شرح شواهد المغني

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

شرح شواهد المغني

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: لجنة التراث العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ١١٤٦

هو لحميد بن ثور الهلاليّ الصحابي رضي‌الله‌عنه.

قوم : خبرهم مقدرا. والصريخ : صوت المستصرخ (١). ورأيتهم : جواب الشرط. وملجم : من ألجمت الفرس. وسافع : من سفعت بناصيته ، أي أخذت. وقد استشهد ابن هشام في السيرة بالبيت على ذلك في تفسير قوله تعالى : (لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ). وأورده بلفظ (الصراخ) وبلفظ (من بين). قال ابن الدماميني : و (من) فيه للابتداء. والمعنى : إنّ رؤيتك إياهم تقدمت من بين هذين القسمين ، لا يخرجون عنهما. و (أو) بمعنى الواو ضرورة اقتضاء بين الاضافة الى متعدد.

فائدة :

حميد : هو ابن ثور بن حزن بن عمرو بن عامر بن ربيعة بن نهيك بن هلال ابن عامر بن صعصعة الهلالي ، أبو المثنى. وقيل : أبو الأخضر. وقيل : أبو خالد ، ذكره الجمحي في الطبقة الرابعة من الشعراء الاسلاميين (٢). وقال المرزباني (٣) : كان أحد الشعراء الفصحاء ، وكان كل من هاجاه غلبه. وقد وفد على النبيّ صلّى الله وسلم ، وعاش الى خلافة عثمان ، وهو القائل (٤) :

فلا يبعد الله الشّباب وقولنا

إذا ما صبونا صبوة : سنتوب

٩١ ـ وأنشده (٥) :

ماذا ترى من عيال قد برمت بهم

لم أحص عدّتهم إلّا بعدّاد

كانوا ثمانين أو زادوا ثمانية

لو لا رجاؤك قد قتّلت أولادي

__________________

(١) وفي الديوان : (الصريخ : المستغيث. وهو الناصر أيضا. وفي المثل : عبد صريخه أمه. أي ناصره أذل منه وأضعف. والصريخ أيضا : المغيث ، فهو من المصادر التي تستعمل في الأضداد. وفي السيرة (الصراخ) بدل (الصريخ) ، وهو في معناه).

(٢) الطبقات ص ٤٩٥.

(٣) نقلا عنه في الاصابة ٢ / ٣٩ ، وتهذيب ابن عساكر ٤ / ٤٦٠.

(٤) ديوانه ٥٢.

(٥) ديوانه ١٥٦ ، وابن عقيل ٢ / ٧٠.

٢٠١

هما لجربر من قصيدة يمدح بها معاوية بن هشام بن عبد الملك ، وهما آخر القصيدة ، وقبلهما :

سيروا فإنّ أمير المؤمنين لكم

غيث مغيث بنبت غير مجحاد

وأول القصيدة :

قد قرّب الحى إذ هاجوا لإصعاد

بزلا مخيّسة إرمام أفناد

ومنها :

من يهده الله يهتد لا مضلّ له

ومن أضلّ فما يهديه من هاد

ومنها :

إلى معاوية المنصور إنّ له

دينا وثيقا وقلبا غير حيّاد

من آل مروان ما ارتدّت بصائرهم

من خوف قوم ولا همّوا بإلحاد

مخيسة : مذللة. والأرمام ، جمع رمة : وهي قطعة من حبل خلق. وغير حياد : لا يحيد. ومجحاد : قليل الخير. والعيال : جمع عيّل ، بتشديد الياء ، من عاله غيره يعوله ، إذا أنفق عليه وقام بمصالحه. وبرمت : من برم به ، بالكسر ، إذا سئمه وضجر منه. وترى : من الرأي في الأمر ، فلا يتعدّى إلّا إلى واحد وهو (ماذا) فمحله نصب. وجملة (قد برمت) صفة لعيال. والعدّاد : بفتح العين. ولم أحص : حال. والاستثناء مفرغ أي لم أحصر عدّتهم إلا في حال كوني مستعينا بعدّاد ، وهو كناية عن الكثرة المفرطة.

٩٢ ـ وأنشد :

كما النّاس مجروم عليه وجارم

٢٠٢

سيأتي شرحه مستوفى في حرف الكاف (١).

٩٣ ـ وأنشد (٢) :

فقالوا : لنا ثنتان لا بدّ منهما

صدور رماح أشرعت أو سلاسل

هذا من قصيدة لجعفر بن علبة الحارثي ، وقبله :

ألهفا بقرّى سحبل حين أحلبت

علينا الولايا والعدوّ المباسل

فقالوا : لنا ثنتان لا بدّ منهما

صدور رماح أشرعت أو سلاسل

وبعده :

فقلنا لهم تلكم إذن بعد كرّة

تغادر صرعى نوؤها متخاذل

قوله : ألهفا : هو منادي. قال المرزوقي : ويحتمل أن يكون مفردا ومضافا ، قلبت ياؤه ألفا. واللهف : التأسف على الشيء بعد الأشراف عليه (٣). وقرى سحبل موضع. وقال البياري : قرى : ماء ، وسحبل : كل واد واسع (٤). وأحلبت : بالمهملة ، أعانت. قال المرزوقي : وأصله الأعانة في الحلب خاصة ، ثم استمرّ في

__________________

(١) هو الشاهد الثاني في حرف الكاف وستشير اليه هنا حين الكلام عليه

(٢) الحماسة بشرح التبريزي ١ / ٤٣ ـ ٤٩ وفيه : (فقالوا : ...).

