تراثنا ـ العددان [ 30 و 31 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العددان [ 30 و 31 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٠٩

سمعها واحدٌ من عوامّ الناس لنفر منها واستنكرها ـ إلى إمام الأئمّة؟!

ألا يستحون من وضعها على لسان الإمام الباقر عليه السلام؟!

من هناترى بعضهم يحرّفون الكلمة كابن الأثير حيث ذكر : «ووضع يده عليها» وكالدولابي والمحبّ الطبري حيث ذكرا في لفظ : «فأخذ عمر بذراعها» وفي آخر : «فأخذها عمر فضمّها إليه».

وبعضهم ـ كالحاكم والبيهقي ـ لم يذكروا شيئاً من ذلك ... قال المحبّ الطبري بعد حديث من ذاك القبيل : «وخرّج ابن سمان معناه ولفظه مختصراً ...» فكان ما خرّجه خلواً من ذلك (٧٨).

وبعضهم يكذّب ذلك كلّه بصراحة كسبط ابن الجوزي ـ المتوفّى سنة ٦٥٤ هجرية ـ حيث يقول :

«وذكر جدّي في كتاب المنتظم : أنّ عليّاً بعثها إلى عمر لينظرها ، وأنّ عمر كشف ساقها ولمسها بيده.

قلت : وهذا قبيح والله ، لو كانت أمةً لَما فعل بها هذا.

ثم بإجماع المسلمين لا يجوز لمس الأجنبية ، فكيف ينسب عمر إلى هذا؟!» (٧٩).

قلت :

وليس اللمس فقط! ففي رواية الخطيب التقبيل والأخذ بالساق!!

__________________

(٧٨) انظر : ذخائر العقبى : ١٦٩.

(٧٩) تذكرة خواصّ الأُمّة : ٣٢١.

٤٢١

(٥)

قد اشتمل لفظ الخبر عند ابن سعد وغيره على قول للمهاجرين : «رفّئوني فرفّئوه» (٨٠) ومعنى ذلك : «قولوا لي : بالرِفاء والبنين» (٨١).

وكان هذا من رسوم الجاهلية التي نهى عنها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم باتّفاق المسلمين : أخرج أحمد بإسناده قال : «تزوّج عقيل بن أبي طالب ، فخرج علينا فقلنا : بالرفاء والبنين فقال : مه ، لا تقولوا ذلك ، فإن النبي صلّى الله عليه [وآله] وسلّم قد نهانا عن ذلك وقال : قولوا بارك الله لك ، وبارك عليك ، وبارك لك فيها» (٨٢).

ولأجل دلالة قول عمر هذا على جهله! أو أنّه كان يريد إحياء سنن الجاهلية!! اضطُرّ القوم إلى تحريف الكلمة والتصرّف فيها ، ففي المستدرك :

«فأتى عمر المهاجرين فقال : ألا تهنّوني».

وفي سنن البيهقي :

«أتى ... فدعوا له بالبركة».

وفي تاريخ الخطيب لم ينقله أصلاً ...

__________________

(٨٠) طبقات ابن سعد ٨ / ٤٦٣ ، كنز العمال ١٣ / ٦٢٤ ، الاستيعاب وأُسد الغابة والاصابة.

(٨١) ذخائر العقبى : ١٦٩ ، ولاحظ «رفأ» في لسان العرب وغيره.

(٨٢) مسند أحمد بن حنبل ٣ / ٤٥١ ، وأُنظر : وسائل الشيعة ١٤ / ١٨٣.

٤٢٢

(٦)

في رواية غير واحد منهم أنّها ولدت له «زيداً».

وفي رواية سعد وجماعة : «ولدت له زيد بن عمر ورقيّة بنت عمر».

وفي رواية النووي في ولد عمر : «وفاطمة وزيد ، أُمهما أُمّ كلثوم ...» (٨٣).

وفي رواية ابن قتيبة في بنات عليّ : «ولدت له ولداً قد ذكرناهم» (٨٤).

(٧)

أكثر الأخبار على أنّ أُمّ كلثوم تزوّج بها بعد عمر : «عون» و «محمد» ابنا جعفر بن أبي طالب ...

ولكنّ القائلين بتزوّجهما بها بعده يقولون بأنّ الرجلين قُتلا في حرب تستر ، وهذه الحرب كانت في عهد عمر!

قال ابن عبد البرّ : «عون بن جعفر بن أبي طالب. ولد على عهد رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم. أُمّه وأُمّ أخويه عبد الله ومحمد بني جعفر بن أبي طالب : أسماء بنت عميس الخثعمية.

واستشهد عون بن جعفر وأخوه محمد بن جعفر بتستر. ولا عقب له» (٨٥).

__________________

(٨٣) تهذيب الأسماء واللغات ٢ / ١٥.

(٨٤) المعارف : ٩٢.

(٨٥) الاستيعاب : ٣ / ١٢٤٧.

