نظريّة عدالة الصّحابة والمرجعيّة السياسيّة في الإسلام

احمد حسين يعقوب

نظريّة عدالة الصّحابة والمرجعيّة السياسيّة في الإسلام

المؤلف:

احمد حسين يعقوب


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٥٢

تعمل لصالح الجميع إلّا لصالح علي وأهل بيته؟ حيث تتعطل عندهم ولا تعمل ولا تخلع عليهم صفة العدالة؟

مثال آخر من الواقع

الحسن بن علي والحسين بن علي سيدا شباب أهل الجنة في الجنة ، وريحانتا النبي من هذه الأمة ، وهما ابنا رسول الله بالنص ، فقد جعل الله ذرية كل نبي من صلبه ، وجعل ذرية النبي من صلب علي ، وهما صحابيان ومن العدول لأنهما صحابيان ، ومن غير الجائز الانتقاص من صحابي أو شتمه أو طعنه ، ومن يفعل ذلك فهو زنديق لا يؤاكل ولا يشارب ولا يصلى عليه ... الخ.

فما لكم بمن سمُّوا الصحابيَّ الحسن بن علي؟ وما هو حكمكم بمن قتل الحسين وحرم عليه وعلى أهل بيته ان يشربوا من ماء الفرات وهو حلال للوحش والطير والحيوان وحتى للكلاب؟ ألا يعتبر القتل انتقاصاً؟ ما رأيكم بمن يقتل ذرية محمد كلها ويسلبها متاعها وهي ميتة ويسبي النساء وذرية محمد من الصحابة ونساء الذرية من الصحابة؟!

توضيح الصورة

الذين سموا الحسن صحابة بالمعنيين اللغوي والاصطلاحي ، والذين قتلوا علياً صحابة ، والذين قتلوا الحسين صحابة ، والذين أبادوا ذرية النبي في كربلاء صحابة ، والذين لعنوا علياً وشتموه ومن والاه صحابة ، والذين لم يقبلوا شهادة من يحب عليا صحابة.

تساؤل واستغراب

الحسن بن علي المسموم من العدول ، لأنه من الصحابة ، والذين سموه عدول ، لأنهم من الصحابة ، والحسين بن علي من العدول لأنه صحابي ، والذين قتلوه من العدول ، لانهم من الصحابة ، وذرية محمد التي قتلت في كربلاء عدول ، لانهم صحابة ، والذين قتلوهم عدول ، لانهم صحابة.

السّام ( الذي ارتكب جريمة القتل بالسم ) وهو الجاني ، والمسموم وهو

١٤١

الضحية في الجنة ، لأنهم صحابة ، ولأنهم عدول ، والقاتل والمقتول في الجنة ، فكلاهما صحابي ومن العدول ، والسالب والمسلوب في الجنة ، وكلاهما صحابي ، وكلاهما من العدول.

هذه المساواة تشكل استهتاراً بالعقل البشري ومظهراً من مظاهر العبودية المخجلة للتقليد.

أدت الرسالة

ونظرية عدالة الصحابة أدت الرسالة تماماً. فعلي كمعاوية ، فكلاهما صحابي ، وهما من العدول ، وكلاهما في الجنة ، وكلاهما على الحق ، والمنتصر هو ولي الأمة ، والعام الذي انتصر أحدهما على الآخر هو عام الجماعة.

التقابل بالحماية

من آذى أهل البيت فقد آذى النبي ، ويقابلها : من آذى صحابياً فقد آذى النبي ، ومن أبغض أهل بيت محمد فهو في النار ، ومن أبغض صحابياً على الإطلاق فهو في النار. وزيادة على الحماية المخصصة لأهل البيت ، فإن من انتقص صحابياً فهو زنديق ، ويجب أن يعزل فلا يؤاكل ولا يشارب ولا يصلّى عليه ، إنما ينبذ كجيفة ميتة. فنظرية عدالة الصحابة أعطت الصحابة الحماية المقررة لأهل البيت وزيادة.

في مجال البيان

القرآن هو الثقل الأكبر ، وأهل بيت محمد هم الثقل الأصغر ، والهداية لا تدرك إلّا بالتمسك بالثقلين. والضلالة لايمكن تجنبها إلّا بالتمسك بهما. هذا بالنص الشرعي القاطع (١) وأهل البيت هم سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق بالنص الشرعي القاطع وهم باب حطة ، من دخله غفر له بالنص الشرعي القاطع. وهم أمان لهذه الأمة.

النجوم أمان لأهل الارض ، وأهل بيته أمان لأمة محمد من الاختلاف ، بالنص

__________________

(١) في باب المرجعية والقيادة السياسية سأوثق كل كلمة قلتها.

١٤٢

الشرعي القاطع ، والأمة بدونهم كالحمار إذا كسر صلبه ، وعميدهم يبين للناس ما اختلفوا فيه من بعد وفاة النبي بالنص الشرعي (١).

أمثلة ما تعطيه نظرية عدالة كل الصحابة للصحابة

( مثل أصحابي في أمتي كالملح في الطعام فلا يصلح الطعام إلّا بالملح ) ورد هذا الحديث في الاستيعاب على هامش الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر ( ج ١ ص ٧ ) وانظر إلى الحديث رقم ٣٣٧٩٢ ( ج ١٢ ص ٢٢ ) من كنز العمال حيث جاء فيه بالحرف ( قريش صلاح الناس ، ولايصلح الناس إلّا بهم ، ولا يعطى إلّا عليهم ، كما أن الطعام لا يصلح إلّا بالملح ... ) نقله عن ابن عدي في الكامل عن عائشة. وانظر الحديث ٣٣٨٠٧ ( ج ١٢ ص ٢٥ ) ( أمان لأهل الأرض من الغرق القريش ، وأمان الأرض من الاختلاف الموالاة لقريش ، قريش أهل الله ، فإذا خالفتها قبيلة من قبائل العرب صاروا حزب إبليس ). وقد نقله عن الطبراني في الكبير ، وعن الحاكم في مستدركه.

