نفحات الذّات - ج ٣

كريم الأنصاري

نفحات الذّات - ج ٣

المؤلف:

كريم الأنصاري


الموضوع : العامة
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-397-974-4
ISBN الدورة:
978-964-397-972-0

الصفحات: ٤٤٠

١
٢

٣
٤

أنسنة الفكر والشعور

سيبقى حوار الإناسات المتباينة طبقاً لتباين الانتماء والفكر هو الآلية الأرجح قبولاً من الصراع ; لإمكانية العثور على حلول مشتركة تتقاطع فيها المشاعر والآمال والمصالح الإنسانيّة طرّاً ..

الإناسة محكومة بنبض الحياة والتواصل والتقايض ، المتمحّضة في الممارسة الخالصة ، وليدة رحم الفكر والمنهج ..

إنّ أشد ما نخشاه في هذا السياق ونهابه ونتوجّس منه بل يبقى هاجسنا المثير : أن ننزلق أكثر إلى هاوية الشعار والرمزيّة ونبكي أملاً لم يتبلور أو ماضياً نقتات على مائدة فخره وعزّه كما بكينا ولازلنا على حضارتنا وتراثنا دون أن نفعل شيئاً لحالنا وغدنا ، فلا نحاكي ولا نراجع ولا نحفر ولا نتمسّح ، بل تغوينا أحلام البطّالين المفترشين حواشي الطرقات المعرفيّة ، علّنا نعود من جديد ..

أبداً لن نحصد الغضاضة والنضارة ولن نستعيد مجدنا إلاّ باسترجاع قدم السبق وزمام المبادرة بلامكابرة وقفز على الحقائق .. ولا أمل في كلّ

٥

ذلك ما لم نستعيد إنسانيّتنا من جديد .. وهذا ما لا يحصل إلاّ بأنسنة الفكر والشعور ، ولا يخفى ما في بحث «الأنسنة» من سعة تضيق بها إشارتنا الخاطفة هذه ..

٦

ممّا قيل في الفكر والمنهج

كلٌّ يفكّر بحسبه ، وهذا أمرٌ طبيعي .. والقداسة إنّما تحوم حول «الفكر» فالفكر هو الحياة ولا حياة بلا فكر ، إنّه الخطاب وإن صمت ، خطابٌ إثر قراءة وتلقٍّ عُجِنا بمعاجن العقل فاختمرا بممارسة الوظائف طبق الأدوات المعهودة من التحليل والمراجعة والحفر والمقارنة والاستقراء والاستنطاق والاستنباط ، وعلى حدّ قول أرسطو : «لا يوجد شيء في الذهن إلاّ ويكون قد سبق وجوده في الحواسّ» فإنّ ذلك يعني كما ترى مي زيادة : إنّ كلّ فكر من أفكارنا تكوّنه تأثيرات آتية توّاً من الخارج أو متجمّعات في خاطرنا من بقايا تذكّرات ماضيات انتقلن إلينا بواسطة إحدى الحواسّ الخمس ... هذا هو الثبوت ..

ولمّا يرسل الفكر إشعاعه وأنواره بآليّاته المختلفة ويبثّ حصيلة مادار في أروقة العقل من عمليّات ومراحل ، وينشر على البشريّة رواشحه وعصاراته .... فهذا هو الإثبات ..

ويبقى الفكر فعّالاً ينتج ويصحّح ويجدّد ويبلور وينذر ويستبدل ويؤصّل ويوثّق وينقد ، فهو ماء الحياة وأثيرها ، شهيقها وزفيرها ، فكيف

٧

لها أن تدوم بدونه .... إلاّ أن تنزع الإنسانيّة لباسها وتخلع حلّتها وتنسى أنّها عقلٌ وجوارح ; فتصطفّ في صفّ البهائم ، همّها علفها ليس إلاّ ..