٤٢٣

وقال : «محمد بن جعفر بن أبي طالب. ولد على عهد النبي صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ... هو الذي تزوّج أُمّ كلثوم بنت عليّ بن أبي طالب بعد موت عمر ابن الخطّاب ...

واستشهد محمد بن جعفر بتستر» (٨٦).

وقال ابن حجر : «استشهد عون بن جعفر في تستر ، وذلك في خلافة عمر ، وما له عقب» (٨٧).

وكذا قال ابن الأثير (٨٨).

وأمّا أنّ تلك الحرب كانت في عهد عمر فذاك ما نصّ عليه المؤرّخون (٨٩) وصرّح به ابن حجر في عبارته السالفة. فانظ إلى تناقضات القوم وتعجّب!!

(٨)

واختلفت رواياتهم ... فابن سعد والدارقطني ـ كما في الإِصابة ـ يذكران أنّ عوناً مات عنها ، فتزوّجها أخوه محمد ، ثم مات عنها محمد فتزوّجها عبدالله ، فروى ابن سعد أنّها قالت : إنّي لأستحي من أسماء بنت عميس ، إنّ ابنيها ماتا عندي ، وإنّي لأتخوف على هذا الثالث. فهلكت عنده» (٩٠).

__________________

(٨٦) الاستيعاب : ٣ / ١٣٦٧.

(٨٧) الإصابة ٣ / ٤٤.

(٨٨) أُسد الغابة ٤ / ١٥٧.

(٨٩) تاريخ الطبري ٤ / ٢١٣ ، الكامل في التاريخ ٢ / ٥٤٦ وغيرهما.

(٩٠) الطبقات الكبرى ٨ / ٤٦٢.

٤٢٤

لكن ابن قتيبة يذكر : أنّه لَمّا قتل عمر تزوّجها محمد بن جعفر فمات عنها ، ثم تزوّجها عون بن جعفر ، فماتت عنده» (٩١).

فتراه يذكر تزوّج محمد بن جعفر بها قبل عون ، وموتها عند عون ، ولا يذكر عبدالله ...

وابن عبد البرّ ـ وإنْ لم يتعرّض بترجمتها لزواجها بعد عمر أصلاً ، ولا لتزوّج عون بها بترجمته ـ يذكر بترجمة محمد بن جعفر : «محمد بن جعفر بن أبي طالب هذا هو الذي تزوّج أُمّ كلثوم بنت عليّ بن أبي طالب بعد موت عمر ابن الخطّاب» (٩٢).

(٩)

وعبدالله بن جعفر ... كان زوج العقيلة زينب بنت أمير المؤمنين عليه السلام ، وكانت تحته حتى وفاتها بعد واقعة الطفّ :

قال ابن سعد : «زينب بنت عليّ بن أبي طالب ... تزوّجها عبد الله بن جعفر ابن أبي طالب بن عبد المطّلب ، فولدت له عليّاً وعوناً الأكبر وعباساً ومحمداً وأُمّ كلثوم.

أخبرنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك ، عن ابن أبي ذئب ، قال : حدّثني عبد الرحمن بن مهران : أنّ عبد الله بن جعفر بن أبي طالب تزوّج زينب بنت عليّ ، وتزوّج معها امرأة عليّ ليلى بنت مسعود ، فكانتا تحته جميعاً (٩٣).

__________________

(٩١) المعارف : ٩٢.

(٩٢) الاستيعاب ٣ / ١٣٦٧.

(٩٣) الطبقات الكبرى ٨ / ٤٦٥.

٤٢٥

وقال النووي بترجمة عبدالله بعد ذكر أسماء أولاده : «أُمهم زينب بنت عليّ ابن أبي طالب من فاطمة بنت رسول الله» (٩٤).

وقال ابن حجر : «زينب بنت عليّ بن أبي طالب بن عبدالمطّلب الهاشمية ، سبطة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم. أُمّها فاطمة.

قال ابن الأثير : إنّها ولدت في حياة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وكانت عاقلة لبنت خولة ، زوّجها أبوها ابن أخيه عبدالله بن جعفر ، فولدت له أولاداً ، وكانت مع أخيها لَمّا قُتل ، فحملت إلى دمشق ، وحضرت عند يزيد بن معاوية ، وكلامها ليزيد بن معاوية حين طلب الشامي أُختها فاطمة مشهور ، يدلّ على عقل وقوّة جَنان» (٩٥).

وعلى هذا ... فلو كانت أُمّ كلثوم المتوفّاة على عهد معاوية هي أُمّ كلثوم بنت أمير المؤمنين عليه السلام ، وأنّها كانت زوجة عبدالله بعد أخويه ... كما تقول تلك الأخبار ... كان معنى ذلك جمع عبد الله بن جعفر بين الأُختين ... وهذا ممّا لا يجوز وقوعه ، ولا يجوز التفوّه به ... ولذا قال ابن سعد : «فخلف عليها أخوه عبدالله بن جعفر بن أبي طالب بعد أُختها زينب بنت عليّ بن أبي طالب».

