بحوث في مباني علم الرجال

محمّد صالح التبريزي

بحوث في مباني علم الرجال

المؤلف:

محمّد صالح التبريزي


الموضوع : رجال الحديث
الناشر: مؤسسة انتشارات مدين
المطبعة: سرور
الطبعة: ١
ISBN: 964-6642-97-7
الصفحات: ٣٤٣

١
٢

٣
٤

٥
٦

الفهرس الإجمالي

تقديم................................................................... ٩ ـ ١٠

المقدّمة................................................................ ١١ ـ ٢١

المدخل : الحاجة لعلم الرجال............................................. ٢٣ ـ ٦٨

الفصل الأوّل : ميزان حجّتية التوثيق والتعيف............................. ٦٩ ـ ١٢٠

الفصل الثاني : في ما تثبت به الوثاقة أو الحّسن.......................... ١٢١ ـ ١٧٦

الفصل الثالث : في المناهج وأنماط البحث الرجالي....................... ١٧٧ ـ ١٩٩

الفصل الرابع : في أحوال الكتب...................................... ٢٠١ ـ ٢٥٢

الخاتمة.............................................................. ٢٥٣ ـ ٣٣٦

مصادر الكتاب..................................................... ٣٣٧ ـ ٣٣٩

محتويات الكتاب.................................................... ٢٤٠ ـ ٢٤٤

٧
٨

تقديم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الذي ندب المؤمنين لينفر طائفة منهم ليتفقّهوا في الدين من معدن مشكاة النبوّة والعصمة ، ولينذروا بالرواية والفتوى قومهم والأجيال اللاحقة.

والصلاة والسلام على سيّد المرسلين الذي ترحّم على الذين يأتون بعده فيروون أحاديثه ، وعلى آله الأوصياء الذين رغّبوا في المنازل على قدر الرواية عنهم والدراية لها.

وبعد .. فإنّ الواجب من التمسّك بسنّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأوصياءه المعصومين عليهم‌السلام في استنباط الأحكام الشرعيّة يتوقّف على تمحيص الطرق والأسانيد للأحاديث عنهم صلوات الله عليهم ، سواء في أخبار الآحاد أو في تقدير التواتر والاستفاضة وما يلابس ذلك من مقدّمات ولوازم ، وهذا ما يتكفّل به علم الرجال ، وهو لا يتمّ الخوض فيه بمتانة ورصانة إلّا بتنقيح المباني والاسس العامّة للجرح والتعديل ، والتوثيق والتحسين ، فإنّها مبادئ تصديقيّة لبحث علم الرجال ، وبلحاظ آخر بمثابة قواعد عامّة للبحث الرجالي ، وهي تنطوي على مقدّمات اصوليّة وفقهيّة ، في حين هي مسائل برزخيّة بين علمي الاصول والرجال ،

٩

وبمنزلة تطبيقات اصوليّة تحليليّة على موادّ رجاليّة ، وقد وفّق تعالى لبحثها مع مجموعة من الأفاضل في السنين الماضية ، وقد قام السيّد الفاضل النحرير محمّد صالح ابن السيّد مهدي التبريزي أدام الله مثابرته العلميّة ونشره لعلوم الدين بتقرير تلك البحوث وتقويمها ومتابعة المصادر بجدّ وجهد وافر ، فشكر الله سعيه وأجزل توفيقه.

١١ ذي القعدة ميلاد ثامن الأوصياء

الإمام الرضا

الثاوي بأرض طوس ـ ١٤٢٠ ه‍. ق

محمّد السند

١٠

مقدمة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وبه نستعين ، الحمد ربّ العالمين.

وصلّى الله على رسوله وآله الطاهرين ،

ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.

وبعد ..

بداية علم الرجال

قد جرى الكلام في أوّل واضع لعلم الرجال في العهد الإسلامي ، إلّا أنّ الصحيح أنّ مبتدأ هذا العلم هو من قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ)(١) ، حيث إنّه دعوة لتمييز النبأ والخبر بين كون الناقل له فاسقاً أو عادلاً ، وقد أكّد هذه الدعوة قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أَيُّها النّاسُ ، قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ الْكَذّابَةُ فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النّارِ» (٢).