الفكر هو أرقى وأسمى مراحل الإنتاج الإنساني مطلقاً ، وعدم الخلط بينه وبين التفكير واضح ; إذ الثاني عمليّة يمارسها النوع البشري كلّ آن ولحظة ، سواء باستخدام الأدوات المعرفيّة والعلميّة أم بدونها ، وقد لا يتعدّى محيط صاحبه بجزئيّات حاجته وافتقاره ، بينا الفكر ـ الذي هو حاصل الجهد المعرفي العلمي بأرفع مراتبه وأدواته ـ يغطّي أكبر مساحة ممكنة من الوجود الإنساني ، فيخلد ويخلّد صاحبه ..

وكيف لا يسمق الفكر ولا يشمخ وهو «الكائن الحيّ الذي يصنع اللغة واللسان ، الكائن الذي يلفظ حتى في حال صمته ، الدافع الأكبر لإبقاء الحياة شريفة مهيبة ، فلولاه لما استحقّ الوجود عناية ، ولكانت حياتنا كالخابية الفارغة» ..

«الفكر أضخم وأغور ممّا ركز في جمجمة الرأس ومن المنطق السليم ومن العقل المحاسب فينا ، إنّه الأبحّ في الطول والعرض والعمق ، الرفّاش الهائل الذي يجرف دفعةً كلّ هذا ، إنّه الذي يتناول مافات وما حضر وما هو آت من حياة الإنسان ، الذي يستقطب كلّ نواحي اللطيفة البشريّة على أنّها وحدة لا تتكسّر ، لا تتجزّأ ، وما هو إلاّ النظرة الشاملة في الوجودين الأكبر والأصغر ، إنّه الفكر العقائدي الفلسفي الذي يشارك الله من باب «كوني فكانت» ; بفضل هذا الفكر العقائدي تشرف الحياة

٨

ويتمندل الوجود .. ولهذا يكون «الفكر أقوى من المفكّرين ، فيخلد ويخلّدهم على الرغم ممّا قد يشوبهم من ضعف الأخلاق والشخصيّة» ..

«الفكر أقوى وأمضى سلاح على الإطلاق يملكه الإنسان في حربه مع المجهول ، فلولا الفكر الذي يعمل ويتأمّل في السكينة لكنّا لا نزال قابعين في غياهب المغاور .. وهذا السلاح يصدأ بالإهمال وقلّة الاستعمال ، أو في الاستعمال في غير الأغراض التي من أجلها وُجِد .. ونحن عندما نكثر الكلام في توافه الاُمور إنّما نسدّ المنافذ إلى جليلها ، فنعطّله عن العمل المثمر بدلاً من أن نشحذه وندفعه .. ونحن إذ نُلهي الفكر بالقيل والقال فكأ نّنا نسخّر العاصفة لنقل قشّة من هنا إلى هناك ، والصاعقة لقتل ذبابة أو بعوضة .. ومثلما لا يتمّ الحمل ولا ينمو الجنين إلاّ في سكينة الأرحام وظلماتها كذلك لا يحبل الفكر بعظائم الاُمور إلاّ في سكينة الخلوات والتأمّلات» ..

«الأصل في الفكر إذا جرى مجراه الطبيعي المستقيم هو أن يكون حواراً بين «لا» و «نعم» وما يتوسّطهما من ظلال وأطياف ، فلا الرفض المطلق الأعمى يعدّ فكراً ، ولا القبول المطلق الأعمى يعدّ فكراً ، ففي الأوّل عناد الأطفال ، وفي الثاني طاعة العبيد» ..

«ليس الفكر ترفاً يلهو به أصحابه كما يلهو بالكلمات المتقاطعة رجل أراد أن يقتل فراغه ، بل إنّ الفكر مرتبط بالمشكلات التي يحياها الناس حياةً يكتنفها العناء ، فيريدون لها حلاًّ حتى تصفو لهم المشارب

٩

وبمقدار ما نجد الفكرة على صلة عضويّة وثيقة بإحدى تلك المشكلات نقول : إنّها فكرة بمعنى الكلمة الصحيح» ..

