شرح شواهد المغني

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

شرح شواهد المغني

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: لجنة التراث العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ١١٤٦

الأعشى يفد على ملوك العرب وملوك فارس ، فلذلك كثرت الفارسية في شعره.

قال : وكان أبو كلبة هجا الأعشى وهجا الأصم بن معبد فقال فيهما :

فتحتما شاعري حيّ ذوي حسب

وحزّ أنفاكما حزّا بمنشار

أعني الأصمّ وأعشانا إذا ابتدرا

إلّا استعانا على سمع وإبصار

فامسك عنه الأعشى فلم يجبه بشيء ، وقال للأصم : أنت من بيت مشهور ، وأبو كلبة رجل مرذول فلا تجبه فترفع عن قدره (١).

قالوا : والأعشى ممن أقرّ بالملكين الكاتبين في شعره ، فقال في قصيدة يمتدح بها النعمان (٢) :

فلا تحسبنّي كافرا لك نعمة

عليّ شاهدي يا شاهد الله فاشهد (٣)

وقد كانت العرب ممن أقام على دين إسمعيل ، إذا حلفت تقول : وحق الملكين. فكان الأعشى ممن أقام على دين إسمعيل والقول بالأنبياء. قالوا : والأعشى ممن اعتزل وقال بالعدل في الجاهلية ، من ذلك قوله :

استأثر الله بالوفاء ... البيت

وسلك الأعشى في شعره كل مسلك ، وقال في أكثر أعاريض العرب ، وليس ممن تقدم من فحول الشعراء أحد أكثر شعرا منه.

__________________

(١) انظر الاغاني ٢٣ / ٢٣٧ ـ ٢٤١. فقد روى شعر للاعشى وأبى كلبة هذا وبكير الأصم ، في يوم ذي قار.

(٢) ديوانه ١٩٣.

(٣) في ديوانه برواية : (عليّ شهيد شاهد الله فاشهد).

٢٤١

قالوا : وكانت العرب لا تعدّ الشاعر فحلا ، حتى يأتي ببعض الحكمة في شعره فلم يعدّوا امرأ القيس فحلا حتى قال (١) :

والله أنجح ما طلبت به

والبرّ خير حقيبة الرّجل

وكانوا لا يعدّون النابغة فحلا حتى قال (٢) :

نبّئت أنّ أبا قابوس أوعدني

ولا قرار على زأر من الأسد

وكانوا لا يعدّون زهيرا فحلا حتى قال (٣) :

ومهما تكن عند امرىء من خليقة

ولو خالها تخفى على النّاس تعلم

وكانوا لا يعدّون الأعشى فحلا حتى قال :

قلّدتك الشّعر يا سلامة ذا

فايش ، والشّيء حيث ما جعلا

وقال أبو عبيد (٤) : الأعشى هو رابع الشعراء المتقدمين ، امرىء القيس والنابغة وزهير. قال : وكان الاعشى يقدم على طرفة لأنه أكثر عدد طوال جياد ، وأوصف للخمر والحمر ، وأمدح وأهجى ، وأكثر أعاريض. وطرفة يوضع مع أصحابه ، وهم أصحاب الوحدات ، فمنهم : الحارث بن حلّزة ، وعمرو بن كلثوم التغلبي ، وسويد بن أبي كاهل اليشكري ، قال : وإنما فضل الأعشى على هؤلاء لأنه سلك أساليب لم

__________________

(١) ديوانه ٢٣٨ (المعارف) والعقد الثمين ٩٤ ، والشعراء ٦١ وشعراء الجاهلية ٥٧ والموشح ٣٣. وهذا البيت من أصدق وأشرف ما قاله العرب.

(٢) من قصيدته : (يا دارمية ...) وقد سبقت ص ٧١ ـ ٧٥ ، والبيت مع غيره في الشعراء ١١٩.

(٣) ديوانه ٣٢ (وان خالها ...) والكامل ٦٩٨

(٤) انظر الشعراء ٢١٩

٢٤٢

يسلكوها ، فجعله الناس رابعا للأوائل بآخرة. واتفقوا على أن أشعر الشعراء واحدة في الجاهلية : طرفة والحارث بن حلّزة ، وعمر بن كلثوم. ثم اختلفوا فيهم ، ونظيرهم في الاسلام سويد بن أبي كاهل اليشكري. واتفقوا على أن أشعر شعراء الاسلام الفرزدق وجرير والأخطل ، ثم اختلفوا فيهم. واتفقوا على أنّ الشعر في الاسلام في تميم وتغلب. وأن أشعر أهل المدر : أهل يثرب ثم عبد القيس ثم ثقيف. وأشعر هؤلاء المدريين : حسان بن ثابت.

قال أبو عبيدة : وتقدم عبد الملك بن مروان الى الهيثم بن صالح مؤدّب ولده فقال : علمهم شعر الأعشى ، فإني شبهته بالبازي يصيد ما بين الكركي الى العندليب.

قال الآمدي : ولشعر الأعشى طلاوة ليست لغيره من الشعر القديم. وقد كان أبو عمرو بن العلاء يفخم منه ويعظم محله ويقول : شاعر مجيد كثير الأعاريض والافتنان ، وإذا سئل عنه وعن لبيد قال : لبيد رجل صالح ، والأعشى رجل شاعر.

وأخرج البزار وأبو يعلى في مسنديهما عن أبي هريرة : رخص لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شعر جاهلي ، إلا قصيدتين للأعشى زعم انه أشرك فيهما احداهما في أهل بدر ، والأخرى في عامر وعلقمة.

