تراثنا ـ العدد [ 12 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العدد [ 12 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٢٢

١

تراثنا

الفهرس

أهل البيت ـ عليهم السلام ـ في رأي صاحب الملل والنحل

..................................................... الدكتور محمدعلي آذرشب ٧

ملاحم على غرار ملحمة

................................................... الشيخ جعفر عبّاس الحائري ٢٢

ما ينبغي نشره من التراث (٥)

.................................................... السيّد عبدالعزيز الطباطبائي ٣٨

التحقيق في نفي التحريف (٦)

.......................................................... السيّد علي الميلاني ٤٣

من التراث الادبي المنسي في الاحساء

الشاعر الشيخ حسين الصحّاف

......................................................... الشيخ جعفر الهلالي ٦٩

٢

استدراك...................................................................... ٧٤

من ذخائر التراث

مقتل اميرالمؤمنين ـ عليه السلام ـ ، لابن ابي الدنيا

........................................... تحقيق : السيد عبدالعزيز الطباطبائي ٧٩

الإثنا عشرية في الصلاة اليومية ـ للشيخ البهائي

............................................... تحقيق : الشيخ محمد الحسّون ١٣٤

رسالة في افتتاح الكلام ببسم الله تيمّناً وتبرّكاً ـ للشهيد الثاني...................... ٢٠٠

من أنباء التراث............................................................. ٢١٠

٣
٤

٥
٦

أهل البيت (ع)

في رأي صاحب الملك والنحل

الدكتور محمد علي آذرشب

محمد بن عبد الكريم الشهرستاني (ت ٥٤٨ ه) صاحب كتاب (الملل والنحل) المعروف ، دارت حوله بحوث كثيرة ، وخاصة فيما يرتبط بمذهبه.

فالأقدمون بين متهم إياه بالغلو في التشيع ، وبين مدافع عنه ومؤكد بأنه أشعري شافعي. والمتأخرون منهم من دافع عن نزاهته ، ومنهم من طعن فيه (١).

__________________

(١) يذكر ظهير الدين البيهقي (ت ٥٦٥ ه) في كتابه (تتمة صوان الحكمة) ص ١٤٠ ، أن الشهرستاني كان يشتغل بتفسير القرآن على أساس الحكمة ، وهو أمر ـ في رأي البيهقي ـ بعيد عن الصواب ، لأن القرآن لا يفسر (إلا بتأويل السلف من الصحابة والتابعين).

ومحمود بن محمد الخوارزمي ـ معاصر للشهرستاني ـ قال عن الشهرستاني في كتاب (تاريخ خوارزم) : (ولولا تخبطه في الاعتقاد وميله إلى هذا الالحاد لكان هو الإمام ...). معجم البلدان ٥ / ٣١٤ ـ ٣١٦.

وأبو سعد السمعاني (ت ٥٦٢ ه) ـ معاصر آخر للشهرستاني ـ أشار إلى أنه (متهم بالإلحاد والميل إليهم. غال في التشيع). التحبير في المعجم الكبير ٢ / ١٦١.

أما السبكي (ت ٧٧١ ه) فينقل ما ذكره السمعاني في التحبير ثم يقول : (وما أدري من أين ذلك لابن السمعاني ، فإن تصانيف أبي الفتح ـ أي الشهرستاني ـ دالة على خلاف ذلك). طبقات الشافعية الكبرى ٥ / ١٢٨ ـ ١٣٠.

هذا بالنسبة للقدماء.

والمحدثون أيضا منهم من تحامل عليه مثل :

الشيخ عباس القمي في الكنى والألقاب ٢ / ٣٧٤ ، والعلامة الأميني في الغدير ٣ / ١٤٢ ـ ١٤٧.

ومنهم من دافع عنه مثل بعض المستشرقين وبعض الكتاب المسلمين. راجع مقدمة بدران لكتاب (الملل والنحل).

٧

ولما كانت كل الاختلافات في شخصيته تدور حول موقفه من آل البيت ـ عليهم‌السلام ـ ومذهبهم ، فنحن ندرس هذا الموقف على ضوء ما وصلنا من مؤلفاته ، وخاصة تفسيره المخطوط المعروف باسم (مفاتيح الأسرار ومصابيح الأبرار) (٢).