و «الفكر الإسلامي يوجب على معتنقيه النظر والتبصّر والاعتبار بتقلّبات الزمن ، والبحث المستمرّ عن اتّجاهات الحياة ، ومحاولة التحكّم في سير الأشياء وفقاً لما تستدعيه مصلحة الإنسان الذي اُنزل لهذه الأرض كي يخلف الإله فيها بالعمارة والإصلاح ..

إنّ الفكر الإسلامي يعني الانتباه والحذر والحركة الدائبة والتجديد المستمرّ في الاُسلوب وخصوصاً في الآلة النفسيّة التي تبعث على انتحاله ، وفي الحركة وخصوصاً في فهم العوامل الداخليّة والخارجيّة التي تدعو إليها .. وهو أكثر من ذلك : وازع الثورة على الخمود والاستنكار للجمود والابتلاء بروحانيّة العمل والكفاح للتمتّع بالحقّ والشعور بالعدل وتذوّق معاني الحرّيّة ..

فكرنا الإسلامي يجب أن يتّجه اليوم قبل كلّ شيء إلى إصلاح حالتنا وتحرير اُمّتنا من عبث الذين يعيدونها للخرافات والأوهام ، وإنقاذها من كثير من التقاليد البالية التي تمنعها من التقدّم والرقي ، وتحول بين عقلها وبين التفتّح لأسرار الكون ومعالم الإيمان ، وتمنعها من تغيير ذهنيّتها التي تكوّنت تدريجيّاً في عهد الانحطاط الأخير ، وتكييفها على الصفة التي تقتضيها روح العصر ومقوّمات العهد الجديد ، ثم مقاومة كلّ ارستقراطيّة قائمة على سيطرة المال وعبادة المال ; لأن هذه الارستقراطيّة

١٠

هي التي تكوّن أصنام الأحياء على صور «عجل الذهب الموسوي» ، وهؤلاء لا يقبلون متى تحكّموا في المجتمع إلاّ أن تسخّر لهم الشعوب وتخضع لهم الرقاب ..

إنّ الفكر الصحيح الذي تحتاجه الاُمّة ويمكنه أن ينقذها من مصائبها ليس هو تفكير الشارع الذي يُبنى على اُصول عادية تتلقّاها كلّ يوم من مختلف الأوساط والهيئات التي لا ندريها ، ولكنّه فكر الطبقة المتنوّرة التي تستطيع أن تقلب الأشياء على وجوهها وتنفذ إلى أعماقها ..

إنّ الفكر الحرّ لا يستطيع أحد أن يقيّده ، ولم يجعل الله لأحد سلطاناً على حركة الإنسان الداخليّة ، هكذا تعوّد الناس أن يقولوا ، ولكن هذه الحرّيّة التي يحمدون الله عليها لا قيمة لها إذا لم يكن لها الحقّ في أن تظهر للناس ، أي في أن تعطي لصاحبها حقّ التظاهر بما يعنّ له من فكر ، والإعراب عمّا يخطر بباله من رأي .. إنّ عدم الإعراب عن أفكارنا من أهمّ أسباب خنق هذه الأفكار ، وإذن فهو من أعظم وسائل الغصب لحرّيّة التفكير ، وإنّ الخاصّة من ذوي الفكر أنفسهم لا يجدون متعة بأفكارهم إذا لم يُسمَح لهم بالإعراب عنها ، بل قصارى حالهم أن يتعوّدوا الكبت الذي يفقدهم تدريجيّاً عادةً النظر بما يستصحبها من آلام وأكدار ..

إنّ الفكر الرفيع هو الذي يستطيع التحرّر من القيود التي تحيط به من جميع جهاته ، ويسمو في آفاق النظر العالي ; ليشرف على كلّ الأشياء من المحلّ الأرفع كما يعبّر ابن سينا ، ثم ينفذ ببصيرته الخارقة إلى مواطن

١١

الأشياء فيستجليها ثم يقارنها بالظواهر ويستغرق في نظرته الشاملة مجموع ذلك كلّه ، ليستغرق الفكرة التي يبديها للناس غضّةً يانعةً غير مهتمّ بالذين لا يلقون لها بالاً أو بالذين يعتبرونها خارقة للمألوف أو خارجة عن حدود المعقول» ..