فائدة :

العشي من الشعراء ستة عشر : هذا ، وأعشى بني باهلة اسمه عامر ، وأعشى بني نهشل الأسود بن يعفر ، وفي الاسلام أعشى بني أبي ربيعة من بني شيبان ، وأعشى همدان اسمه عبد الرحمن ، وأعشى طرود من سليم ، وأعشى بني مازن من تميم ، وأعشى بني أسد ، وأعشى ابن معروف اسمه خيثمة ، وأعشى عكل اسمه كهمس ، وأعشى بني عقيل اسمه معاذ ، وأعشى بني مالك بن سعد ، والأعشى التغلبي اسمه النعمان ، وأعشى بني عوف بن همام واسمه ضابىء ، وأعشى بني ضورة اسمه عبد الله ، وأعشى بني جلان اسمه سلمة. نقلت ذلك من شرح الشواهد الكبير للعيني. ثم رأيت أبا القاسم الآمدي ذكر في المؤتلف والمختلف : العشى سبعة عشر ، هؤلاء المذكورون ، وقال في الرابع : أعشى بني ربيعة بن ذهل بن شيبان

٢٤٣

واسمه عبد الله بن خارجة. وقال في أعشى بني أسد انه جاهلي ، وهو ابن نجرة بن قيس. وقال في أعشى ابن معروف : اسمه طلحة ، والسابع عشر الذي زاده : الأعشى ابن النباش بن زرارة التميمي.

١١٨ ـ وأنشد (١) :

استقدر الله خيرا وارضيّن به

فبينما العسر إذ دارت مياسير

أخرج أبو بكر محمد بن القاسم بن الأنباري بسنده الى هشام بن الكلبي ، قال : عاش عبيد بن شريّة الجرهمي ثلاثمائة سنة وأدرك الاسلام ، ودخل على معاوية ، وهو خليفة ، فقال : حدثني بأعجب ما رأيت؟ فقال : مررت ذات يوم بقوم يدفنون ميتا لهم ، فلما انتهيت إليهم اغرورقت عيناي بالدموع فتمثلت بقول الشاعر :

يا قلب إنّك من أسماء مغرور

فاذكر وهل ينفعنّك اليوم تذكير

قد بحت بالحبّ ما تخفيه من أحد

حتّى جرت بك إطلاقا محاضير

تبغي أمورا فما تدري أعاجلها

أدنى لرشدك أم ما فيه تأخير (٢)

فاستقدر الله خيرا وارضينّ به

فبينما العسر إذ دارت مياسير

وبينما المرء في الأحياء مغتبط (٣)

إذ صار في الرّمس تعفوه الأعاصير

يبكي الغريب عليه ليس يعرفه

وذو قرابته في الحيّ مسرور

حتّى كأن لم يكن إلّا تذكّره

والدّهر أينما حال دهارير

__________________

(١) عيون الاخبار ، ٢ / ٣٠٥ (فاستقدر) ودرة الغواص ٣٣ (الجوائب) وحاشية الامير ١ / ٧٧ والمعمرين ٤٠.

(٢) في عيون الاخبار برواية :

تجري أمور ولا تدري أوائلها

خير لنفسك أم ما فيه تأخير

وفي درة الغواص :

تجري أمور وما تدري أعاجلها

أدنى لرشدك ...

(٣) عيون الاخبار : (مغتبطا) بالنصب.

٢٤٤

فقال لي رجل : أتعرف من يقول هذا البيت؟ قلت : لا ، قال : إن قائله هو الذي دفنّاه الساعة ، وأنت الغريب تبكي عليه ليس تعرفه ، وهذا الذي خرج من قبره أمسّ الناس رحما به ، وأسرّهم بموته. فقال له معاوية : لقد رأيت عجبا. فمن الميت؟ قال : عتير بن لبيد العذري ، انتهى.

أخرجه ابن عساكر من طريق أخرى ، وفيه أن صاحب الجنازة والأبيات رجل من بني عذرة يقال له حريث بن جبلة (١) ، وبذلك جزم الزمخشري في شرح شواهد سيبويه. اطلاق : جمع طلق ، بفتحتين ، يقال : جرى الفرس طلقا أو طلقين ، أي شوطا أو شوطين. والمحاضير : جمع محضير بكسر الميم ، وهو الفرس الكثير العدو. واستقدر : طلب تقدير الخير. والمياسير : جمع ميسور ، بمعنى اليسر. ويغتبط : مسرور. والرمس : القبر. وتعفوه : تزيل أثره. والأعاصير : جمع اعصار ، وهي ريح.

ثم رأيت الزبير بن بكار أخرج في الموفقيات عن الكلبي قال : لما هلك حنظلة بن نهد بن زيد (٢) لم يدفن ثلاثة أيام حتى أتاه من كل أوب ، وأتاه من كل حي وجوههم ، فقامت الخطباء بالتعزية ، وقيلت فيه الأشعار حتى عدّ ذلك اليوم من بعض مواسم العرب. فلما ووري في حفرته قام جديلة بن أسد بن ربيعة (٣) فقال : أيها الناس ، هذا حنظلة بن نهد فكّاك الأسير ، وطارد العسير ، فهل منكم اليوم مجاز بفعله ، أو حامل عنه من ثقله ، كلا وأجل ، إن مع كل جرعة لكم شرقا ، وفي كل أكلة لكم غصصا ، لا تنالون نعمة إلا بفراق أخرى ، ولا يستقبل معمّر يوما من عمره إلا بهدم آخر من أجله ، ولا يجد لذة زيادة في أكله إلا بنفاد ما قبله من رزقه ، ولا يحيى له أثر إلا مات أثر ، ان في هذا لعبرا ومزدجرا لمن نظر ، لو كان أصاب أحد إلى البقاء سلما ووجد الى المرحل عن الفناء سبيلا ، لكان ابن داود المقرون له النبوة بملك الجن والانس ، ثم أنشأ يقول :

__________________

(١) وكذا في المعمرين ٤٠.

(٢) حاكم العرب ، وانظر البيان والتبيين ١ / ٢٨١ وجمهرة الانساب ٤٤٦ ، والمقتضب ١٣٦ ، ١٣٧.

