تراثنا ـ العدد [ 21 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العدد [ 21 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٤

١

الفهرس

*كلمة التحرير

* الغدير عبر التاريخ والتراث.................................................... ٧

*الغدير في حديث العترة الطاهرة

................................................... السيد محمد جواد الشبيري ١٢

*حديث الغدير : التبليغ الأخير لإمامة الأمير

............................................... السيد علي الحسيني الميلاني ١٠١

*الغدير في ظلّ التهديدات الإلهيّة للمعارضة

................................................. السيد جعفر مرتضى العاملي ١٢١

*الغدير في التراث الإسلامي

.................................................. السيد عبدالعزيز الطباطبائي ١٦٦

٢

*الإمامة : تعريف بمصادر الإمامة في التراث الشيعي (٤)

.......................................................... عبدالجبّار الرفاعي ٣١٩

*تحقيق حول كتاب حديث الشورى أحد مصادر الغدير

.................................................. السيد محمدجواد الشبيري ٣٤٩

*من ذخائر التراث

*غديرية ـ للحرّ العاملي.

....................................................... تحقيق : أسد مولوي ٣٦٧

*الإعلام بحقيقة إسلام أميرالمؤمنين عليه السلام ـ للكراجكي.

................................................. تحقيق : علي موسى الكعبي ٣٨٩

*دليل النصّ بخبر الغدير على إمامة أميرالمؤمنين عليه السلام ـ للكراجكي.

................................................... تحقيق : اُسامة آل جعفر ٤٢١

__________________

صورة الغلاف : نموذج من مخطوطة كتاب فضائل علي بن أبي طالب (ع) لأحمد بن حنبل ، من مخطوطات القرن السابع الهجري ، المحفوظة في مكتبة آية الله المرعشي العامة ـ قم.

٣
٤

٥
٦

كلمة التحرير

الغدير عبر التاريخ والتراث

بسم الله الرحمن الرحيم

في حجة الوداع.

حين كان الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستعد لوداع الكعبة في آخر زيارة لها ، وكانت أمته بكاملها تستعد لتودع نبيها الحبيب!

وحيث توافد المسلمون ـ زرافات ووحدانا ـ على مكة ، بعد الإعلان عن تلك الحجة المباركة ، ليكونوا في ركب النبي في آخر مناسك يقوم بأدائها.

في هذا الزمان ، وهذا المكان ، نزلت آية التبليغ ، تقول (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ، والله يعصمك من الناس).

عجبا!

فما هو هذا الأمر الذي أنزل الآن إلى النبي من ربه؟!

أليس الرسول قد صدع بالوحي ، منذ نزوله في مكة قبل ثلاث وعشرين عاما ، وحتى اليوم؟ وقد تحمل في سبيل تبليغ الرسالة من الأذى ما لم يتحمله نبي قبله؟!

فما هو هذا الأمر الذي تقابل به الرسالة كلها ، على عظمتها وثقلها ، فلم يكن النبي مبلغا لها ، إن لم يبلغ هذا الأمر؟!

ثم ، هل في تبليغ هذا الأمر ، من الخطورة والشر والتخوف على النبي من جرائه

٧

ما لم يكن في تبليغ كل الرسالة على مخاطرها ، حتى أحتاج إلى عصمة الله له؟

ومن هم الناس الذين يخاف منهم على الرسول ، في هذا الزمان ، وهو في مكة ، بين أصحابه؟!

لم يعهد من التاريخ أن سجل في حجة الوداع حدثا هاما ، ولا تبليغا من النبي لأمر خطير ـ بعد نزول تلك الآية ـ ليكون تفسيرا عينيا لما ، وإجابة واضحة لما أنزل على الرسول من ربه ، وكلف بتلك الشدة بتبليغه!

سوى ما صدر منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يوم الثامن عشر من ذي الحجة ، ذلك العام.

حيث نزل قوله تعالى : (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا).

إن ذلك اليوم هو «يوم الغدير».

يوم أعلن البارئ فيه عن إكمال الدين ، وإتمام النعمة ، وأفصح عن رضاه بالإسلام دينا للناس.

يوم نصب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمير المؤمنين عليا عليه‌السلام ، خليفة ، وإماما ووليا من بعده على المسلمين لأمور الدنيا والدين.

