العدالة الإجتماعية وضوابط توزيع الثّروة في الإسلام

الدكتور زهير الاعرجي

العدالة الإجتماعية وضوابط توزيع الثّروة في الإسلام

المؤلف:

الدكتور زهير الاعرجي


الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٣٣

١
٢

٣
٤

بسم الله الرّحمنِ الرّحيمِ

( وَلَن تَرضى عَنكَ اليَهودُ وَلا النَّصارى حَتّى تتَّبِعَ مِلَّتَهُم قُل إنَّ هُدَى الله هُوَ الهُدى وَلَئن اتَّبَعتَ أَهواءَهُـم بَعدَ الّذي جاءَكَ مِنَ العِلمِ ما لَكَ مِنَ الله من وَّليٍّ وَّلا نَصيرٍ ) البقرة : ١٢٠.

٥
٦

المقدمـة

لا شك ان قضية العدالة الاجتماعية ترتبط بشكل او بآخر بصراع المصالح الفردية في النظام الاجتماعي ؛ بمعنى ان التنافس الشخصي للحصول على الثروات الاجتماعية والطبيعية هو الذي يؤدي الى إثارة قضية العدالة الاجتماعية على بساط البحث.

ولما كانت العدالة الاقتصادية جزء لا يتجزأ من الصورة الكلية للعدالة الحقوقية ، كان لا بد من توزيع الثروة الاجتماعية توزيعاً يرتبط بالحقوق الواجبة بالاصل ، ولا يرتبط بالنشاطات الخيرية او الكرم العرفي او الصدقات المستحبة المخيرة. وبتعبير آخر فان تصميم حق ثابت واجب للفقراء في اموال الاغنياء انما يساهم ـ بشكل فعال ـ في اعادة توزيع الثروة الاجتماعية التي خلقها من البداية التفاضل التكويني او الاجتماعي بين الافراد. وهذا الاصل هو جوهر فكرة الرسالة الاسلامية حول (العدالة الاجتماعية) وامكانية تطبيقها في النظام الاجتماعي الاسلامي. فالصدقة المستحبة او الهدية او الانفاق المستحب ليست حقاً (مع تأكيد الاسلام المستمر عليها) ، الا ان الزكاة الواجبة والخمس وبقية الفرائض المالية في الاسلام تعتبر حقوقاً واجبة يلزم الفرد المكلف باخراجها على الصعيدين الشرعي والاخلاقي ، لانها لا تعتبر جزء من امواله الشخصية ، بل هي حقاً من حقوق الآخرين. وهذا الاطار الاخلاقي في اعادة توزيع الثروة الاجتماعية يعطي المبدع النشيط نحو اربعة اخماس من ثمار نشاطه

٧

الاقتصادي ومكافآته المالية ويحجز اكثر من خمس تلك الثروة للفقراء.

ولا شك ان التبادل الاجتماعي الاخلاقي بين الافراد ـ وهو التبادل الناتج عن ارجاع المنفعة التي يحصل عليها الفرد بطريق ما ـ يرتبط اصلاً بقضية (العدالة الاجتماعية). فالعدالة الاجتماعية تعني ايضاً بان الفرد انما يأخذ او يقدم للآخرين بما لا يتجاوز حدود المنفعة الشخصية لبقية الافراد. ولذلك كان الاجر العادل ، والسعر المناسب ، والتبادل المتوازن بين الافراد من اهم عناصر تحريك الثروة الاجتماعية في النظام الاجتماعي. على عكس الاحتكار ، والاستثمار الظالم ، والاجحاف باجور العمال ، وبخس حاجات الافراد المعروضة للبيع ؛ فهذه العوامل الاخيرة كلها تسبب ارباكاً للسوق التجاري في المجتمع والدولة. الا ان الحاجات المصنّعة تقيّم وتسعّر من قَبِل العرف الاجتماعي او النظام الاقتصادي نسبةً الى المهارة التي اعتصرت فيها ، والمسؤولية التي وضعت من اجل تصنيعها. ولذلك فان الاجر العادل ينبغي ان تناغم مع فكرة الوقت المصروف على انجاز تلك المهمة ، مضافاً اليها مهارة المنتج ومسؤولية المالك. والأجر ، والمادة المصنعة لهما علاقة مباشرة بموضوع سد حاجات الناس المختلفة.