(٣) انظر جمهرة أنساب العرب لابن حزم ٢٩٣ و ٢٩٥ والاشتقاق ٣٢٠ و ٣٢٤ وأمالي ابن الشجري ١٩٦ والى جديلة بن أسد ، تنسب جديلة ربيعة.

٢٤٥

وهذا صاحب الملكين أضحى

تخرّق في مصانعه المنون

فكان عليه للأيّام دين

فقد قضيت عن المرء الدّيون

وخانته العصا من بعد ما قد

أتى ميتا له حين فحين

على الكرسيّ معتمدا عليه

يرفّ الخدّ منه والجبين

يسير بشرجع لا شيء فيه

تحار الشّمس فيه والعيون

وتضحى الجنّ عاكفة عليه

كما عكفت على الأسد العرين

وسخرت العيون له جميعا

عليه الطّير عاكفة عرين

فلم أر مثله حيّا وميتا

على الأيّام كان ولا يكون

فدان له الخلائق ثمّ هبّوا

ودان فيما قد يدين

بنى صرحا له دون الثّريّا

وأجري تحته الماء المعين

تراه متقنا لا عيب فيه

يخال بصرحه الذّهن الذّهين

وقد ملك الملوك وكلّ شيء

تدين له السّهولة والحزون

فأفنى ملكه مرّ اللّيالي

وخون الدّهر فيما قد يخون

وكلّ أخي مكاثرة وعزّ

إلى ريب الحوادث مستكين

كذاك الدّهر يفني كلّ حيّ

ويعقب بعد قوّته اليقين

ثم قام ابن كثير بن عذرة بن سعد بن تميم فقال : أيها الناس هذا حنظلة بن نهد معدن الحكماء ، وعز الضعفاء ، ومعطي اليانع ، ومطعم الجائع ، فهل منكم له مانع؟

٢٤٦

أو لما حل به دافع! أيها الناس ، إنما البقاء بعد الفناء ، وقد خلقنا ولم نك شيئا ، وسنعود الى ذلك. أن العواري اليوم والهبات غدا. ورثنا من قبلنا ولنا وارثون ، ولا بد من رحيل عن محل نازل ، ألا وقد تقارب سلب فاحسن أو اهبط أجوى ، وقد أصبحتم في منزل لا يستتب فيه سرور بيسر إلا تبعه حصير عسر ، ولا تطول فيه حياة مرجوّة إلا اخترمها موت مخوف ، ولا يوثق فيه بخلف باق إلا ويستتبعه سابق ماض ، فأنتم أعوان للحتوف على أنفسكم ، لها بكل سبسب منكم صريع مجتزر ، معازب منتظر ، فهذه أنفسكم تسوقكم الى الفناء ، فلم تطلبون البقاء! اطلبوا الخير ووليه ، واحذروا الشرّ وموليه ، واعلموا أن خيرا من الخير معطيه ، وأن شرا من الشر فاعله ، ثم أنشأ يقول :

يا قلب إنّك من أسماء مغرور ... الأبيات

١١٩ ـ وأنشد (١) :

هل ترجعنّ ليال قد مضين لنا

والعيش منقلب إذ ذاك أفنانا

قال الدماميني : الأفنان ، إما جمع فنّ ، وهو الغصن الملتف ، أو جمع فنّ ، وهو الحال والنوع. ونصبه على الحال من ليال ، وإن كان نكرة لتخصصها. وعامل (إذ) منقلب ، واسم الاشارة الأول أشير به الى العيش باعتبار حاله ، والثاني المحذوف أشير به الى حال الأفنان ، والجملة المقترنة بالواو حال من ضمير مضين. والمعنى : هل ترجع ليالينا حال كونها مثل الأغصان الملتفة في نضارتها وحسنها ، أو حال كونها ذات فنون من الحسن وضروب شتى من اللذة ، وهذه الليالي هي اللاتي مضين في حال إن عيشنا منقلب من طور الى طور ، إذ حال ذلك العيش مثل حال تلك الاغصان في الرونق والبهجة ، أو مثل تلك الفنون المختالة في الحسن ، انتهى كلام الدماميني.

ثم رأيت في الاغاني ما يدل على ان هذا البيت لعبد الله بن المعتز وأورد عجزه بلفظ (٢) :

__________________

(١) الاغاني ١٠ / ٢٨٩

(١) الاغاني ١٠ / ٢٨٩

٢٤٧

والدّار جامعة أزمان أزمانا

فالبيت اذا ليس من شرط هذا الكتاب (١).

١٢٠ ـ وأنشد :

كانت منازل ألّاف عهدتهم

إذ نحن إذ ذاك دون النّاس إخوانا

قال ابن الشجري في أماليه (٢) : هو للاخطل. قال : وخبر المبتدأين اللذين هم : (نحن وذاك) محذوفان. أراد عهدتهم إخوانا إذ نحن متآلفون ، أو متآخون. يدل على التقدير الأول ، ذكر الألّاف ، وعلى الثاني ، ذكر الأخوان. وأراد : إذ ذاك كائن ، ولا يجوز أن يكون (إذ ذاك) خبر نحن ، لأن ظروف الزمان لا يصح الاخبار بها عن الأعيان (فلو قلت : زيد أمس ، لم يحصل بذلك فائدة (٣)). و (إذا) الاولى ظرف لعهدتهم ، وأما الثانية ، فيعمل فيها الخبر المقدر ، الذي هو متآلفون أو متآخون. وأما قوله : دون الناس ، فيحتمل أن يكون العامل فيه (عهدتهم) ، ويحتمل أن تعلقه بالخبر المقدر (٤) ، كأنك قلت متألفون دون الناس ، ويجوز تعلقه بمحذوف غير الخبر المقدر ، على أن يكون في الأصل صفة لاخوان ، كأنه قال : عهدتهم إخوانا دون الناس ، أي متصافين دون الناس ، فلما قدم على الموصوف ، صار حالا. وجاز جعله وصفا لعين ، وحالا منه ، لأنه ظرف مكاني. (فأن قيل) : إلام توجهت الاشارة بذلك؟ (فالجواب) : إلى التجاور الذي دل عليه ذكر المنازل ، انتهى كلام ابن الشجري.

