نظريّة عدالة الصّحابة والمرجعيّة السياسيّة في الإسلام

احمد حسين يعقوب

نظريّة عدالة الصّحابة والمرجعيّة السياسيّة في الإسلام

المؤلف:

احمد حسين يعقوب


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٥٢

الركن الرابع : موافقة المحكومين ورضاهم

الشعب يبحث عن منظومة حقوقية مثلى تحدد له الأهداف العامة والخاصة ، وتبين له وسائل بلوغ تلك الأهداف ويبحث عن قيادة سياسية تكون هي الأعلم بالمنظومة الحقوقية ، وهي الأفضل بين كل الموجودين ، وهي الأنسب لقيادته وهو حاضر بأمره. فجاءت العناية الإلهية لتنقذه من هذه الحيرة وتبين له أن المنظومة الحقوقية التي تحقق ما يريد هي الإسلام بقرآنه وسنة نبيه قوله وفعله وتقريره. أما القائد الأعلم بهذه المنظومة والأفضل من بين الموجودين والأنسب لقيادة الشعب فهو محمد ، وبعد موته هو الذي ينسبه محمد بأمر من ربه ، ثم الذي يليه ثم يليه ... الخ.

فإن وافق الشعب على هذا التكييف الإلهي للمنظومة الحقوقية وللقيادة السياسية فقد اهتدى ، ودخل الخير من أوسع الأبواب بعد أن قبل بهذا التكييف الإلهي. وبالتالي يطبقون المنظومة ويوالون القيادة. وإن أبى فان الله لن يجره جراً إلى الخير إنما يتركه ليجرب ويذوق وبال المعصية ، وليحيا حياة ضنكاً لأنه عبر عن رفضة للتكليف الإلهي بموالاته لقيادة سياسية غير القيادة التي أرادها ورشحها.

بساطة النظام السياسي الإسلامي

كيف تعرف أنك سائر على الدرب الإلهي؟ من يوالي القيادة السياسية التي عينها الله تعالى هو مع الله. فالذين والوا محمداً هم من حزب الله ، والذين عادوا محمداً ووالوا غيره هم من حزب الشيطان حتى لو صلوا الليل كله وصاموا العمر كله ، لأن الولاية والموالاة هي القول الفصل بعضوية الحزبين ، كذلك من يوالي وليه من بعده أو يعاديه يتحدد موقعه بأحد الحزبين وبحجم هذه الموالاة سلباً كانت أم إيجاباً.

لقد كانت الموالاة لمحمد هي الميزان الحق بين الصادق والكاذب. فقد بنى أناس المساجد وصلوا وأنفقوا واعتذروا عن عدم خروجهم مع الرسول ، ولكنه تعالى وسمهم بالنفاق لأن ولاءهم لمحمد ليس صحيحاً.

١٠١

المناخ السياسي الذي نشأت فيه نظرية عدالة كل الصحابة

بعد مقتل الفاروق آلت الأمور إلى عثمان بن عفان ، وهو بطبعه مولع بحب أقاربه. وبتولية عثمان بدأ بنو أمية ينزون حوله واحداً بعد الآخر ، وبدأ هو بتجميعهم حتى أصبحوا رجال الخليفة ومستشاريه ، وأصبحت مقاليد الأمور عملياً بيد مروان بن الحكم ، حتى أن مروان أمر بقتل محمد بن أبي بكر وطائفة من الصحابة دون أن يستشير الخليفة حتى مجرد استشارة ، وختم الأمر بخاتم الخليفة والخليفة لا يدري ، وبتعبير علي عليه‌السلام صار عثمان سيفه بيد مروان يسوقه حيث شاء بعد كبر السن وصحبته الرسول (١).

وما أدراك ما مروان؟ إنه طليق ، ومن المؤلفة قلوبهم ، وأبوه الحكم بن العاص كان محرماً عليه أن يدخل المدينة في زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وفي زمن أبي بكر وعمر. وعندما تولى عثمان أدخله معززاً مكرماً وأعطاه مائة ألف درهم. ومما ساعد حزب الطلقاء أيضاً على تكوين دولتهم عبد الله بن أبي سرح والي مصر بكل خيراتها. وما أدراك ما عبد الله بن أبي سرح؟ إنه الذي افترى على الله الكذب ، وأباح الرسول دمه حتى ولو تعلق بأستار الكعبة ـ كما يروي صاحب السيرة الحلبية في باب فتح مكة ـ وجاء به عثمان يوم الفتح يطلب الأمان له ، وسكت الرسول على أمل أن يقتل عبد الله خلال فترة سكوته ، ولما لم يقتل أعطاه الأمان. والغرسة التي زرعت في زمن أبي بكر ، وهي معاوية ، ضربت جذورها في الأرض ، فقد ضل والياً على الشام عشرين عاماً يجمع كما يشاء عملياً ويعطي كما يشاء.

مروان الطليق ، ومعاوية الطليق ، وعبد الله بن أبي سرح الطليق ، والوليد بن عقبة الطليق أيضاً صلّى الصبح أربعاً ووالى الكوفة ، كلهم على مدرسة أبي سفيان حتى أن أبا سفيان حاول أن يخرج عثمان من مدرسته فقال يوماً لعثمان : روى الجوهري أنه لما بويع لعثمان قال أبو سفيان : كان الأمر في تيم وأنى لتيم هذا الأمر ، ثم صارت لعدي فأبعد وأبعد ، ثم رجعت لمنازلها واستقر الأمر قراره فتلقفوها تلقف

__________________

(١) راجع تاريخ ابن الأثير وراجع تاريخ الطبري باب مقتل عثمان وراجع كتابنا النظام السياسي في الإسلام ص ١٧٥ وما فوق.