(١٠)

واختلفت أخبارهم في موتها والصلاة عليها ... حتى الواحد منهم اختلفت أخباره! فابن سعد يروي عن الشعبي وعبدالله البهيّ في الصلاة عليها وعلى ولدها

__________________

(٩٤) تهذيب الأسماء واللغات ١ / ٢٦٤.

(٩٥) الإصابة ٤ / ٣٢١.

٤٢٦

زيد : «صلّى عليهما ابن عمر» ويروي عن عمّار بن أبي عمّار ونافع : «صلّى عليهما سعيد بن العاص» وفي رواية بعض المؤرّخين عن عمّار المذكور : «سعد ابن أبي وقاص» (٩٦).

ثم أيّاً من كان المصلّي ... فالأخبار دالّة على وفاتها في عهد معاوية ، للتصريح فيها بصلاة الحسن والحسين خلف الإمام ... لكن الثابت في التاريخ أنّ أُمّ كلثوم بنت أمير المؤمنين شهدت واقعة الطفّ ـ مع أُختها زينب ـ وخطبت الخطبة المعروفة في الكوفة المذكورة في الكتب ، ذكرها ابن طيفور ـ المتوفّى سنة ٢٨٠ هجرية ـ في كتابه «بلاغات النساء» وأشار إليها ابن الأثير وغيره من كبار العلماء والمحدّثين في لفظه «فرث» من كتبهم كالنهاية ولسان العرب وتاج العروس ...

ولعلّه لذا جاء في رواية أبي داود عن عمّار : «أنّه شهد جنازة أُمّ كلثوم وابنها ، فجعل الغلام ممّا يلي الإمام ، فأنكرت ذلك ، وفي القوم ابن عباس وأبو سعيد الخدري وأبو قتادة وأبو هريرة. قالوا : هذه السُنّة» (٩٧).

فروى الخبر بلا ذكر للإمام ، ولا أنّ أُمّ كلثوم هذه من هي؟ وابنها من هو؟

وفي رواية النسائي عن عمّار : «حضرت جنازة صبيّ وامرأة ، فقدّم الصبي ممّا يلي الإمام ، ووضعت المرأة وراءه ، وصُلّي عليهما. وفي القوم أبو سعيد الخدري وابن عبّاس وأبو قتادة وأبو هريرة ـ رضي الله عنهم ـ فسألتهم عن ذلك. فقالوا : السُنّة» (٩٨).

فروى نفس الخبر ... بلا ذكر للإمام ، ولا اسم الميّتين ، وهل كان بين المرأة والصبي نسبة أو لا؟

__________________

(٩٦) تاريخ الخميس ٢ / ٢٤٩.

(٩٧) سنن أبي داود ٢ / ٦٦.

(٩٨) سنن النسائي ٤ / ٧١.

٤٢٧

حصيلة البحث

لقد استعرضنا أسانيد خبر تزويج أمير المؤمنين عليه السلام ابنته من عمر ابن الخطّاب ... والأخبار الأُخرى المتعلقة بكريمة أهل البيت الأطهار الأطياب ... فلم نجد فيها سنداً يجوز الاحتجاج به والركون إليه.

ثمّ حقّقنا نصوص الأخبار ومتونها ، ودقّقنا النظر في كلمات القوم وأقوالهم ... فوجدناها متضاربةً متكاذبةً ... فكانت ناحية الدلالة دليلاً آخر على أنْ لا أصل للقضيّة.

وأغلب الظنّ ... أنّ القوم لَمّا رأوا أن عمر بن الخطّاب من رواة حديث : «كلّ سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلاّ سببي ونسبي» الدالّ على فضيلة ومنقبة لأهل البيت وعليّ عليه السلام خاصة ، حتى أنّ الحاكم أورده في فضائل عليّ كما قال المنّاوي (٩٩). عمدوا إلى وضع قصة خطبة عمر ابنة عليّ وربطوا الحديث المذكور بها ....

وممّا يشهد بما ذكرنا أنّ غير واحد من كبار محدّثي القوم يروون عنه الحديث مجردّاً عن تلك القصّة ، كما يروونه عن غيره :

قال المتقي : «كلّ سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلاّ سببي ونسبي. طب ك هق عن عمر. طب عن ابن عباس وعن المسور.

كلّ نسب وصهر ينقطع يوم القيامة إلاّ نسبي وصهري. ابن عساكر عن ابن عمر» (١٠٠).

__________________

(٩٩) فيض القدير ٥ / ٢٠.

(١٠٠) كنز العمّال ١١ / ٤٠٩.

٤٢٨

وقال ابن المغازلي : «قوله عليه السلام : كلّ سبب ونسب منقطع يوم القيامة. الحديث» ثم رواه بأسناده عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس عن عمر. وبإسناده عن عمرو بن دينار عن سالم عن ابن عمر. وبإسناده عن الثوري عن الإمام جعفر بن محمد ...» (١٠١).