__________________

(١) لا يستشهد بشعر عبد الله بن المعتز لتأخر زمانه قتل عام ٢٩٦ ه‍.

(٢) ١ / ١٧٨.

(٣) مزيدة عن أمالي ابن الشجري.

(٤) في ابن الشجري : (المضمر).

٢٤٨

١٢١ ـ وأنشد (١) :

لميّة موحش طلل

هو لكثير عزّة ، وتمامه :

يلوح كأنّه خلل

ميّة : بفتح الميم وتشديد المثناة التحتية ، اسم امرأة. والطلل : ما شخص من أثار الدار. والموحش : المنزل الذي صار وحشا ، أي قفرا لا أنيس به. ويلوح يلمع. وخلل : بكسر الخاء المعجمة ، جمع خلّة بالكسر أيضا ، بطان كانت يغشى بها أجفان السيوف ، منقوشة بالذهب وغيره. وجعله الدماميني بالجيم ، وفسره بالحقير ، وهو تصحيف منه. وجملة (يلوح) صفة طلل. والبيت استشهد به المصنف على تقدم الحال على صاحبها النكرة. وقيل : إنه ليس منه ، وان الحال هنا من الضمير في الخبر ، لا من النكرة (٢). ورأيت الزمخشري في شواهد سيبويه أنشد المصراع هكذا :

لغيره موحشا طلل قديم (٣)

١٢٢ ـ وأنشد :

كأن لم يكونوا حمى يتّقى

إذ النّاس إذ ذاك من عزّ بزّا

__________________

(١) الخزانة ١ / ٥٣١ ـ ٥٣٣ ويروى : لعزّة موحشا طلل قديم. وفي الخزانة قال : وهذا البيت من روى أوله : (لعزة موحشا .. الخ).

قال : هو لكثير عزّة ، منهم أبو علي في التذكرة القصرية. ومن روى (لمية موحشا) قال : إنه لذي الرمّة. فان عزّة اسم محبوبة كثير ، وميّة اسم محبوبة ذي الرمّة. والشاهد المشهور في هذا المعنى هو :

لميّة موحشا طلل

يلوح كانه خلل

وقد قيل : إنه لكثير عزّة.

(٢) في الخزانة ١ / ٥٣٢ : (قال ابن الحاجب في أماليه على أبيات المفصل : يجوز أن يكون موحشا حالا من الضمير في لميّة ، فجعل الحال من المعرفة أولى من جعلها من النكرة متقدّمة عليها ، لان هذا هو الكثير الشائع. وذلك قليل ، فكان أولى).

(٣) كذا ، ولعله : (لعزّة).

٢٤٩

هذا من أبيات للخنساء ترثي بها أخويها وزوجها ، وأوّلها :

تعرّقني الدّهر نهسا وحزّا

وأوجعني الدّهر قرعا وغمزا

وأفنى رجالي فبادوا معا

فغودر قلبي بهم مستفزّا (١)

لذكر الّذين بهم في الهيا

ج للمستضيف إذا خاف عزّا

وهم في القديم سراة الأدي

م والكائنون من الخوف حرزا (٢)

كأن لم يكونوا حمى يتّقي

إذ النّاس إذ ذاك من عزّ بزّا

وكانوا سراة بني مالك

وفخر العشيرة مجدا وعزّا (٣)

وهم منعوا جارهم والنّسا

ء يحفز أحشاءها الخوف حفزا

غداة لقوهم بملمومة

رداح تغادر للأرض ركزا

وخيل تكدّس بالدّارعين

تحت العجاجة يجمزن جمزا

ببيض الصّفاح وسمر الرّماح

فبالبيض ضربا وبالسّمر وخزا

ومن ظنّ ممّن يلاقي الحروب

بأن لا يصاب فقد ظنّ عجزا

نعفّ ونعرف حقّ القرى (٤)

ونتّخذ الحمد ذخرا وكنزا

وقال المبرّد في الكامل (٥) : كان سبب قتل صخر بن عمرو بن الشّريد أخى الخنساء : أنه جمع جمعا وأغار على بني أسد بن خزيمة ، فنذروا به ، فالتقوا

__________________

(١) ويروى كما في الكامل ١٢٢٣ ، وأمالي ابن الشجري ١ / ٢١٥ : (فأصبح قلبي ..).

(٢) هذا البيت ترتيبه في الكامل ، وأمالي ابن الشجري ١ / ٢١٥ بعد البيت :

(وكانوا سراة .. الخ).

(٣) في الكامل : (وزين العشيرة ..).

(٤) وكذا في الكامل. وفي ابن الشجري : (.. حق الجوار).

(٥) ص ١٢٢٤

٢٥٠

فاقتتلوا قتالا شديدا ، فارفضّ أصحاب صخر عنه ، وطعن طعنة في جنبه فاشتغل بها (١) ، فلمّا صار إلى أهله يتعالج منها ، فنتأ من الجرح كمثل اليد ، فأضناه ذلك حولا ، فسمع سائلا يسأل امرأته وهو يقول : كيف صخر اليوم؟ فقالت : لا ميّت فينعى ، ولا صحيح فيرجى ، فعلم صخر أنها قد برمت به ، فقطع ذلك الموضع فمات (٢).