١٠٢

الكرة. وقال لعثمان يوماً : بأبي أنت وأمي ، أنفق ولا تكن كأبي حجر وتداولوها يا بني أمية تداول الولدان الكرة ، فوالله ما من جنة ولانار. وكان الزبير حاضراً فقال عثمان لأبي سفيان ( اغرب ) فقال أبو سفيان ( يا بني أهاهنا أحدا؟ ) فقال الزبير ( نعم والله لا كتمتها عليك ) (١).

وبإيجاز قال مروان بن الحكم عملياً وبحق ـ كما يروي ابن الأثير في تاريخه الجزء الثالث قبيل مقتل عثمان ـ شاهت الوجوه تريدون أن تسلبوا منّا ملكنا ، فقد أصبحت الخلافة في أواخر عهد عثمان ملكاً أموياً ، فلا تجد مصراً إلا وواليه أموي طليق أو موال لبني أمية. فأي خليفة سيأتي بعد عثمان إما أن يصبح أداة بيد الأمويين أو يدخل ليلاً مظلماً ويسير على أرض مليئة بالعثرات والألغام.

ونتيجة الفتوحات كثر عدد المسلمين الأحداث والمنتفعين من الدولة كدولة ، وقل عدد الصحابة الأجلاء الذين قامت الدولة المحمدية على أكتافهم ، وأصبح الصحابة السابقون كشعرة بيضاء في جلد ثور أسود من حيث العدد ، ومن حيث المصائب المتربصة بهم أصبحوا كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية ـ على حد تعبير الإمام شرف الدين العاملي ـ وتلك أمور لم تكن خافية على معاوية الذكي ، فقال معاوية مهدداً قبل قتل عثمان ( ما أنتم في الناس إلّا كالشامة السوداء في الثور الأبيض ).

كل الولايات أموية أو موالية لبني أمية ، ومعاوية بن أبي سفيان قائد الأحزاب ورضيع هند بنت عتبة أصبح قطب الرحى. فهو والي الشام كلها ، ومركز الدائرة ، وهو الوصي على بني أمية ، ومن أعطى نفسه الحق بالمطالبة بدم عثمان أو إن شئت فقل : رفع شعار المطالبة بدم عثمان ليضمن استمرار الملك الأموي ، لأن القضية ليست قضية قتل عثمان ، فهذا عمر قتل وسارت الأمور من بعده ، إنها قضية الملك الاموي. هذا الملك الذي نشأ عملياً من الناحية الفعلية يوم ولّى أبو بكر يزيد بن أبي سفيان. وتوطد الأمر لمعاوية ولبني أمية وانقلب في آخر عهد عثمان إلى ملك

__________________

(١) راجع شرح النهج لابن أبي الحديد ج ١ ص ٣٠٧ و ٣٢٦ و ٣٢٧ وكتابنا النظام السياسي في الإسلام.

١٠٣

حقيقي. وهذا معنى قول مروان : شاهت الوجوه تريدون أن تسلبوا منا ملكنا!

قتل عثمان ليس قضية ، ومعاقبة القتلة ليس هو المحور ، لأن معاوية أصبح الخليفة فيما بعد ولم يعاقب القتلة ، القضية هي الملك! قتل الروح المؤمنة ليس بذي قيمة ، ألم يصدر مروان بن الحكم أمراً بقتل محمد بن أبي بكر ومن معه من الصحابة بدون جريرة وذنب؟ أليس معاوية هو قاتل الحضرمي الذي كتب فيه ابن زياد أنه على دين علي؟ الي معاوية هو قاتل عمرو بن الحمق الذي اخلقت العبادة وجهه؟ أليس معاوية هو قاتل حجر بن عدي واصحابه العابدين المخبتين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر؟ أو ليس معاوي هو الذي سلط ابن زياد الذي قتل عباد الله وصلبهم في جذوع النخل. المهم عند معاوية الملك بالدرجة الأولى والانتقام من قاتل جده وخاله وابن خاله وأخيه.

وقد انتهز معاوية فرصة حروب الجمل فأخذ يحرض طلحة والزبير وعائشة ويظاهرهم ، وكان يعد طلحة والزبير بالبصرة والكوفة بأن يحكم كل واحد منهما إحداهما ، حتى إذا انتهت الحرب بهزيمة من أثاروها أشعل الحرب بينه وبين علي ... (١).

يقول الأستاذ عباس العقاد في كتابه « معاوية في الميزان » : كانت لمعاوية حيلته التي كررها وأتقنها وبرع فيها واستخدمها مع خصومة في الدولة من المسلمين وغير المسلمين ، وكان قوام تلك الحيلة العلم الدائب على التفرقة والتخذيل بين خصومة بالقاء الشبهات بينهم ، وإثارة الإحن فيهم ، ومنهم من كان من أهل بيته وذوي قرباه. كان لا يطيق أن يرى رجلين ذوي خلط على وفاق ، وكان التنافس الفطري بين ذوي الأخطار مما يعنيه على الإيقاع بينهم (٢).

ومضى معاوية على هذه الخطة التي لا تتطلب من صاحبها حظاً كبيراً من الحيلة والرؤية. فلو انه استطاع ان يجعل من كل رجل في دولته حزباً منابذاً لغيره من رجال

__________________

(١) راجع شيخ المضيرة للاستاذ محمود أبو رية ص ١٧٤ ـ ١٧٥.

(٢) راجع معاوية في الميزان لعباس محمود العقاد ص ٦٤ و ٦٦.

١٠٤

الدولة كافة لفعل ، ولو حاسبه التاريخ الصحيح لما وصفه بغير مفرق الجماعات ، ولكن العبرة لقارىء التاريخ في زنة الأعمال والرجال أن نجد من المؤرخين من يسمّي عامه حين انفرد بالدولة ( عام الجماعة ) لأنه فرّق الأمة شيعاً ، فلا تعرف كيف تتفق إذا حاولت الاتفاق ، وما لبث أن تركها بعده تختلف في عهد كل خليفة شيعاً شيعاً بين ولاة العهود (١).