ومنذ ذلك اليوم ، والغدير يحتل موقعا عميقا في وجدان المسلمين ، يختمر في ضمائرهم ، ويشكل ركنا من عقيدتهم ، ، يشارك في تفسير الكتاب ، ورواية الحديث والسنة ، وتكوين الأدب والتراث ، ويحدد معالم من التاريخ والحضارة ، ويميز لجماعات من مسلمي العالم مسيرهم ومصيرهم.

ذلك هو الغدير :

في معاد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حجة الوداع ، حيث مفترق الطرق ، في موقع «غدير خم» وقبل أن يتفرق جمع الحجيج ، فلم يشذ منهم أحد على كثرتهم ... في هذا الموقع الحساس وضع رسول الله على نفسه أوزار المسير ، ونهض في

٨

رمضاء الهجير ، فحشد الجموع ، وأعلن أمر الولاية صرخة مدوية في الإسلام.

وفي ذلك اليوم ، في أعظم اجتماع للأمة بقائدها العظيم ، وأكبر محفل ضم الرسول والمسلمين ، في آن واحد ، على صعيد واحد ، وفي الشهور الأخيرة من حياته الشريفة وهي تتصرم! وعمره الشريف يقترب من نهايته ، والفرص الأخيرة لتقديم آخر وصاياه تمر بسرعة.

مثل هذه الظروف استغلها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأداء مهمة ذلك الأمر الذي أنزل إليه من ربه ، وتصدى لتبليغه ، بأبدع ما بإمكانه ، وأكمله ، وأتمه ... فخطب وأسمع ، ونادى فأبلغ ، وناشدهم أجمع :

ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟

قالوا. بلى.

فقال ـ رافعا لعلي على يديه ـ : من كنت مولاه فهذا علي مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وأنصر من نصره ، واخذل من خذله.

في خطبة جامعة ، ناصعة ، طويلة الذيل ، حوت كل ما اهتم به من الوصايا الضرورية ، والتي أدى بها حق رسالة الله.

وقد أعلن الرسول يومئذ عن ولي الأمر من بعده ، إشفاقا على أمته من أن يتركها هملا ، تتجاذبها عسلان الأهواء.

واستخلف على المؤمنين من بعده إمامهم ، ليثبت به قلوبهم ، وليحافظ على قواعد الدين العظيم بإمرة من هو خير هاد للمسلمين.

ولقد أدى الرسول هذه المهمة الصعبة ببطولة نادرة ، فقد كان الأعداء ـ المتربصين بهذا الدين الدوائر ـ يراقبون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يخشون مثل ذلك الأمر ، وكان المنافقون يهابون إعلان اسم ولي الأمر الذي يخلف النبي ، فبدؤوا شغبهم وأخفوا مكرهم ، ولكن الله بوعده بالعصمة قطع دابرهم.

فظل خبر الغدير يتسع مع الحجيج العائدين إلى بلدانهم ، فلم تسعه المؤامرات ولم تطله الخيانات ، بل انتشر عبقه مع الأثير ، وسار نبؤه مع النور.

٩

فمع القرآن ، حيث تتلى آيات التبليغ ، والإكمال ، وتتجلى الأذهان مناظر نزولها ، وذكريات معانيها ، وأيام أحداثها.

ومع السنة ، حيث انتهى خبرها ، وأبلغ ذكرها ، حتى تواتر حديث الغدير ، فلم يسعه الإنكار ، ولم يخفه الستر والإضمار.

ولقد امتلأت دواوين أهل الأدب بأنشودة الغدير ، تشدو بها القرائح ، وتغردها الأصوات الملاح في أندية الولاء.

وملئت صحف الأعلام بخبر الغدير ، رغم تعرضه على طول الخط ، لمنع التدوين ، وحظر النقل ، فها هو اليوم يمثل في «التراث» بمجلدات ضخمة تعبر بصدق عن خلود الغدير ومجده عبر القرون.

والتاريخ حافل بذكرياته العطرة عن هذا اليوم الخالد ، مقرونا بأعظم ما في الإسلام من ذكريات خالدة ، مستلهمة عظمتها من اسم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وسلم وفعله وجهده وتوجيهه ، كالبعثة النبوية ، والهجرة ، والغدير العظيم ، إلى وفوده على ربه.

تلك الذكريات العظيمة التي لا تنفك عن الإسلام ، ويجد المسلم في استعادتها قوة ، واندفاعا ، وشموخا ، وإباءا.