بيد ان فكرة (العدالة الاجتماعية) وملابساتها العقائدية هي التي اججت الصراع الفكري بين المدارس الاجتماعية الاوربية كنظرية (الصراع الاجتماعي) ، ونظرية (توماس هوبس) ، ونظرية (القانون الوضعي) لـ (كروتيوس). فنظرية الصراع الاجتماعي اعتبرت ان (العدالة الاجتماعية) انما تعتمد على صراع المصالح الاقتصادية في المجتمع ، وان القانون يعكس مصالح الطبقة الحاكمة فحسب. الا ان (توماس هوبس) زعم بان (العدالة

٨

الاجتماعية) او (الظلم الاجتماعي) انما هو نتيجة من نتائج القوة الاكراهية التي تستطيع ان تفرض الالزام على الافراد بغض النظر عن مشاعرهم الرافضة او المؤيدة للدولة.

ولعل اكثر النظريات الغربية جرأةً وتحدّياً للكنيسة النصرانيّة في القرن السابع عشر افكار نظرية (القانون الوضعي) لـ (كروتيوس) (١) التي ادعى فيها بانه لو افترض نفي الوجود المطلق ، كان لابد للأفراد من الالتزام بقانون الطبيعة ؛ لان هذا القانون الطبيعي مشتقّ من طبيعتين انسانيتين هما : الاجتماع ، والعقلانية. ولذلك ، فلا بد ان يكون وراء القانون الطبيعي قانون آخر وهو قانون العدالة الاجتماعية. والى ذلك اشار (جون لوك) بان القانون الطبيعي انما هو تجربة انسانية لعدالة القانون الوضعي.

الا ان هذه النظريات الغربية بهفواتها الواضحة لم تستطع ان تعرّف لنا معنىً مفصّلاً لفكرة (العدالة الاجتماعية). والالزام الشخصي لا يكفي في تحقيق تلك العدالة ما لم يلازم ذلك الالزام الزامٌ آخر اسمىِ بل اكثر وضوحاً ، وهو الالزام الديني بما فيه من مسؤليّةٍ وجهدٍ وجزاءٍ.

ان هذا البحث يتناول جزءً من الابعاد الاجتماعية للنظرية الدينية ، خصوصاً المدرسة الفقهية الامامية فيما يتعلق بمفاهيم العدالة الاجتماعية ، التي كانت محطّ انظار الكثير من النظريات الاجتماعية الحديثة. ولاشك اننا لانستطيع ادارة المجتمع الاسلامي ما لم يكن لدينا تصور واضح عن فلسفة العدالة الاجتماعية في الاسلام ، وما لم تكن لدينا نظرية تطبيقية واضحة

__________________

(١) (ساندفورد لاكوف). المساواة في الفلسفة السياسية. كامبردج ، ماساشوستس : مطبعة جامعة هارفارد. ١٩٦٤ م.

٩

المعالم عن اسس توزيع الثروة الاجتماعية بين الافراد.

وفي ختام هذه المقدمة ، فمن الضروري ذكر مسألتين مهمتين ، الاولى : منهج البحث. والثانية : بعض النقاط المتعلّقة بالكتاب نفسه.

اما منهج البحث ، فقد قسمنا الكتاب الى قسمين : القسم الاول : يتناول النظام الاجتماعي الرأسمالي. ودرسنا فيه بالنقد العلمي موضوع العدالة الاجتماعية على الصعيد الحقوقي. وقد حاولنا نقد النظرية الاجتماعية الرأسمالية عن طريق دحض آرائها النظرية والتطبيقية ، حتى نمهّد الطريق لطرح النظرية الاجتماعية الاسلامية كبديل وحيد لاسعاد البشرية المعذبة بعذاب الظلم الاجتماعي ، الذي جلبته النظرية الغربية الرأسمالية الحديثة. فطرحنا في القسم الثاني من الكتاب موضوع العدالة الاجتماعية في النظرية الاسلامية. وتركنا للقارئ الكريم الحكم على صلاحيّة النظرتين لقيادة البشريّة. وكان تحيزنا في طيات الكتاب ، دائما مع الحق. وقبل ذلك تعرضنا إلى لمحة سريعة لـ (فلسفة العدالة الاجتماعية في النظرية الامامية) ، والى (محاولة ابتدائية لاكتشاف علم الاجتماع الاسلامي).