واستعمل معاوية بشر بن أرطأة وبعثه إلى المدينة وألقى الرعب في قلوب الصحابة وأذلهم (٢).

وباختصار حصل معاوية على البيعة بالتقتيل والتدمير والتحريق والتفريق بين الناس ، وشتمه أنصار رسول الله وأصحابه ، واستغل أموال المسلمين التي جمعها خلال عشرين عاماً بولايته على الشام لتوطيد سلطانه بعد أن أخرج أموال المسلمين عن مصارفها الشرعية ، ورتب معاوية عطاء اسمه عطاء البيعة ( رزق البيعة ) يعطى للجند عند تعيين خليفة جديد.

تجأهل الهدف المعلن للخروج على الشرعية

لقد عصى معاوية الخليفة الشرعي مطالبا بمعاقبة قتلة عثمان ، وخرجت عائشة أم المؤمنين للمطالبة بمعاقبة قتلة عثمان ، وعندما استولى معاوية بالقوة على أمر المسلمين واغتصب رئاستهم ، لم يعاقب قتلة عثمان ولم تخرج عليه أم المؤمنين ولم تطالبه بمعاقبة قتلة عثمان.

الصحوة من الغفلة

استقام الأمر لمعاوية واصبح هو القائم مقام النبي ، وهو خليفته على أمة محمد ، مع أنه الطليق ابن الطليق ، وقاتل هو وأبوه الإسلام بكل فنون القتال ، حتى أحيط بهما وبمن شايعهما ، فأسلموا رغبة ورهبة.

__________________

(١) راجع نظام الحكم للقاسمي وراجع كتابنا النظام السياسي في الإسلام.

(٢) راجع شيخ المضيرة للاستاذ محمود أبو رية ص ١٨٧ ـ ١٨٨.

١٠٥

كيف حدث هذا الانقلاب؟ كيف هزم الحق؟ كيف أصبح المتأخر متقدماً والمتقدم متأخراً؟ كيف أصبح الطليق أفضل من المهاجر؟ كيف أصبح الذي حاصر الإسلام وأبناءه افضل من الذي تحمل الحصار في سبيل الإسلام؟ ومن عجيب أن العام الذي هزمت فيه الشرعية وانتصرت فيه القوة سمي عام الجماعة!!! وأسقط بيد الصادقين ، وعمهم شعور عميق بالندم والإحباط ، وندموا ولات مندم ، لكأنهم كانوا في غفلة ثم استفاقوا على أثر حلم مرعب ، ولما فتحوا أعينهم وصحوا ، تبين لهم أن الحلم المرعب حقيقة.

نظريات في خدمة الواقع

انشغل الناس بتحليل ما جرى ، وبرزت نظريات وأفكار ذهبت بأصحابها مذاهب شتّى ، كفكرة التصوّف وفكرة الإرجاء وفكرة الجبر ونظرية عدالة كل الصحابة ، وكان الأمويون ومن والاهم وراء هذه النظريات والأفكار ، واعتبروها بمثابة أسلحة استغلوها بكفاءة عالية بما يخدم الملك الأموي ، ويشتت جهد خصومه ويوقع بينهم ، وبما يثبت دعائم الحكم الأموي ويبرر شرعيته.

١٠٦

الفصل الثالث

ما هي الغاية من ابتداع نظرية كل الصحابة عدول

١ ـ التبرير

١ ـ تبرير غصب السلطة : معاوية طليق وابن طليق ومن المؤلفة قلوبهم ، وقد وجد نفسه رئيساً لدولة الإسلام أو إن شئت فقل ملكاً عليها ، والقائم بأعمال خليفة النبي بل هو رسمياً الخليفة لرسول الله. هذا غير معقول!! ولا يصدق!! وبكل الموازين العقلية والشرعية الإلهية والوضعية ، فأبوه هو رأس الأحزاب ومرجعية الشرك في كل معاركه ضد الإسلام. وقاوم أبو سفيان وبنوه ومن شايعهم الإسلام ونبيه بكل فنون المقاومة حتى أحيط بهم فأسلموا ، ثم ها هو معاوية ابنه يتقدم على كل السابقين له والذين قام مجد الإسلام على أكتافهم.

لا بد من مبرر يبرر هذا الانقلاب ، وأفضل وسيلة لتبريره هو القول بعدالة كل الصحابة ، وبما أن معاوية وشيعته هم صحابة بالمعنيين اللغوي والاصطلاحي ، وبما أن الصحابة كلهم عدول ، وكلهم في الجنة ، وأنه لن يدخل أحد منهم النار ، وأن لا فرق بيهم لانهم كلهم عدول وكلهم صحابة ، فما الذي يمنع من أن يكون معاوية هو الخليفة وهو وليّ أمر المسلمين. وما الذي يمنع شيعته وهم صحابة أيضاً بالمعنيين اللغوي والاصطلاحي من أن يكون بطانة لمعاوية ، طالما أنهم كلهم عدول وكلهم من أهل الجنة ولا يدخل احد منهم النار؟ فنظرية عدالة الصحابة بثوبها الفضفاض هي المبرر الأمثل لملك معاوية ، والجبة الفضفاضة التي ألبست لنظرية عدالة الصحابة تدل على أن معاوية منظر حقيقي في فن الوقيعة والدهاء.