ولقد كان للغدير أثره البارز في حياة أمة من المسلمين ، في طليعتهم أهل البيت النبوي الشريف الطاهر ، حيث بذل الأئمة الاثنا عشر عليهم‌السلام اهتماما عديم المثيل بواقعة الغدير ، وحديثه ، ويومه ، ودلالته.

فاعتبروه شارة الحق وميقاته ، فكان الغدير من أقوى الأدلة على إمامة علي والأئمة من آل محمد عليهم‌السلام ، به يستدلون ، وإليه يرشدون.

يشيدون به ، باعتبار أنه من أكبر الأعياد الإسلامية ، حيث تمت فيه نعمة الله ، وكمل دينه ، وأصبح الإسلام دينا مرضيا. ـ

ويتناقلون خبره ، فكانت روايتهم لحديث الغدير ، من أضبط نصوصه ، وأقوى طرقه ، وأوثق أسانيده.

١٠

وأوضحوا معالم دلالته ، بإيراد نصه الكامل ، المحفوف بقرائن تبين مراداته ، وتكشف أبصار معانيه.

والشيعة على مدى العصور وفي كل الأقطار اتبعوا القرآن الكريم في تجليل هذا اليوم وتعظيمه في آياته.

وتأسوا بالرسول العظيم في إحياء هذه الذكرى وتجليلها في أزل (غدير) في العام العاشر من الهجرة.

واقتدوا بالأئمة الاثني عشر من أهل البيت عليهم‌السلام الذين أشادوا بالغدير وخلدوه ، في يومه ، وحديثه ، على طول تأريخ الإمامة.

فهم يستبشرون بهذا اليوم ، ويحمدون عوده ، ويتلون حديثه ، ويستهدون بهديه ، ويحتفلون بذكراه.

و «تراثنا» تحيي ـ في عددها الخاص هذا ـ كل تلك المآثر ، وتستعيد كل تلك الخواطر ، وتجدد العهد مع كل تلك الأمجاد في هذا اليوم العظيم.

ونحن إذ نبارك لصاحب الولاية ، أمير المؤمنين عليه‌السلام ، يوم تتويجه الأزهر.

ونشارك المسلمين المؤمنين إحياءهم للذكرى المئوية الرابعة عشر لعيد الغدير الأغر.

نزجي بالشكر لله قائلين :

الحمد لله الذي جعلنا من المتمسكين بولاية علي أمير المؤمنين وأولاده المعصومين.

ونلهج بالدعاء متضرعين :

ربنا ، إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان ، أن آمنوا ، فآمنا

ربنا ، لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.

ربنا ، تغمد الأمة الإسلامية برضاك ، وأفض عليها رحمتك وإحسانك ، وخذ بأيدي المسلمين إلى النصر ، والكرامة ، إنك ذو الجلال والإكرام.

هيئة التحرير

١١

الغدير

في حديث العترة الطاهرة

السيد محمد جواد الشبيري

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، الذي أتم نعمته على المسلمين ، وأكمل لهم الإسلام دين سيد المرسلين ، بولاية يوم الغدير لأمير المؤمنين.

والصلاة والسلام على سيد الأنبياء الرسول الأمين ، المبلغ رسالات الله في الوحي المبين ، وعلي أخيه سيد الوصيين ، وآلهما الأئمة المعصومين.

وبعد :

فمنذ انبلج فجر الإسلام ، رسالة السماء ، خاتمة لرسالات الأنبياء ، صحبته حوادث جمة ، سجلها التاريخ بأحرف من نور ولم ينسها ، بل لا يطيق أن ينساها ، لأن لكل منها أثرا عميقا في مجرياته ، لكنها تتفاوت في ما بينها في عمق الأثر.

وبعده من ناحية ، وفي خلود الذكر ومداه من ناحية أخرى.

فهناك البعثة النبوية الشريفة ، وهناك الهجرة النبوية المجيدة ، والحروب المصيرية ، وحدث أخير عظيم هو (عبد الغدير) الخالد.

ولم يكن الغدير من الأحداث العابرة ، والوقائع التي لها أثر مؤقت ، وإنما كان حدثا مهما ضخما في تاريخ الإسلام!

واكتسب الغدير تلك العظمة ، من كل ما أحاط به من الظروف ، زمانية ،

١٢

ومكانية ، وماله من أثر عقائدي وتاريخي ، وبعد اجتماعي سياسي ، في مصير الدولة الإسلامية ومستقبلها ، في الفترة التي أعقبت عصر الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وسلم.