قال ابن الشجري في أماليه ، شارحا هذه الأبيات : (٣)

قولها : تعرّقني الدهر ، (البيت ، العظيم بما عليه من اللحم ، وجمعه عراق ، وهو أحد الأسماء التي جاء جمعها على فعال بضم الفاء عن ابن السكيت) (٤) ، يقال : تعرّقت العظم ، إذا أخذت ما عليه من اللحم ، ويقال للعظم الذي أخذ لحمه : العراق. والنهس ، بالمهملة ، القبض على اللحم بالأسنان ، ومثله النهش ، بالمعجمة. وقيل بل النهس بمقدم الفم ، والحز : قطع غير نافذ (٥). والقرع : مصدر قرعته بالعصا وبالسيف (٦). والغمز : غمزك الشيء اللين بيدك. وأرادت أن الدهر

__________________

(١) كذا بالاصل ، وفي الكامل : (وطعنه ابو ثور طعنة في جنبه استقلّ بها).

(٢) في الكامل : ... فعلم أنها برمت به ، ورأى تحرق أمه عليه فقال :

أرى أمّ صخر ما تجف دموعها

وملّت سليمى مضجعي ومكاني

وما كنت أخشى أن أكون جنازة

عليك ومن يغتر بالحدثان

أهمّ بأمر الحزم لو أستطيعه

وقد حيل بين العير والنزوان

لعمري لقد أنبهت من كان نائما

وأسمعت من كانت له آذان

فأيّ امرىء ساوى بأم حليلة

فلا عاش إلّا في شقى وهوان

ثم عزم على قطع ذلك الموضع ، فلما قطعه يئس من نفسه ، فبكاها فقال :

أيا جارتا إنّ الخطوب قريب

من الناس ، كلّ المخطئين تصيب

أيا جارتا إنّا غريبان ههنا

وكلّ غريب للغريب نسيب

كأني وقد أدنوا إليّ شفارهم

من الأدم مصقول السراة نكيب

وانظر الاغاني ١٥ / ٦٣ ـ ٦٤ (الثقافة) ، والشعراء ٣٠٣ ـ ٣٠٤

(٣) ص ١ / ٢١٥ ـ ٢٢٤.

(٤) مزيدة عن ابن الشجري.

(٥) وبعده كما في ابن الشجري : (.. ومثله القرض ، ويكون نافذا لقولهم : حزة من بطيخ ، وحزة من كبد).

(٦) والمقارعة بالسيوف (ابن الشجري).

٢٥١

أوجعها بكبار نوائبه وصغارها. ونصب (نهسا وحزا) على المصدر لفعل مضمر ، أي نهسني وحزني ، أو على الحال ، أو على حذف الجار ، أي بنهس وحزأ ، وعلى التمييز لأن التعرق لما احتمل أكثر من وجه ، فجاز أن يكون بالنهس ، وأن يكون بالحزأ والكشط أو غير ذلك ، كأن ذكر كل واحد منها تبيينا. والأوجه الأربعة ، تأتّى في نص قرعا وغمزا. وأعادت لفظ الدهر ولم تضمره تعظيما للأمر. قولها :

وأفنى رجالي فبادوا معا

أورده المصنف في حرف الميم شاهدا على نصب (مع) على الحال. قولها : مستفزا : أي مستخفا. قولها :

هم في القديم سراة الأديم

فيه الترصيع ، وسراة الشيء : ظاهره. والحمى : نقيض المباح. وعز هنا معناه : غلب ، من قول الله : (وعزني في الخطاب). وبز معناه : سلب ، ومن في البيت ، موصول رفع بالابتداء ، وبزخبرها ، والعائد إلى الناس محذوف ، أي من عزّ منهم. ولا يجوز أن يكون إذ ذاك خبرا عن الناس ، لأن ظروف الزمان لا يخبر بها عن الأشخاص ، بل هو متعلق ببز ، ولا يجوز أن يكون (من) شرطا ، لأن الشرط وجوابه لا يعمل واحد منهما فيما قبله ، و (ذاك) في موضع رفع بالابتداء ، وخبره محذوف ، أي إذ ذاك كائن أو موجود ، ولا يجوز ان يكون في محل خبر ، لأن إذ لا تضاف إلا الى جملة. وسراة القوم : سادتهم ذوو السخاء والمروءة ، واحدهم سري. ونصب (مجدا وعزا) على التمييز. والحفز ، بحاء مهملة وفاء وزاي ، الدفع (١) : وملمومة : الكتيبة التي كثر عددها ، واجتمع فيها المقنب إلى المقنب. والرداح : الكثيرة الفرسان (٢). والركز الصوت الخفي. والتكدس :

__________________

(١) في هامش الكامل ١٢٢٤ : (المهبلي : أصل الحفز حثّك الشيء من خلفه وغير سوق ، والرجل يتحفز في جلوسه : يريد القيام والبطش بشيء).

(٢) في هامش الكامل : (كتيبة رداح كثيرة الفرسان. وملمومة وململمة : مجتمعة).

٢٥٢

مشي الفرس مثقلا. والجمز من السير : أشد من العنق. والصفاح : جمع صفيحة ، وهو السيف العريض. وإنما وصفوا الرماح بالسمرة لأن القنا اذا بقي حتى يسمر في منابته ، دل على نضجه وشدته. والباء في الصفاح متعلقة بحال من المضمر في يغادر ، أي يغادر الملمومة الأرض ركزا ملتبسة ببيض الصفاح ، والباء في (فبالبيض) متعلقة بالفعل الناصب للمصدر ، أي فيضربون بالبيض ضربا ، ويخزون بالسمر وخزا ، والوخز : الطعن بالرمح وغيره ، ولا يكون نافذا. ويجوز في يصاب النصب على أنّ (أن) مصدرية ، والرفع أنها مخففة من الثقيلة ، انتهى كلام ابن الشجري ملخصا (١).