ونظير هذا حديث : «فاطمة بضعة مني ...» الوارد عن غير واحد من الصحابة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في أكثر من موضع ، فإنَّ بعضهم لَمّا رأى ما في هذا الحديث الثابت المخرَّج في الصحاح من دلالات في أبعاد مختلفة ... عمد إلى وضع قصّة خطبة عليّ ابنة أبي جهل وربط الحديث بها ... (١٠٢).

ثم إنّ هذه خِطبة ... وتلك خطبة ...

لكنّ خطبة عمر كانت لابنة عليّ عليه السلام ... وخطبة عليّ كانت لابنة أبي جهل!!.

وخطبة عمر كانت مصاهرة لفاطمة الزهراء ... وخطبة عليّ كانت إيذاءً لفاطمة الزهراء!!.

وخطبة عمر كانت لما سمعه من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من قوله : كلّ سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلاّ سببي ونسبي ... وخطبة عليّ كانت مخالفة للنبي ومقاطعةٌ له ... حتى طالبه بطلاق ابنته!!.

وعلى الجملة ... فقد عرفت حال أخبار القصّة سنداً ... فرواتها بين «مولى عمر» و «قاضي الزبير» و «قاتل عمّار» و «علماء الدولة الأُموية» ورجال أسانيدها بين «كذّاب» و «وضّاع» و «ضعيف» و «مدلّس» ...

__________________ ـ

(١٠١) مناقب أمير المؤمنين : ١١٠.

(١٠٢) لاحظ رسالتنا في هذا الموضوع.

٤٢٩

فهذا حال رواتها وأسانيدها ... وأغلب الظنّ كون السبب في وضعها وحكايتها ما ذكرناه ... لا سيّما ... وبعض الرواة مشترك في القصّتين ...

فإنْ قيل :

وهل بعد ذلك كلّه من وجه احتمال توجّه به أخبار القصّة على فرض صحّتها سنداً ، لا سيّما والقصة مشهورة بين العامّة ، وبها روايات عن طريق الخاصّة وإنْ كانت شاذّة؟

قلت :

قد اشتملت الأخبار المذكورة على ما لا يجوز تصديقه بحال من الأحوال :

كالّذي رووه من إرسال الإمام عليه السلام إيّاه ببرد «لينظر إليها» وأنّه أمر بها «فزيّنت» أو «فصنعت» ونحو ذلك. والدليل على ذلك واضح.

ومن وفاتها على عهد معاوية ... بدليل ثبوت وجودها في واقعة الطفّ ومواقفها المشهودة فيها :

وعليه ، فالتي ماتت وولدها زيد معاً في يوم واحد ... وصلّى عليهما فلان أو فلان ... هي زوجة أُخرى من زوجات عمر ، سواء كان اسمها أُمّ كلثوم ـ فقد كان غير واحدة من زوجاته اسمها أو كنيتها أُمّ كلثوم ـ أو لم يكن.

ويؤكّد هذا الاحتمال ـ على فرض صحّة الأسانيد ـ روايات أبي داود والنسائي وغيرهما ...

وعلى هذا فلا مستند لِما قالوا من أنّ أُمّ كلثوم بنت الإمام عليه السلام ولدت لعمر «زيداً» ... إذ ليس إلاّ الأخبار المذكورة ، وقد عرفت حالها ...

كما أنّه لا مستند لِما ذكروا من أنّها ولدت له بنتاً ... مع اختلافهم فيها وفي

٤٣٠

اسمها ...

ويؤكّد ذلك ما ذكره غير واحد من علماء الإسلام من أنّ عمر مات عنها صغيرة!

منهم الشيخ أبو محمد النوبختي من قدماء العلماء الإماميّة حيث قال في كتاب الإمامة له : «إنّ أُمّ كلثوم كانت صغيرةً ، ومات عمر قبل أنْ يدخل بها» (١٠٣).

ومنهم : الشيخ أبو عبدالله محمد بن عبد الباقي الزرقاني المالكي ـ المتوفّى سنة ١١٢٢ هـ ـ (١٠٤) ... فإنّه قال في معنى قرابة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم :

«والمراد بالقرابة من ينتسب إلى جدّه الأقرب وهو عبد المطلب لقوله : من صنع إلى أحد من ولد عبد المطّلب يداً فلم يكافئه بها في الدنيا فعليَّ مكافاته غداً إذا لقيني. رواه الطبراني في الأوسط عن عثمان ـ رضي الله عنه ـ.

فخرج بذلك من انتسب إلى من فوق عبد المطّلب ، كأولاد عبد مناف ، أو من يساويه كأولاد هاشم إخوة عبد المطّلب ، أو انتسب له وا صحبة له ولا رؤية. ولعلّه ليس بمراد ممّن صحب النبي منهم أو رآه من ذكر أو أُنثى. وهو عليّ وأولاد الحسن والحسين ومُحَسِّن ـ بميم مضمومة فحاء مفتوحة فسين مكسورة مشددة مهملتين ـ وأُمّ كلثوم زوجة عمر بن الخطّاب ، ومات عنها قبل بلوغها ، فتزوّجها عون بن جعفر فمات عنها ، فتزوّج بأخيه محمد ثم مات ، فتزوّجها أخوهما عبدالله ثم ماتت عنده. ولم تلد لواحد من الثلاثة سوى لمحمد ابنة ماتت صغيرةً. فلا عقب لأُمّ كلثوم ، كما قدم المصنّف في المقصد الثاني» (١٠٥).