والاغاني ١٣ / ٤٧ (الثقافة).

(٣) قال التبريزي : (التهلف : التوجع على الفائت بعد الاشراف عليه.

و (ألهفا) يجوز أن يكون منادى مفردا ، ويجوز أن يكون منادي مضافا ، فإذا جعله مضافا فإن أصله ألهفى ، أو ألهف ، فاذا قال ألهفا فكأنه فر من الكسرة وبعدها ياء الى الفتحة فانقلبت ألفا ...

وأذا كان ألهفا مفردا تكون الألف قد زيدت لامتداد الصوت به ، ليكون أدل على التحسر).

(٤) قرى : موضع ببلاد بني الحارث ، وقيل ماءة قريبة من تباله ، وقد أضافة جعفر بن علبة الحارثي الى سجل فدل أنهما متصلان.

(البكري ١٠٦٢ ، وانظر ٧٢٧).

٢٠٣

الاعانات كلها (١). وقال : وقد يكون الشيء مختصا في الأصل ، ثم يصير في العرف عاما ، كما يكون عاما في الأصل ثم يصير به مختصا. والولايا : جمع وليّة ، وهي البرذعة. وهي في البيت كناية عن النساء والضعفاء. وقيل : الولايا العشائر والقبائل ، كأن ولية تأنيث وليّ ، وهو القريب. ويروى : الموالي ، وهم أبناء العم (٢). والمباسل : من البسالة ، وهي الشجاعة. وثنتان : أي خصلتان ، وتفسيرهما قوله : (صدور ... الخ) وخص الصّدور لأن المقاتلة بها تقع ، أو من ذكر البعض وارادة الكل ، و (أو) في قوله (أو سلاسل). وقال التبريزي : أو على بابها من التخيير ، لأن السلاسل كني بها عن الأسر (٣). ومعنى قوله : (لا بد منهما) على سبيل المتعاقب .. الخ. أي لا بد من أحدهما أو المراد لا بد منهما جميعا ، فصدور الرماح لمن يقتل والسلاسل لمن يؤسر ، أي يكون بعضنا كذا وبعضنا كذا. فلما جعلهم صنفين صح دخول (أو) للتقسيم. وأشرعت : هيئت للطعن. وقوله : (تلكم اذن بعد كرّة) أي تلكم التخييرية ، تكون بعد عطفه. تترك بيننا قوما مصرعين يخذلهم النهوض. ومتخاذل : هذا البناء يختص بما يحدث شيئا بعد شيء ، ومنه تداعى البناء كأن أجزاء النهوض يخذل بعضها بعضا. والنوء : قد يكون السقوط أيضا.

فائدة :

جعفر بن علبة بن ربيعة ، بن عبد يغوث الشاعر أسير يوم الكلاب ، ابن معاوية ، يكنى ابن عارم ، شاعر مقل غزل فارس. أدرك الدولة الأموية والعباسية ، قتل رجلا من بني عقيل فاستعدوا عليه عامل مكة السريّ بن عبد الله الهاشمي فأقاد منه ، فأقاد في أيام جعفر المنصور. ذكر ذلك الأغاني (٤). وله في ذلك أبيات مذكورة في

__________________

(١) وكذا في التبريزي ١ / ٤٥.

(٢) كذا في الأصل ، ولعل صحة الجملة : (كأن ولية تأنيث ولي ، والموالي : وهم ابناء العم. ويروى : أجلبت). وأصل الجلبة رفع الاصوات.

(٣) كذا في الاصل ، وقول التبريزي ١ / ٤٦ ـ ٤٧ (وأراد بالثنتين خصلتين ، ثم فسرهما صدور الرماح ، وخص الصدور لان المقاتلة بها تقع ، ويجوز أن يكون ذكر الصدور وان المراد الكل ، كما قال :

الواطئين على صدور نعالهم

وان كان الوطء للصدور والاعجاز ، وكنى عن الأسر بالسلاسل ...

(٤) الاغاني ١٣ / ٤٤ و ٤٨ (الثقافة).

٢٠٤

شواهد التلخيص.

٩٤ ـ وأنشد (١) :

وكنت إذا غمزت قناة قوم

كسرت كعوبها أو تستقيما

قاله زياد الأعجم. قال شارح أبيات الايضاح : كذا نسب في كتاب سيبويه ، وكذا رووه منصوبا ، فتبعه عليه الناس ، واستشهدوا به على النصب باضمار ان بعد الواو (٢). قال : وقد وقع هذا البيت في قصيدة لزياد الأعجم مرفوعة القوافي ، وفيها أبيات مجرورة ، وأول القصيدة :

ألم تر أنّني أوترت قوسي

لأبقع من كلاب بني تميم

عوى فرميته بسهام موت

كذاك يردّ ذو الحمق اللّئيم

فلست بسابقي هربا ولمّا

تمرّ على نواجذك القدوم

فحاول كيف تنجو من وقاع

فإنّك بعد ثالثة رميم

يهجو بهذه القصيدة المغيرة بن حبناء (٣). غمزت : من غمزت الشيء بيدي عصرته. والقناة : الرمح. وكعوبه : النواشز في أطراف الأنابيب. وقوله : (كسرت) إشارة إلى شدّة الغمز والتثقيف ، ان لم تستقم على التليين والتلطيف. والمعنى : أردت كسر كعوبها إلّا أن تستقيم من شدة العوج ، وهذا إشارة إلى ما عليه المهجو من الاضطراب والهوج ، فهو من باب : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) أي أردت القراءة. قاله شارح أبيات الايضاح. وقال الزمخشري في شرح أبيات الكتاب : معنى البيت :

__________________

(١) سيبويه ١ / ٤٢٨ ، وابن عقيل ٤ / ١٢٣ ، وطبقات الشعراء ٥٥٨ ، والاغاني ١١ / ١٦٠ واللسان (غمز).