فهو آخر اجتماع عظيم ضم الرسول وأمته ، في وداع أخير بعد العودة من حجة الوداع ، ولا بد أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يستغل هذه الفرصة النادرة ، ليبث فيه إلى الأمة أعمق شجونه ، وأحزان قلبه ، وتطلعاته ، ويؤكد لهم على آخر وصاياه ورغباته ، من إرشادات هامة ، على صعيدي الدنيا والآخرة ، ومن الخلافة من بعده ، والولاية على الأمة.

وكان أعظم مجمع على الأرض في الإسلام ، حيث كان مفترق قوافل الحجاج العائدين من آخر حجة ، مع آخر رسول ، في رجوعهم من حجة الوداع ، حيث اجتمع أكبر عدد من المسلمين المتشوقين لمسايرة ركب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لينالوا من فيض صحبته المباركة في تعظيم شعائر الله في ذلك المنسك التاريخي.

فلا شايعوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في طريق العودة خارجا من مكة إلى المدينة ، جمعهم على مفترق الطرق ، قبل أن تشتتهم الطرق ، وخطب في جمعهم الحاشد ، مبلغا ما أنزل إليه من ربه ذلك البلاغ الإلهي ، الذي لو لم يفعله لم يكن مبلغا لشئ من الرسالة الإسلامية ، على عظمتها ، وأبعادها ، وأتعابها ، ومشاقها ، ومآسيها ، وأهدافها ، وأتراحها ، وأفراحها. فذلك البلاغ ـ إذن ـ هو البيان الختامي ، للرسالة الإسلامية التي صدع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأدائها ، فهو جامع لأهم ما في تلك الرسالة من مقومات الوجود والاستمرار

ذلك هو بلاغ ولاية الأمير ، يوم الغدير ، في زمانه ومكانه ومحتواه. ولم يكن الغدير مناسبة مؤقتة محدودة ، ولا شعلة مؤججة تؤول إلى الخمود ، ولا شمسا بازغة تصير إلى الأفول ، ولا برقا يتألق ثم ينطفئ فيعقبه ظلام دامس.

كلا ، بل (الغدير) منطلق لأمواج ، النور على حياة البشرية ، امتدادا للفجر الإسلامي ، الذي ليس له ضحى ، ولا ظهر ، ولا عصر ، ولا ليل.

١٣

إن الزمن ـ مهما امتد بالإسلام ـ لم يكن ليخمد من شعاعه الوهاج ، بل قد أثبت التاريخ أن الإسلام هو الحق الذي يشدده مر الزمان قوة وثباتا ، وهو الحقيقة التي لا يكشف مر الأيام إلا عن ناصع برهانه.

والغدير ، كواحد من أهم أحداث الإسلام ، كذلك ، يظل معه سائرا مسير النور مع الفجر ، والضياء مع النهار.

ولقد أخذ الغدير من اهتمام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قسطا كبيرا في يومه الأول ، فجابه به كل التهديدات التي كانت تعترضه والتي وعده الله بالعصمة من أصحابها ، وتحتمل عناء الموقف ، وخطب تلك الخطبة الجامعة الغراء ، في حر الهجير ، وقام بتتويج الأمير ، وأخذ له البيعة من كل الحاضرين ، وأتم الحجة على الجمع أجمعين.

والغدير اكتسب قدسية بما قام به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في يومه الأول ذلك.

ثم وقع الغدير موقع العناية الفائقة من الأئمة المعصومين من أهل البيت عليهم السلام ، فلم يألوا جهدا في إحيائه وتعظيمه.

وعمل الأئمة عليهم‌السلام ـ الذين يعتبر وجودهم امتدادا عمليا لوجود الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في المحافظة على الإسلام ، ويمثلونه تمثيلا صادقا في بث معارفه وإحياء ذكرياته ، مدعاة للتأمل والبحث.

إن الأئمة الأطهار عليهم‌السلام ، فتحوا للغدير حسابا واسعا في حياتهم الكريمة العلمية والعملية ، وهذا البحث يجمع ما ورد من مواقفهم عليهم‌السلام من الغدير في كلا المجالين.

ولقد اقتبسنا منهج البحث من الخطوط التي انتهجها الأئمة في مواقفهم تلك من الغدير ، فقسمناه إلى قسمين.