__________________

(١٠٣) بحار الأنوار ٤٢ / ٩١.

(١٠٤) توجد ترجمته في : سلك الدرر في أعلام القرن الثاني عشر ٤ / ٣٢.

(١٠٥) شرح المواهب اللدنّيّة ـ مبحث قرابة النبي.

٤٣١

وقد يشهد به على فرض ثبوت أصل التزويج إصرار عمر على أنّ الغرض من خطبته أن يكون صهراً للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ... وقوله في بعض الألفاظ : «أُحبّ أن يكون عندي عضو من أعضاء رسول الله» وتأكيده في بعض آخر : «إنّي لم أُرد الباه» ...

بقي الكلام فيمَن تزوّجها :

قد عرفت أنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان قد حبس بناته لأبناء أخيه جعفر ، بل إنّ ذلك كان بأمر من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقد «نظر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى أولاد عليّ وجعفر عليهما السلام فقال : بناتنا لبنينا وبنونا لبناتنا» (١٠٦).

وفي خصوص أُمّ كلثوم جاء في حديث : «خطب عمر إلى عليّ ابنته أُمّ كلثوم فاعتلّ عليٌّ بصغرها وقال : أعددتها لابن أخي. يعني جعفراً» (١٠٧) فلم يعينّ الابن ... لكنّ الأمر يدور بين «عون» و «محمد» لأنّ «عبدالله» كان أكبرهم سنّاً وقد زوّجه ابنته «زينب» كما تقدّم.

فأمّا «عون» فلم أجد خلافاً بين عليماء أهل السُنّة ـ والكلام كلّه يدور على أخبارهم وأقوالهم ـ في أنّه قتل يوم تستر على عهد عمر ، والمفروض ـ بحسب تلك الأخبار على فرض صحّتها ـ كونها في عقد عمر.

أمّا «محمد» فقال ابن حجر : «ذكر أبو عمر عن الواقدي أنّه يكنّى أبا القاسم ، وأنّه تزوّج أُمّ كلثوم بنت عليّ بعد عمر. قال : واستشهد بتستر.

وقيل : إنّه عاش إلى أنْ شهد صفّين مع عليّ. قال الدارقطني في كتاب

__________________

(١٠٦) من لا يحضره الفقيه ٣ / ٣٩٣ باب الأكفاء.

(١٠٧) ذخائر العقبى : ١٦٩ ، كنز العمّال ١٣ / ٦٢٤.

٤٣٢

الإخوة : يقال : إنّه قتل بصفّين ، اعترك هو وعبيدالله بن عمر بن الخطّاب فقتل كلّ منهما الآخر.

وذكر المرزباني في معجم الشعراء : أنّه كان مع أخيه محمد بن أبي بكر بمصر ، فلمّا قتل اختفى محمد بن جعفر ، فدلَّ عليه رجل من عك ثم من غافق ، فهرب إلى فلسطين ، وجاء إلى رجل من أخواله من خثعم ، فمنعه من معاوية ، فقال في ذلك شعراً.

وهذا محقّق يردّ قول الواقدي أنّه استشهد بتستر» (١٠٨).

وعلى هذا يكون هو الذي تزوّج أُمّ كلثوم بعد موت عمر ـ على الفرض المذكور ـ وعليه نصّ ابن عبد البرّ كما تقدّم.

أمّا «عبدالله» فمن الممكن أن يكون قد تزوّج بها بعد زوجها وبعد موت «زينب» زوجته ، لأنّه بقي حيّاً إلى سنة ثمانين وهو ابن تسعين سنة كما اختاره ابن عبد البرّ (١٠٩).

* * *

سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون ، وسلام على المرسلين ، والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمد وآله الطاهرين.

* * *

__________________

(١٠٨) الإصابة ٣ / ٣٧٢.

(١٠٩) الاستيعاب ٣ / ٨٨١.

٤٣٣

نظرية القضاء

عند الشيخ المفيد

محمد جواد الطريحي

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تعالى في كتابه المجيد : (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ الله وَلاَ تَكُن لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً).

عندما ندرك الغاية من وجود القاعدة القانونية لتنظيم الحياة الاجتماعية ، فانه لا يكفي وجودها فحسب ، بل لا بد من فرض احترامها ، ووجوب الزامها حين تدعو الحاجة إلى التطبيق ، وهنا تكون للقضاء ـ في حياة أية أمة ـ أهمية خاصة بسبب انه يمثل الضمانة الاكيدة لتطبيق القاعدة القانونية ، فالقضاء يمثل القانون على كماله حينما يُبرز أهم خصائص القاعدة القانونية وهي صفة الالزام.