«لقد كان الفكر العربي فكراً عربيّاً خالصاً ـ إلاّ قليلاً ـ في الجاهليّة من حيث طبيعته ومن حيث لغته ، أمّا في الإسلام فنحن نسمّيه فكراً عربيّاً على نوع من التجوّز ، وهو في الواقع فكر اُمم مختلفة اتّخذت اللغة العربيّة أداة لتفكيرها ، وهو فكر العرب وفكر الفرس وفكر الروم وفكر المصريّين ، مُزج كلّه مزجاً قويّاً واتّخذ اللغة العربيّة أداته واتّخذ الإسلام أساسه» ..

«الفكر والحسّ شرطان للخلود في كلّ رائعة إنسانيّة ، ولا نعني بالفكر جفاف المنطق ، بل مدّاً في العقل إلى مراتع الجمال ، ولا نعني بالحسّ رخاوة المتميّع ، بل حناناً في القلب إلى مضارب الحقّ .. الفكر والحسّ في ناطحات الوجدان اقنوم واحد ، هناك فوق تلك الحافّات اللاهبة يتعانقان ، هناك تنقلب الإنسانيّة بهما من شحيح الواقع إلى سخاء المجاز ; نقول هذا لأنّ الحسّ لا يبدع في النفس كألفاظ مجرّدة ، وإنّما يدور دورته الخلاّقة بالدلالات التي يشير بها إلى الحقّ الأكبر ، وهل تبطل اللفظة عن أن تكون حسّاً إذا عنت حقائق إنسانيّة عالية؟! ونقول هذا أيضاً لأنّ الفكر لا يبدع في النفس كفِكَر مجرّدة فقط ، وإنّما يدور دورته الخلاّقة بالقلم المعسول ، أي بالكلمة الجميلة ، وهل تبطل الفكرة عن أن

١٢

تكون فكرة إذا تكلّمت في بيان مجلو؟!

متى ابتعد الحسّ عن ترّهات الوجود محلّقاً في دهاليز النفس ... في سراديبها ... تناول هذا الوجود كأكثر ديباجة قاموسيّة ، تناوله من جهة الحقّ الذي ينير .. ومتى أغار الفكر على المعطيات البادئة على ألفباء الكائنات ... نظر إلى الوجود من وراء عينيه ، ليراه بأجفان الحالم ، أي بعصبيّة العاشق ، لهذا ينتهي البيان ..

الحسّ الكبير لا يرضى بما يحدّ إطاره فلا يبدأ ، والفكرة الكبيرة لا تقنع بما ينتهي فلا يعاد ، إنّ معناها الأسمى هو في البادئ المعيد ، نعني في مجاز الحقيقة لا في الحقيقة ذاتها ..

الحسّ لا يفتأ يتلمّح غيباً في كلّ حاضر ، والفكر لا يبرح يضرب في مجاهل كلّ معلوم ، حتى يلتقيا أمام الباب الموصود ، الذي لئن أتيته من جهة القلب أو من جهة العقل إنّه هو هو من حيث جئته ، وتمتدّ اليدان إلى المفتاح العجيب ، حتى إذا لمستاه احترقت الأصابع وترمّدت فوق العتبة الغريبة .. هناك يصبح كلّ شيء رؤية ، والرؤية بلاغة» ..

و «لئن كان الإنسان اُعجوبة الخليقة كما يقولون وكان فكر الإنسان أعجب ما في الإنسان ، فإنّ هذا الفكر قد أبدع عجائب ثلاثاً جعلت للحياة معنى ورونقاً جديدين ، وتلك العجائب الإنسانيّة هي : الكلمة والحرف والمطبعة .. من يستطيع أن يتصوّر الحياة خالية من الكلام؟ نعم ، السكوت جميل ، وله أسرار هي حيناً مرعبة كظلمات اللجج ، وآناً لامعة كمُقل

١٣

الكواكب في الدُّجى ، ولكنّه كلام في ذاته ، كلام تهمس به النفس بلا صوت ولا حركة ، وما السكوت القهري إلاّ بكم أو نوع من البكم» ..