القسم الأول : يتضمن تأكيد الأئمة عليهم‌السلام على الغدير ، كحادثة عقائدية مهمة في الإسلام ، فلجأوا إلى الاستدلال به على الإمامة الحقة ، وتثبيت قواعد الحكومة الإسلامية بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

١٤

القسم الثاني : يحتوي على تمجيد الأئمة عليهم‌السلام بيوم الغدير ، كعيد من أكبر أعياد المسلمين ، وحثهم الأمة على إحيائه ، وتجليله ، والابتهاج به ، وتجديد ذكره في كل عام وكل عصر.

ولقد كان من آثار تلك الاهتمامات أن بقي الغدير ـ على مدى التاريخ الإسلامي ، في عصور الأئمة عليهم‌السلام ـ يوما خالدا حيا في الضمائر والأفكار مقدسا في حياة الأمة ، يكتسب قدسيته من عمل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في يوم الغدير الأول ـ عام (١٠) للهجرة ـ ومن إهتمامات الأئمة الأطهار عليهم‌السلام ـ إلى نهاية عام (٣٢٩) للهجرة ـ.

ولقد كان لشيعة محمد وآل محمد ، أولئك الذين اختاروهم أسوة ، بهم يقتدون ، واتخذوا مذهب أهل البيت ليسيروا في الحياة عليه ، أنهم كانوا يسيرون على نفس منهجهم في الاهتمام بعيد الغدير ، يشيدون بكرامته ، ومجددون فيه ذكرياته العظيمة ، ويبتهجون فيه بولاية أمير المؤمنين ، مؤكدين بذلك على ما أكد عليه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في أول يوم ، والأئمة المعصومون عليهم‌السلام في كل عام ، مثل هذا اليوم ، من أهداف وآثار وأعمال. فهذا التاريخ يذكرنا بالمحافل الكبرى التي كان يقيمهما الأمراء البويهيون في بغداد وإيران ، والحمدانيون في الموصل وحلب وبلاد الشام ، والفاطميون في القاهرة ومصر والمغرب ، والزيديون في صنعاء واليمن السعيدة! ولئن حرمت بعض المذاهب أنفسها من فيوضات هذا العيد الأكبر ، وتناست كل أمجاده ، فإن الشيعة فازوا بنصيبهم الأوفر ، بالتأسي بالرسول وأهل بيته الكرام عليهم الصلاة والسلام ، فهم ذا يخلدون في العالم كل عام ، ذكراه العطرة ، ويعيدون إلى الأذهان أمجاده العظيمة التي قام بها النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بأمر من الله تعالى ، ومقتدين في أعمالهم في هذا اليوم بالأئمة من أهل البيت عليهم‌السلام.

وإسهاما منا في إحياء هذا العيد العظيم نقم هذا البحث بمناسبة مرور أربعة عشر قرنا على هذا الحدث الإسلامي العظيم.

وجعلنا البحث في خمسة فصول متمسكين بولاية الخمسة المطهرة الذين أذهب

١٥

الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، سائلين الله أن يسعفنا برضاه ، وأن يمن علينا بفضله وإحسانه ، إنه ذو الجلال والإكرام.

السيد محمد جواد الشبيري

قم المقدسة

١٦

الفصل الأول

واقعة الغدير

الحديث المروي عن أئمة الهدى في إيضاح واقعة الغدير رسم بشكل واضح ارتباط هذه الواقعة بخط الإسلام وبنائه ، ولعل التطلع الأحاديث المتناثرة في كتب الطائفة تظهر وبشكل لا يقبل الشك ذلك المذهب ، فقد روي عن أبي جعفر عليه‌السلام في صحيحة الفضيل [ابن يسار] أنه قال : «بني الإسلام على خمس : الصلاة ، والزكاة ، والصوم ، والحج ، والولاية ، ولم يناد بشئ مثل ما نودي بالولاية يوم الغدير» (١) وأضاف عليه‌السلام في نقل آخر لهذا الحديث : «فأخذ الناس بأربع وتركوا هذه ـ يعني الولاية ـ» (٢).