وقد روى الترمذي وابن حيان كما ذكر ابن حجر في الإصابة ( ص ١٩ ) أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد قال ( الله الله في اصحابي لا تتخذوهم عَرَضاً ، فمن أحبَّهم فبحبي أحبَّهم ، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ، ومن آذاهم فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه ) (٢).

ـ نصوص للتدبر

أ ـ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( يا علي من فارقني فقد فارق الله ، ومن فارقك فقد فارقني ) (٣).

وقال : ( من آذى عليا فقد إذا ني ) (٤).

وقال : ( من احب عليّاً فقد احبني ، ومن أبغض عليّاً فقد أبغضني ) (٥).

__________________

(١) في باب المرجعية والقيادة السياسية سأوثق كل كلمة قلتها.

(٢) راجع الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر ص ١٩.

(٣) أخرجه الحاكم في مستدركه ص ١٢٤ ج ٣ وصحيحه على طريق الشيخين.

(٤) أخرجه الحاكم في ج ٣ ص ١٣٠ من المستدرك.

(٥) أخرجه الحاكم في ج ٣ ص ١٣٠ من المستدرك.

١٤٣

وقال لعلي مرة ( حبيبك حبيبي وحبيبي حبيب الله ، وعدوك عدوي وعدوي عدوّ الله والويل لمن أبغضك بعدي ) (١).

وقال : ( طوبى لمن أحبك وصدق فيك ، وويل لمن أبغضك وكذب فيك ) (٢).

وقال : ( أوصى من آمن بي وصدقني بولاية علي بن أبي طالب ، فمن تولاه فقد تولّاني ، ومن تولاني فقد تولى الله ، ومن أحبه أحبني ومن أحبني فقد أحب الله ، ومن أبغضه أبغضني ، ومن أبغضني فقد ابغض الله ) (٣).

ب ـ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق ، وأهل بيتي أمان لأمتي من الإختلاف ، فإذا خالفتها قبيلة من قبائل العرب ، واختلفوا فصاروا حزب إبليس ) (٤) وانظر إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( النجوم أمان لأهل السماء وأهل بيتي امان لأمتي ) (٥).

تساؤلات

ماذا يكون الموقف لو أن صحابياً أبغض علياً أو آذاه ، أو أن علياً أبغض صحابياً أو آذاه فمن نتبع؟ ومن هو المحق ومن هو المبطل؟ ماذا يكون الموقف لو أن قريشاً قالت : نحن أمان لهذه الأمة ، وقال أهل البيت : نحن أمان لهذه الأمة؟ فمن نصدق؟ ماذا يكون الموقف لو أن قسماً من الأمة اتبعوا قريشاً ، وقسماً آخر اتبعوا أهل البيت؟ وكل فريق زعم أنه على الحق ، فمن هو الذي على الحق في الحق والحقيقة؟

انظر إلى الحديث المكذوب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو ( أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم ).

__________________

(١) أخرجه الحاكم ج٣ ص ١٣٥.

(٢) أخرجه الطبراني في الكبير وهو الحديث ٢٥٧١ ج ٣ ص ١٥٤ من الكنز ، وأخرجه ابن عساكر.

(٣) راجع الحديث ٢٥٧٦ ص ١٥٥ ج ٦ من الكنز ، واخرجه الطبراني.

(٤) سأوثق ذلك في باب القيادة السياسية.

(٥) سأوثق ذلك في باب القيادة السياسية.

١٤٤

هذا حديث مكذوب. يقول ابن تيمية على الصفحة ٥٥١ من كتاب « المنتقى » للذهبي : ( وحديث أصحابي كالنجوم ، ضعفه أئمة الحديث فلا حجة فيه ). فلو أن مجموعة من الصحابة وقفوا مع علي ، ومجموعة اخرى وقفوا مع معاوية ، ومجموعة ثالثة اعتزلت الفريقين ، ومجموعة رابعة تربصت لترى من يغلب فتقف معه ، فهل يعقل شرعاً وعقلاً أن من يتبع أي مجموعة من هذه المجموعات الأربعة هو محق؟ فمن يكون المبطل إذاً؟!!

ماذا يكون الموقف لو أنّ صحابياً قال : إن الحق عندي هنا في الشرق. وبنفس الوقت قال صحابي آخر : إن الحق عندي في الغرب ، ثم قال ثالث : إن الحق عندي هنا في الشمال ، وقال رابع : إن الحق عندي هنا في الجنوب ، وقال خامس : إن الحق عندي هنا في زاوية ٤٥ شمال ... الخ ، وانقسمت الأمة ٧٣ فرقة كما أخبرنا النبي ، وبيد كل فرقة ذريعة ، فهل يعقل بالشرع والعقل أن يكونوا كلهم على الحق؟ إنه لا يوجد إلّا حق واحد!! إن الفرقة جريمة ، وإن الوحدة قربة من الله ، فهل يعقل أن يفرق النبي أمّته؟

ـ تلقين الحجة بالواسطة

قال النبي لعلي : ( أنت تؤدي عني وتسمعهم صوتي وتبين لهم ما اختلفوا فيه من بعدي ) (١).