إنّها أشبه برحلة خاطفة محدودة في مكانة الفكر وشموخه وشريانيّته وعظيم نتاجه وسابغ أفضاله على الإنسانيّة ..

أمّا «المنهج» فهو رائعة نتاجات الفكر المتلألئة على غرّة العلم وجبين المعرفة وهامة الحضارة ..

ومهما عنينا بالمنهج ـ سواء الرحماني منه أو الطبيعي ـ فالمفروض أنّه النظام الذي لا يستحيل عليه شيء ; إذ إنّه ـ طبق التصوّر العلمي قد تجاوز بالمراجعة والمقارنة والحفر والاستقراء والبعثرة والاستنطاق والبلورة والاستنتاج ـ المشكلة الزمكانيّة ، ويبقى ـ مع حفظ الاُسس والاُصول ـ يستجيب للمستحدثات ويتعامل مع الأخطاء والهفوات والفجوات ويصنع البديل .... وإلاّ فَقَدْ فَقَدَ عنفوانه وتزلزت الأرض من تحت أقدامه وفقد دواعي وجوده ..

«فالمنهج المعهود ـ كما نرى ـ هو منهج الحياة كلّها ، صديق العلم الحميم ، المرحّب بالمزيد منه ، وهو يشكّل الإطار العام الذي يتحرّك فيه العلم ويعمل به العقل بكلّ أمان واستقرار ، الإطار الذي يصنعه «مَن» يعلم بالإنسان وفطرته وطاقاته وحاجاته الحقيقيّة وخفاياه ، الإطار الذي تواصل به البشريّة حركتها النامية المتجدّدة آمنة سالمة» ..

١٤

«إنّ المنهج عندنا يساوق الحقيقة ولا انفصام بينهما وغير منهجنا ـ منهج الإسلام ـ لا يمكن أن يحقّق الإسلام في النهاية ... فالتزام المنهج ضروري كالتزام العقيدة والنظام في كلّ حركة إسلاميّة» ..

ولا يمكن لنا والحال كذلك أن نقبل بـ «أن يجعل الإسلام نفسه نظريّة للدراسة تخرج به عن طبيعة منهج التكوين والتفكير الربّاني ، فنُخضعه لمناهج التفكير البشريّة وكأ نّه أدنى منها!! وكأ نّما نريد لنرتقي بمنهج الله في التصوّر والحركة ليوازي مناهج العبيد!! فالأمر حالئذ خطير والهزيمة قاتلة» ..

إنّ المنهج الربّاني :

مادام يعطينا منهجاً خاصّاً في التفكير نبرأ به من رواسب مناهج التفكير الجاهليّة السائدة في الأرض والتي تضغط على عقولنا وتترسّب في ثقافتنا ...

ومادام يرفض بنا الرفض الأعمى والطاعة العمياء ، ويدعونا إلى التأمّل والتدبّر والتؤدّة والتمييز والتحليل وإيجاد الحلول للمشاكل على أرقى وجه ، وتنظيم الأفكار وسوقها سوقاً منظّماً بدءاً بصغار الاُمور ثم كبيرها ، والاستقراء الوافي العلمي ..

ومادام لا يرفض المنهج الطبيعي إذا عمد هذا الأخير إلى الانسلاخ من الأنانيّة والتمرّد الذي قام به على المنهج الربّاني ; ولاسيّما بعد بلوغ العلم مرحلة التقنيّة الحديثة «التكنولوجيا» وبزوغ نجم «نظريّة

١٥

الاحتمال» التي طغت على كلّ مراحل النهضة التجريبيّة منذ جاليلو ونيوتن إلى يومنا هذا ، النظريّة التي تُخرِج الكون عن مبدأ «الميكانيكا» إلى مبدأ وجود القوّة المسيطرة العليا الخارجة عن نطاق الكون والطبيعة .. مع الاعتراف الخجول بذلك البزوغ الذي تقابله المحبّة الرحمانيّة حيث يمكن أن يؤدّيا إلى نتائج مشتركة تزيل ذلك الالتباس والفهم الخاطئ والتردّي الحاصل على مستوى الإيمان والإنسانيّة ، الأمر الذي لاحت بوادره الخيّرة من هنا وهناك ....

