار المتقدمة كان لهم الأجر على امتثال ما كلفوا به ، وإن لم يتيسر لهم الإتيان بما فعله أولئك ، فكل له الفضل بامتثال ما كلف به وأتى به ، ولا دلالة في الخبر المذكور على رجحان مرتبة أولئك بما كانوا يأتون به من المشي على الماء ، وأنهم أفضل من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنما تضمن العذر لهؤلاء بهذه التكليفات التي تكون عائقة من الإتيان بذلك ، ومرجعه الى ما ذكرناه من أنهم في الفضل والقرب منه سبحانه متحدون.

وإنما الاختلاف في الإتيان بذلك وعدمه من جهة التكاليف المقتضية لذلك وعدمه ، لا من جهة علو المرتبة في أحدهما دون الآخر.

تتمة :

اعلم أنهم قالوا : إن النكاح إنما يوصف بالاستحباب بالنظر إليه في حد ذاته يعني مع قطع النظر عن اللواحق المتعلقة به ، وإلا فإنه ينقسم إلى الأقسام الخمسة.

فقد يكون واجبا كما إذا خيف الوقوع في الزنا مع عدمه ، ولو أمكن التسري كان واجبا مخيرا ، وقد يكون حراما كما إذا أفضى الإتيان به إلى ترك واجب كالحج والزكاة ، وإذا استلزم الزيادة على الأربع ، ويكره عند عدم توقان النفس إليه مع عدم الطول ، على قول ، والزيادة على الواحدة ، عند الشيخ (قده).

وقد يستحب كنكاح القريبة ، على قول ، للجمع بين صلة الرحم وفضيلة النكاح ، واختاره الشهيد في قواعده ، وقيل : البعيدة ، لقوله (١) صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لا تنكحوا القرابة القريبة ، فإن الولد يخلق ضاويا». أي نحيفا وهو اختيار العلامة في التذكرة وعلل بنقصان الشهوة مع القرابة.

__________________

(١) النهاية الأثيرية ج ٣ ص ١٠٦.

١٧

أقول : الظاهر أن الخبر المذكور عامي حيث لم ينقل في كتب أخبارنا وقد ذكره ابن الأثير في نهايته والظاهر أن القول المذكور للعامة تبعهم فيه العلامة في التذكرة ، واستدل عليه بما استدلوا به.

وأما المباح فهو ما عدا ذلك ، وابن حمزة فرض الإباحة أيضا لمن يشتهي النكاح ولا يقدر عليه أو بالعكس ، وجعله مستحبا لمن جمع الوجهين ، ومكروها لمن فقدهما.

أقول : لا يخفى أن الأحكام الشرعية يتوقف ثبوتها على الدليل الشرعي المنحصر عند بعض في الكتاب والسنة ، وعند بعض فيهما ، على زيادة الإجماع ودليل العقل ، وإثباتها بمجرد التخيلات العقلية ، والتعليلات الوهمية ، مما منعت عنه الأخبار المعصومية.

وسيأتي إن شاء الله تعالى في المباحث الآتية جملة من المواضع التي يحرم فيها النكاح ، ويكره بالأدلة الشرعية ، لكن ذلك من حيث المنكوحة ، لا من حيث النكاح.

الثالثة : لا إشكال ولا خلاف في أن لفظ النكاح قد يطلق ويراد به الوطي ، وقد يطلق ويراد به العقد خاصة في كل من عرفي الشرع واللغة ، وظاهر كلام الجوهري أن استعماله في الوطي أكثر ، حيث قال : النكاح الوطي ، وقد يقال :

العقد ، وإنما الكلام في أنه هل هو مشترك بينهما ، أو أنه حقيقة في أحدهما ومجاز في الآخر ، وعلى تقدير الثاني فهل هو حقيقة في الوطي ، مجاز في العقد أو بالعكس؟ إشكال.

ورجح الأول بالنظر إلى استعماله فيهما. والأصل في الاستعمال الحقيقة.

ورجح الثاني بأن المجاز خير من الاشتراك عند التعارض.

ورجح الأول من الثاني لثبوته لغة بكثرة ، كما يفهم من عبارة الصحاح ، فيكون حقيقة فيه ، والأصل عدم النقل.

١٨

ورجح الثاني بالتبادر وصحة السلب ، وهذا القول مختار السيد السند في شرح النافع ، حيث قال : والظاهر أنه حقيقة في العقد ، مجاز في الوطي ، للتبادر وصحة السلب في قولهم هذا سفاح ، وليس بنكاح ، ثم نقل القول بالعكس ، ورده بأن الأصل يخرج عنه بالدليل ، قال : وقد بيناه.