مع أن أبا حنيفة كان متحمساً للعباس ، فقد كان يقدم رأي الصحابي عليه إذا تعارضاً في مورد من الموارد (٢) وجاء عنه أنه كان يقول ( إن لم أجد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله اخذت بقول أصحابه ، فإن اختلفت آراؤهم في حكم الواقعة أخذت بقول من شئت وأدع من شئت ، ولا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم من التابعين ) (٣).

__________________

(١) راجع شرح النهج لعلامة المعتزلة ابن أبي الحديد ، وأورده أبو نعيم في حلية الأولياء.

(٢) المستصفى للغزالي ص ٣٥ ـ ١٣٦ وآراء علماء المسلمين في التقية ، والصحابة للسيد الرضوي.

(٣) راجع أبا حنيفة لأبي زهرة ص ٣٠٤.

١٤٥

وجاء في أعلام الموقعين لابن القيم : ( إن أصول الأحكام عند الإمام أحمد خمسة : الأول : النص ، والثاني : فتوى الصحابة ، وإن الأحناف والحنابلة قد ذهبوا إلى تخصيص الكتاب بعمل الصحابي ، لأن الصحابي العالم لا يترك العمل بعموم الكتاب إلّا لدليل ، فيكون عمله على خلاف عموم الكتاب دليلاً على التخصيص ، وقوله بمنزلة عمله ) (١).

ونذكر بالمناسبة بأن سنة الرسول تعني : القول والفعل والتقرير. ولاحظ ( وقوله عن الصحابي بمنزلة عمله ). فقول الصحابي على الإطلاق بالمعنيين اللغوي والاصطلاحي يخصص عموم القرآن ويقيد مطلقاته ، كأن قول الصحابي وحي من السماء لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، والمشكلة أي صحابي بالمعنيين اللغوي والاصطلاحي. إن نظرية عدالة الصحابة أعطت الصحابة ما لم يعطه الشرع لأئمة أهل البيت.

قال ابن خلدون ( إن الصحابة كلهم لم يكونوا أهل فتيا ، ولا كان الدين يؤخذ عن جميعهم ، وإنما كان مختصاً بالحاملين للقرآن ، العارفين بناسخه ومنسخوخه ، ومتشابهة ومحكمه ، وسائر أدلته بما تلقوه من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو ممن سمعه منهم وعن عليتهم ، وكانوا يسمون لذلك « القرّاء » أي الذين يقرؤون الكتاب ، لأن العرب كانوا أمّة أميّة ، فاختص من كان قارئاً للكتاب بهذا الاسم لقرابته يؤمئذٍ ، وبقي الأمر كذلك صدر الملة ).

وعن محمد بن أبي سهل بن أبي خيثمة عن أبيه قال : ( كان الذين يفتون على عهد رسول الله ثلاثة نفر من المهاجرين وثلاثة نفر من الأنصار : عمر وعثمان وعلي ، وابي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت ).

وعن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أن أبا بكر الصديق كان إذا نزل به أمر يريد مشاورة أهل الرأي دعا رجالاً من المهاجرين والأنصار. دعا عمر وعثمان وعليّاً وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل واُبي بن كعب وزيد بن ثابت ، وكل هؤلاء

__________________

(١) راجع المدخل إلى علم اصول الفقه لمعروف الدواليبي.

١٤٦

كان يفتي في خلافة أبي بكر ، وإنما تصير فتوى الناس إلى هؤلاء ، فمضى أبو بكر على ذلك ، ثم ولى عمر فكان يدعو هؤلاء النفر ) (١).

التوسعة في التفقه

أنت تلاحظ أن نظرية عدالة كل الصحابة نسفت كل الأعراف التي اعتمدت زمن أبي بكر وعمر وخرجت عن كل المفاهيم المألوفة في عهده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأعطت الفرصة لكل صحابي على الإطلاق وبالمعنيين اللغوي والاصطلاحي ليدلي بدلوه في كل مسألة من المسائل. ومن حق المجتهد والباحث عن الجواب للسؤال المطروح أن يأخذ برأي أي واحد من هؤلاء الصحابة. كيف لا وكلهم عدول ، وكلهم من أهل الجنة ، ولا يجوز عليهم الكذب ، فاختلطت الأمور ، فالمتقدم كالمتأخر ، والطليق كالمهاجر ، فكلهم ينعم بصفة العدالة ، ولا تثريب عليه ، ولا معقب لقوله حسب الإطار العام لنظرية عدالة كل الصحابة وما يروي عنهم. وتثبت صحة نسبته إليهم ، فهو الحق الذي لا يأتيه الباطل ، لأنه قد صدر عن عدول بإمكانهم أن يخصصوا العام من القرآن ، وأن يقيدوا المطلق منه. ومن هنا فقد كانت الجهود منصبة بالدرجة الأولى على درس حياة أولئك الذين ينقلون هذه الأحاديث والتحقق من حسن سيرتهم ، وصدق إيمانهم ، وصدق أقوالهم. فإذا توافرت هذه الصفات بالراوي ، وتحققت نسبة النص إلى الصحابي ، فهذا النص حق لأنه صادر عن صحابي من العدول.