الإمامة السياسية والإمامة الدينية

واضح أننا لا نجد في مصادر الفكر الإسلامي السياسية (القرآن والسنة) انفصال بين الإمامة السياسية والإمامة الدينية. ورسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله وسلم ـ جمع بين إمامة الدين والدنيا ، بسبب عدم انفصال الاثنين في نظر الإسلام ، لكن الذي حدث بعد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ هو ظهور نوع من الانفصال بين الإمامتين ، فكان في المجتمع الإسلامي دوما شخصية بارزة في الحكم هو (الخليفة) ، ثم كان في المجتمع أيضا (إمام) أو (أئمة) يرجع إليهم الناس في شؤون دينهم ، وتلقي أحكامهم.

هذا الانفصال ظهر ـ طبعا ـ في غير مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام ، لأن أتباع مدرسة أهل البيت كانوا يرون أن الإمامتين مجتمعتان في شخص (الإمام) ، وإن كان هذا الإمام مقصيا عن ممارسة دوره في الحكم.

جدير بالذكر أن هذا الانفصال بدأ يتضح ويتبلور أكثر فأكثر منذ نهضة الحسين بن علي ـ عليه‌السلام ـ بعد أن حطمت هذه النهضة قدسية الخلافة الأموية (٣) ، ثم بدأ الافتراق بين الإمامتين يتسع ويأخذ طابعا تشريعيا (٤) مع توالي

__________________

(٢) النسخة التي راجعناها من تفسير الشهرستاني تتضمن جزءين في مجلد واحد. وتحتوي على مقدمة وتفسير سورتي الحمد والبقرة فقط. وهي نسخة وحيدة ـ فيما نعلم ـ محفوظة في مكتبة مجلس الشورى الإسلامي ، تحت رقم ٨٠٨٦ / ٧٨ ب ، درسنا هذه النسخة وحققنا جزء منها ، في رسالة الدكتوراه ، محفوظة في كلية الإلهيات والمعارف الإسلامية / جامعة طهران.

(٣) ارجع حول دور ثورة الحسين في تحطيم قدسية الخلافة الأموية إلى كتاب : (ثورة الحسين) ، محمد مهدي شمس الدين.

(٤) ارجع إلى (نظام الحكم والإدارة في الإسلام) ، محمد مهدي شمس الدين ، ص ٩٧ ـ ٩٩ و ١٠٣ ـ ١٠٤ و ١٠٧ ـ ١١٢ ، ففيه توضيح مستند بشأن اتخاذ الإمامة السياسية طابعا بعيدا عن المعايير الرسالية.

٨

الخلفاء المروانيين والعباسيين ، بسبب ابتعاد هؤلاء الخلفاء بدرجة وأخرى عما ينبغي أن يتحلى به إمام الدين من علم وفقاهة وتقوى والتزام.

وهذه مسألة هامة توضح لنا كثيرا من المسائل الغامضة في حياة الشخصيات الموالية لأهل البيت ولاء عاطفيا وفكريا من أبناء السنة والجماعة ... ومنهم الشهرستاني.

كتاب (الملل والنحل) متحامل على الشيعة والفرق الشيعية بشكل واضح ، لكن الشهرستاني حين يتحدث عن الإمام الصادق ـ عليه‌السلام ـ يتبين من حديثه الأمران المذكوران : أولا ـ ولاؤه العاطفي والفكري للصادق ، وثانيا ـ الانفصال بين الإمامتين الدينية والسياسية.

يقول : (وهو [الإمام الصادق] ذو علم غزير في الدين ، وأدب كامل في الحكمة ، وزهد بالغ في الدنيا ، وورع تام عن الشهوات. وقد أقام بالمدينة مدة ، يفيد الشيعة المنتمين إليه ويفيض على الموالين له أسرار العلوم ، ثم دخل العراق وأقام بها مدة ، ما تعرض للإمامة قط [المقصود طبعا الإمامة السياسية] ولا نازع أحدا في الخلافة قط ، ومن غرق في بحر المعرفة لم يطمع في شط ، ومن تعلى إلى ذروة الحقيقة لم يخف من حط ...) (٥).

ومن الطبيعي أن تكبر في نظر الشهرستاني ـ وهو الحكيم العالم ـ مكانة الإمامة العلمية الدينية ، وتصغر في عينه الإمامة السياسية. ومن الطبيعي أن نرى عكس هذه النظرة ـ أي تضخم الإمامة السياسية ـ عند العامة الدهماء من الناس ، وعند المنهارين أمام مراكز القوة والذين لا يقيمون وزنا لعلوم الدين وأهلها ، وهذه ظاهرة واضحة في مل عصور التاريخ الإسلامي.