وعلى صعيد النقاط المتعلقة بالكتاب ، فقد آثرنا درجها كما يلي :

١ـ لما كان النظام الرأسمالي لايمثل المؤسسة الاقتصادية فحسب ، بل المؤسسات الاجتماعية الاخرى ايضا ، فقد اطلقنا على كلّ المؤسسات الاجتماعية التي يديرها المؤمنون بالنظرية الرأسمالية ، بـ «النظام الاجتماعي الرأسمالي». لان الثروة والمال ، وميكانيكية التسعير ، والانتاج من خلال العرض والطلب في الاسواق التنافسية ، ونظام التوزيع ، وامتلاك وسائل الانتاج وارتباطها بالمستهلك والمُنتِج والمستثمر والعامل والمشرع القانوني ؛

١٠

كل هذه الانظمة الاقتصادية التي هي صلب الفكرة الرأسمالية تتدخل بشكل مباشر او غير مباشر في شؤون المؤسسات الاجتماعية التابعة للنظام الاقتصادي. فارتباط النظام الاقتصادي الرأسمالي بالانظمة الاجتماعية والصحية والسياسية والقضائية والعسكرية والتعليمية والعائلية وتوزيع الثروات والعدالة الاجتماعية والانحراف الاجتماعي كلها ، تجعل النظام الرأسمالي نظاماً اجتماعياً قائماً بذاته ، يستحق على اقل تقدير النقد والمقارنة ومحاولة تقديم البديل الناجح.

٢ ـ لما كانت الولايات المتحدة تمثل ارقى درجات الفكرة الرأسمالية ، فقد كان صلب البحث في نقد النظرية الاجتماعية الرأسمالية متمثّلا في نظرتها وممارستها الإجتماعي والإقتصادية الرأسماليّة ، خصوصاً فيما يتعلق بالمذهب الفردي واستثمار رأس المال وما يترتب عليه من تأثيرات على النظام الاجتماعي.

٣ ـ ان هذا الكتاب يعبر عن مجرد محاولة ابتدائية لاستكشاف النظرية الاجتماعية على ضوء الفقه الاسلامي عموما وفكر اهل البيت (ع) بالخصوص. ولابد من دراسات أُخرى اضافية لبلورة النظرية الاجتماعية الاسلامية من جميع جوانبها الفكرية.

ان هذا الكتاب موجّه الى الانسانية جميعاً ، علّها تجد فيه بلسماً لامراضها المزمنة في انعدام العدالة والظلم الاجتماعي ، فتتوجه حينئذ الى خالقها وبارئها ، فتلتزم بالإطار الاجتماعي الذي جاءت به الرسالة الاسلامية. وهذا لا يتم الا عن طريق ترجمة التكليف والالزام الشرعي للفرد الى واقع حقيقي يعيشه المسلم بكل جوارحه واحاسيسه الوجدانية وحاجاته

١١

الاجتماعية. بمعنى ان الفرد المؤمن بعقيدة التوحيد لايمكن ان يغفو له جفن ويستقر له مقام ، ما لم يحاول جاهداً المساهمة في بناء النظام الاجتماعي الذي بشرت به الرسالة الاسلامية منذ انبثاق فجرها الهادي وسطوع شمسها الإلهيّة الخالدة.

وهو المستعان ، وله الحمد في الاولى والآخرة ، وما توفيقي الا بالله عليه توكلت واليه انيب.