ولمّا كانت الشريعة الاسلامية قد جاءت لتهذب من طبيعة الانسان ، وتحدّ من انانيته ، وتجعل منه عضواً نافعاً في المجتمع ، لذلك فقد كانت الاحكام ملزمة رادعة تقوم بفرضها سلطة مختصة كانت في غضون صدر الاسلام غير مستقلة عن شخصية السلطة الزمنية المتمثلة اساساً في يد الرسول الاكرم محمّد صلى الله عليه وآله وسلّم ثم تطورت لتعيش استقلالها في ظل

٤٣٤

توسع الرقعة الاسلامية ، وحاجة المجتمع ، ولتعكس أهمية الحكم الشرعي ومداه في مرحلة تطبيقه ونفاده في صلب الواقع الاجتماعي ، ولتمثل جزءً هاماً من سياسة الدولة في ظل الاسلام.

وعند استقراء المسيرة القضائية للاسلام ، وما تجد منها على ساحة الواقع العملي من صيغ واحكام وتقاليد مقدسة في ضمير المسلم ، نجد ان جيلاً من نباة الفكر الخلاق ، وقادة العقل الاسلامي كان لهم الفضل الكبير في ثمرات افكارهم بما أسسوه من قواعد الفقه ، وتراث الشريعة ، وعند دراستنا لهذا التراث الجليل نكتشف على صعيد الفكر الإمامي ، صاحب الذكرى شيخنا المفيد (قدّس سرّه) الذي احتل مركز الصدارة. في شخصية موسوعية تميزت بالالمعية واتصفت بالدراسات الموضوعية الرائعة في العقيدة والفقه ونواحي المعرفة الاسلامية ومن أجل اثارة ما أفاده هذا الفقيه العظيم في الفكر القانوني الاسلامي جاءت دراستنا للنظرية القضائية بخصوص ما أورده من فقه القضاء في كتابه «المقنعة» الذي يمثل من جانب بحثنا مدونة قضائية رائعة في الفقه الاسلامي على منهج أهل البيت الطاهر عليهم السلام.

والقضاء باعتباره : عمل رسالي باركته الرسل والانبياء ، ولاهميته في تجسيد صورة القانون في اتم وجه فقد مارسه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلّم بنفسه ، وقد امتاز القضاء النبوي بصفتين :

أحدهما : تشريعية ، من حيث اعتبار ما قرره الرسول تشريعاً ملزماً بذاته لكونه جزء من السنة النبوية التي تمثل المصدر الثاني من مصادر التشريع الاسلامي.

الثانية : صفة قضائية محضة ، من خلال تطبيق الاحكام على الوقائع المعروضة ، والمتنازع عليها بين الخصوم ، وهنا قرر النبي قواعد المرافعات واصول المحاكمات وسيرها في الواقع العملي الذي دفع بالاحكام الى حيز التنفيذ. ومن مظاهر القضاء النبوي : الحكم في الحقوق بالظاهر ، وباليمين عند

٤٣٥

عدم البينة ، ومن طرق الاثبات عنده : الاقرار ، والبينة ، واليمين ، والقسامة ، والقرعة ومن المأثور عنه. البينة على من ادعى ، واليمين على من انكر.

وبعد ان دعت الحاجة أذِن الرسول في القضاء لبعض اصحابه بحضرته ، ومن ثم تولي هذا المنصب الخطير ، كما في ارساله للامام علي عليه السلام الى قضاء اليمن وهو شاب حين ضرب على صدره قائلاً : اللهم اهد قلبه وسدد لسانه ، ولأهمية دور الامام علي عليه السلام في بناء النظرية الاسلامية للقضاء علماً وعملاً ولتسديد قضائه بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلّم : «أقضاكم عليّ» فقد فصلّت هذا الجانب «لأقضى الصحابة» مؤلفات عديدة .. ثم ان القضاء الاسلامي مرّ بمراحل متطورة ، كان لمدرسة اهل البيت عليهم السلام الأثر الواضح في التفكير القضائي ، ولمّا اجتمعت الكثير من الوقائع والاحكام والقضايا ، وتوافرت الفرصة ابتدأ عصر التدوين الفقهي الذي ظهر في بدايته دور الشيخ المفيد (رضوان الله عليه) حين قام بتسجيل روائع الفكر القانوني للشريعة ، ومن هذا المنطلق تعتبر دراسة اتجاهاته الفكرية مدرسة رائدة في سبيل النهوض بحركة التقنين للشريعة الاسلامية خاصة فيما امتازت من عطاء مدرسة الاجتهاد ، ومن مزايا هذه الدراسة عند الشيخ المفيد قيامه بمهمة تدوين فقه يصار الى معرفة ما للبيئة وملابساتها من اثر على تطور الافكار الفقهية وتقنين ما استقر من المبادىء في احكام القضاء وقد توافرت في شخصية المفيد الموسوعية اهم عناصر النجاح والتطلع لذلك وجدناه يُعدّ العدة لكتابة مدونة قضائية فاقت في مضامينها طموحات عصره.