بل وقد روي وبإسناد صحيح عن عمر بن أذينة ، عن زرارة والفضيل بن يسار وبكير بن أعين ومحمد بن مسلم وبريد بن معاوية وأبي الجارود جميعا ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «أمر الله عزوجل رسوله بولاية علي عليه‌السلام ، وأنزل عليه (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) [لمائدة / ٥٥] وفرض ولاية أولي الأمر ، فلم يدروا ما هي ، فأمر الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يفسر لمم الولاية كما فسر لهم الصلاة والزكاة والصوم والحج ، فلما أتاه ذلك من الله تعالى ضاق بذلك صدره وراجع ربه ، فأوحى الله عزوجل [إليه] (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس) [المائدة / ٦٧] فصدع بأمر الله تعالى [ذكره] فقام بولاية علي يوم غدير خم ، فنادى : الصلاة جامعة ، وأمر الناس أن يبلغ الشاهد الغائب».

قال عمر بن أذينة : قالوا جميعا ـ غير أبي الجارود ـ وقال أبو جعفر عليه السلام. وكانت الفريضة تنزل بعد الفريضة الأخرى ، وكانت الولاية آخر الفرائض ،

__________________

(١) الكافي ٢ :

٢١ / ٨.

(٢) الكافي ٢ : ١٨ (/ ٣.

١٧

فأنزل الله عزوجل (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) [المائدة / ٣].

قال أبو جعفر عليه‌السلام : «يقول الله عزوجل : لا أنزل عليكم بعد هذه فريضة ، قد أكملت لكم دينكم» (٣).

والأمر الواضح للعيان عند التأمل في مجمل الروايات الواردة في نقل حادثة الغدير أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تردد في إبلاغ ذلك الأمر خشية من إعراض من بعرض عنه ، لأمور لا تخفى ، مبعثها الحسد والجهل وبغض علي ، ذاك الذي أسموه بقتال العرب ، فلذا تردد الأمر أكثر من مرة ، هبط به جبرئيل عليه‌السلام حتى جاء الأمر الأخير (... وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ...) فأخذ على نفسه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا يبرح المكان ـ وكان في الجحفة ـ حتى يبلغ الأمر فنادى. الصلاة جامعة ـ وكان يوما شديد الحر ـ فاجتمع الناس ، وأمر بدوحات فقم ما تحتهن من الشوك (٤) ، ثم خطب خطبة مبسوطة ، وأقام عليا أمام نواظر الحاضرين ، وأمر الناس بمبايعته بأمر الله تعالى .. والخطبة تجدها في العديد من كتب الحديث وغيرها ، وتذكرها كما رويت مختصرة وبإسناد صحيح جدا ، ثم تذكر مقاطع من الخطبة المبسوطة تباعا.

روى الشيخ الصدوق ـ قدس‌سره ـ في «الخصال» بعدة أسانيد صحاح إلى ابن أبي عمير ، عن عبد الله بن سنان ، عن معروف بن خربوذ ، عن أبي الطفيل عامر ابن واثلة ، عن حذيفة بن أسيد الغفاري ، قال : لما رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وسلم من حجة الوداع ونحن معه ، أمر أصحابه بالنزول ، فنزل القوم منازلهم ، ثم نودي بالصلاة ، فصلى بأصحابه ركعتين ، ثم أقبل بوجهه إليهم فقال لهم : إنه قد نبأني اللطيف الخبير أني ميت وأنكم ميتون ، وكأني قد دعيت فأجبت ، وإني مسؤول عما أرسلت به إليكم ، وعما خلفت فيكم من كتاب الله وحجته ، وإنكم مسؤولون عما أرسلت به إليكم

__________________

(٣) الكافي ١ : ٢٨٩ ، وانظر : تفسير العياشي ١ : ٢٩٢ / ٢٠ و ٢٩٣ / ٢١ ـ ٢٢ ، وعنه البحار ٣٧ : ١٣٨ / ٢٧ ـ ٢٩.

(٤) أنظر : تفسير فرات : ٤٠ ، العياشي ١ : ٣٢٩ / ١٤٣ ، وعنهما البحار ٣٧ : ١٧١ / ٥٢ و ١٣٨ / ٣٠.

١٨

وعما خلفت فيكم من كتاب الله وحجته ، وإنكم مسؤولون فما أنتم قائلون لربكم؟

قالوا : نقول : قد بلغت ونصحت وجاهدت ، فجزاك الله عنا فضل الجزاء.

ثم قال لهم : ألستم تشهدون أن لك لا إله إلا الله ، وأني رسول الله إليكم ، وأن الجنة حق ، وأن النار حق ، وأن البعث بعد الموت حق؟

فقالوا : نشهد بذلك.