فمادام المنهج الرحماني كذلك ، مادام يمتلك قوى البقاء والكفاح والإبداع والانتشار ، مادام بإمكانه احتضان المنهج الطبيعي وضمّه إلى حظيرته طبق الصفقة المذكورة أعلاه .... فهذا يعني بلوغ البشريّة مرحلةً من أشرف مراحل التفاهم والوئام التي تذيب حواجز الكراهيّة المعرفيّة وتمهّد للمحبّة الفكريّة والإنسانية المفعمة بالقيم والأخلاق والإيمان والروحانيّة ..

١٦

ممّا قيل في : الحداثة ، الأصالة ، المعاصرة ، الإبداع ،

التجدّد والتجديد ، التقليد ، العقلانيّة

الحداثة

يقول محمّد عابد الجابري : الحداثة في نظرنا لا تعني رفض التراث ولا القطيعة مع الماضي بقدر ما تعني الارتفاع بطريقة التعامل مع التراث إلى ما نسمّيه بـ «المعاصرة» أعني : مواكبة التقدّم الحاصل على الصعيد العالمي ..

صحيح أنّ من شأن الحداثة أن تبحث عن مصداقيّة اُطروحاتها في خطابها نفسه ، خطاب «المعاصرة» وليس في خطاب «الأصالة» الذي يُعنى بالدعوة إلى التمسّك بالاُصول واستلهامها ، ولكنّ الصحيح أيضاً أنّ الحداثة في الفكر العربي المعاصر لم ترتفع بعد إلى هذا المستوى ، فهي تستوحي اُطروحاتها وتطلب المصداقيّة لخطابها من الحداثة الاُوربيّة التي تتّخذها اُصولاً لها ...

وإذن ، فطريق الحداثة عندنا يجب ـ في نظرنا ـ أن ينطلق من

١٧

الانتظام النقدي في الثقافة العربيّة نفسها ; وذلك بهدف تحريك التغيير فيها من الداخل .. لذلك كانت الحداثة بهذا الاعتبار تعني أوّلاً وقبل كلّ شيء : حداثة المنهج وحداثة الرؤية ، والهدف تحرير تصوّرنا لـ «التراث» من البطانة الايديولوجيّة والوجدانيّة التي تضفي عليه داخل وعينا طابع العامّ والمطلق وتنزع عنه طابع النسبيّة والتاريخيّة ..

من هنا خصوصيّة الحداثة عندنا ، أعني دورها الخاصّ في الثقافة العربيّة المعاصرة ، الدور الذي يجعل منها بحث «حداثة عربيّة» والواقع أنّه ليست هناك حداثة مطلقة ، كلّيّة وعالميّة ، وإنّما هناك حداثات تختلف من وقت لآخر ومن مكان لآخر ..

وبعبارة اُخرى : الحداثة ظاهرة تاريخيّة ، وهي ككلّ الظواهر التاريخيّة مشروطة بظروفها ، محدودة بحدود زمنيّة ترسمها الصيرورة على خطّ التطوّر .. فهي تختلف إذن من مكان لآخر ، ومن تجربة تاريخيّة لاُخرى ..

يقول محمّد أرگون : الحداثة ليست معاصرة زمنيّة أو تزامنيّة ، وإنّما هي موقف فعلي وتوتّر روحي معيّن قد يوجد في أقدم العصور وقد لا يوجد بين معاصريك الذين تأكل معهم وتشرب يوميّاً ..