ومما يتعلق بشرح البيت : ان قولها (من عزّ بز) مثل مشهور (٢). قال الميداني في الأمثال : أي من غلب سلب. قال المفضل : أول من قال ذلك رجل من طيّ ، يقال له جابر بن رالان ، أحد بني ثعل ، وكان من حديثه أنه خرج ومعه صاحبان له ، حتى إذا كانوا بظهر الحيرة ، وكان للمنذر بن النعمان يوم يركب فيه ، فلا يلقى فيه أحدا إلا قتله ، فلقى في ذلك اليوم جابرا وصاحبيه ، فأخذتهم الخيل ، فأتى بهم المنذر فقال : اقترعوا ، فأيكم قرع خليت سبيله ، وقتلت الباقيين. فاقترعوا فقرعهم جابر فخلى سبيله وقتل صاحبيه. فلما رآهما يقادان قال. من عزّ بز ، فأرسلها مثلا.

فائدة :

الخنساء بنت عمرو بن الشّريد بن رياح بن ثعلبة بن عصيّة بن خفاف بن امرىء القيس بن بهثة بن سليم السلمية ، الشاعرة الصحابية ، اسمها تماضر ، وخنساء لقب ، وهي أم العباس بن مرداس السلمى الصحابي (٣).

__________________

(١) يلاحظ أن السيوطي يتصرف هنا كثيرا في شرح ابن الشجري مع تقديم وتأخير.

(٢) انظر الكامل ٧٩٣.

(٣) قوله أم العباس بن مرداس السلمي خطأ عظيم والصواب انها ليست أمه وان أم العباس بن مرداس سوداء فهو أحد أغربة العرب أي سودانهم الذين أمهاتهم أماء سود اه. محمد محمود الشنقيطي.

وانظر ص ١١٨ ، والخزانة ١ / ٢٠٨.

٢٥٣

قال ابن عبد البر : قدمت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع قومها فأسلمت. وذكر أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يستنشدها ويعجبه شعرها ، ويقول : هيه يا خناس.

وأجمع أهل العلم بالشعر على أنه لم يكن امرأة قبلها ولا بعدها أشعر منها. وكان أول أمرها تقول البيتين والثلاثة حتى قتل أخوها معاوية ثم أخوها صخر فأكثرت من الشعر وأجادت ، انتهى.

وقال أبو تمام : الخنساء هي المقدمة من النساء في الشعر. وكان بشار يقول : ليس لشعر النساء من المتانة ما للرجال ، قيل له : وكذلك تقول في الخنساء؟ قال : أما الخنساء فكان لها سبع خصيّ. وفي الاستيعاب : حضرت الخنساء حرب القادسية ومعها بنوها أربعة رجال ، فقالت لهم ، من أول الليل : يا بني ، إنكم أسلمتم طائعين ، وهاجرتم مختارين ، وو الله الذي لا إله الا هو ، إنكم لبنو رجل واحد ، كما انكم بنو امرأة واحدة ، ما خنت أباكم ، ولا فضحت خالكم ، ولا هجنت حسبكم ، وقد تعلمون ما أعدّ الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين ، واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية ، فإذا أصبحتم فاغدوا الى قتال عدوّكم مستنصرين بالله ، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها فتيمموا وطيسها ، وجالدوا رئيسها عند احتدام حميسها ، فغدا بنوها للقتال فقتلوا عن آخرهم. فقالت : الحمد لله الذي شرفني بقتلهم.

وكان عمر بن الخطاب يعطي الخنساء أرزاق أولادها الاربعة حتى توفى ، انتهى.

قلت : رأيته مسندا في الموفقيات للزبير بن بكار بأبسط من ذلك.

ومن قول الخنساء ترثي أخاها (١) :

ألا يا صخر إن أبكيت عيني

لقد أضحكتني دهرا طويلا

بكيتك في نساء معولات

وكنت أحقّ من أبدى العويلا

__________________

(١) الكامل ١٢٢٣.

٢٥٤

دفعت بك الجليل وأنت حيّ

فمن ذا يدفع الخطب الجليلا

إذا قبح البكاء على قتيل

رأيت بكاءك الحسن الجميلا

وفي الأغاني عن عبد الرحمن بن أبي الزناد (١) : أن الخنساء سوّمت (٢) هودجها براية في الموسم ، وعاظمت العرب بمصيبتها ، بابنها عمرو وبأخويها صخر ومعاوية ، وجعلت تشهد الموسم وتبكيهم ، وأن العرب قد عرفت لها بعض ذلك ، وأن هند ابنة عتبة لما قتل ببدر أبوها وعمها شيبة وأخوها الوليد فعلت كذلك وقالت : أقرنوا جملي بجمل الخنساء. فصارا يبكيان ويتناشدان.

ورأيت في مناقب الشبان ، قال روي الأصمعي (٣) : ان النابغة كان تضرب له قبّة بسوق عكاظ فتأتيه الشعراء فتعرض أشعارها عليه ، فأتاه الأعشى فأنشده ، ثم أتاه حسان فأنشده :

لنا الجفنات الغرّ يلمعن بالضّحى

وأسيافنا يقطرن من نجدة دما

ولدنا بني العنقاء وابني محرّق

فأكرم بنا خالا وأكرم بنا ابنما

فقال له النابغة : لو لا أن أبا بصير ، يعني الأعشى ، أنشدني لقلت أنك أشعر الجن والأنس ، فقال حسان : أنا والله أشعر منك ومن أبيك ومنها؟ فقال له النابغة : يا بني ، إنك لا تحسن أن تقول (٤) :

فإنّك كاللّيل الّذي هو مدركي

وإن خلت أنّ المنتأى عنك واسع

قال : ويروى أن النابغة قال له : أقللت أسيافك ولمعت جفانك ، يريد قوله : الغر. والغرّة : البياض في الجبهة ، ولو قال البيض ، فجعلها بيضا كان أحسن ،

__________________

(١) الاغاني ٤ / ٢١٣ ـ ٢١٤ (الثقافة) ، والشعراء ٣٠٥.

(٢) سوّم الشيء : جعل له سومة وعلامة ليعرف بها ويتميز.