مذهب أهل السنة والجماعة وأهل البيت

الشهرستاني في تفسيره المخطوط يتحدث عن تفرق الأمة المسلمة إلى مذاهب شتى ، ويشير إلى أن الفرقة الناجية هي أهل السنة والجماعة ... ثم ينقل

__________________

(٥) الملل والنحل / تحقيق بدران

١ / ١٤٨.

٩

حديثا عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ عن معنى السنة والجماعة ، يقول :

(قال الذين لهم وجهة الحق : كما كان أمة وجهة وقبلة هم مولوها ، فالفلاسفة وجهتهم إلى العقل والنفس ، والصابئة وجهتهم إلى الهياكل والأصنام ، واليهود وجهتهم إلى البيت المقدس ، وبعضهم إلى الشمس ، والمجوس وجهتهم إلى النور ، وبعضهم إلى الشمس ، والمسلمون وجهتهم إلى الكعبة ، وقد تعينت الكعبة قبلة للناس حقا ، كذلك لكل أمة وفرقة وجهة إمام هم مولوه ومذهب هم متقلدوه ، كما قال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ، الناجية منها واحدة ، والباقون هلكى. وكما أن الجهات كلها قد بطلت إلا جهة واحدة هي الكعبة بيت الله الحرام ، كذلك الفرق كلها قد هلكت إلا فرقة واحدة هم أهل السنة والجماعة ، كما قال في جواب السائل : وما السنة والجماعة؟ قال : ما أنا عليه اليوم وأصحابي ...) (٦).

النص واضح في أن الشهرستاني على مذهب أهل السنة والجماعة ، ولكنه لا يفهم هذا المذهب كما أراد الأمويون أن يبلوروه ويجعلوه جبهة مقابلة لأهل البيت ، بل يفهم هذا المذهب بأنه ما كان عليه السلف الصالح في عصر صدر الإسلام.

وكيف كان موقف هذا السلف من أهل البيت؟ يقول الشهرستاني في تفسيره :

(ولقد كانت الصحابة ـ رضي‌الله‌عنهم ـ متفقين على أن علم القرآن مخصوص بأهل البيت عليهم‌السلام ، إذ كانوا يسألون علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ : هل خصصتم أهل البيت دوننا بشئ سوى القرآن؟ وكان يقول : لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا بما في قراب سيفي هذا ... الخبر (٧).

__________________

(٦) الورقة ٢٦٩ من المخطوطة.

(٧) والذي في قراب سيفه كما يبدو من الروايات هو الصحيفة ، وهو كتاب في الديات (المراجعات ، المطبوع مع تحقيق الراضي / ص ٤١١). وأخرج أحمد عن طارق بن شهاب ، قال : شهدت عليا ـ رضي الله عنه ـ وهو يقول على المنبر : (والله ما عندنا كتاب نقرؤه عليكم إلا كتاب الله تعالى وهذه الصحيفة ـ وكانت صحيفة معلقة بسيفه ـ أخذتها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ... الحديث) ، مسند أحمد بن حنبل ٢ / ١٢١ ح ٧٨٢.

١٠

فاستثناء القرآن بالتخصيص دليل على إجماعهم بأن القرآن وعلمه ، تنزيله وتأويله ، مخصوص بهم ، ولقد كان حبر الأمة عبد الله بن عباس ـ رضي‌الله‌عنه ـ مصدر تفسير جميع المفسرين ، وقد دعا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بأن قال : اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ، تتلمذ لعلي ـ رضي‌الله‌عنه ـ حتى فقهه في الدين وعلمه التأويل) (٨).

ولو جمعنا بين النصين المذكورين أعلاه لا تضح أن كل من على مذهب أهل السنة والجماعة لا بد أن يرجع في فهم كتاب الله ـ على رأي الشهرستاني ـ إلى أهل البيت ، لأن الصحابة فعلوا ذلك.