وللاحاطة بالخطوط العامة لنظرية القضاء عند الشيخ المفيد كان لا بد من منهجة البحث وفق اطارين : موضوي وشكلي.

٤٣٦

أولاً : الإِطار الموضوعي :

ويتمثل ما امتاز به الفقه الاسلامي من ايثار النزعة الموضوعية على المعايير الذاتية بما يحقق ايجاد نوع من التعادل بين التطور والاستقرار ، وتبرز هذه الموضوعية في نظرية المفيد القضائية بعدة وجوه ندرسها كالاتي : الشمول ، النزعة الاخلاقية ، سمو روح التشريع ، الاستقرار.

١ ـ الشمول : ومن مظاهره قيام الشيخ المفيد لوضع مفهوم واضح للقضاء ، فهو بعد ان يستقرىء الآيات القرآنية يؤكد على :

أ ـ الالتزام بالاستشهاد بالنصّ الشرعي.

ب ـ تقرير مبدأ نفي التسرع بالاحكام.

ج ـ وجوب مطابقة الحكم الشرعي القضائي لمقرارات الشريعة وتوجهاتها.

د ـ تقرير نظرية العدالة في الاحكام.

هـ ـ وضع ضوابط لعقوبة التأديب للقضاء عند بروز الجانب السلبي.

ثم ان اختياره لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلّم «من جعل قاضياً فقد ذبح بغير سكين» فيه من المدى الذي تعنيه عبارة «من جعل قاضياً» مقابل «الذبح المعنوي» ، وما في معنى «الجعل والذبح» ومن خلال هذه المنهجية يبدو المفيد في اغناءه المفهوم بعد استنباطه من مصادر التشريع الاسلامي وهو بكل ذلك يقرر المفهوم الإمامي لاثباته ما ورد عن امير المؤمنين عليه السلام وتقسيمه الرباعي للقضاة عند بيانه المراد من مفهوم القاضي ومصداقيته بكونه «القاضي الحق» وذلك مستمد من قوله عليه السلام «وقاضِ قضى بالحق وهو يعلم انه حق فهو في الجنة».

ومن جوانب الشمول في موضوعية المنهج عند المفيد استعراضه لادب القضاء ، ومايجب فعله عند استقباله المتخاصمين ثم بما يمضي به من تقرير

٤٣٧

اصول المرافعات المدنية في :

١ ـ هيئة الجلسة من حيث موقع الخـصوم امامه.

٢ ـ خصائص الترافع وطريقة المحاورة بين الخصوم.

٣ ـ سير المرافعات.

٤ ـ توجيه الادلة وطريقة تقيميها من قبل القاضي.

٥ ـ عدم اغفال الاشارة الى بعض الحالات النادرة في طريقة معالجة خصومة الأصم أو الاخرس.

٢ ـ النزعة الاخلاقية : وهي الصفة اللازمة التشريع الاسلامي في خصائصه وتفاصيل احكامه ومن خلال التزام الشيخ المفيد بمنهجه ـ كونه الفقيه المسلم ـ نجده يؤكد على اثبات النزعة الاخلاقية سواء منها ما يظهر في تقريره للمؤهلات الواجب توافرها في شخصية القاضي ، او ما يدخل في باب قانون الاثبات فيما يتطرق اليه من احكام البينات وعدالة الشهود ، واهمية النظر الى الورع ودرجته في تقييم الشخصية واثر ذلك على نتيجة الحكم في الدعوى ، وهكذا في باب الايمان والاستحلاف عند اشارته لصيغة اليمين المغلظة ورعاية اهل الكتاب بما يرون في دينهم من الاستحلاف او ما يخص حفظ الكيان الاسري ، وصيانة كرامة الأنسان المستحلف بعدم التعسف ضده باداء اليمين المغلظة واعتبار اليمين البسيطة كافية لبلوغ الحقيقة في الخصومة القضائية ، وتوسيع صلاحية القاضي ومنحه الحرية فيما يراه مناسباً لكل قضية امامه وشأنها حسب ظروفها مع التغليظ او التشديد أو التسهيل ، وكفالة الجانب النفسي واثره في النفس المؤمنة ، وقد اكد الشيخ المفيد على ما في احكام الشريعة من درجة التناسب في تطبيق الحكم القضائي مكانياً وزمانياً ، حين يلجأ الجاني الى الحرم او يلجأ عند احد مشاهد ائمة الهدى عليهم السلام ، او ما يشير اليه في الظرف الزماني الذي يقام فيه الحد كما في البرد الشديد ، او الحر وقت الهواجر وفي هذا ما يدلل على مبدأ اصلاح المجرم وليس الانتقام منه وهو ما بلغته

٤٣٨

القوانين الجنائية المعاصر من مبدأ العقوبة اصلاح.