قيد على الرواة من حيث المبدأ

يمكن لأحد الرواة أن يتشيع لأبي بكر أو لعمر أو لعثمان أو لسعد أو لأي صحابي على الإطلاق ، فهذا لا يخدش بصدقه وأمانته ، ولا يكون محلاً للشبهة ، إنما الشبهة تقع على من يوالي علياً وأهل البيت ويتشيع لهم ، فمن المحال أن يكون ثقةً وتقبل روايته ، وإذا اجتمع عدة رواة كلهم ثقات وبينهم رجل يحب أهل البيت ، ويتشيع لهم فيترك الحديث كله ، لانهم لا يقبلون إلّا رواية الثقة ، والثقة

__________________

(١) راجع طبقات ابن سعد ج ٤ ص ١٦٨ ، وراجع آراء علماء المسلمين في التقية والصحابة وصيانة القرآن الكريم ص ٥٠ وما فوق.

١٤٧

والتشيع لأهل بيت محمد لا يجتمعان.

قال أبو عمرو بن عبد البر : روينا عن محمد بن وضاح قال : سألت يحيى بن معين عن الشافعي ( محمد بن إدريس الشافعي ) فقال : ليس بثقة. ويحيى بن معين هذا من كبار أئمة الجرح والتعديل الذين جعلوا قولهم في الرجال حجة قاطعة. فتصور أن الشافعي صاحب المذهب ليس بثقة بنظر ابن معين ، لأن فيه بعض التشيع لأهل البيت. وقد أدرك الذهبي أن هذا غير معقول فقال : وكلام ابن معين في الشافعي إنما كان من فلتات اللسان بالهوى والعصبية. والإمام جعفر بن محمد الصادق أستاذ أصحاب المذاهب الأربعة ، وصاحب مدرسة تخرج منها أربعة آلاف فقيه ومحدث ، وهو صاحب مذهب أهل البيت الكرام ، وعَلَمٌ شامخ من أعلام النبوة ، وثّقه أبو حاتم والنسائي ، إلّا ان البخاري لم يحتج به كأنه ليس ثقة ، مع ان البخاري روى لمروان بن الحكم!

قال يحيى بن معين : وقيل له في سعيد بن خالد البجلي حين وثقه ( شيعي ) قال : وشيعي ثقة؟ إنه يستغرب ان يتشيع رجل لأهل البيت ويكون ثقة.

ومن لا يواليهم ولا يشايعهم فهو ثقة. قال العجلي في عمر بن سعد بن أبي وقاص قائد الجيش الذي قتل الحسين وأهل البيت في كربلاء : هو تابعي ثقة روى عنه الناس. وقال العجلي كذلك في عمران بن حطان : ثقة ، وعمران هذا مدح ابن ملجم لعنه الله ، وابن ملجم هو قاتل الإمام علي. يقول عمران في مدح ابن ملجم :

يا ضربة من تقي ما أراد بها

إلا ليبلغ عند الله رضواناً

١٤٨

الباب الثالث

المرجعية

١٤٩
١٥٠

الفصل الأول

المرجعية

يبدو واضحا أن نظرية عدالة كل الصحابة قد أوجدت مرجعية واقعية تركت بصماتها على الحياة الفقهية والسياسية الإسلامية ، وصارت بحكم النقل والتقليد كأنها هي المرجعية الشرعية التي حددها الله وبينها رسوله. أما المرجعية الشرعية نفسها فأصبحت غريبة لكثرة تناسيها وإبراز المرجعية البديلة لها ، وظن بعض الناس ـ وإن بعض الظن إثم ـ أن المرجعية الشرعية هي غير شرعية ، وأن المرجعية البديلة هي نفسها الشرعية. وفي سبيل بيان الحقائق الشرعية المجردة لا بد من إفراد باب خاص لهذه الناحية.

ما معنى المرجعية

تعني المرجعية تلك الجهة المختصة ببيان أحكام وقواعد العقيدة الإسلامية الإلهية لا على سبيل الافتراض والتخمين ، إنما على سبيل الجزم واليقين ، بحيث يكون بيانها هذا هو عين المقصود الإلهي من هذه الأحكام ، وبالتالي يتقبل الإنسان المؤمن بهذه العقيدة بيان تلك المرجعية على أنه حقيقة إيمانية أو عقلية تصلح كمنطلق فكري أو كقاعدة يبنى فوقها أو كطريق يسار عليها. فالنبي ، هو المرجع لكل المسلمين خلال حياته ، يرجعون إليه في أمور عقيدتهم ، وقوله الفصل لأنه هو الاعلم بأحكام العقيدة ، وعميد أهل بيت النبوة ـ الإمام ـ بعد وفاة النبي هو المرجع لأنه الأعلم بأحكام العقيدة ـ حسب رأي الشيعة ـ والصحابة مجتمعين ومنفردين هم المرجع أو المراجع لبيان أحكام العقيدة بعد وفاة النبي ، فهم مجتمعين عدول كلهم ، وكل واحد منهم من العدول وهم من أهل الجنة وهم الشهود الذين نقلوا لنا هذا

١٥١

الدين (١) لذلك فهم المرجعية الشرعية. فالاقتداء بأي منهم يقود للهداية حتماً. وبموت الصحابة فالمرجع هو الحاكم ينظر بالآراء والاجتهادات المطروحة أمامه ثم يختار منها ما يريد وهذه الاجتهادات المعروضة هي أقوال سابقة للصحابة في مسائل طرحت في أزمانهم. والحاكم المرجع أي حاكم لأن المسلمين مع من غلب (٢) نحن مع من غلب (٣) وهذا قول مشهور للصحابي عبد الله بن عمر وهذا رأي أهل السنّة ، فالغالب هو المرجع يجتهد بنفسه حتى ولو لم يكن مجتهداً أو يأخذ برأي من شاء من المجتهدين ، حتى لو لم يكونوا مجتهدين بالحق والحقيقة كما سنرى.