(٢) أي : إلا أن تستقيم. والبيت من قصيدة أكثرها مرفوع القافية ، وفيها أبيات إقواء بالكسر ، ولكنهم اعتذروا لسيبويه بأنه هكذا سمعه من العرب ، فكان انشاده حجة.

(٣) انظر الاغاني ١٣ / ٨٦ ـ ٨٩ (الثقافة).

٢٠٥

كنت إذا هجوت قوما أبيدهم بالهجاء إلا أن يتركوا هجائي. قال : وأبيات القصيدة غير منصوبة ، وإنما أنشده سيبويه منصوبا لانه سمعه كذلك ممن يستشهد بقوله ، وإنشاد الأبيات على الوقف مذهب لبعض العرب ، فإن أنشد بيت واحد منها أنشد على حقه من الأعراب ، وإن أنشدت جميعا أنشدت على الوقف انتهى.

فائدة :

زياد الأعجم بن سليم (العبدي) ، يكنى أبا أمامة ، مولى عبد القيس ، ولقب الأعجم لعجمة كانت في لسانه. أدرك أبا موسى الاشعري وعثمان بن أبي العاص وشهد معهما فتح اصطخر ، ووفد على هشام بن عبد الملك ، وشهد وفاته بالرصافة. وذكره الجمحي في الطبقة السابعة من شعراء الاسلام (١).

وأخرج ابن عساكر عن أبي بركة الأشجعي قال : حضرت امرأة من نمير الوفاة ، فقيل لها أوصي. فقالت : نعم خبروني عن القائل :

لعمرك ما رماح بني نمير

بطائشة الصّدور ولا قصار

فقيل لها : لزياد الأعجم. قالت : فأشهدكم أن له ثلث مالي. فحمل له من ثلثها أربعة آلاف درهم.

٩٥ ـ وأنشد :

لأستسهلنّ الصّعب أو أدرك المنى

لم يسم قائله وتمامه :

فما انقادت الآمال إلّا لصابر

يقال : استسهل أمره : أي عدّة سهلا. والمنى : بالضم ، جمع المنية ، اسم لما يتمناه الانسان. والآمال : بالمدّ جمع أمل ، وهو الرجاء. وانقيادها : موافقتها للمراد ومجيئها على حسبه.

__________________

(١) الطبقات ٥٥١

٢٠٦

شواهد الا المفتوحة الخفيفة

٩٦ ـ وأنشد :

أما والّذي لا يعلم الغيب غيره

هو لحاتم الطائي ، وتمامه :

ويحيي العظام البيض وهي رميم

وجواب القسم قوله بعد ذلك :

لقد كنت أختار القرى طاوي الحشا

محاذرة من أن يقال لئيم (١)

والرميم : البالي ، من رمّ العظم يرم بلى. وفعيل : يستوي فيه المذكر والمؤنث والجمع ، قاله في الصحاح. وقال الزمخشري : الرميم اسم لما بلي من العظام ، كالرمة والرفات ، فلذا لم يؤنث. والقرى : الاحسان إلى الضيف. والحشا : ما انضمت إليه الضلوع. والطاوي : الجائع. والمحاذرة : الخوف. واللئيم : الدنيء الأصل

__________________

(١) الشعر في حماسة التبريزي ٤ / ٢٤٠ ـ ٢٤١ ، وفي ذيل الامالي والنوادر ٢٧ نسبه عن الأصمعي لاعرابي ، بلفظ :

أما والذي لا يعلم الغيب غيره

ومن هو يحيي العظم وهي رميم

لقد كنت أطوي البطن والزاد يشتهى

محافظة من أن يقال لئيم

وإنّي لاستحيي أكيلي ودونه

ودون يدي داجي الظلام بهيم

وفي ذيل سمط اللآلي ١٥ نسب الشعر لحاتم نقلا عن الحماسة والسيوطي ، وزاد : (وفي ديوان حاتم رواية ابن الكلبي زيادة بعد الأوّليين) :

وما كان بي ما كان والليل ملبس

رواق له فوق الإكام بهيم

الف بحلسي الزاد من دون صحبتي

وقد آب نجم واستقلّ نجوم

٢٠٧

الشحيح النفس (١).

فائدة :

حاتم الطائي هو ابن عبد الله بن سعد بن الحشرج بن امرىء القيس بن عديّ الجواد المشهور (٢) شاعر جاهلي يكنى أبا سفانة بابنته ، وابنه عديّ بن حاتم الصحابي المشهور.

أخرج أحمد عن عديّ ابن حاتم قال : قلت : يا رسول الله ، إن أبي كان يصل الرحم ويفعل كذا وكذا. فقال : إن أباك أراد أمرا فأدركه ، يعني الذكر.