(٣) انظر الاغاني ٩ / ٣٣٣ ـ ٣٣٤ و ١١ / ٦ ـ ٧ ، والشعراء ٣٠٢ ـ ٣٠٣

(٤) الكامل ٧٤١ ، وفيه : (من أعجب التشبيه قول النابغة : ...).

٢٥٥

إلا أن الغرّ أجل لفظا. ويقال : فرس أغرّ : قلّ البياض فيه أو كثر. وذكر ابن قتيبة : أن النابغة قال له : إنك شاعر ، إلا أنك قلت : (جفنات وأسياف ويقطرن) ولم تقل (جفان وسيوف ويجرين) وقلت (يلمعن بالضحى) ولو قلت (يبرقن في الدجى) كان أمدح ، لأن الضيف بالليل أكثر. وقلت (الغرّ) ولم تقل (البيض) والغرة يسيرة. وقلت (يلمعن) ولم تقل (يشرقن). ورأيت في شرح ديوان الأعشى أن الخنساء هي التي نقدت عليه ذلك. قال الآمدي : لما أجمعت العرب على فضل النابغة الذبياني وسألته أن يضرب قبة بعكاظ فيقضي بين الناس في أشعارهم لبصره بمعاني الشعر ، فضرب القبة وأتته وفود الشعراء من كل أوب ، فكان يستجيد الجيد من أشعارهم ، ويرذل ، فيكون قوله مسموعا فيهما جميعا ومأخوذا به. فكان فيمن دخل عليه الأعشى وحسان بن ثابت والخنساء بنت عمرو بن الشريد السلمية ، فأنشده الأعشى قصيدته :

ما بكاء الكبير بالأطلال

فقال : أحسنت وأجدت. ثم أنشده حسان قصيدته (١) :

ألم تسأل الرّبع الجديد التّكلّما

فقال : إنك لشاعر ، ثم أنشدته الخنساء قولها (٢) :

قذى بعينيك أم بالعين عوّار

فاقبل عليها كالمستجيد لقولها ، فلما فرغت من إنشادها قال : أنت أشعر ذات مثانة (٣) : فقالت : وذي خصية أبا امامة ، فقال : وذي خصية. فغضب حسان ، وقال : أنا أشعر منك ومنها. فقال : ليس الأمر كما ظننت ، ثم التفت الى الخنساء

__________________

(١) وعجزه : (بين الجوابي فالبضيع فحومل) ، وسيأتي.

(٢) وعجزه : أم ذرفت إذ خلت من أهلها الدار.

(٣) أراد هنا بالمثانة : موضع الولد من الانثى ، وهو احد معانيها ، بل هو الصحيح عند بعضهم.

٢٥٦

فقال : يا خناس ، خاطبيه! فالتفتت إليه فقالت : ما أجود بيت في قصيدتك هذه فقال : قولي :

لنا الجفنات الغرّ يلمعن بالضّحى

وأسيافنا يقطرن من نجدة دما

فقالت : ضعفت افتخارك ، وأنزرته في ثمانية مواضع في بيتك هذا ، قال : وكيف؟ قالت : قلت : لنا الجفنات ، والجفنات مادون العشر ، ولو قلت : البيض ، لكان أكثر اتساعا (١). وقلت : يلمع ، واللمع شيء يأتي بعد شيء ، ولو قلت : يشرقن (٢) لكان أكثر ، لأن الاشراق أدوم من اللمعان. وقلت : بالضحى ، ولو قلت : بالدجى ، لكان أكثر طراقا. وقلت : وأسيافنا ، والأسياف ما دون العشرة ، ولو قلت : سيوفنا ، كان أكثر. وقلت : يقطرن ، ولو قلت : يسلن (٣) لكان أكثر. وقلت : من نجدة ، والنجدات أكثر من نجدة. وقلت : دما ، والدماء أكثر من الدم. فلم يجب حسان جوابا. وحكى ابن جني عن أبي علي الفارسي أنه طعن في صحة هذه الحكاية. وكذا نقل أبو حيان في شرح التسهيل ، وقال ابن يسعون مجيبا عن حسان : الجمع في الجفنات نظير قوله تعالى (وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ) ، وأما الغر ، فليس بجمع غرة ، بل جمع غراء ، وهي البيض المشرقات من كثرة الشحوم وبياض اللحوم. وقوله : يلمعن ، هو المستعمل في هذا النحو ، يقال لمع السراب ولمع البرق. وقوله : في الضحى ، لأنه أراد أن طعامهم موصول ، وقراهم في كل وقت مبذول. وقد وصف قبل هذا قراهم بالليل حيث قال :

وإنّا لنقري الضّيف إن جاء طارقا

من اللّحم ما أضحى صحيحا مسلّما

وأما قوله : يقطرن ، فهو المستعمل في مثل هذا ، يقال : سيفه يقطر دما. ولم تجر العادة بأن يقال : سيفه يسيل دما ، أو يجري دما ، مع أن يقطرن أمدح ، لأنه

__________________

(١) كذا بالاصل ، وصحتها :

(ولو قلت الجفان لكان أكثر ، وقلت الغر ، ولا قلت البيض ..).

(٢) في الاغاني (يبرقن).

(٣) في الاغاني (يجرين).

٢٥٧

يدل على مضاء السيف وسرعة خروجه عن الضريبة ، حتى لا يكاد يعلق به دم. وفي الأغاني بسنده عن حسان بن ثابت قال : جئت نابغة بني ذبيان ، فوجدت الخنساء حين قلبت من عنده ، فأنشدته ، فقال لي : إنك لشاعر ، وإن أخت بني سليم لبكاءة.