تلازم المرجعية مع العقيدة

تتلازم المرجعية مع العقيدة وترتبط معها ارتباطاً عضوياً. فالمرجعية تنهل من العقيدة ، فلا عقيدة بدون مرجعية ولا مرجعية إلا في عقيدة ، لأن المهمة الأساسية للمرجعية هي بيان العقيدة الإلهية. فالنبي يبين هذه العقيدة عين البيان الذي يريد الله تعالى ، والمرجع بعد النبي بين هذه العقيدة عين البيان الذي أراده الله وبينه النبي فالعقيدة الإلهية حددت معاني الأقوال والأفعال ، وحددت الأهداف ووسائل بلوغها ، ونظمت العلاقات بين المؤمنين بها وعلى كل الاصعدة. فيكون دور المرجع منحصراً ببيان العقيدة بياناً كاملاً وتكييفها على الوقائع المستجدة.

فالمرجع هو المسؤول عن ترجمة نصوص وقواعد وغايات تلك العقيدة من النظر إلى التطبيق ، ومن الكلمة إلى الحركة على صعيدي الدعوة والدولة معاً. فبيان النبي للعقيدة الإلهية هو جزء منها ويحسب من جملة مضامين العقيدة لأنه نبي ، ولكن بيان علي أو الحسن أو الحسين أو زين العابدين أو جعفر الصادق ، أو أي إمام لا يعتبر جزءاً من العقيدة إنما يعتبر سوابق دستورية وضرورية لمن يريد أن يلتقي عمله مع

__________________

(١) راجع الاصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني وبهامشها الاستيعاب لابن عبد البر ص ٥ وما فوق.

(٢) راجع نظام الحكم للقاسمي ص ٢٤٤ ـ ٢٤٥.

(٣) راجع نظام الحكم للقاسمي ص ٢٤٤ ـ ٢٤٥.

١٥٢

المقصود الإلهي ، ولكن بيانه يلزم كل المؤمنين بمرجعيته ولا يجوز مخالفته شرعا لأنه الإمام الشرعي القائم مقام النبي وطاعته هي طاعة للنبي.

المرجعية اختصاص وعمل فني تماماً

فالعقيدة هي السفينة ، والمرجع بمثابة القبطان لهذه السفينة. والعقيدة هي المخططات اللازمة لمشروع الإنقاذ الإلهي ، والمرجع هو المهندس الذي يتولى عملية توضيح وشرح هذه المخططات وبيانها وترجمتها مرحلياً إلى واقع مادي ملموس ومحسوس. فالمرجع هو معلم البناء ، ومن الجنون تحضير المواد الأولية اللازمة للبناء والشروع بالبناء دون مشورة وعلم المهندس أو معلم البناء. وعلى صعيد العقيدة الإسلامية يجب أن يكون المرجع أعلم أهل زمانه بهذه العقيدة ، وأكثر أهل زمانه إخلاصاً لها ، وأكثرهم اعتصاماً بالله وأفضل الموجودين وأنسبهم للقيادة والمرجعية لأن المرجع هو الحكم ( بفتح الحاء والكاف ) وهو الناطق بالحكم الإلهي. ويفترض ان ما تتبناه هذه المرجعية هو عين المقصود الإلهي.

تعددية المراجع

لايوجد في العقيدة الإلهية الواحدة إلا مرجع واحد ، فالنبي هو المرجع الأعلى لكل ما يتعلق بالإسلام. وموسى هو المرجع الأعلى في زمانه ، فإذا افترق عن هارون يصبح هارون مرجعاً مرتبطاً بموسى وتابعاً له ، وإذا اجتمعا فالمرجع هو موسى. وهكذا عيسى فهو المرجع في كل الأمور المتعلقة بالديانة المسيحية ، لأن تعدد المراجع في العقيدة الواحدة يؤدي بصورة حتمية لتفسخ العقيدة وتفرق أتباعها ، واستنباط عقائد جديدة من الناحية الواقعية.

فالمرجعية في الإسلام هي مرجعية واحدة وهي اختصاص من أعظم ضرورات الدين. فإذا انعدمت المرجعية الشرعية يركب كل مسلم رأسه ، أو تركب كل مجموعة من المسلمين رأسها ، وتعتقد لكثرة ممارستها للخطأ ان الحق معها ، وتتفرق الكلمة ، ويتشتت شمل الأمة ولا يلمها ثانية إلا وجود مرجع واحد تعتبر كلمته حقيقة عقلية وإيمانية يتقبلها المسلمون عن رضى خاطر. وهذه هي السبيل الوحيد لتوحيد المسلمين.

١٥٣

الفارق بين العقيدة والمرجعية

هو الفارق بين الدعوة وبين الداعية ، فالدعوة المحمدية تقوم على أساسين : القرآن الكريم والسنة المطهرة بفروعها الثلاثة : القول والفعل والتقرير ، وهذه خاصية لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله . فالعقيدة هي القرآن الكريم ، وبيان هذا القرآن المتمثل بقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفعله وتقريره على اعتبار أن الشخص المبين وهو الرسول جزء لا يتجزأ من العقيدة والوثوق به وموالاته والتسليم بصحة فهمه للدين جزء لا يتجزأ من الدين. لذلك فقوله فصل في كل أمر من الأمور لأنه الأعلم والأفهم بالعقيدة والأفضل والأنسب لقيادة أتباعها.