وأخرج ابن عديّ وابن عساكر عن ابن عمر قال : ذكر حاتم طي عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : ذاك رجل أراد أمرا فأدركه.

وأخرج الديلمي في مسند الفردوس وابن عساكر عن علي قال : لما جاء بسبايا طيّ وقعت جارية حمراء العشاء ، دلفاء عيطاء ، شماء الأنف ، معتدلة القامة والهامة ، درماء الكعبين ، خدلة الساقين ، لفاء الفخذين ، خميصة الخصرين ، ضامرة الكشحين ، مصقولة المتنين ، فلما رأيتها أعجبت بها وقلت : لأطلب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجعلها في فيئي ، فلما تكلمت أنسيت جمالها لما رأيت من فصاحتها ، فقالت : يا محمد ، إن رأيت أن تخلي عنا ولا تشمت بي أحياء العرب ، فإني ابنة سيد قومي ، وأن أبي كان يحمي الذمار ، ويفك العاني ، ويشبع الجائع ، ويكسو العاري ، ويقري الضعيف ، ويطعم الطعام ، ويفشي السّلام ، ولم يردّ طالب حاجة قط ، أنا ابنة حاتم طي. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو كان أبوك مسلما لترحمنا عليه ، خلوا عنها ،

__________________

(١) قال التبريزي : انتصب (محافظة) على انه مفعول له ، و (طاوي الحشا) انتصب على الحال ، ويروي : (محاذرة) ، وإذا رويت (القرى) فالمراد به قرى الضيف ، والمعنى : إني أقري الضيف وأنا طاوي الحشا لأني أوثره على نفسي ، ويروى : (القوى) ، ويفسرونه بالجوع وقلة الزاد ، وهو راجع الى قولهم : أقوى القوم ، إذا فني زادهم ، ومنه قول الشاعر :

سواء إذا لم يجن امرء دنية

عليّ تقاوى ليلة ونعيمها

وكان أحدهم ربما أطفأ النار وأمسك عن الأكل وأوهم الضيف أنه يأكل ليشبع الضيف ، وهذا معنى قوله : وإني لأستحيي ... الخ).

(٢) انظر الشعراء ١٩٣ ، وشعراء الجاهلية ٩٨ ـ ١٣٤

٢٠٨

فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق ، والله يحب مكارم الأخلاق.

وأخرج ابن عساكر عن عديّ بن حاتم قال : كان أبي يقول لنا في الجاهلية : إذا كان الشيء يكفيكه تركه فاتركه.

وأخرج ابن الأنباري وابن عساكر عن ابن الأعرابي قال : كان حاتم الطائي أسيرا في عنزة ، فقالت له امرأة يوما : قم ، فافصد لنا هذه الناقة! وكان الفصد عندهم أن يقطع عرقا من عروق الناقة ، ثم يجمع الدم فيشوى. فقام حاتم إلى الناقة فنحرها ، فلطمته المرأة. فقال حاتم : (لو غيرت ذات سوار لطمتني). فذهب قوله مثلا. وقال له النسوة : إنما قلنا لك فصدها! فقال : هكذا فزدي. ان قوله (فزدي) فصدي ، اشم الصاد زايا ، وأدخل هاء السكت على أنا.

وأخرج ابن عساكر عن أبي عبيدة قال : لما بلغ حاتم طيّ قول المتلمس (١) :

قليل المال يصلحه فيبقى

ولا يبقى الكثير مع الفساد

وحفظ المال خير من فناء

وعسف في البلاد بغير زاد

فقال : قطع الله لسانه ، حمل الناس على البخل ، فهلا قال :

فلا الجود يفني المال قبل ذهابه

ولا البخل في مال الشّحيح يزيد

فلا تلتمس مالا بعيش مقتّر

لكلّ غد رزق يعود جديد

وأخرج ابن الأنباري وابن عساكر من طريق ملحان بن عركي بن عديّ بن حاتم

__________________

(١) في الشعراء ١٣٦ برواية :

وأعلم علم حقّ غير ظن

وتقوى الله من خير العتاد

لحفظ المال أيسر من بغاه

وضرب في البلاد بغير زاد

وإصلاح القليل يزيد فيه

ولا يبقى الكثير على الفساد

وانظر الاغاني ٢١ / ١٣٦ و ١٣٧ ، وحماسة البحتري ٢١٦ ، وعيون الاخبار ٢ / ١٩٥. وسيأتي ص ٢٦٦.

٢٠٩

عن أبيه عن جدّه قال : شهدت حاتما وهو يكيد بنفسه ، فقال لي : أي بني ، إني أعهدك من نفسي ثلاث خلال : والله ما خاتلت جارة لي لريبة قط ، ولا أؤتمنت على أمانة إلّا أدّيتها ، ولا أتى أحد قطّ من قبلي بسوء.

٩٧ ـ وأنشد :

أما والّذي أبكى وأضحك والّذي

أمات وأحيا والّذي أمره الأمر

تقدم شرحه في شواهد أما (١).