٢ ـ تبرير أفعال معاوية وشيعته : لقد أنزل معاوية وشيعته أعظم النكبات

١٠٧

بالإسلام والمسلمين ، فبشر بن أرطأة ومسلم بن عقبة فعلا الأفاعيل التي ضجت منها السماء وأدمت القلوب حتى ولو كانت من صلخد جلمود. فقد قتل في وقعة الحرة كل البدريين ولم يبق بعدها بدري واحد ، وقتل من قريش ومن الأنصار سبعمائة ، ومن سائر الناس من الموالي والعرب عشرة آلاف ، ولا شيء يمنع من قتل الأطفال كما فعل بشر بن أرطأة بطفلي عبيد الله بن عباس. ناهيك عن معارك معاوية مع الإمام علي. ومن الكبر الأعظم الذي تولاه معاوية وشيعته عندما حاولوا إبادة آل محمد إبادة تامة وأساليبه الملتوية بالقتل ، فقد سمّ معاوية الحسن عليه‌السلام ، وسمّ عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ـ كما ورد في ترجمته في الاستيعاب لابن عبد البر ـ وسمّ عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ـ كما ورد في الاستيعاب أيضاً ، وسم مالك بن الاشتر ، ولذلك قال عمرو بن العاص في ذلك ( ان لله جنوداً من عسل ... ) وفرق معاوية الناس وجعلهم شيعاً. فلو حاولت امة محمد ان تتفق لما استطاعت ـ كما يقول العقاد ـ وشوه الحكم الإسلامي. يقول الدكتور أحمد أمين ( فالحق أن الحكم الأموي لم يكون حكماً اسلامياً ... الخ ).

كيف يمكن تبرير هذه الأفعال بغير نظرية عدالة كل الصحابة؟ فطالما أن معاوية وشيعته من الصحابة ، وطالما أن الصحابة كلهم عدول وكلهم في الجنة ، فإن معاوية وشيعته لم يخطئوا ، فلو كانوا على خطأ لما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( بزعمهم ) ( إن الصحابة كلهم في الجنة ) والنبي صادق مصدق لا ينطق عن الهوى ، وبالتالي فإن معاوية كصحابي مجتهد وهو مأجور ، فان قتل وهو على الحق فله أجران ، وإن قتل وهو على غير حق فله أجر واحد ، فمعاوية على الحق في حربه وسلمه ، في هجومه ودفاعه ، في أخذه وإعطائه ، لماذا؟ لأنه صحابي والصحابي من العدول.

٢ ـ التحصن ضد النقد والسب والشتم والانتقاص

علاوة على أن نظرية عدالة الصحابة تبرر غصب معاوية للسلطة ، وتبرر أفعاله وأفعال شيعته من بني أمية ، فإنها أيضاً تمنحه الحصانة ضد أي نقد ولو كان بناء ، والحصانة ضد السب والشتم والانتقاص من قدره لأنه صحابي ومن العدول ، ومن يتنقص أو يسب أو يشتم أي صحابي عادي ، فكيف برئيس دولة؟ من يفعل ذلك فهو زنديق لا يؤاكل ولا يشارب ولا يصلّى عليه ـ كما يروي الذهبي في ميزانه ـ وليس في

١٠٨

الدنيا خطة يمكن أن تحصن معاوية مثل نظرية عدالة كل الصحابة.

٣ ـ مقارعة خصوم معاوية وشعيته

نظرية عدالة كل الصحابة تُؤَمَّنُ فوز معاوية في أيّ مقارعة بينه وبين خصومه أو تؤمن ـ على الأقل ـ المساواة بينه وبين هؤلاء الخصوم. فلو قال آل محمد إنهم هم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، لانبرى معاوية وشيعته إلى الرد الفوري عليهم : نحن أصحاب محمد العدول لا يجوز علينا الكذب ، ولا يجوز علينا الخطأ لأننا في الجنة ولا يدخل أحد منا النار.

ولو قال آل محمد ( من عادانا فقد عادى الله ) لرد معاوية وشيعته ( ونحن الصحابة أيضاً ) قال النبي فينا ( من آذى صحابياً فقد إذا ني ... الخ ) ويختلط الحق بالباطل والعاصي بالمطيع والمحسن بالمسيء!

٤ ـ التفريق بين المسلمين

إذا تمكن معاوية وشيعته من تأصيل هذه النظرية بثوبها الفضفاض هذا وإشاعتها بين المسلمين ، فستتبناها طائفة منهم وستعارضها طائفة أخرى ، وينشب الجدل أظافره في أفكار الطائفتين ، ويتعصب كل فريق لرأيه ويختلفان وتدون آراء كل طائفة ويتبناها اللاحقون بحكم التقليد وبحكم الدفاع عن الحق أو وجهات النظر. فالذين يؤيدون النظرية لم يقصدوا تأييد معاوية ، إنما قصدوا تأييد الصحابة ، والذين يعارضون النظرية لم يقصدوا معاداة الصحابة إنما قصدوا كشف الاحابيل والألاعيب السياسية الخافية على الفريق الآخر. لكن عملياً كل فريق وقف وجهاً لوجه ضد الفريق الآخر وشغلوا عن معاوية بينما معاوية هانىء يتفرج على المتصارعين ، وهو مستعد ليكون حكماً بينهم.

هذا هو الفن الذي أشار إليه العقاد في كتابه الرائع ( معاوية في الميزان ).