وأخرج في الأغاني عن المفضل الضبي قال : سألني المهدي عن أفخر بيت قالته العرب ، قلت : بيت الخنساء (١) :

وإنّ صخرا لتأتمّ الهداة به

كأنّه علم في رأسه نار

١٢٣ ـ وأنشد :

نحن الألى فاجمع جموعك

ثمّ وجّههم إلينا

هو من قصيدة لعبيد بن الأبرص يخاطب بها امرأ القيس بن حجر ، أوّلها :

يا ذا المخوّفنا بقت

ل أبيه إذلالا وحينا

أزعمت أنّك قد قتل

ت سراتنا كذبا ومينا

لو لا على حجر ابن أمّ

قطام تبكي لا علينا

إنّا إذا عضّ الثّقا

ف برأس صعدتنا لوينا

نحمي حقيقتنا وبع

ض القوم يسقط بين بينا

هلّا سألت جموع كن

دة إذ تولّوا : أين أينا!

__________________

(١) ابن سلام ١٧٤ وفي الشعراء ٣٠٥ :

أشم أبلج تأتم الهداة به

كأنه علم في رأسه نار

وانظر ديوانها ٧٣ ـ ٨٥ ، والكامل ٨٥٩

٢٥٨

ومنها :

لا يبلغ الباني ولو

رفع الدّعائم ما بنينا

كم من رئيس قد قتل

ناه وضيم قد أبينا

وأخرج أبو الفرج في الأغاني عن أبي عبيدة قال (١) : قتلت بنو أسد حجر بن عمرو ، واجتمعوا إلى ابنه امرىء القيس على أن يعطوه ألف بعير دية أبيه. أو يقيدونه (٢) من أي رجل شاء من بني أسد ، أو يمهلهم حولا ، فقال : أما الدّية فما ظننت انكم تعرضونها على مثلي ، وأما القود فلو قيد لي ألف من بني أسد ما رضيت ولا رأيتهم كفؤا لحجر ، وأما النظرة فلكم ، ثم إنكم ستعرفوني في فرسان قحطان ، أحكّم فيكم ظبى السيوف وشبا الأسنّة ، حتى أشفي نفسي ، وأنال ثاري. فقال عبيد في ذلك هذه القصيدة.

قوله : يا ذا المخوّفنا ، استشهد به على إضافة الوصف المعرّف بأل الى الضمير ، وقوله : حينا : أي هلاكا. والسراة : بفتح المهملتين ، جمع سرى ، وهو جمع عزيز ، أن يجمع فعيل على فعلة ، ولا يعرف غيره. وسراة القوم : أكابرهم وساداتهم. والمين : الكذب. والثقاف : بكسر المثلثة وتخفيف القاف وفاء ، ما يسوي الرماح. والصعدة : بفتح الصاد وسكون العين وفتح الدال المهملات ، القناة المستوية ، تنبت كذلك لا تحتاج الى تثقيف. ولوينا : من لوي الرجل رأسه ، أمال وأعرض. والحقيقة : ما يحق على الرجل أن يحميه ، يقال : فلان عامي الحقيقة. وقوله (بين بينا) وقد أورد المصنف هذا البيت في شرح الشذور شاهدا على تركيب الظروف وبنائها. وقوله (ونحن الأولى) مبتدأ وخبر ، والأولى بمعنى الذين ، والصلة محذوفة لدلالة ما بعده عليه ، أي نحن الذين جمعنا جموعنا ، فأجمع أنت جموعك. وقال أبو عبيد : الذين ، هنا ، لا صلة لها. وقال بعضهم : تقديره ، نحن

__________________

(١) الاغاني ٢٣ / ٤٠٦ ـ ٤٠٧ (الثقافة) ، وانظر الشعراء ٢٢٤ ـ ٢٢٥ والخزانة ١ / ٢٢٨ و ٢ / ٥٣ (السلفية).

(٢) في الاغاني : (يقيدوه).

٢٥٩

الأولى عرفوا بالشجاعة. وقد استشهد بالبيت على استعمال الأولى بمعنى الذين ، وعلى حذف الصلة.

فائدة :

عبيد ، بفتح العين وكسر الموحدة ، ابن الأبرص بن جشم بن عامر بن زهير ابن مالك بن الحارث بن سعد بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة الأسدي (١). شاعر مفلق من فحول شعراء الجاهلية من طبقة امرىء القيس. وجعله ابن سلام من الطبقة الرابعة من فحول الجاهلية ، وقرن به طرفة وعلقمة بن عبدة وعديّ بن زيد (٢). قتله المنذر بن ماء السماء في يوم بؤسه ، فصده حتى مات.

فائدة :

عبيد بالموحدة جماعة ، وأما عتيد ، بالمثناة الفوقية ، فهو ابن ضرار بن سلامان ابن جشم بن ربيعة الكلبي ، ذكره الآمدي في المؤتلف والمختلف.

١٢٤ ـ وأنشد :

نهيتك عن طلابك أمّ عمرو

بعاقبة وأنت إذ صحيح (٣)

هذا من مقطوعة لأبي ذؤيب الهذلي ، وقبله ، وهو أولها :

جمالك أيّها القلب القريح

ستلقى من تحبّ فتستريح (٤)

__________________

(١) وكذا في الاغاني ٢٣ / ٤٠٤ (الثقافة).

(٢) الطبقات ص ١١٥

(٣) ديوان الهذليين ١ / ٦٨ والخزانة ٣ / ١٤٧ ، واللسان (إذا).

(٤) وبعد البيت : نهيتك ... :

فقلت : تجنّبن سخط ابن عم

ومطلب شلّة ونوى طروح

وما إن فضلة من أذرعات

كعين الديك أحصنها الصّروح

مصفّقة مصفاة عنقار

شآمية إذا جلبت مروح

إذا فضّت خواتمها وفكت

يقال لها : دم الودج الذبيح

ولا متحير باتت عليه

ببلقعة يمانية تفوح

خلاف مصاب بارقة هطول

مخالط مائها خصر وريح

بأطيب من مقبّلها إذا ما

دنا العيّوق واكتتم النّبوح

وفي حاشية الامير ص ١ / ٧٩ رواية البيت الاول :

حنانك أيها القلب القريح

فتلقى من تحب فتستريح

٢٦٠