٩٨ ـ وأنشد :

ألا طعان ألا فرسان عادية

إلّا تجشّؤكم حول التّنانير (٢)

هذا من قصيدة لحسان بن ثابت رضي‌الله‌عنه يهجو (بني) (٣) الحارث بن كعب المجاشي (٤) من بني عبد المدان. (وأول القصيدة) (٥) :

حار بن كعب ألا أحلام تزجركم

عنّا ، وأنتم من الجوف الجماخير

لا بأس بالقوم من طول ومن عظم

جسم البغال وأحلام العصافير

ألا طعان ألا فرسان عادية

إلّا تجشّؤكم حول التّنانير

دعوا التّخاجؤ وامشوا مشية سجحا

إنّ الرّجال ذوو عصب وتذكير

__________________

(١) انظر ص ١٦٩ الشاهد رقم ٧١.

(٢) ديوانه ١٢٣. والخزانة ٢ / ١٠٣ ، وسيبويه ١ / ٣٥٨ وقيل ان البيت لخداش بن زهير

(٣) مزيدة.

(٤) كذا في الاصل ، وفي الخزانة : (المذحجي).

(٥) مزيدة من الخزانة.

٢١٠

حار : منادي الحارث ، مرخم (١). والأحلام : العقول جمع حلم. وقوله : (عنا) أي : عن هجائنا ، لأنه كان هجا بني النجار من الأنصار فشكوا ذلك الى حسان فقال هذه. ثم قال : ألقوها إلى صبيان المكاتب. ففعلوا ، فبلغ ذلك بني عبد المدان فأوثقوا الحارث (٢) وأتوا به إلى حسان وحكّموه فيه ، فأمر بالناس فحضروا ، وجلس على سرير وأحضره موثقا ، فنظر إليه مليا ثم قال لابنه عبد الرحمن : هات الدراهم التي بقيت من صلة معاوية ، وائتني ببغلة. ففعل ، ففك وثاقه وأعطاه الدراهم وأركبه البغلة ، فشكره الناس. والجوف : جمع أجوف ، وهو العظم الجوف. والجماخير : بجيم وخاء ، جمع جمخور ، وهو العظيم الجسم القليل العقل والقوّة. وجسم : يروى بالرفع والنصب (٣).

قال المصنف : روي أن بني عبد المدان كانوا يفتخرون بعظم أجسامهم حتى قال فيهم حسان هذا الشعر فتركوا ذلك. ويروى (ولا فرسان) بدل (ألا فرسان). وطعان : مصدر طاعن. وفرسان : جمع فارس. وعادية : يروى ، بالعين المهملة ، من العدو ، أو العدوان. وبالمعجمة : من الغدو ضدّ الرواح. ويروى بالنصب : نعت أو حال ، وخبر (لا) محذوف وبالرفع خبر (لا). وتجشؤكم : ويروى بالرفع والنصب ، وبالجيم من الجشاء : تنفس المعدة بالحاء المهملة ، من الاحتساء والاستثناء منقطع. والمعنى : ألا طعان عندكم ولا فرسان فيكم تعدو على أعدائهم ، أي لستم بأهل حرب ، وإنما أنتم أهل أكل وشرب ، كما قال الآخر :

إنّي رأيت من المكارم حسبكم

أن تلبسوا حرّ الثّياب وتشبعوا

__________________

(١) وبه استشهد الزجاجي في جمله.

(٢) هو النجاشي من بني الحارث كما في الخزانة وليس الحارث كما جاء بالاصل.

(٣) ويروى البيت : (لا عيب بالقوم ..). و (لا بأس بالقوم) ، يريد :

أن أجسامهم لا تعاب ، وهي طويلة عظيمة ، ولكنها كأجسام البغال لا عقول لها. هكذا رواه الناس ، ورواه الزمخشري : (جسم الجمال وأحلام ..) عند قوله تعالى : (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) على أنّ الجمل مثل في عظم الجرم ..). وانظر الخزانة.

٢١١

وقال (١) :

دع المكارم لا ترحل لبغيتها

واقعد ، فإنّك أنت الطّاعم الكاسي

والتنانير : جمع تنور. والتخاجؤ : بجيم وهمز ، مشية فيها تبختر ، ومشية سحجا : أي سهلة ، حسنة ، بسين مهملة ثم جيم ثم حاء مهملة. والعصب : شدّة الخلق ، يقال : رجل معصوب ، أي قوي شديد. هكذا ذكر جماعة من المتأخرين هذا البيت من الأبيات المذكورة لحسان. ثم رأيت في شرح أبيات الكتاب للزمخشري البيتين الأوّلين لحسان. وقوله : (ألا طعان ... البيت) لخداش بن زهير يخاطب بها بني العرقة ، من بني تيم بن غالب ، من أجل مسابقة كانت بينهم وبين رهط خداش. وأول القصيدة (٢) :

أبلغ أبا كنف إمّا عرضت له

والأبجرين ووهبا وابن منظور

ألا طعان ألا فرسان عادية

إلّا تجشّؤكم حول التّنانير

ثمّ احضرونا إذا ما احمرّ أعيننا

في كلّ يوم يزيل الهمّ مذكور

تلقوا فوارس لاميلا ولا عزلا

ولا هلابيج روّاغين في الدّور

في أبيات أخر.

٩٩ ـ وأنشد (٣) :

ألا ارعواء لمن ولّت شبيبته

وآذنت بمشيب بعده هرم

الارعواء : الانكفاف ، مصدر ارعوى عن الشيء ، أي الانكفاف عن القبيح.

__________________

(١) هو الحطيئة. وانظر طبقات ابن سلام ٩٨

(٢) انظر الخزانة ٢ / ١٠٧ فقد وردت الابيات باختلاف الألفاظ.