ضرورة الرجوع إلى أهل البيت

ذكرنا أن الشهرستاني يرى أن الصحابة كانوا مجمعين على أن فهم القرآن مختص بأهل البيت ، وينقل في هذا المجال أحاديث توكد على عدم انفصال القرآن عن أهل البيت ، من ذلك يروي (أن أبا ذر الغفاري ـ رضي‌الله‌عنه ـ شهد الموسم بعد وفاة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، فلما احتفل الناس في الطواف وقف بباب الكعبة وأخذ بحلقة الباب ونادى : أيها الناس ، ثلاثا ، فاجتمعوا وأنصتوا ، ثم قال : من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا أبو ذر الغفاري ، أحدثكم بما سمعته من رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، سمعته حين احتضر يقول : إني تارك فيكم الثقلين ، كتاب الله وعترتي ، وإنهما لم يفترقا حتى يردا على الحوض كهاتين ـ وجمع بين إصبعيه المسبحتين من يديه وساوى بينهما ـ ولا أقول كهاتين ـ وقرن بين إصبعه الوسطى والمسبحة من يده اليمنى ـ لأن إحداهما تسبق الأخرى ، ألا وإن مثلهما فيكم مثل سفينة نوح ، من ركبها نجا ومن تركها غرق) (٩).

مثل هذا التأكيد على ضرورة الرجوع إلى أهل البيت ينقله الشهرستاني

__________________

(٨) الورقة ١ / أمن المخطوطة.

(٩) الورقة ٢٦ / أ ، ب من المخطوطة.

١١

عن الإمام الصادق ـ عليه‌السلام ـ ، قال :

(عن جعفر بن محمد ـ عليه‌السلام ـ : إن رجلا سأله فقال : من عندنا يقولون في قوله تعالى : فاسألوه أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ، أن الذكر هو التوراة ، وأهل الذكر هم علماء اليهود ، فقال : إذن والله يدعوننا إلى دينهم ، بل نحن والله أهل الذكر الذين أمر الله تعالى برد المسألة إلينا. وكذلك نقل عن علي ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : نحن أهل الذكر) (١٠).

علم علي عليه‌السلام

يعقد الشهرستاني في تفسير كل مقطع قرآني فصلا تحت عنوان (الأسرار) يبين فيه الأبعاد العميقة للآيات ، ويشير في المقدمة إلى أنه حصل على هذه الأسرار من البيت العلوي ، وخلال فصوله يركز على علم علي بن أبي طالب ـ عليه‌السلام ـ داعما حديثه بروايات ينقلها عن علي والصحابة من ذلك ما ذكرناه بشأن تتلمذ ابن عباس لعلي ، وما رواه : (عن ابن مسعود ـ رضي‌الله‌عنه ـ : إن القرآن أنزل على سبعة أحرف ، ما منها حرف إلا له ظهر وبطن ، فإن عليا عنده منه علم الظاهر والباطن) (١١).

(وقد قال علي ـ رضي‌الله‌عنه ـ والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيم أنزلت وأين أنزلت ، إن ربي وهب لي قلبا عقولا ، ولسانا سؤولا).

(وقال علي ـ رضي‌الله‌عنه ـ : سلوني قبل أن تفقدوني ، فما أحد أعرف مما في اللوحين مني).

نتيجة الابتعاد عن أهل البيت

يرى الشهرستاني أن ما وقع للمسلمين من تحير فكري واختلاف عقائدي

__________________

(١٠) هذه الرواية نقلها المجلسي في بحاره عن تفسير الشهرستاني (البحار ٢٣ / ١٧٢).

(١١) و (١٢) الورقة ٢٥ / ب من المخطوطة.

(١٣) الورقة ٢٦ / ب من المخطوطة.

١٢

كان سببه الابتعاد عن أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ ، يقول ـ بعد أن يصف تحير المتحيرين في تفسير القرآن :

(وإنما وقع لهم هذا التحير لأنهم ارتابوا العلم من بابه ، ولم يتعلقوا بذيل أسبابه ، فانغلق عليهم الباب ، وتقطعت بهم الأسباب ، وذهبت بهم المذاهب حيارى ضالين : (ذلك بأنهم كذبوا بآيات الله وكانوا عنها غافلين) (١٤) وآيات الله أولياؤه ، كما قال تعالى : (وجعلنا ابن مريم وأمه آية) (١٥) ، وقد قال عز من قائل : (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) (١٦) ، ولا كل مستنبط مصيب ، وإلا لبطل فائدة (منهم) و (منهم).

وأذكر الخبر عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : (علي مني وأنا منه) (١٧) ، وقال حين نزلت سورة براءة : (يبلغها رجل منك) ...) (١٨).