نشوء نظرية عدالة كل الصحابة

روى ابن عرفة المعروف بنفطويه ـ وهو من أكابر المحدثين ـ أن أكثر الأحاديث

١٠٩

في فضائل الصحابة افتعلت في أيام بني أمية تقرباً إليهم بما يظنون أنهم يرغمون أنوف بني هاشم. وقد صفّت هذه الأحاديث بأسلوب يجعل من كل صحابي ( بالمعنيين اللغوي والاصطلاحي آنفي الذكر ) قدوة صالحة لأهل الأرض وتصب اللعنات على كل من سبّ أحداً منهم أو اتهمه بسوء (١). وقد أجمع الباحثون على أن نشأة الاختراع في الرواية ووضع الحديث على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنما كان في أواخر عهد عثمان وبعد الفتنة التي أودت بحياته ، ثم اتسع الاختراع واستفاض بعد مبايعة علي ، فإنه ما كاد المسلمون يبايعونه بيعة صحيحة حتى ذر قرن الشيطان الأموي ليغصب الحق من صاحبه ، ويجعلها أموية وتوالت الأحداث بعد ذلك ونقض بعض المبايعين للخليفة الرابع ما عقدوا ، وكانت حروب بين المسلمين انتهى فيها أمر السلطان إلى الأمويين. غير أن بناء الجماعة قد انصدع وانفصمت عرى الوحدة بينهم ، وتفرقت المذاهب في الخلافة ، واخذت الأحزاب في تأييد آرائهم كل ينصر رأيه على رأي خصمه بالقول والعمل. وكانت نشأة الاختراع في الرواية والتأويل وغلا كل قبيل فافترق الناس. ولم يزرأ الإسلام بأعظم مما ابتدعه المنتسبون اليه ، وما أحدثه الغلاة من المفتريات عليه. فذلك ما جلب الفساد على عقول المسلمين وأساء ظنون غيرهم في ما بُنِيَ عليه الدين ، وإن عموم البلوى بالأكاذيب حق على الناس بلاؤه في دولة بني أمية ، فكثر الناقلون وقل الصادقون ، وامتنع كثير من أجلاء الصحابة عن الحديث إلا لمن يثقون بحفظه (٢).

وأشار الإمام محمد عبده إلى ما صنعه معاوية لنفسه ، بأن وضع قوماً من الصحابة والتابعين على رواية أخبار قبيحة على علي عليه‌السلام تقضي الطعن فيه والبراءة منه وجعل لهم على ذلك جعلاً يرغب في مثله ، فاختلفوا على ما أرضاه ، منهم أبو هريرة (٣).

__________________

(١) راجع آراء علماء المسلمين في التقية والصحابة وصيانة القرآن الكريم ص ٨٥ للسيد مرتضى الرضوي.

(٢) مقدمة الإمام محمد عبده على رسالة التوحيد ص ٧ ـ ٨ وراجع شيخ المضيرة للأستاذ محمود أبو رية ص ٢٠١ ـ ٢٠٣.

(٣) مقدمة الإمام محمد عبده على رسالة التوحيد ص ٧ ـ ٨ وراجع شيخ المضيرة للأستاذ محمود

١١٠

ويقول الدكتور أحمد أمين في كتابه ضحى الإسلام : « ويسوقنا هذا إلى أن نذكر هنا أن الامويين فعلاً قد وضعوا أو وضعت لهم أحاديث تخدم سياستهم من نواحي متعددة » (١) وقد بذل معاوية للصحابي أبي سمرة بن جندب خمسمائة ألف درهم ليروي له عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن آية ( ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام ) ... نزلت في علي بن أبي طالب. وأن الآية ( ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد ) نزلت في عبد الرحمن بن ملجم لأنه قتل علياً عليه‌السلام (٢).

رواة الأحاديث

أبو هريرة الدوسي ، أحد أصحاب معاوية وشيعته ، روى عن النبي خمسة آلاف وثلاثمائة وأربعة وسبعين حديثاً. روى منها البخاري أربعمائة وستة واربعين حديثاً ، وأبو هريرة هذا لم تتجاوز صحبته للنبي سنة وبضعة أشهر ، بينما كبار الصحابة الذين لازموا النبي من يوم بعثته إلى لحظة انتقاله للرفيق الأعلى لم يرووا عنه ما يزيد عن مائة حديث رواها البخاري ، وهؤلاء الكبار هم : أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله ومعاذ بن جبل وسلمان وزيد بن ثابت واُبيّ بن كعب. إن في ذلك لعبرة!!!

فضائل معاوية

قال الشوكاني في كتابه الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة ، وفيها تحقق على أنه لم يصح في فضائل معاوية حديث.

إن ابن الجوزي بعد أن أورد الأحاديث الواردة في معاوية في باب الموضوعات ساق عن إسحاق بن راهويه ( شيخ البخاري ) أنه قال ( لم يصح في فضائل معاوية شيء ).

__________________

أبو رية ص ٢٠١ ـ ٢٠٣.

(١) ضحى الإسلام ج ٢ ص ١٢٣ لأحمد أمين وراجع شيخ المضيرة للأستاذ أبو رية.

(٢) راجع آراء علماء المسلمين في التقية والصحابة وصيانة القرآن الكريم للسيد مرتضى الرضوي ص ٨٥ ـ ٨٦.

١١١

وللنسائي قصة مشهورة في أمر فضائل معاوية. قال الدار قطني : خرج النسائي حاجاً فامتحن بدمشق وأدرك الشهادة ، فقال : احملوني إلى مكة وتوفي بالرملة ، وكان أصحابه في دمشق قد سألوه عن فضائل معاوية فقال ( ألا يرضى رأساً برأس لي حتى يفضل؟ ) فما زالوا يدفعونه حتى أخرج من المسجد (١).

رأي الشافعي في معاوية

روى أبو الفدا عن الشافعي أنه أسرّ إلى الربيع أن لا تقبل شهادة أربعة من الصحابة وهم : معاوية وعمرو بن العاص والمغيرة وزياد (٢) وربما كان هذا هو السر الذي دفع ابن معين للقول عندما سئل عن الشافعي قال : إنه ليس بثقة.

قول الحسن البصري

روى الطبري أن الحسن البصري كان يقول : أربع خصال كن في معاوية ولو لم يكن فيه منهن إلا واحدة لكانت موبقة.

١ ـ انتزاؤه على هذه الأمة بالسفهاء حتى ابتزوها أمرها بغير مشورة منهم وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة.

٢ ـ استخلافه ابنه بعده سكيراً خميراً يلبس الحرير ويضرب الطنابير.

٣ ـ ادعاؤه زياداً وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الولد للفراش وللعاهر الحجر.