(٣) ابن عقيل ١ / ١٥٤

٢١٢

و (لمن) خبر. وولت : أدبرت وذهبت. وآذنت : عطف على ولت ، أي أعلمت وأنذرت. وجملة (بعده هرم) صفة لمشيب. والشبيبة : الشباب. والمشيب : الشيب. وقال الأصمعي : المشيب بالميم : دخول الرجل في حدّ الشيب من الرجال. والشيب بدون ميم : بياض من الشعر. والهرم : كبر السن.

١٠٠ ـ وأنشد (١) :

ألا عمر ولّى مستطاع رجوعه

فيرأب ما أثأت يد الغفلات

لم يسم قائله. (ألا) للتمني. وعمر : اسمها. وولى : صفته. ومستطاع رجوعه : جملة اسمية قدّم خبرها ، وهي صفة أخرى ، فمحلهما نصب. ويجوز عند المازني والمبرد أن يكون محلهما رفعا. وكون الأسمية خبرا ، وكون مستطاع صفة على الموضع أو خبرا. ورجوعه : مرفوع به على الوجهين ، لانهما يجريان (ألا) التي للتمني مجرى (ألا) التي للانكار والتوبيخ ، ولا يجوز ذلك عند سيبويه ، لأنه لا يجيز مراعاة المحل اسمها ، أجرى الهاء مجرى ليت ، وليس لها عنده خبر ، لا لفظا ولا تقديرا ، بل هي ومتلوها كلام تام مركب من اسم وحرف كما في (يا زيد) عند أبى علي. وسوّغ ذلك الحمل على المعنى ، لأن معناه أتمنى كذا. وقوله : (فيرأب) منصوب في جواب التمني ، أي يصلح. يقال : رأبت الاناء إذا شعبته وأصلحته ، ومادته راء وهمزة وباء. قال المصنف : والمحفوظ بناؤه للفاعل ، ويحسن بناؤه للمفعول وما موصولة. وأثأت : بمثلثة بعدها همزة ، أفسدت ، منقول بالهمزة من ثأى ، بالكسر ، يثأى ، بالفتح ، فسد. واستعار للغفلات التي هي جمع غفلة. يدا تشبيها بمن يكتسب أشياء بيده. ويد فاعل أثأت والعائد محذوف : أي أثأته.

١٠١ ـ وأنشد :

ألا اصطبار لسلمى أم لها جلد

تقدّم شرحه في شواهد الهمزة (٢).

__________________

(١) ابن عقيل ١ / ١٥٤

(٢) انظر ص ٤٢ ، الشاهد رقم ٨.

٢١٣

١٠٢ ـ وأنشد

ألا رجلا جزاه الله خيرا

يدلّ على محصّلة تبيت (١)

هو من أبيات الكتاب ، وبعده :

ترجّل لمّتي وتقمّ بيتي

وأعطيها الإتاوة إن رضيت

وقال الأزهري : هما لأعرابي أراد أن يتزوّج امرأة بمتعة. قال المصنف : قوله (ألا رجل) فيه ثلاث روايات : الرفع ، وبه جزم الجوهري على أنه فاعل بفعل محذوف يفسره يدل. أو مبتدأ تخصّص بالاستفهام ، ويدل خبره. والجر على اضمار من ، وفيه ضعف لاعمال الجار محذوفا ، ويزيده ضعفا كونه زائدا. ونظيره في الضعف قوله :

ونهنهت نفسي بعد ما كدت أفعله

على قول سيبويه أن التقدير ان أفعله ، لأن أن وان كانت غير زائدة ، لكن دخولها في خبر كاد قليل. والثالثة النصب وهي المشهورة ، فقال الخليل وسيبويه (ألا) للعرض ، والفعل مقدّر ، أي ألا تروني رجلا. وقال يونس : (ألا) للتمنّي ورجلا اسمها ، ونوّن للضرورة. وقال بعضهم : (ألا) للاستفتاح ، ورجلا منصوب بمضمر يفسره جزى ، ويدل على رواية النصب صفة رجلا. ومحصّلة ، بكسر الصاد : امرأة تحصل الذهب من تراب المعدن وتخلصه منه. وقوله : (تبيت) قال الأعلم. أي تبيت تفعل ذلك أي الفاحشة. وقال السيرافي : انما الرواية تبيث بمثلثة آخره ، من الاستباثة ، وهي الاستخراج أي يستخرج الذهب من ترابه. قال المصنف : وكلاهما كلام من لم يقف على ما بعد البيت ، وهو (ترجل .. الخ) بالقافية تاء مثناة وترجل ... الخ خبر باب ، والبيت متعلق بما قبله ففيه تضمنين وهو من عيوب الشعر. والبيتوتة للترجيل والقم كما ذكر لا لشيء آخر. وقال بعضهم : يبيت بضم أوله ، أي يجعل لي بيتا أي امرأة بنكاح.

__________________

(١) الخزانة ١ / ٤٥٩ و ٢ / ١١ و ١٥١ وسيبويه ١ / ٣٥٩ (بولاق).