زهير الأعرجي

مدينة قم المشرفة / ربيع الثاني ١٤١٥ هـ

١٢

فلسفة العدالة الاجتماعية في النظرية الامامية

ان فكرة المساواة بين قطبين (أ و ب) على سبيل الافتراض يمكن ان تكون وصفية او معيارية ولكنها لا تكتمل الا بالإشارة الى مفهوم كامل للمساواة او المقارنة بمعنىً مطلقٍ للعدالة. والا ، فان المساواة المطلقة بين (أ) و (ب) لن تتم الا في الرياضيّات ، لان ذلك العلم يتعامل فقط بالكميات والاعداد النقية المطلقة. اما في الواقع الخارجي فان شيئين متساويين في الوزن والحجم والقيمة ربما لا يتساويان في ابعاد اخرى. ولذلك فاننا لانستطيع ان نقول ان هناك شيئين متساويين في كل الابعاد مطلقاً ؛ لكننا نستطيع فقط ان نقول ان هناك شيئين متساويين في كل الابعاد نسبياً.

وحتى لو كان الفردان متساويين في الجدارة نسبة الى ادائهما ، وانهما يستحقان ان يعاملا بشكل متساوٍ ؛ الا ان هذا الاستحقاق لا يُلغي ان يعاملا بشكل مختلف اذا كانا غير متساويين في مجالات اخرى. بمعنى آخر ان المساواة بين الافراد يفترض ان يكون الاصل في جميع المجالات التي يتفق فيها الافراد ؛ وان يكون الاختلاف في التعامل متناسباً مع الاختلافات النسبية بينهم. وهذا التمييز في التعامل له اهمية عظيمة في اصل فكرة (المساواة) على الصعيد الاخلاقي والاجتماعي.

وحتى ان ادعاء المفكر الامريكي (توماس جيفرسون) بان الافراد

١٣

(يُوَلّدون جميعاً وهم متساوون) (١) لا يطابق الواقع الخارجي لاسباب واضحة ، وهي ان الافراد لا يتساوون تماماً في الذكاء والقدرات الجسدية والفكرية. الا ان رأي (جيفرسون) يصدق اذا كان يقصد به تلميحاً لفكرة العدالة الاجتماعية التي ينبغي ان يطرحها النظام الاجتماعي امام جميع الافراد. ولكن المشكلة الفلسفية تكمن في السؤال الذي يصاغ بالشكل التالي : كيف يمكن تحقيق المساواة التامة بين جميع الافراد وقد اختلفت قدراتهم الجسدية والعقلية على اداء ادوارهم الاجتماعية؟ فاجابت المدارس الفكرية والفلسفية على مدى التاريخ على هذا السؤال بإجاباتٍ متباينة.

إلاّ ان اول من نقض مفاهيم المساواة بين الافراد ، حكماء الاغريق انفسهم. فبعد ان آمنوا بالمساواة الحقيقية بين جميع الافراد حتى مع الاختلافات النسبية ، عادوا وصنفوا فكرة (المساواة) على اساس الانتماء القومي. فارسطو زعم صراحةً بان بعض الافراد عبيد بطبيعتهم الذاتية (٢). وزعم افلاطون بان بعض الانفس لا تستطيع ان تتطور كما تتطور انفس بقية الافراد (٣). وحتى ان مجالس (اثينا) كانت تتحدث ـ كما يصفها لنا (ثوسيدايدس) ـ عن المساواة بين مواطني (اثينا) فحسب ، مستثنية العبيد والاجانب عن عدالة تلك المدينة الفاضلة (٤)!

ولكن اول من نادى بالمساواة في نوادي الاغريق رواد مذهب (الرواقية

__________________

(١) (جي مارجوليس). « يوُلّد الافراد جميعاً وهم متساوون ». مقالة فلسفية في (المجلة الفلسفية) الامريكية ، عدد ٥٢ ، رقم ١٣ ، ١٩٥٥ م. ص ٣٣٧ـ ٣٤٦ (آ).

(٢) (ارسطوطاليس). الاخلاق. الكتاب الثالث. نيويورك : بنكوين ، ١٩٦٢ م.

(٣) (افلاطون). الايام الاخيرة لسقراط. نيويورك : بنكوين ، ١٩٦٩ م.

(٤) (جورج ابرنيثي). فكرة العدالة. ريجموند ، فريجينيا : ١٩٥٩م.