ثم اكتمل الدين وتمت النعمة الإلهية ، وبين القرآن كل شيء ، وانتقل الرسول إلى جوار ربه ، فترك العقيدة ، وهي القرآن الكريم ، والبيان وهو قول الرسول وفعله وتقريره. أما المرجعية بعده فموضوع آخر حيث تكون مهمتها بيان العقيدة الإلهية وتكييفها على الوقائع الحياتية في زمن ذلك المرجع.

وللتوضيح نقول : إن العقيدة هي بمثابة السفينة ، وإن المرجع هو بمثابة القبطان ، وإن العقيدة هي بمثابة المخططات العامة والتفصيلية ، وإن المرجع هو بمثابة المهندس المختص بفهم هذه المخططات. إن العقيدة هي المواد الأولية اللازمة لبناء الصرح المنشود ، وإن المرجع هو معلم البناء. إن العقيدة بناء فكري ، أو إن شئت فقل شخص اعتباري قائم بذاته ، وإن المرجع هو المعبر عن موقف هذا الشخص الاعتباري من القضايا المطروحة. ولك أن تقول : إن العقيدة هي الصيدلية الكبرى التي تحوي العلاج الشافي من كل داء ، وإن المرجع هو الطبيب والصيدلاني الذي يشخص المرض ويصرف العلاج اللازم المناسب تماماً لهذا المرض من الصيدلية الكبرى ، وهي العقيدة.

تجذير الحكمة من وجود المرجعية

إذا أوحى الله تبارك وتعالى لكل إنسان وجرَّه إلى الخير جراً ، وخصص له ملكاً من السماء يرافقه ويقومه ، فإن هذا الإنسان لا يستحق الأجر لأنه مكره على الفعل أو

١٥٤

مكره على الامتناع عنه. والأمر الذي يتناسب مع نظرية الابتلاء الإلهية هو أن يرزق الإنسان القدرة على التمييز بين الحق والباطل بعد أن بين له الله الحق من الباطل ويؤتيه القدرة على فعل الحق وفعل الباطل. ثم يبين له الله الحق من الباطل والمباح والحلال والحرام ، ثم يعطي الإنسان بعد ذلك الحرية ليعمل الحق بإرادته وحريته ورضاه أو يأتي الباطل بحريته ورضاه وإرادته. هنا فقط يستحق الإنسان المكلف الثواب إذا اصاب والعقاب إذا أخطأ.

تلك هي الأرضية التي انطلقت منها فكرة الرسالات الإلهية إلي بني البشر ، وانطلقت منها فكرة المرجعية كضرورة من ضرورات بيان الرسالات الإلهية ، فدارت فكرة الرسالة الإلهية حول محورين :

١ ـ رسول يبلغ الرسالة وهي مرجعها الأرضي.

٢ ـ رسالة لها مضمون يتعذر تبليغها بدون رسول أو مرجع. وهذه الرسالة معدة من قبل الله وهي مشروع هداية إلهية. فالله تعالى هو المرجع الأعلى للرسول في كل ما يتعلق بالرسالة ومضمونها وبيانها.

فالخطوة الأولى هي اختيار الرسول أو المرجع.

والخطوة الثانية هي إفهام الرسول مضامين هذه الرسالة الإلهية ( العقيدة ).

والخطوة الثالثة هي قيام الرسول بتبليغ هذه الرسالة لأصحابها وبيانها بياناً كاملاً ، ورصد ردة فعلهم عليها ليكون هو الشاهد. الناس يرجعون إلى الرسول بوصفه المرجع الذي يفهم الرسالة فهماً يقينياً ، وما أشكل على الرسول من أمور الرسالة يرجع به إلى الله. تلك حقيقة لا يجادل بها إلّا جأهل.

كان الرسول ـ أي رسول ـ هو المرجع لمن اتبعه ليوضح وليبين للأتباع ومن بلغ مضامين الرسالة وكيف تتحوَّل هذه المضامين الإلهية من النصوص النظرية إلى التطبيق العملي ، وكيف تنفذ على الوجه الذي يرضى الله تعالى.

فإذا مات الرسول ـ أي رسول ـ فإن العقيدة باقية بالضرورة ما دام لها أتباع ، ويستدعي بالضرورة وجود مرجع ليقوم بدور البيان والشهادة. وهذا من ضرورات الرسالة ، وعملية الابتلاء أن يكون للعقيدة الواحدة مرجع واحد ليقوم بقيادة مسيرة

١٥٥

قافلة الإيمان ، سواء أكانت على مستوى الدعوى أو مستوى الدولة إن نجحت المرجعية بتحويل الدعوة إلى دولته.

المرجعية أكبر من أن تنكر

قلت في مقال نشر في عدد جريدة اللواء الأردنية رقم ٩٥٥ تاريخ ١٧ صفر عام ١٤١٢ هـ ما يلي : الأحزاب الدينية العربية لا تجهل أن الرسالات الإلهية لبني البشر لم تتوقف طوال تاريخ الجنس البشري على الأرض. فهل تتفضَّل الأحزاب الدينية العربية مشكورة ومأجورة فتبين للمسلمين متى أرسل الله رسالة بدون رسول؟ ومتى خصهم بعقيدة من دون مرجع؟ معكم الدنيا طولاً وعرضاً ، فوقاً وتحتاً من لدن آدم حتى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا بإذن الله فقد آن الأوان أن تتركوا التقليد الأعمى وأن تتقوا الله في دينكم وأنفسكم ، وفي أمتكم وفي الجنس البشري الذي يعلق ضميره كبير الآمال على دينكم لينقذه والعالم من براثن المادية المقرفة إلى رحابة التكييف الإلهي للأحداث والأحكام.