يتحدث الشهرستاني في مقدمة تفسيره عن جمع القرآن وعن المصاعب والمشاكل التي واجهت المسلمين في لم شتات القرآن ، ويرى أنهم لو تركوا هذه المسؤولية لأهل البيت ما واجهوا هذه العقبات ، ولكن (الذين تولوا جمعه ... لم يراجعوا أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ في حرف بعد اتفاقهم على أن القرآن مخصوص بهم ، وأنهم أحد الثقلين في قول النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : (إني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي ـ وفي رواية ـ أهل بيتي ، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا ، وإنهما لم يفترقا حتى يردا علي الحوض) (١٩) ...) (٢٠).

* * *

__________________

(١٤) كذا في الأصل ، وفي القرآن : (ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين الأعراف / ١٤٦.

(١٥) المؤمنون / ٥٠.

(١٦) النساء / ٨٣.

(١٧) صحيح الترمذي ٥ / ٢٩٦ ح ٣٧٩٦.

(١٨) الورقة ٢٥ / ب من المخطوطة.

(١٩) راجع مصادر الحديث من كتب الصحاح والمسانيد في (البيان في تفسير القرآن) للسيد الخوئي / ص ٤٩٩ ، وسبيل النجاة في تتمة المراجعات للراضي / ص ٢٠ ـ ٢٢.

(٢٠) الورقة ٥ / أمن المخطوطة.

١٣

الانحراف عن أهل البيت كانحراف الأمم السابقة

يشير الشهرستاني في مواضع عديدة من تفسيره إلى أن ما جرى على أهل البيت من ابتعاد وإقصاء إنما يشبه ما حدث من انحرافات في الأمم السابقة. فما جرى على (طالوت) جرى على (علي) ، وما جرى لبني إسرائيل جرى لقتلة الحسين ابن علي ... وأمثال هذه التشبيهات كثيرة نذكر على سبيل المثال قوله في تفسير آيات قصة طالوت وجالوت :

(إن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ قال : (أنت يا علي طالوت هذه الأمة وذو قرنها) وعلى هذا لتمثيل يجب أن يجري ما أمكن من أحكام طالوت في علي ابن أبي طالب ـ رضي‌الله‌عنه ـ. من قول نبيهم : (إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا). وقول بعضهم : (أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه) ، أي بالولاية والإمارة ، (ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا). هذا من جهة اختيار الله ، (وزاده بسطة في العلم) فهو أعلم الناس وأقضاهم ، (والجسم) فهو أشجع الناس وأقواهم. وهذا من جهة نفسه ، (والله يؤتي ملكه من يشاء). والملك ملك الدين. والله واسع العطاء عليم بمواضع العطاء ...).

ويقول في بيان أسرار قوله تعالى : (وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل) (٢٢) :

(قال المعتبرون بقصص القرآن : ما من قصة في القرآن إلا ووزانها موجود في هذه الأمة ، إما فيما مضى من الزمان ، وإما فيما يستقبل ، فلئن ظهر في بني إسرائيل فتنة عبادة العجل من السامري بعد غيبة موسى ـ عليه‌السلام ـ ، وفي زمان خلافة هارون ـ عليه‌السلام ـ ، كذلك ظهرت في هذه الأمة فتن في عباده العجال واتخاذهم أئمة خلفاء يعبدونهم عبادة القوم في بني إسرائيل ، يحلون الحرام ،

__________________

(٢١) الورقة ٣٨٨ / ب ، والورقة ٣٨٩ / أمن المخطوطة.

(٢٢) البقرة / ٥٤.

١٤

ويحرمون الحلال ، فيتابعونهم على ذلك. ومن أصغى إلى أحدهم فقد عبده. وهم الذين رآهم النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ في نعمته على المنبر : (كأن رجالا ينزون على منبري نزو القردة) وأنزل الله تعالى : (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن) ، فدفعت جماعة أولياء الله عن حقهم ، وقتلت جماعة أولياء الله بغير حق ، وكلهم يعبدون عجلا نصبوه ... فكما أمر عبدة العجل بقتل أنفسهم على ما حكى في القصة ، كذلك أنزل الله سخطه على عبدة العجال في هذه الأمة حتى قتل في ساعة من نهار سبعون ألفا من قتلة الحسين ـ رضي‌الله‌عنه ـ وهم عاكفون على عبادة يزيد ، زاده الله عقابا في النار. وتلك السحابة السوداء بعد باقية حيت يبلغ الكتاب أجله ...) (٢٣).

المصاديق القرآنية وأهل البيت

في كتب التفسير روايات كثيرة توضح مصداق الآية القرآنية ، وقسم كبير من هذه الروايات يجعل أهل البيت مصداقا لم أثنى عليهم القرآن ومجدهم وأكد على حقوقهم.