١٤

او ستوسيزم) الذي اكد على المساواة الطبيعية بين جميع الافراد ؛ باعتبارهم كائنات لديها قدرات عقلية وقابليات متساوية على فعل الخير (١). الا ان ذلك المذهب لم يستطيع التمييز بين المجرد القدرة على فعل الخير ، وبين تحقيق ذلك الفعل. وهذا الرأي الجديد يفسح لنا المجال لنتسائل : هل نستطيع ان ننكر على الافراد الذين لا يفعلون الخير دعوى المساواة؟ ام هل نستطيع ان نثبت (المساواة) حتى مع الذين يظلمون الآخرين وينكرون عليهم حقوقهم؟ هنا يصمت (المذهب الرواقي) عن الجواب. بل ان هذا الصمت يفتح الابواب للرسالة الدينية لتقوم بدورها في الجواب على ذلك.

ولاشك ان الرسالة الدينية الإلهيّة هي اول من نادت بالعدالة الواقعية ، الا ان التحريفات التي اجريت قسراً على بعضها انتهك اقدس مفاهيمها الاجتماعية. ففكرة (الاختيار الالهي) لليهود ، وفكرة (الانقاذ) عن طريق السيد المسيح (ع) ، وفكرة ان (العبودية البشرية) انما هي نتيجة من نتائج الذنب الذي يرتكبه الفرد ، كلها أدّت الى تشويه صورة الرسالة الدينية التي نادت بالعدالة الاجتماعية بين الافراد امام المجتمع وامام الخالق عز وجل. وحتى ان العقيدة الكالفنيّة في القرن السابع عشر الميلادي ـ التي ولدت كصورة من صور الاحتجاج على الكنيسة الكاثوليكية الزاعمة بان المساواة بين الافراد انما تنتهك النظام التكويني للعالم ـ نادت بالمساوات بين افراد الشعب المختار من البروتستانت فحسب ولم تلتفت الى حقوق بقية الافراد من المذاهب او الديانات الأخرى.

____________

(١) (ديفيد تومسون). المساواة. كامبردج : مطبعة جامعة كامبردج. ١٩٤٩ م.

١٥

ولم تتطور فكرة (المساواة الطبيعية) في القرن السابع عشر الميلادي الا على يد المفكر السياسي الاوروبي (توماس هوبس) الذي زعم بان الافراد في الطبيعة متساوون في الحقوق لانهم متساوون في القوة والبراعة (١). الا ان الفيلسوف (جون لوك) لم يتوقف عند فكرة المساواة الطبيعية للافراد عند الولادة ، بل زعم بانه لابد للافراد من التعرض الى نفس القانون الطبيعي ، والتمتع بنفس الحقوق الطبيعية (٢). ولكن هذه الافكار الجديدة وضعت الفلسفة السياسية الاوروبية في مأزق ؛ وجعلت المعارضين لهذه الافكار يتجمعون تحت غطاء الإشكال التالي وهو انه : اذا كان الافراد متساوون بالحرية والحقوق واقعاً فلماذا يخضعون لتحديدات المجتمع المدني والسلطة السياسية والالزام الاجتماعي؟ بل كيف نفسر العدالة السياسية اذا قبلنا بوجود الحاكم والمحكوم؟ اذن ، فإنّ هذه التحديدات السياسية والاجتماعية التي وجدت لحفظ الحقوق وفرض الواجبات انما تنتهك (المساواة الطبيعية) التي نادى بها (هوبس) و(لوك). وهذه الثغرات الفلسفية تجعلنا نشكك بقدرة المدرسة الاوربية على تقديم معنىً شاملٍ ومقبولٍ للعدالة الاجتماعية بين الافراد.

ولا شك ان المسرح الفلسفي الاوروبي في القرن الثامن عشر الميلادي شهد نشوء نظرية جديدة حول (العدالة الاجتماعية) والمساواة الطبيعية في

__________________

(١) (توماس هوبس). الدولة. تحرير : ميشيل اوكشوت. نيويورك : ١٩٦٢ م. الطبعة الأَصلية عام ١٦٥١ م.

(٢) (جون لوك). « الرسالة الثانية حول الحكومة المدنية » (١٦٩٠ م) ، في كتاب (رسالتان حول الحكومة). تحرير : بي لاسليت. اكسفورد : مطبعة جامعة اكسفورد ، ١٩٦٠ م.