فالعقيدة الإسلامية لها مرجع وهو رسول الله ، وبعد موته بينت هذه العقيدة المرجعية من بعده ، لأن المرجعية ضرورة من ضرورات الحياة.

فالأسرة لها مرجع ، والدولة لها مرجع ، والنظام له مرجع. وكل عقيدة إلهية أو وضعية لها مرجع بالضرورة ، لأن المرجع عنصر أساسي لكل دعوة ولكل تجمع بشري ولكل عقيدة ولكل دولة. وسبب المصائب التي حلت بالمسلمين يعود في جوهره إلى استبعاد المرجعية الشرعية التي عينها الله ، والتمسك بالمرجعية البديلة التي فرضتها الغلبة واستكان الناس لها بحكم التقليد.

١٥٦

الفصل الثاني

العقيدة

الرابطة بين العقيدة وبين المرجعية رابطة عضوية. فحيثما وجدت العقيدة يستتبع بالضرورة وجود مرجعية لأن التلازم والتكامل حاصل وبالضرورة بين العقيدة والمرجعية ، ولتوضيح المرجعية توضيحاً كافياً لا بد من بحث موضوع العقيدة اذ يتعذر فهم احداهما دون فهم الآخر.

ما معنى العقيدة؟

تعني العقيدة عموماً مجموعة الأفكار والقواعد والمبادىء والقيم المترابطة والمتكاملة والتي تقدم تصوراً للوجود لما هو كائن ، ولما ينبغي أن يكون أو تصوراً للحال وللمآل بغض النظر عن صحة هذا التصور أو فساده ، عن شموليته أو محدوديته ، عن كماله أوقصوره. فتجتذب هذه العقيدة جماعة معينة تقتنع بهذا التصور ، فتحدد هذه الجماعة قناعاتها وأهدافها وطرق بلوغ تلك الأهداف وفق مقاييس تلك العقيدة ، فتكون هذه العقيدة هي القائدة وهي الموجهة ومنبع الشرعية والمشروعية في حياة تلك الجماعة وهي منبع خيرها العام.

ومن الطبيعي أن كل عقيدة بهذا المفهوم تدعي القدرة على سياسة حياة معتنقيها ، والقدرة على تقديم الحلول الناجعة لمشكلاتهم ، واستشراق المستقبل الأفضل لهم ، وتزعم أنها تمتلك الوسيلة لتحقيق الخير العام لهذه الجماعة. وما تزال تلك العقيدة تعتمل في نفوس معتنقيها وتحرك إرادتهم حتى يقدموها كمذهب سياسي له الجاهزية على إثبات دعوى القدرة تلك ، أو عدم اثباتها من خلال سلطة تسوس الجماعة وفق تصورات تلك العقيدة ، لأن المذهب السياسي هو بمثابة

١٥٧

البرنامج السياسي المتكامل الذي تقدمه تلك العقيدة ، وهو بمثابة الإعلان عن جاهزية فكر وفلسفة ومبادىء هذه العقيدة لتوضع كلها موضع المحك والتطبيق ، وهو يتناول الأهداف والوسائل اللازمة لتحقيق تلك الأهداف ، وكل ذلك يرتبط عمليا بوجود سلطة دولة أو حكم لينقل هذا البرنامج من عالم النظر القانوني إلى عالم الواقع القانوني. وبهذا المفهوم فإن الرأسمالية التحررية عقيدة وإن الماركسية الشيوعية عقيدة.

نوعا العقائد

عرفت البشرية نوعين من العقائد : ١ ـ عقائد إلهية من صنع الله. ٢ ـ عقائد وضعية من صنع فرد أو مجموعة من الأفراد أو إن شئت فقل من تجميع فرد أو مجموعة من الأفراد.

صناعة العقائد ولوازم إيجادها

ومن يتعمق بالموضوع يكتشف أن بإمكان الإنسان أن يفهم عقيدة ـ أي عقيدة صالحة كانت أم طالحة ، ولكن الإنسان عاجز عن صنع وإيجاد عقيدة صحيحة ، وهو بطبعه غير مؤهل لإيجادها ، بل ويمكنك القول بكل ارتياح أن الجنس البشري لو اجتمع كله على صعيد واحد لما استطاع أن يصنع عقيدة صحيحة ويقينية ، مع أن اجتماع الجنس البشري كله على صعيد واحد غير وارد وغير ممكن ، وبالتالي فإيجاد العقيدة الصحيحة أمر فوق مستوى البشر ، وفوق طاقتهم لأن هذا يتطلب معرفة يقينية بماضي الجنس البشري وبتفاصيل تجاربه ، وهذا ركن أساسي يبنى فوقه ، ويتطلب إيجاد العقيدة الصحيحة معرفة يقينية بالفطرة الإنسانية وحاجات الإنسان ودوافعه وميوله ، بالإضافة إلى معرفة يقينية بالمستقبل لأنه هو الذي سيشهد زمنياً نجاح أو فشل هذه العقيدة أو تلك ، ويتطلب اخيراً معرفة بالكون المحيط بالإنسان معرفة يقينية وهذه المعارف لا يدعيها فرد ولا تدعيها جماعة ولا يدعيها الجنس البشري كله.