قال : اللهم اشهد على ما يقولون ، ألا وإني أشهدكم أني أشهد أن الله مولاي وأنا مولى كل مسلم ، وأنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، فهل تقرون [لي] بذلك وتشهدون لي به؟

فقالوا : نعم ، نشهد لك بذلك.

فقال. ألا من كنت مولاه فإن عليا مولاه ، وهو هذا.

ثم أخذ بيد على فرفعها مع يده حتى بدت آباطهما ، ثم قال : اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، ألا وإني فرطكم وأنتم واردون علي الحوض [حوضي] غدا ، وهو حوض عرضه ما بين بصرى وصنعاء ، فيه أقداح من فضة ، عدد نجوم السماء. ألا ، وإني سائلكم غدا ، ماذا صنعتم فيما أشهدت الله به عليكم في يومكم هذا ، إذا وردتم علي حوضي؟ وماذا صنعتم بالثقلين من بعدي؟ فانظروا كيف خلفتموني فيهما حين تلقوني؟

قالوا : وما هذان الثقلان يا رسول الله؟

قال : أما الثقل الأكبر فكتاب الله عزوجل ، سبب ممدود من الله ومني في أيديكم ، طرفة بيد الله والطرف الآخر بأيديكم ، فيه علم ما مضى وما بقي إلى أن تقوم الساعة؟ وأما الثقل الأصغر فهو حليف القرآن وهو علي بن أبي طالب وعترته ، وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض.

قال معروف بن خزبوذ : فعرضت هذا الكلام على أبي جعفر عليه‌السلام فقال : صدق أبو الطفيل ، هذا كلام وجدناه في كتاب علي وعرفناه (٥).

__________________

(٥) الخصال : ٦٥ ، باب الاثنين ، ح ٩٨ ، وعنه البحار ٧٣ / ١٢١.

أقول : السند الأخير عن أبي جعفر عليه‌السلام في غاية الصحة. وأما السند الأول ففيه أبو الطفيل وهو

١٩

وهذا وقد رويت عن الباقر عليه‌السلام واقعة الغدير في رواية فيها خطبة الغدير المبسوطة.

نستعرض جواني محددة منها :

والرواية تبدأ بذكر عزم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحج بأمر الله ودعوة المسلمين للتهيؤ لهذا الأمر ، وفيها : بلغ من حبج مع رسول الله من أهل المدينة وأهل الأطراف السبعين ألف إنسان أو يزيدون ...

ثم تذكر الرواية نزول جبرئيل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو بالموقف ، مبلغا إياه أمر الله تعالى! بإقامة علي علما ، وأخذ البيعة من المسلمين ، وخشية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قومه ، وسؤاله جبرئيل أن يسأل ربه العصمة من الناس ... فأخر ذلك إلى أن بلغ مسجد الخيف ... فأمره جبرئيل بالذي أتاه فيه من قبل الله ولم يأته بالعصمة ... [فأخر النبي ذلك إلى أن] بلغ غدير خم قبل الجحفة بثلاثة أميال فأتاه جبرئيل على خمس ساعات مضت من النهار بالزجر والانتهار والعصمة من الناس ... فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. مناديا ينادي في الناس بالصلاة جامعة ويرد من تقدم منهم ويحبس من تأخر عنهم ، وتنحى عن يمين الطريق إلى جنب مسجد الغدير ... وأمر رسول الله أن ... ينصب له أحجار كهيئة المنبر فقام فوقها ، ثم حمد الله وأثنى عليه فقال :

«الحمد لله الذي علا في توحده ... [إلى أن قال :] ... إن جبرئيل هبط إلي مرارا ثلاثا يأمرني عن السلام ربي ـ وهو السلام ـ أن أقوم في هذا لمشهد فأعلم كل أبيض وأسود أن علي بن أي طالب أخي ووصيي وخليفتي والإمام من بعدي ، الذي محله مني محل هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ، وهو وليكم بعد الله ورسوله ...

__________________

معدود في خواص أصحاب أمير المؤمنين عليه‌السلام [البرقي / آخر ٤] ، وحذيفة بن أسيد الغفاري ، وقد عدني رواية في الكشي [رجال الكشي ، الرقم ٢٠] في حواري الحسن بن علي عليهما‌السلام.

ثم إن هذا الخبر مذكور في كتب العامة أيضا ، أنظر على سبيل المثال : تاريخ دمشق لابن عساكر : ١٥ وما في هامشه من المصادر.

٢٠