١٦

الحقوق ، وهي نظرية (الطبيعة الانسانية) التي وضعها (كونديلاك) و (هيلفتيس) (١) ، التي زعمت بان الفوارق في الشخصية ، والقابليات ، والذكاء انما هي اختلافات في البيئة والتجربة الانسانية وليست في التكوين البشري. فالافراد ـ بطبيعتهم ـ متساوون بلحاظ انهم ، عند الولادة ، يملكون قدراً غير محدود من الطاقة الكامنة نحو الابداع ، دون وجود خصائص طبيعية تميز احدهم عن الآخر. وبالتالي فان طبعائهم المتباينة هي في الواقع قضية عارضة او امر طارىء ؛ لان الافراد ـ مبدئياً ـ متساوون في الكمال ، شرط ان تعطى لهم فرصاً اجتماعية مناسبة. الا ان (جان ـ جاك روسو) فسر انعدام العدالة الاجتماعية بتعقد الحياة الانسانية وتشابكها (٢) ؛ لان حاجات الفرد الطبيعية ـ بزعمه ـ لو كانت بسيطة لاعتمد الفرد على نفسه في اشباعها ، ولما كانت اداةً لإستثمار الآخرين. ومن أجل تحقيق العدالة الاجتماعية ، فإنّ (جان ـ جاك روسو) عرض مفهوم (المصالحة) بين المساواة الطبيعية وحاجات الانسان من جهة وبين الشروط الاجتماعية والسياسية للسلطة من جهة اخرى ؛ زاعماً بان غياب هذه المصالحة يمنع الافراد من ادراك قابلياتهم الابداعية ككيانات اخلاقية مستقلة. الا اننا نرد على (روسو) بان المصالحة المزعومة لا تضمن العدالة الحقوقية بين الافراد ؛ لان المصالحة غير المشروطة بين الافراد والدولة الظالمة يناقض اصالة العدالة الاجتماعية. وبطبيعة الحال فان (روسو) لم يشترط عدالة الدولة في

__________________

(١) (ساندفورد لاكوف). المساواة في الفلسفة السياسية. كامبردج. ماساشوستس : مطبعة جامعة هارفارد ، ١٩٦٤ م.

(٢) (جان ـ جاك روسو). محاضرة حول اصل انعدام العدالة الاجتماعية. آمستردام : ١٧٥٥ م.

١٧

تلك المصالحة. في حين قدم (عمانوئيل كانت) تحليلا اكثر تعقيداً لنفس القضية الاخلاقية التي طرحها (روسو) قائلاً بان جميع الافراد يجب ان يعاملوا كغايات ، لا كوسائل (١) ؛ بمعنى ان جميع الافراد اعضاء متساوون في الدولة (الغائية) ، لانهم جميعاً متساوون في القدرة على ادراك الخير والارادة الخيّرة. الا ان هذا التحليل ـ الذي ساهم في صياغة الحركات الثورية في امريكا الشمالية واوروبا الغربية في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي ـ اضعف دور الدين في الحياة البشرية ؛ فبدل ان تكون الغاية النهائية مرضاة الخالق عز وجل اصبحت الغاية القصوى للدولة والنظام الاجتماعي الاهتمام بالفرد واشباع حاجاته الأساسية. مع ان الاهتمام بالفرد ـ لو تمّ ضمن الحدود الطبيعية ـ لن يتنافى مع الرسالة الاخلاقية الدينية.

الا اننا لا نستطيع ان نتحدث عن المساواة الاقتصادية دون التطرق للمساواة السياسية والاخلاقية ايضاً. فالمساواة السياسية لابد وان تتماشى مع المساواة الاقتصادية. والا فما معنى ان يشترك الافراد في الحكم والسلطة ، ولا يشتركوا بشكل عادل في الاستمتاع بالخيرات الاجتماعية. ولاشك ان التوزيع غير العادل للخيرات الاجتماعية يؤدي الى توزيع غير عادل للسلطة والمنزلة الاجتماعية. أضف الى ذلك ان عدم التزام الفرد بمفردات الرسالة الدينية يضعه على حافة الظلم الاجتماعي المستند على جنس الانسان ولونه ومنشئه.