فالعقيدة التي يضعها بشر ستنهار عاجلاً أم آجلاً لسبب بسيط هو أن الإنسان غير مؤهل بطبعه لإيجاد عقيدة. والعقيدة اليقينية التي تصلح أن تكون أساساً دائماً للسلطة

١٥٨

هي العقيدة التي وضعها الله الخالق وهي عقيدة الإسلام التي كانت بالفعل هي أساس السلطة لدولة الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ملامح عقيدة الإسلام

١ ـ على الصعيد العملي : الإسلام هو الانقياد التام لله جلّ وعلا في كل شأن من شؤون الحياتين الدنيا والآخرة ، بحيث يكون عمل الإنسان وعمل الجماعة المسلمة وعمل الدولة المسلمة ـ وعلى كافة الأصعدة ـ خاضعاً لموازين الأوامر والنواهي الإلهية المحددة بالرسالة الإلهية ( العقيدة ) النافذة المفعول وهي رسالة الإسلام ، ومتجهاً لتحقيق غاياتها الشرعية ، ونعني بالعمل : الحركة المضبوطة بالفكرة الشرعية والنية الشرعية.

٢ ـ على الصعيد النظري : تعني العقيدة الإسلامية مجموعة القواعد والأحكام والمبادىء والأوامر والنواهي والمعلومات العامة والتفصيلية التي أنزلها الله تبارك وتعالى على نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقام هذا النبي ببيانها للناس نظرياً عبر دعوة وعبر دولة. ثم وضعها موضع التطبيق من خلال دعوة قادها بنفسه ومن خلال دولة ترأسها بنفسه.

فالعقيدة تشمل ما أنزله الله وأوحاه إلى نبيه ، وتشمل قول النبي وفعله وتقريره. وهذه العقيدة بمجموعها تبين كيف وجدت الحياة؟ ولماذا؟ وكيف تنتهي؟ ومتى؟ وما هي مآلاتها؟ وتنظم العلاقات بين الأحياء على الإطلاق ، علاقات الكائنات الحية مع الخالق ومع بعضها ومع الكون الضروري لوجودها والمسخر لخدمتها ، وتبين كيفية انتهاء دورة الحياة كلّها ، وكيف تنتهي الدورة الحياتية لكل كائن حي مخلوق ، وتكشف عن وجود حياة أخرى هي بمثابة قاعة محاكمة لكل الذين مروا بدورة الحياة الدنيا على ما قدموه ، وهي بمثابة نتيجة فيأخذ المصيب اجره كاملاً ويلقى المخطىء عقابه.

وهذه العقيدة سجل حافل لتاريخ الخلق عامة والجنس البشري خاصة حفظت تجاربهم بصدق وموضوعية تصل إلى درجة التصوير الفني المشاهد صوتاً وشكلاً وحركة ، ظاهراً وباطناً.

١٥٩

وهي نظام للفرد كفرد ، وللمجتمع كمجتمع ، وللسلطة كسلطة ، وللجنس البشري كله ، تنظم حياة كل واحد منهم على انفراد ، وتنظم علاقاتهم مع بعضهم وعلاقاتهم مع خالقهم ، وعلاقاتهم مع العالم المحيط بهم ، وترفدهم جميعاً بدعوة ، وتعزز الدعوة بدولة ، وتعزز الدولة بأهداف ومثل عليا.

وهذه العقيدة غائية ، بمعنى أنها تحدد الأهداف. فلكل قاعدة من قواعدها هدف وجدت من أجله ورصدت عليه ، وللفرد هدف وللمجتمع هدف ، وللسلطة هدف ، وللجنس البشري هدف. وهذه الأهداف كلها تصب في مكان واحد هو نفس الهدف العالم للإسلام. وهذه الأهداف محددة و ( معيرة ) بشكل تعكس طوعياً كامل الطاقة الكامنة في ذات الفرد وذات الجماعة وذات السلطة وذات الجنس البشري وذات الكائنات المحيطة بهم والمسخرة لخدمتهم ، كامل الطاقة لا زيادة ولانقصان ، لأن الشيء لا يملك إلا طاقته ولم تكتف العقيدة الإسلامية بتحديد الاهداف ، انما حددت الوسائل والسبل والطرق اللازمة لتحقيق هذه الأهداف وبينتها على وجه يزيل كل غموض.

التصور اليقيني

بمعنى أن الإسلام كعقيدة يقدم تصوراً يقينياً شاملاً وكاملاً ويقيناً يقوم على الجزم واليقين. وهذا التصور اليقيني يغطي بالكامل ساحة الأهداف والوسائل العامة والخاصة وفي كافة نواحي الحياة وعلى كافة الأصعدة الفردية والجماعية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والدولية ... الخ. وهذا التصور اليقيني هو بمثابة مخططات عامة وتفصيلية دقيقة لواقع ما هو كائن ومستقبل هذا الكائن في دائرة الواقع ، وما ينبغي أن يكون عليه هذا الكائن في دائرة المنى الذي سيتحول إلى واقع بحيث تقودك هذه المخططات درجة درجة وخطوة خطوة حتى تصل بك إلى الغاية الشرعية من أقصر الطرق وبأقل التكاليف ، وفي كل أمر من الأمور. عندئذ تكون العقيدة هي القائدة والموجهة ، وهي منبع الشرعية ، وتستقر كبنية فكرية كاملة ، وتدعم هذا الاستقرار القناعة الذاتية والرضا بهذه العقيدة القائمة على الجزم واليقين ، بعكس العقائد الوضعية التي تقوم على الافتراض والتخمين والتي ستنهار في النهاية عاجلاً أم آجلاً.

١٦٠