٤ ـ وقتله حجراً واصحابه ، ويل له من حجر وأصحابه ، ويل له من حجر وأصحابه.

نظرية عدالة كل الصحابة تحمل الطابع الأموي

مع أن كل الصحابة وفق هذه النظرية عدول ، فيفترض ان يكون آل محمد

__________________

(١) راجع شيخ المضيرة أبو هريرة للاستاذ أبو رية ص ١٨٣.

(٢) راجع تاريخ الطبري حوادث سنة ٥١ وابن الاثير ج ٣ ص ٢٠٢ ـ ٢٠٩ وابن عساكر ج ٢ ص ٣٧٩ وشيخ المضيرة للاستاذ أبو رية ص ١٨٥.

١١٢

بوصفهم صحابة عدولا ، وأن يكف الأمويين عن الانتقاص منهم والإساءة اليهم.

إلا أن معاوية زعيم الفئة الباغية وقف من الإمام على موقف أبي سفيان من النبي ، وجاء يزيد فوقف من الحسين موقف جده من النبي وموقف أبيه من علي. وقد كان أول عمل لمعاوية بعد أن استولى على الحكم أن كتب إلى عماله في جميع الآفاق بأن يلعنوا علياً في صلواتهم وعلى منابرهم ، ولم يقف الأمر عند ذلك بل كانت مجالس الوعاظ في الشام تختم بشتم علي وأن لا يجيزوا لأحد من شيعته وأهل بيته شهادة ، وأن يمحوا من الديوان كل من يظهر حبه لعليّ واولاده وان يسقطوا عطاءهم ورزقهم (١).

يقول العقاد في كتاب معاوية بن أبي سفيان في الميزان ( وإذا لم يرجح من أخبار هذه الفترة إلا الخبر الراجح عن لعن علي على المنابر بأمر من معاوية لكان فيه الكفاية لإثبات ما عداه ما يتم به الترجيح بين كفتي الميزان ) (٢).

__________________

(١) راجع شيخ المضيرة للأستاذ أبو رية ص ١٨٠ وقد نقلها عن ابن عساكر ج ٣ ص ٤٠٧.

(٢) معاوية بن أبي سفيان في الميزان لعباس محمود العقاد وراجع المرجع السابق.

١١٣
١١٤

الفصل الرابع

الجذور الفقهية لنظرية عدالة كل الصحابة

الذين أوجدوا نظرية عدالة كل الصحابة صاغوها ونظروها بصورة تضمن الحماية التامة لماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم ، وتضفي على أحوالهم في الأزمان الثلاثة رداء الشرعية والمشروعية ، وفصلوا لها من الأثواب ما يضمن حضورها الفعال في كل أمر من الأمور يمكن :

١ ـ أن يمسهم من قريب أو بعيد.

٢ ـ أو يؤثر على قربهم أو بعدهم من الشرعية.

٣ ـ أو يؤصل ويجذر مواقع الخلاف في معسكر خصومهم.

٤ ـ أو يفرق الخصوم في بحار من الشك والحيرة والاضطراب.

والمثير حقاً أن النظرية ترمز عند عشاقها ومؤيديها اليوم لحبهم لمحمد ولأصحابه ، وهم يتولون الدفاع عن هذا الرمز ويصارعون نيابة عن مخترعي هذه النظرية الذين وقفوا خارج الحلبة كأنهم لا علاقة لهم بما يجري.

أما الذين يطالبون بتعديل هذه النظرية فهم لا يقلون حباً لمحمد وأصحابه المخلصين عن أولئك المؤيدين لنظرية عدالة كل الصحابة ، ولكنهم يطالبون باعتماد القواعد الشرعية والعقلية لترشيد هذا الحب ليبقى دائماً في إطار الإسلام ، وترك التقليد والتعصب الأعمى الذي يعطل العقل ونعمة الحوار الهادف الذي خصّ به الصفوة من عباده الصالحين.

المرجعية الفقهية

في فصل الجذور السياسية لنظرية عدالة الصحابة أثبتنا أن الأكثرية الساحقة من

١١٥

الأحاديث الواردة في فضائل الصحابة افتعلت في أيام بني أمية تقرباً إليهم بما يظنون أنهم يرغمون أنوف بني هاشم ، كما روى ابن عرفة وهو من أكابر المحدثين ، وتبين لنا أيضاً أن الباحثين قد أجمعوا على أن نشأة الاختراع في الرواية ووضع الحديث على رسول الله ، إنما كان في أواخر عهد عثمان وبعد الفتنة التي أودت بحياته ، ثم اتسع الاختراع واستفاض حتى مبايعة علي عليه‌السلام ، فما كاد المسلمون يبايعونه بيعة صحيحة حتى ذر قرن الشيطان الأموي ليغصب الحق من صاحبه ، وبأيلولة الامر إلى بني أمية تشذب فن الاختراع ووضع الحديث ، حتى جعلت الدولة الاموية لمن يتعاطون فن الاختراع ووضع الحديث جعلا يرغب في مثله ـ على حد تعبير الإمام محمد عبده (١).

هذه المرويات من المخترعات والموضوعات بقيت إلى جانب غيرها من مرويات عدول الصحابة مرجعاً للجمهور على اختلاف مذاهبهم ونزعاتهم الفقهية في التشريع وغيره من الأمور (٢).

المرجعيتان

١ ـ كل الصحابة مرجعية لأهل السنّة

الذين اعتبروا كل الصحابة ـ بالمعنيين اللغوي والاصطلاحي ـ عدولاً ، أخذوا كافة مروياتهم عن الصحابة الصادقين العدول بالإضافة إلى المرويات الأخرى والتي وضعت في زمن الفتنة واخذت صورتها النهائية في العهد الأموي ، ولم يفرقوا بين صحابي وصحابي لأنهم كلهم عدول ، وكلهم في الجنة ومن المحال عقلا أن يتعمد الكذب رجل من أهل الجنة. فمرجعية هؤلاء هم الصحابة وقد غلب عليهم اسم أهل السنّة ، فأهل السنّة هؤلاء عرفوا الدين وفهموه عن طريق الصحابة بالمعنيين اللغوي والاصطلاحي.