والقول بأنه حقيقة في الوطي مجاز في العقد ، منقول عن العلامة في المختلف ، مدعيا عليه الإجماع ، ونقل عن الشيخ أنه نص على أن النكاح في عرف الشرع حقيقة في العقد ، مجاز في الوطي ، وتبعه ابن إدريس ، وقال : إنه لا خلاف في ذلك.

قيل : إنه لم يرد في القرآن بمعنى الوطي ، إلا في قوله عزوجل (١) «حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ» لاشتراط الوطي في المحلل ، وتنظر فيه في المسالك بجواز إرادة العقد واستفادة الوطي من السنة.

ثم لا يمكن دلالته على إرادة الوطي لاحتمال الاشتراك أو كونه مجازا في الوطي والمجاز يفتقر في الحمل عليه إلى القرينة ، وهي منتفية هنا ، ومجرد اشتراط الوطي في المحلل شرعا لا يكفي في القرينة هنا.

أقول : لا يخفى أنه متى كان الحكم الشرعي في التحليل هو الوطي وأنه لا يحصل التحليل إلا به دون مجرد العقد ، فلا معنى لذكره سبحانه هنا النكاح بمعنى مجرد العقد أو الأعم ، والحال أنه قاصد به بيان ذلك الحكم ، ومن المعلوم أن سياق الآية إنما هو في بيان ذلك الحكم الشرعي وهو لا يحصل إلا بحمل النكاح على الوطي ، وبه يظهر أن ما ذكره (قدس‌سره) من النظر لا يخلو من نظر.

وبالجملة فإن المسألة المذكورة لا يترتب عليها كثير فائدة في المقام فلا وجه للتطويل بما وقع من النقض والإبرام.

__________________

(١) سورة البقرة ـ آية ٢٣٠.

١٩

الرابعة : قد تكاثرت الأخبار بالأمر بحب النساء وأن النكاح يزيد في الرزق ، وهو مؤيد لما قدمناه في الفائدة الثانية.

فمن الأول : ما رواه في الكافي عن إسحاق بن عمار (١) في الموثق قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام : من أخلاق الأنبياء حب النساء».

وما رواه في الكافي والفقيه عن عمر بن يزيد (٢) «عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : ما أظن رجلا يزداد في الايمان خيرا إلا ازداد حبا للنساء». وروى مثله في الكافي بسند آخر (٣) إلا أن فيه «يزداد في هذا الأمر». عوض لفظ «الايمان» ، والمراد بهذا الأمر التشيع ، والقول بالإمامة ، والأول يرجع إليه في الحقيقة.

وما رواه في الفقيه عن أبي العباس (٤) قال : «سمعت الصادق عليه‌السلام يقول : إن العبد كلما ازداد للنساء حبا ازداد في الايمان فضلا».

وما رواه في الكافي والفقيه عن معمر بن خلاد (٥) قال : «سمعت علي بن موسى الرضا عليه‌السلام يقول : ثلاث من سنن المرسلين. العطر وإحفاء الشعر وكثرة الطروقة».

وعن غير واحد (٦) «عن أبي عبد الله عليه‌السلام «قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : جعل قرة عيني في الصلاة ، ولذتي في النساء».

وعن جميل بن دراج (٧) «عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : ما تلذذ الناس في الدنيا والآخرة بلذة أكثر لهم لذة من النساء ، وهو قول الله عزوجل (٨) «زُيِّنَ لِلنّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ» إلى آخر الآية ، ثم قال : وإن أهل الجنة

__________________

(١ و ٢ و ٣) الكافي ج ٥ ص ٣٢٠ ح ١ و ٢ و ٣٢١ ح ٥ ، وأخرجها في الفقيه ج ٣ ص ٢٤٢ ح ١١٥١.

(٤) الفقيه ج ٣ ص ٢٤٢ ح ١١٥٠.

(٥) الكافي ج ٥ ص ٣٢٠ ح ٣ ، الفقيه ج ٣ ص ٢٤١ ح ٢.

(٦ و ٧) الكافي ج ٥ ص ٣٢١ ح ٩. و ١٠.

وهذه الروايات في الوسائل ج ١٤ ص ٩ ح ٢ و ١ و ٣ وص ١١ ح ١٠ وص ٤ ح ٧ وص ١٠ ح ٥ و ٨.

(٨) سورة آل عمران ـ آية ١٤.

٢٠