الشهرستاني في تفسيره ينحى هذا المنحى ، ويسمي عملية الكشف عن المصداق باسم (تشخيص الخاص) ، فالعام يحتاج إلى تخصيص ، والخاص يحتاج ـ على رأي الشهرستاني ـ إلى تشخيص ، وهذا التشخيص هو نفسه عملية (التأويل) لآيات القرآن الكريم.

قال في بيان أسرار قوله تعالى : (ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير) (٢٤) :

(قال المصلحون لأموال اليتامى : إن أول يتيم في الدين من قال في حقه : (ألم يجدك يتما فآوى) ، وهو الدر اليتيم ، وهو الفرد من الدر الذي لا زوج له. وإنما آواه بأبي طالب على قول عامة المفسرين. والإصلاح له : اتباعه ، والمناصحة

__________________

(٢٣) الورقة ١٥٤ من المخطوطة.

(٢٤) البقرة / ٢٢٠.

١٥

له ، والقيام بأمره.

واليتيم الثاني : علي بن أبي طالب أخوه في الدين ومولاه بمعنى الاتباع ، ومولى المؤمنين بحكم الاستتباع (من كنت مولاه فعلي مولاه) ، والإصلاح له موالاته ومشايعته ، والحب له في الله ، وهو يتيم عن والده ، فآواه رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ كفاء لحق والده إذ آواه.

واليتيم الثالث : فاطمة عليها‌السلام. ومن بقي عن مثل المصطفى فهو أحق باليتم. والإصلاح لها إعطاء حقها ومعرفة قدرها ، وتعظيم شأنها وأمرها. وكذلك أولادها فهم اليتامى ، ورثوا يتمهم من آبائهم الطاهرين. وهم الأفراد من الدر اليتيم) (٢٥).

وقال فيما قاله عن أسرار قوله تعالى : (ولنبلونكم بشئ من الخوف والجوع ... أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون) (٢٦).

(... وسر آخر : الآية خاصة بجماعة من المهتدين الهادين المهديين. وكذلك الصلوات خاصة بهم ، بها أرفع الدرجات التي يرتقي إليها الإنسان ، ولا يجوز إطلاقها إلا على الأنبياء والأولياء ، ولذلك نقول : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ، والوصل والصلة من باب واحد ، وصلى ووصل على نمط ، (ولقد وصلنا لهم القول) ، (والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل) ، وكما وصل القول الحق ، والأمر العدل ، من إبراهيم إلى إسماعيل إلى أولاده الطاهرين حتى ظهر بصاحب الشريعة الآخرة ، كذلك وصل القول منه إلى أهل بيته المطهرين حتى ينتهي إلى يوم الدين ، صلاة دائمة يزكيها إلى يوم الدين ، كما صلى على إبراهيم وآل إبراهيم ، إنه حميد في القول الأول ، مجيد في القول الآخر. وهذا معنى الصلوات على النبي وآله فيما يلي عالم الخلق على الأشخاص ، ثم الصلوات على النبي وآله فيما يلي عالم الأمر على الأرواح ، فهي أشرف البركات ، وأعلى التحيات ، وأطيب الطيبات على أرواح الطاهرين والطاهرات من المسلمين والمسلمات ، والمؤمنين والمؤمنات ،

__________________

(٢٥) الورقة ٣٥٩ من المخطوطة.

(٢٦) البقرة / ١٥٥ ـ ١٥٧.

١٦

وذلك خاص بقوم مخصوصين.

وكما اختص الجزاء بهم ، كذلك اختص البلاء بهم ، (ولنبلونكم بشئ من الخوف والجوع) خاص بهم ، نازل فيهم ، ومن خص بالخوف والجوع في الدنيا قيل له في العقبى : (لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون). ومن خص بنقصان في المال والنفس والولد خص بكمال في الحال والنفس والولد ، وفي شأنهم : (وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا) ... الآيات.

فهم أصحاب الكساء خمسة أشخاص ، ولهم من البلاء خمسة أحوال ، و (عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون) ، ومن كان من محبيهم يبتلى بواحد أو اثنين كان له من الصلوات والرحمة على قدر بلائه ، (ومن أحبنا أهل البيت فليعد للبلاء جلبابا) ...) (٢٧).