٣ ـ سموّ روح التشريع وكـماله : فحيث ان الاسلام في تشريعاته لم يأت لغرض الانتقام ، ولا لقلب العادات والاعراف الاّ بمقدار ما يطهر النفوس ، ويصلح لاعداد المسلم لذلك كانت جوانب السمو في روحية التشريع كبيرة بحيث ظلت قواعد الشريعة ونصوصها اسمى من مستوى الناس ، ومن جوانب سمو الشريعة نظرية العدل والاحسان ، ومبدأ الموعظة الحسنة ، واداء الامانات ، ونظرية العدالة بشكل عام ، ونظرية تقييد سلطة القاضي فيما افاض به الشيخ المفيد عند تقريره وضع حدود لصلاحيات القاضي ، وتحديد مسؤولية القاضي عن اخطائه واعتدائه ، واقرار عزل القاضي وتنحيته ، وفيما يبرز هذا التقييد هو ان القاضي يستمد سلطته من الشرعية الممنوحة له بناء على اسس قويمة حددها الشارع المقدس. وعند دراسة ما طرحه الشيخ (رضوان الله عليه) اثناء تبويبه مسائل القضاء ندرك مدى الكمال الذي بلغه فقه القضاء.

٤ ـ الاستقرار : فان الشريعة في احكامها القضائية قد استندت على اسس قديمة ثابتة من حيث التوجه الايماني العام ، متطورة في تفاعلاتها مع مستجدات الحوادث والقضايا بحيث يصح ان تتصف بطابع المرونة والديناميكية ولذلك وجدنا الشيخ في منهج نظريته القضائية يتحرك ضمن مساحة واسعة بحسب ما يعنيه مبدأ الثوابت والمتغيرات وفق منظور اسلامي يتجسد في قول الإمام عليّ عليه السلام «مجاري الأُمور على أيدي العلماء بالله الأُمناء على حلاله وحرامه» وهكذا كانت طبيعة الأحكام التي طرقها الشيخ في مدونته القضائية منفتحة في اطارها الداخلي للتطور الذي تفرضه طبيعة الاشياء مستفيداً بعملية استنباطه من ادلة شرعية يفترق الفقهاء في مدى حجيتها ولكنه اعتبرها ادوات فقهية جليلة في مواجهة التطور الاجتماعي. ومن حيث ما ثبت للفقه كسلطة تشريعية في ذاته فقد كان القضاء الاسلامي المصدر الرسمي للقاعدة القانونية ، ومن ذلك وجدنا الفكرة عند الشيخ المفيد تناسب في عرض الفقرة

٤٣٩

الحكمية باسلوب تفصيلي على حساب مبدأ الجزئيات المحكمة مع بعضها باتجاه عام قائم على قاعدة شرعية محددة.

ثانياً ـ الإطار الشكلي :

حيث إنّ الشيخ المفيد قد امتاز في بحثه القضائي بما حدده في التبويب الفقهي واستيعابه في لغة الفقهاء وهو ما يدخل في المنهج ، وفي اللغة والاسلوب ، وفي الصياغة التي اتقنها في طرح الاحكام القضائية.

١ ـ المنهج : حيث احتاط الشيخ المفيد (رضوان الله عليه) كثيراً في تقرير الحكم الشرعي وما ينسجم مع روحية التشريع الاسلامي ملتزماً بما يعبر عن ارادة المشرع الملائمة لسنة المعصومين عليهم السلام وقد حرص على الموازنة في الاحكام ، واثبت بذلك واقعية الفقه الاسلامي وذاتيته وامتداد النظرة الموضوعية في افق الحكم الشرعي. ومما امتاز به منهجه هو التسلسل المنطقي للمسائل المطروحة تحت باب واحد. وقد وزع الاحكام القضائية تحت عنوان كتب حددها ثم فصّل تحت هذا العنوان ابواباً. ولم يحاول ان يتطرق كثيراً الى المصطلحات الفقهية الاّ بقدر ما يقتضيه طابع البحث ايماناً منه بجدوى المنهج الاستعراضي للاحكام التي لا بد وان تكون قريبة من تذوق الشريحة الاجتماعية.

٢ ـ اللغة : فقد عرف الشيخ بالبيان الرائق ، والكلمات المفهومة فلم يتكلف التعبير ولم يختار العبارات المعقدة ، واتصفت لغته برصانة الاسلوب ، وايفاء الغرض المطلوب من الحكم وهي اللغة التي تدخل في باب السهل الممتنع وهو ما تطورت اليه الكتابة القانونية في اساليبها الحديثة وما في ذلك من اثر على حسن سير العدالة ، وما يضمن الحكمة من الفقرات الحكمية وما يوحيه القرار الحاسم من طمأنينة المتخاصمين امام القضاء ، ومما اخفاه الشيخ على هذه اللغة ابراز الطابع العقائدي عليها بما استدل فيه من الآيات والاخبار

٤٤٠