ومن الطبيعي ان نجد الجواب الشافي لمعنى (العدالة الاجتماعية)

__________________

(١) (عمانوئيل كانت). نقد العقل. لندن : ١٨٨١ م.

١٨

ومصاديقها العملية متمثلاً في اروع صوره الفلسفية والتشريعية في الرسالة الاسلامية. فالاسلام لم يطرح مفهوم (المساواة) الا في العطاء الذي يقدمه بيت المال للفقراء والذي يفترض فيه ان يشبع حاجاتهم الاساسية. الا ان الافراد ـ وبسبب اختلاف قدراتهم العقلية والجسديّة ـ لايمكن أن يوضعوا على درجة أجتماعيّة واحدة بالدّقّة العقلية؛ لان ذلك مستحيل على صعيد الواقع الخارجي. ولذلك فنحن لانجد مورداً من الموارد الفقهية يشير بشكل من الاشكال الى فكرة (المساواة التكوينية) على المسرح الاجتماعي. ولكن الاسلام طرح بكل قوة فكرة (العدالة الاجتماعية) وحاول بلورة مصاديقها العملية من خلال الالزامات الاخلاقية والشرعية. ومن اجل تحقيق ذلك ، فقد اعلن ثلاثة مبادىء على درجة عظيمة من الاهمية :

المبدأ الاول : ان الاختلافات التكوينية بين الافراد انما هي حقيقة واقعية لا يمكن انكارها او تجاهلها. ولذلك فان (المساواة) التي تنادي بها النظريات الاجتماعية تصدق فقط في (المساواة) في اتاحة الفرصة لجميع الافراد باستثمار خيرات النظام الاجتماعي ، وفي (المساواة) في العطاء من بيت المال للمحتاجين. وفي غير ذلك يستحيل خلق المساواة التكوينية بين الافراد. ولذلك فان فكرة (العدالة الاجتماعية) التي يطرحها الاسلام انما تجبر الاختلافات التكوينية التي خلقت اصلاً مع الافراد دون ارادتهم. ولاشك ان المسؤول عن تحقيق العدالة الاجتماعية هو النظام الاجتماعي الاسلامي بمؤسّساته السياسيّة والاقتصاديّة والقضائيّة.

المبدأ الثاني : لماكان تحقيق المساواة العقلية بين الافراد مستحيلاً واقعاً ، فقد أكّدت الرسالة الإلهيّة على تحقيق المساواة العرفية (او العدالة الاجتماعية

١٩

بمعناها الاوسع) عن طريق الانصاف والعدل والميزان. وقد وردت في ذلك آيات وروايات عديدة اكدت جميعها على اعادة توزيع الثروة الاجتماعية بين الافراد وجعلت للفقراء حقاً محسوباً في اموال الاغنياء. بمعنى آخر ان الشريعة لم تجعل للاغنياء الخيار في مساعدة الفقراء او عدم مساعدتهم ، بل فرضت عليهم ذلك الوجوب بقوة التشريع.

ويمكننا ان نصنف الآيات والروايات الواردة حول تحقيق العدالة الاجتماعية الى اربعة اصناف :

الصنف الاول : حول الانصاف :

١ ـ فقد ورد في النص المجيد : (إن الله يأمر بالعدل والإحسان ) (١).

٢ ـ وعن رسول الله (ص) : (من واسى الفقير ، وأنصف الناس من نفسه ، فذلك المؤمن حقاً) (٢).

٣ ـ ومن كتاب لامير المؤمنين (ع) الى عماله : (فأنصفوا الناس من انفسكم ، واصبروا لحوائجهم ، فانكم خزان الرعية ، ووكلاء الامة ، وسفراء الائمة) (٣).

الصنف الثاني : حول العدل :

١ ـ فقد ورد في النص المجيد : (ياايها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط ) (٤). والقسط هو العدل. والقيام بالقسط هو العمل به على أتم

__________________

(١) النحل : ٩٠.

(٢) بحار الانوار ج ٧٥ ص ٢٥.

(٣) نهج البلاغة ، خطبة ٥١.

(٤) النساء : ١٣٥.

٢٠