أهل البيت يرفضون الغلو

لم يترك الشهرستاني حديثه عن أهل البيت دون أن يشير إلى رفض أهل البيت للغلو وللاتجاه الباطني المعرض عن ظواهر الشريعة. وهو بذلك يبين أن إيمانه بمدرسة أهل البيت لا يشوبها غلو الغالين ، ولا انحرافات الباطنيين.

ولعله أراد بذلك أن يدافع عن نفسه تجاه ما رشقه به معاصروه من تهمة الميل إلى أهل القلاع.

يذكر في مقدمة تفسيره (إن سدير الصيرفي سأل جعفر بن محمد الصادق ـ عليه‌السلام ـ فقال : جعلت فداك ، إن شيعتكم اختلفت فيكم ، فأكثرت حتى قال بعضهم : إن الإمام ينكت في أذنه ، وقال آخرون : يوحى إليه ، وقال آخرون : يقذف في قلبه ، وقال آخرون : يرى في منامه ، وقال آخرون : إنما يفتي بكتب آبائه ، فبأي جوابهم آخذ جعلني الله فداك؟ قال : لا تأخذ بشئ مما يقولون يا سدير ، نحن حجة الله وأمناؤه على خلقه ، حلالنا من كتاب الله ، وحرامنا

__________________

(٢٧) الورقة ٢٧٧ / ب من المخطوطة.

١٧

منه) (٢٨).

وفي موضع آخر من المقدمة قال : (روي أن الفيض بن المختار دخل على جعفر بن محمد ـ عليه‌السلام ـ فقال : جعلت فداك ، ما هذا الاختلاف الذي بين شيعتك ، فإني ربما أجلس في حلقتهم بالكوفة فأكاد أشك ، فأرجع إلى المفضل فأجد عنده ما أسكن إليه. فقال أبو عبد الله : أجل ، إن الناس أغروا بالكذب علينا ، حتى) كأن الله ـ عزوجل ـ فرضه عليهم لا يريد منهم غيره ، وإني لا حدث أحدهم الحديث فلا يخرج من عندي حتى تناوله على غير تأويله) (٢٩).

ويروي أيضا أن الإمام الصادق ـ عليه‌السلام ـ : (كتب إليه أن قوما من شيعته قالوا : إن الصلاة رجل ، والصوم رجل ، والزكاة رجل ، والحج رجل ، فمن عرف ذلك الرجل فقد صلى وصام وزكى وحج ، وكذلك تأولوا المحارم على أشخاص ، فقال :

من كان يدين الله بهذه الصفة التي سألت عنها فهو عندي مشرك بين الشرك. واعلم أن هؤلاء القوم قوم سمعوا ما لم يقفوا على حقيقته ، ولم يعرفوا حدود تلك الأشياء مقايسة برأيهم ، ومنتهى عقولهم ، ولم يضعوها على حدود ما أمروا به تكذيبا وافتراء على الله وعلى رسوله ، وجرأة على المعاصي ، والله تعالى لم يبعث نبيا يدعو إلى معرفة لبس فيها طاعة ، وإنما يقبل الله ـ عزوجل ـ العمل من العباد بالفرائض التي أفرضها عليهم بعد معرفة من جاء بها من عنده. فأول ذلك معرفة من دعا إليه ، وهو الله الذي لا إله إلا هو ، وتوحيده ، والإقرار بربوبيته ، ومعرفة الرسول الذي بلغ عنه ، وقبول ما جاء به ، ثم معرفة الأئمة بعد الرسل الذين افترض طاعتهم في كل عصر وزمان على أهله ، ثم العمل بما افترض الله ـ عزوجل ـ تحريما ظاهرا وباطنا ، وإنما حرم الظاهر بالباطن ، والباطن بالظاهر جميعا ، والأصل والفرع كذلك) (٣٠).

__________________

(٢٨) الورقة ٢٥ / ب من المخطوطة.

(٢٩) الورقة ٢٦ / أمن المخطوطة.

(٣٠) الورقة ٢٦ / أ. الرواية في البحار

٢٤ / ٢٨٦ ـ ٢٨٩.