٢١٤

قلت : وهذا عندي أحسن ويندفع به التضمين (١). والترجيل : تسريح الشعر. واللمّة ، بكسر اللام وتشديد الميم : الشعر الذي يجاوز شحمة الأذن ، فإذا بلغ المنكبين فهو جمة. والأتاوة ، بكسر الهمزة : الخراج. ثم رأيت في شرح أبيات الكتاب للزمخشري قال : البيت من قصيدة طويلة لعمرو بن قنعاس المرادي (٢) أوّلها :

ألا يا بيت بالعلياء بيت

ولو لا حبّ أهلك ما أتيت

ألا يا بيت أهلك أوعدوني

كأنّي كلّ ذنبهم جنيت

ألا بكر العواذل فاستميت

وهل من راشد إمّا غويت (٣)

إذا ما فاتني لحم غريض

ضربت ذراع بكري فاشتويت

وكنت متى أرى رقا مريضا

يصاح على جنازته بكيت

أمشّي في سراة بني غطيف

إذا ما ساءني ضيم أبيت (٤)

أرّجل لمّتي وأجرّ ذيلي

وتحمل بزّتي أفق كميت

وبيت ليس من شعر وصوف

على ظهر المطيّة قد بنيت

ألا رجلا جزاه الله خيرا

يدلّ على محصّلة تبيت

__________________

(١) اضاف صاحب الخزانة ١ / ٤٦٠ : (لكني لم أجد أبات بهذا المعنى في كتب اللغة).

(٢) هو عمرو بن مقاس ، ويقال ابن قنعاس ، ابن عبد يغوث بن مخدش ابن عصر بن غنم بن مالك ... بن مراد ، المرادي المذحجي وترجم له المرزباني ٥٩ ، والخزانة ١ / ٤٦١ وسمط اللآلي ١٦٤.

(٣) وكذا في الخزانة ، وأصلحها الشنقيطي : (لي أن غويت) ، كما هو في شرح البيت بالخزانة.

(٤) في الخزانة وسمط اللآلي : (إذا ما سامني ..) وهي الرواية الصحيحة.

٢١٥

شواهد إلّا المكسورة المشددة

١٠٣ ـ (وأنشد) (١) :

وكلّ أخ مفارقه أخوه

لعمر أبيك إلّا الفرقدان (٢)

هذا لحضرمي بن عامر بن مجمع بن موألة بن همام بن ضب بن كعب بن قين بن مالك بن ثعلبة بن دودان أسد ، الأسدي ، وقيل لعمرو بن معدي كرب من أبيات ، أوّلها :

ألا عجبت عميرة أمس لمّا

رأت شيب الذّؤابة قد علاني

تقول أرى أبي قد شاب بعدي

وأقصر عن مطالبة الغواني

إلى أن قال :

وذي فجع عزفت النّفس عنه

حذار الشّامتين وقد شجاني

أخي ثقة إذا ما اللّيل أفضى

إليّ بمؤيد حبلى كفاني

قطعت قرينتي عنه فأغنى

غناه فلن أراه ولن يراني

__________________

(١) مزيدة.

(٢) الكامل ١٢٤٠ والكتاب ١ / ٣٧١ لعمرو بن معدي كرب. وهو أيضا في المؤتلف والمختلف ١١٦ لحضرمي ، والخزانة ٢ / ٥٢ و ٥٥ ، واللسان (إلا).

٢١٦

وكلّ قرينة قرنت بأخرى

ولو ضنّت بها سيفترقان

وكلّ أخ مفارقه أخوه

لعمر أبيك إلّا الفرقدان

فكان إجابتي إيّاه إنّي

عطفت إليه خوّار العنان

الذؤّابة من الشعر ، والجمع ذوائب. وعزفت ، بمهملة وزاي وفاء ، صرفت. والفجع : من الفجيعة ، وهي الرزيئة. وشجاني : أحزنني. والمؤيد : بوزن المؤمن ، الأمر العظيم والداهية. والفرقدان : نجمان قريبان من القطب. وكل قرينة : أي كل نفس مقرون بأخرى ستفارقها.

فائدة :

حضرميّ هذا صحابي. قال المرزباني : يكنى أبا كدام.

أخرج ابن شاهين عن أبي هريرة قال : وفد بنو أسد بن خزيمة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فتعلم حضرميّ بن عامر سورة عبس وتولى ، فقرأها فزاد فيها : (وهو الذي أنعم على الحبلى فأخرج منها نسمة تسعى) فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا تزد فيها. وأخرجه من وجه آخر. وفيه : ان السورة (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى).

وروى أبو علي القالي من طريق ابن الكلبي قال (١) : كان حضرميّ بن عامر عاشر عشرة من اخوته فماتوا فورثهم ، فقال فيه ابن عم له يقال له جزء بن مالك : يا حضرمي ، من مثلك ، ورثت تسعة اخوة فأصبحت ناعما! فقال حضرمي في أبيات (٢) :

إن كنت ازننتني بها كذبا

جزء فلاقيت مثلها عجلا

__________________

(١) الامالي ١ / ٦٧

(٢) البيان والتبيين ٣ / ١٩٠

٢١٧

فجلس جزء على شفير بئر هو واخوته ، وهم أيضا تسعة ، فانخسفت بهم ، فلم ينج منهم غير جزء ، فبلغ ذلك حضرمي فقال : كلمة ، وافقت قدرا وأبقت حقدا.

ولم أقف لحضرمي على غير حديث واحد.

أخرج أبو يعلي وابن قانع من طريق محفوظ بن علقمة عنه : ان رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إذا بال أحدكم فلا يستقبل الريح ولا يستنجى بيمينه.