__________________

(١) تاريخ محمد عبده ج ٢ ص ٣٤٧ راجع شيخ المضيرة للشيخ محمود أبو رية ص ٢٠١ ـ ٢٠٢.

(٢) راجع آراء علماء المسلمين في التقية والصحابة وصيانة القرآن الكريم للسيد مرتضى الرضوي ص ٨٦.

١١٦

والصحابة الذين نالوا حظوة في البلاط الأموي كانوا من أكثر الصحابة حديثاً. فقد ذكر أبو محمد بن حزم ان مسند أبي عبد الرحمن بن مخلد الاندلسي قد احتوى من حديث أبي هريرة على (٥٣٧٤) حديثا ، روى البخاري منها (٤٤٦) حديثا. وغني عن البيان أن أبا هريرة من أقرب المقرّبين إلى معاوية ، وأن مدة صحبة أبي هريرة للنبي لا تتجاوز السنّة وبضعة اشهر. والخلاصة أن أي حديث يرويه أي صحابي بالمعنيين اللغوي والاصطلاحي محترم ومصان ، وهو جزء من الدين عند أهل السنّة طالما ثبت أنه صحابي ، لأن الصحابة كلهم عدول وكلهم في الجنة ولا يجوز عليهم تعمد الكذب. وحتى يكون الراوي أهل للثقة يجب أن لا يكون متهماً بالتشيع لعلي أو لأهل البيت ، فإذا ثبت ذلك فهو ليس بثقة من حيث المبدأ.

قال يحيى بن معين ( وقيل له في سعيد بن خالد البجلي حين وثقه : هذا شيعي. قال شيعي وثقة!!! ولم يعرف الجمهور بهذا الوصف ( أهل السنّة ) قبل أواخر القرن الأول لأن التسنن من الأحداث الطارئة ) (١).

ما هو السند الشرعي لأهل السنّة بمرجعيتهم للصحابة؟

يقول أهل السنّة : إن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد قال : ( أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ) وفي رواية ( فأيهم أخذتم بقوله ... ).

يقول ابن تيمية شيخ الحنابلة ، ويلقب عند الجمهور بشيخ الإسلام ( وحديث أصحابي كالنجوم ضعفه أئمة الحديث فلا حجة فيه. راجع ص ٥٥١ من كتاب حجة المنتقى للذهبي. وهذا الحديث باطل بالإجماع ) (٢).

__________________

(١) راجع آراء علماء المسلمين في التقية والصحابة وصيانة القرآن الكريم ص ٩٢ وراجع أضواء على السنّة المحمدية ص ٣٤١ ـ ٣٤٤ وص ٨٩.

(٢) راجع آراء علماء المسلمين في التقية والصحابة وصيانة القرآن الكريم ص ٩٢ وراجع اضواء على السنّة المحمدية ص ٣٤١ ـ ٣٤٤ وص ٨٩.

١١٧

٢ ـ أئمة أهل البيت وثقات الصحابة هم مرجعية أهل الشيعة

أهل السنّة اتخذوا مرجعاً فقهياً لهم الصحابة كلهم بالمعنيين اللغوي والاصطلاحي في مقابل الشيعة الذين رجعوا إلى الأئمة من أهل البيت ، والى ما رواه ثقات الصحابة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالإضافة إلى كتاب الله في جميع ما جاء به الإسلام من أصول وفروع. وقد ورثوا فقههم وأصولهم وجميع تعاليمهم في جميع مراحله وفصوله عن جدهم أمير المؤمنين الذي وصفه رسول الله بأنه باب مدينة العلم ( أنا مدينة العلم وعلي بابها ومن أراد المدينة فليأت الباب ). وكان لهذه المرجعية ضوابط ثابتة ، فقد كان الأئمة عليهم‌السلام يقولون ( إنا إذا حدثنا لا نحدث إلا بما يوافق كتاب الله ، وكل حديث ينسب إلينا لا يوافق كتاب الله فاطرحوه ).

كما كان الإمام الصادق عليه‌السلام يقول « حديثي حديث أبي ، وحديث أبي حديث جدي ، وحديث جدي حديث رسول الله ، وحديث رسول الله قول الله » (١).

ما هو السند الشرعي لأهل الشيعة بمرجعيتهم لائمة أهل البيت؟

السند الشرعي هو النصوص الشرعية القاطعة الواردة في القرآن الكريم والسنّة المطهرة بفروعها الثلاثة ، وهي موضع اتفاق بين أهل السنّة وأهل الشيعة. فأئمة أهل البيت الكرام هم من الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا (٢) بالنص القرآني والقرآن هو الثقل الأكبر وهم الثقل الأصغر بالنص الشرعي ، والهداية لا يمكن أن تدرك إلا بالتمسك بالثقلين ، والضلالة لا يمكن تجنبها إلا بالتمسك بالثقلين (٣) وهم لهذه الأمة كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق ، بالنص الشرعي

__________________

(١) آراء علماء المسلمين في التقية والصحابة وصيانة القران الكريم ص ٨٩.

(٢) ارجع إلى آية التطهير واقرأ تفسيرها في تفسير فتح القدير للشوكاني وتفسير ابن كثير وتفسير الطبري وتفسير الخازن واي تفسير ترغب به.