١٨

مصادر الشهرستاني في معرفة مدرسة أهل البيت

ليس من العسير أن نستنتج من خلال ما كتبه الشهرستاني في (الملل) والنحل) أنه كان على اطلاع واسع بشأن مصادر المذاهب المختلفة ، ويتبين من خلال تفسيره المخطوط أنه بحث عن علوم أهل البيت ـ بعد أن آمن بمنزلتهم ومكانتهم ـ لدن من عنده أثارة من علوم آل محمد ، سواء كان من الصوفية ، أو من أهل الحديث ، أو من الشيعة الإمامية ، أو الإسماعيلية ، آخذا ما كان في اعتقاده من علوم آل البيت ورافضا ما كان ـ في اعتقاده ـ منحولا عليهم ، غير متقيد بمعتقدات مدرسة مذهبية معينة.

ويبدو أن أول من وجهه إلى علوم أهل البيت هو أستاذه الأنصاري (٣١). يقول في مقدمة تفسيره : (ولقد كنت على حداثة سني أسمع تفسير القرآن من مشايخي سماعا مجردا حتى وفقت فعلقته على أستاذي ناصر السنة أبي القاسم سلمان بن ناصر الأنصاري ـ رضي‌الله‌عنه ـ تلقفا ، ثم أطلعني [من] مطالعات كلمات شريفة عن أهل البيت وأوليائهم ـ رضي‌الله‌عنهم ـ على أسرار دفينة وأصول متينة في علم القرآن ...).

ويبدو أن الأنصاري كان حافزا للشهرستاني كي بطلب مزيدا من علوم أهل البيت ، فبدأ يبحث ، وإذا هو يعثر على ضالته عند (عبد من عباد الله الصالحين) ، يقول في المقدمة بعد الفقرة المذكورة :

(... وناداني من هو في شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة الطيبة : (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين).

فطلبت الصادقين طلب العاشقين ، فوجدت عبدا من عباد الله الصالحين ، كما طلب موسى ـ عليه‌السلام ـ مع فتاه (فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من

__________________

(٣١) أبو القاسم ، سلمان بن ناصر الأنصاري ، من أهل نيسابور ، عالم في التفسير ، ومن أهل العرفان والتصوف. راجع ترجمته في طبقات الشافعية الكبرى للسبكي ٧ / ٩٦ ، وتاريخ نيسابور / ٣٨٦ ، العبر ٤ / ٢٧.

١٩

عندنا وعلمناه من لدنا علما) فتعلمت مناهج الخلق والأمر ، ومدارج التضاد والترتب ، ووجهي العموم والخصوص ، وحكمي المفروغ والمستأنف ، فشبعت من هذا المعا الواحد دون الأمعاء التي هي مآكل الضلال ومداخل الجهال ...) (٣٢).

ولا يوضح لنا الشهرستاني من هو العبد الصالح هذا ، بل يتضح من القرائن أنه رجل يحمل علوم أهل البيت ، لأن ما تعلمه منه هو أسس الأسرار المذكورة في تفسيره. وهذه الأسرار لا ينسبها الشهرستاني لنفسه حين يذكرها ، بل ينسبها إلى آخرين. يقول مثلا ... قال أهل القرآن ... قال أصحاب الأسرار ، وهو يوضح هذه النسبة في آخر الفصل السابع من مقدمته فيقول :

(وإذا قلت : قال أهل القرآن ، وأصحاب الأسرار ، أو الذي شققت له اسما من معنى الآية ، فلا أريد به نفسي عياذا بالله ، وإنما أريد الصديقين من أهل بيت النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فهم الواقفون على الأسرار ، وهم من المصطفين الأخيار) (٣٣).

ثم إن الشهرستاني حين ينقل أحاديث عن أهل البيت أو روايات في فضلهم لا يذكر ـ مع الأسف ـ مصادره ، ولا أسانيده ، بل ينقلها مرسلة ، ولذلك لا نستطيع أن نتعرف على مصادره سوى ما ذكرنا ، وسوى كتابين حديثيين ذكرهما في مقدمته ، الأول : صحيح البخاري ، والثاني : الكافي للكليني.

لكن الشهرستاني قد رجع حتما إلى كتب أخرى للحصول على علوم أهل البيت ، ولا نستبعد أن تكون بعض مراجعه إسماعيلية.

تلخيص واستنتاج

الشهرستاني رجل استطاع أن يتجاوز الإطار الأموي الذي ضرب على الفكر الإسلامي ... وفهم مذهب أهل السنة والجماعة على أنه العمل بما كان عليه رسول الله وأصحابه ... وهذا يفرض الولاء الفكري لمدرسة أهل البيت

__________________

(٣٢) الورقة ١ / ب من المخطوطة.

(٣٣) الورقة ١٨ / أمن المخطوطة.

٢٠