١٠٤ ـ وأنشد (١) :

أنيخت فألقت بلدة فوق بلدة

قليل بها الأصوات إلّا بغامها

أنيخت : أبركت. والبلدة : الصدر ، يقال فلان واسع البلدة ، أي واسع الصدر. والبلدة أيضا : الأرض ، تقول : أبركت هذه الناقة فألقت صدرها على الأرض ، ففيه جناس تام ، و (قليل بها الأصوات) صفة لبلدة المجرورة. وبغام الناقة ، بضم الباء الموحدة وبالغين المعجمة ، صوت لا يفصح به (٢).

١٠٥ ـ وأنشد (٣) :

لو كان غيري سليمى الدّهر غيّره

وقع الحوادث إلّا الصّارم الذّكر

هو للبيد ، وقبله :

قالت غداة أنتجينا عند جارتها :

أنت الّذي كنت لو لا الشّيب والكبر

فقلت : ليس بياض الرّأس عن كبر

لو تعلمين ، وعند العالم الخبر

لو كان ... البيت.

انتجينا بالجيم ، قال الزمخشري في شرح أبيات الكتاب : غيري :

__________________

(١) الشعر لذي الرمة وهو في ديوانه ٦٣٨ ، والخزانة ٢ / ٥١ ، والتاج (بلد).

(٢) في شرح الديوان : (البلدة الاولى : كركرة الصدور ، والبلدة الثانية :

الأرض ، يقول : ألقت كركرتها على الارض ، والبغام صوت الناقة تقطعه (تقصعه) ولا تمدّ فيه ، يقول : الا بغامها نعتا للأصوات كما قال تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) معناه : لو كان فيها آلهة غير الله ، فقول : إلا الله ، نعت لآلهة يقوم مقام غيره).

(٣) الكتاب ١ / ٣٧٠.

٢١٨

اسم كان. سلمى : منداة وغيره خبر كان. وقوله : (إلا الصارم) وصف لغيري. ومعناه : انه لو كان غيره من الاشياء في موضعه لغيرته الحوادث إلا السيف فانه لا يتغير ، فأنا مثل السيف في أني لا أتغير. ويجوز أن يريد : لو كان غيري من الأشياء لتغير كتغيري ، إلا السيف. يريد أن كل شيء يتغير بمرور الأوقات عليه إلا السيف الصارم إنتهى. وقال غيره : الدهر ، إما خبر كان ، أي لو كان غيري موجودا في هذا الدهر الصعب ، وصحّ الاخبار به عن الجثة كما في قولك : نحن في يوم طيب. وإما مفعول بفعل محذوف ، أي يقاسي. ووقع الحوادث : سقوطها ، وهي جمع حادثة ، وهي ما يطرق من الوقائع والنوائب. والصارم : السيف القاطع. والذكر من السيوف : ما كان ذا ماء ورونق.

١٠٦ ـ وأنشد (١) :

حراجيج ما تنفكّ إلّا مناخة

على الخسف أو نرمي بها بلدا قفرا

هو لذي الرمّة. حراجيج : جمع حرجوج ، بضم الحاء ، وهي الناقة الضامر أو الطويلة ، بحاء مهملة في الأوّل وجيمين بينهما ياء. والخسف : النقصان ، يقال رضي فلان بالخسف أي بالنقيصة. وبات على الخسف أي جائعا. وربطت الدابة على الخسف أي على غير علف. والبلد : هنا مطلق الأرض. والقفر : المفازة التي لا نبات فيها ولا ماء. قال ابن الشجري في أماليه : وليس دخول إلا في هذا البيت خطأ كما توهم بعضهم ، لان بعض النحاة قدر في ينفك التمام ، ونصب مناخة على الحال ، فتنفك هنا مثل منفكين حتى تأتيهم البينة. فالمعنى : ما ينفصل عن جهد ومشقة إلا في حال اناختها على الخسف ، ورمى البلد القفر بها ، أي تنتقل من شدة الى شدة.

١٠٧ ـ وأنشد (٢) :

وما الدّهر إلّا منجنونا بأهله

__________________

(١) الخزانة ٢ / ٩٦.

(٢) ديوانه ١٧٣ ، والخزانة ٤ / ٤٩ و ٥٣ واللسان (فك).

٢١٩

قال ابن جنى (في ذا القد) (١) : قائله بعض بني سعد ، وتمامه :

وما صاحب الحاجات إلّا معذّبا

المنجنون ، بفتح الميم ، الدولاب الذي يستقى عليه ، وجمعه مناجين ، وهو مؤنث ، أي : وما الزمان إلا يدور دوران منجنون ، تارة يرفع وتارة يضع. فنصبه نصب المصدر. وقيل : بفعل محذوف ، أي يشبه منجنونا. وزعم ابن بابشاذ أن أصله إلا كمنجنون ، ثم حذف الجار فانتصب. ورواه المازني بلفظ :

أرى الدّهر إلّا منجنونا بأهله

ثم حكم بزيادة إلا ، وخرجه غيره على إضمار لا كقوله : (تَاللهِ تَفْتَؤُا) والدليل عليه الاستثناء المفرغ.

__________________

(١) في هامش الخزانة : (ذا القد : كتاب جمعه ابن جني من كلام شيخه أبي علي رحمهما‌الله تعالى).

٢٢٠