(٣) راجع صحيح الترمذي ج ٥ ص ٣٢٨ ونظم درر السمطين للزرندي الحنفي ص ٢٣٢ وينابيع

١١٨

أيضاً (١) وهم أمان لأمة محمد ، من الاختلاف بالنص الشرعي أيضاً (١) ونسوق بأدناه طائفة من الأدلة على كل نص ثم نوردها مجتمعة في باب الميزان.

دور المرجعيتين

١ ـ دور المرجعية عند أهل السنّة : قلنا إن مرجعية أهل السنّة لفهم البيان القرآني هم الصحابة بالمعنيين اللغوي والاصطلاحي ، كل الصحابة لا فرق بين واحد وآخر لأنهم كلهم عدول وكلهم في الجنة. وكانت رواياتهم في الدرجه الأولى لا تتعدى أقوال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأفعاله عند المتقدمين. وعندما تعددت المذاهب وتوزعت في الأمصار شملت الروايات أقوال الرسول وأفعاله وأقوال الصحابي وأفعاله ، وأصبحت آراء الصحابة في الحوادث المصدر الثالث من مصادر التشريع : القرآن ، السنّة ، رأي الصحابي. والمذاهب الثلاثة : الأحناف والمالكية والحنابلة أكثر تعصباً لآراء الصحابة من الشوافع. ومع أن أبا حنيفة كان متحمساً للقياس ، ويراه من أفضل المصادر بعد القرآن ، إلا أنه كان يقدم رأي الصحابة عليه إذا تعارضت في مورد من الموارد. وقد جاء عن أبي حنيفة ( إن لم اجد نصاً في كتاب الله ولا في سنّة رسوله ، أخذت بقول اصحابه ، فإن اختلفت آراؤهم في حكم

__________________

المودة للقندوزي الحنفي ص ٣٣ و ٤٥ و ٤٤٥ وكنز العمال للمتقي الهندي ج ١ ص ١٥٣ وتفسي ابن كثير ج ٤ ص ١١٣ ومصابيح السنّة للبغوي ص ٢٠٦ وجامع الأصول لابن الأثير ص ١٣٧ ومشكاة المصابيح ج ٣ ص ٢٥٨ وإحياء الميت للسيوطي بهامش الإتحاف ص ١١٤ والفتح الكبير للنبهاني ج ١ ص ٥٠٣ وج ٣ ص ٣٨٥ والدر المنثور للسيوطي ج ٦ ص ٧ و ٣٠٦ والصواعق المحرقة ص ١٤٧ لابن حجر والمعجم الصغير للطبراني ج ١ ص ١٣٥ ومنتخب تاريخ ابن عساكر ج ٥ ص ٤٣٦ ومقتل الحسين للخوارزمي ج ١ ص ١٠٤ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ١٩٤ ... الخ.

(١) تلخيص المستدرك للذهبي والصواعق المحرقة لابن حجر ص ١٨٤ و ٢٣٤ وتاريخ الخلفاء للسيوطي وإسعاف الراغبين للصبان الشافعي ص ١٠٩ ونظم درر السمطين للزرندي الحنفي ص ٢٣٥ وكفاية الطالب للكنجي الشافعي ص ٣٧٨ ... الخ.

(٢) راجع الصواعق المحرقة ص ٩١ و ١٤٠ وإحياء الميت للسيوطي بهامش الإتحاف ص ١١٤ ومنتخب الكنز بهامش مسند الإمام أحمد ج ٥ ص ٩٣ ... الخ.

١١٩

الواقعة آخذ بقول شئت وأدع من شئت ولا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم من التابعين ) (١).

وجاء في أعلام الموقعين لابن القيم ( إن أصول الأحكام عند الإمام أحمد خمسة : الأول النص والثاني فتوى الصحابة ، وإن الأحناف والحنابلة قد ذهبوا إلى تخصيص كتاب الله بعمل الصحابي ، لأن الصحابي العالم لا يترك العمل بعموم الكتاب إلا لدليل ، فيكون عمله على خلاف عموم الكتاب دليلاً على التخصيص وقوله بمنزلة عمله ) (٢).

فأنت تلاحظ أن أهل السنّة قد أمعنوا بالغلو في تقديس الصحابة ، هذا التقديس الذي لا يختلف عن العصمة في شيء (٣).

وعندما انتشرت المذاهب الفقية ، استغل هذا الغلو المفرط في محاربة التشيع لأئمة أهل البيت (٤) وأقوال الصحابة تعامل كأنها وحي من السماء فيخصصون بها عموم الكتاب ويقيدون بها مطلقاته.

٢ ـ دور المرجعية عند أهل الشيعة : القرآن الكريم قد جاء تبيانا لكل شيء ، وما ثبت عن النبي ثبوتاً قطعيا لا يرقى إليه شك هو بمثابة النص ، وما عدا ذلك لا يجوز الاعتماد على السنّة في مقام التشريع إلا إذا تأيدت بآية من القرآن لأنه فيه تبيان كل شيء ، وقد نزل بلغة العرب وبأسلوب يفهمه كل عربي ، وذلك لأن السنّة رواها عن الرسول جماعة يجوز عليهم الخطأ والكذب ، وكانوا لا يقبلون مرويات بعضهم

__________________

(١) راجع أبا حنيفة لابي زهرة ص ٣٠٤ والإمام زيد ص ٤١٨ وراجع آراء علماء المسلمين ص ٨٧ و ٨٨ للسيد مرتضى الرضوي.

(٢) راجع المدخل إلى علم أصول الفقه لمعروف الدواليبي ص ٢١٧ وراجع كتاب السيد مرتضى الرضوي ص ٨٨.

(٣) راجع المدخل إلى علم أصول الفقه لمعروف الدواليبي ص ٢١٧ وراجع كتاب السيد مرتضى الرضوي ص ٨٨.

(٤) راجع المدخل إلى علم أصول الفقه لمعروف الدواليبي ص ٢١٧ وراجع كتاب السيد مرتضى الرضوي ص ٨٨.

١٢٠