ويقول الجابري أيضاً : كلاّ ، ليست الحداثة موقفاً فرديّاً إلاّ من حيث ارتباطها بانبثاق روح النقد والإبداع داخل ثقافة ما ، باعتبار أنّ النقد

١٨

والإبداع كليهما عملٌ فردي يقوم به أفراد بوصفهم أفراداً لا بوصفهم جماعة .. ولكن مع ذلك فهي ليست انكفاء على الذات .. إنّ الحداثة هي

ـ على الرغم من الأهمّيّة التي تعطيها للفرد كقيمة في ذاته ـ ليست من أجل ذاتها ، بل هي دوماً من أجل غيرها ، من أجل عموم الثقافة التي تنبثق فيها .. الحداثة من أجل الحداثة لا معنى لها .. الحداثة رسالة ونزوع من أجل التحديث ، تحديث الذهنيّة ، تحديث المعايير العقليّة والوجدانيّة وعندما تكون الثقافة السائدة ثقافة تراثيّة فإنّ خطاب الحداثة فيها يجب أن يتّجه أوّلاً وقبل كلّ شيء إلى «التراث» بهدف إعادة قراءته وتقديم رؤية عصريّة عنه ..

واتّجاه الحداثة بخطابها ، بمنهجيّتها ورؤاها ، إلى التراث ، هو في هذه الحالة اتّجاه بالخطاب الحداثي إلى القطّاع الأوسع من المثقّفين والمتعلّمين ، بل إلى عموم الشعب ، وبذلك تؤدّي رسالتها .. أمّا التقوقع في فرديّة نرجسيّة فإنّه يؤدّي حتماً إلى غربة انتحاريّة ، إلى التهميش الذاتي ..

يقول علي حرب : إنّها ـ الحداثة ـ بحسب ما نفكّر فيها ونصنعها خلقٌ مستمرّ نتغيّر به بقدر ما نغيّر العالم ، ونصنع أنفسنا بقدر ما نصنع الأحداث ... ولأنّ الحداثة خلقٌ مستمرّ ورؤية إشكاليّة وتجربة لا تكتمل ، فهي موقف نقدي من الذات والحقيقة والفكر يتيح الخروج عن المراجع والنماذج أو كسر الاُطر والقوالب ، سعياً دوماً لبناء إمكانات جديدة للفكر والقول والعمل ..

١٩

يقول علي أحمد سعيد (أدونيس) : تولّدت الحداثة تاريخيّاً من التفاعل أو التصادم بين موقعين أو عقليّتين ، في مناخ من تغيّر الحياة ، ونشأة ظروف وأوضاع جديدة .. ومن هنا وصف عدد من مؤسّسي الحداثة الشعريّة بالخروج .. كان معظمهم إمّا من أصل غير عربي ، وإمّا أنّهم مولدون من أب عربي واُمّ غير عربيّة ..

ونشؤوا إلى ذلك في وسط اجتماعي فقير ، عبيداً أو موالي ، وهكذا اندفعوا لإثبات وجودهم في المجتمع العربي .. وفي سبيل ذلك تسلّحوا بأقوى الأسلحة العربيّة : اللغة والدين .. أمّا اللغة فأتقنوها أكثر من أهلها ، ممّا كذّب نظريّة الطبع أو الفطرة .. وأمّا الدين ففسّروه تفسيراً يلائم تطلّعاتهم في الحياة التي استجدّت ، نزعوا عنه القرشيّة العروبويّة ، وأعطوه طابعاً إنسانيّاً اُمميّاً (شعوبيّاً) ، قائلين : إنّ الإسلام يؤاخي بين البشر ويتجاوز الأجناس والعصبيّات .. هكذا وجدوا أنفسهم طبيعيّاً في موقع يناقض النظام القائم ، من جهة لأ نّه يقوم على العنصريّة أي على اللامساواة ، ويناقض من جهة ثانية التقاليد التي يتبنّاها النظام ; لأ نّها تقاليد السلطة الموروثة لا تقاليد الحياة الناشئة ، ويناقض أيضاً التقاليد الأدبيّة ; لأ نّها هي أيضاً التقاليد التي يرثها النظام ويشيعها ويرسّخها .. وتبعاً لذلك وجدوا أنفسهم طبيعيّاً في موقع من يبتكر تعبيراً يلائم الحياة الجديدة أو التي يطمحون إليها ويتطابق معها ، أي أنّهم وجدوا أنفسهم في موقع التجديد ..

٢٠