__________________

(١). الحجرات / ٦.

(٢) اصول الكافي ١ / ٦٢ ، كتاب فضل العلم ، باب اختلاف الحديث.

١١

ثمّ تابع تأكيد هذه الدعوة أيضاً أمير المؤمنين عليه‌السلام في ما رواه سليم بن قيس الهلالي ، قال : قلت لأمير المؤمنين عليه‌السلام : إنّي سمعت من سلمان والمقداد وأبي ذرّ شيئاً من تفسير القرآن وأحاديث عن نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله غير ما في أيدي النّاس ، ثمّ سمعت منك تصديق ما سمعت منهم ، ورأيت في أيدي النّاس أشياء كثيرة من تفسير القرآن ، ومن الأحاديث عن نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنتم تخالفونهم فيها ، وتزعمون أنّ ذلك كلّه باطل ، أفترى النّاس يكذبون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله متعمّدين ، ويفسّرون القرآن بآرائهم؟ قال : فأقبل علَيَّ فقال :

«قَدْ سَأَلْتَ فَافْهَمِ الْجَوابَ ، إِنَّ فِي أَيْدِي النّاسِ حَقّاً وَباطِلاً ، وَصِدقاً وَكِذْباً ، وَناسِخاً وَمَنْسُوخاً ، وَعامّاً وَخاصّاً ، وَمُحْكَماً وَمُتَشابهاً ، وَحِفْظاً وَوَهْماً ، وَقَدْ كُذِبَ عَلى رَسُولِ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله عَلى عَهْدِهِ حَتَّى قامَ خَطِيباً ، فَقالَ : أَيُّها النّاسُ ، قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ الْكَذّابَةُ فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النّارِ. ثُمّ كُذِبَ عَلَيْهِ مِنْ بَعْدِهِ. وَإِنَّما أَتاكُم الْحَدِيثُ مِنْ أَرْبَعَةٍ لَيْسَ لَهُمْ خامِسٌ :

رَجُلٌ مُنافِقٌ يُظْهِرُ الْايمانَ ، مُتَصَنِّعٌ بِالْإِسْلَامِ ، لَا يَتَأَثَّمُ وَلَا يَتَحَرَّجُ أَنْ يَكْذِبَ عَلى رَسُولِ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله مُتَعَمِّداً ، فَلَوْ عَلِمَ النَّاسُ أَنَّهُ مُنافِقٌ كَذّابٌ ، لَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ وَلَمْ يُصَدِّقُوهُ ، وَلكِنَّهُمْ قالُوا : هذا قَدْ صَحِبَ رَسُولَ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله وَرآهُ وَسَمِعَ مِنْهُ ، وَأَخَذُوا عَنْهُ ، وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ حالَهُ ، وَقَدْ أَخْبَرَهُ اللهُ عَنِ الْمُنافِقِينَ بِمَا أَخْبَرَهُ ، وَوَصَفَهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ فَقالَ عَزَّ وَجَلَّ : (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ)(١) ، ثُمَّ بَقُوا بَعْدَهُ فَتَقَرَّبُوا إِلى أَئِمَّةِ الضَّلَالَةِ وَالدُّعاةِ إِلَى النّارِ بِالزُّورِ وَالْكَذِبِ وَالْبُهْتانِ ، فَوَلَّوهُمْ الْأَعْمالَ ، وَحَمَلُوهُمْ عَلى رِقابِ النّاسِ ، وَأَكَلُوا بِهمُ الدُّنْيا ، وَإِنّما النّاسُ مَعَ الْمُلُوكِ

__________________

(١). المنافقون / ٤.

١٢

وَالدُّنْيا إِلَّا مَنْ عَصِمَ اللهُ فَهذا أَحد الْأَرْبَعَة.

وَرَجُلٌ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله شَيْئاً لَمْ يَحْمِلْهُ عَلى وَجْهِهِ وَوَهِمَ فِيْهِ ، وَلَمْ يَتَعَمَّدْ كِذْباً ، فَهُوَ فِي يَدِهِ يَقُولُ بِهِ ، وَيَعْمَلُ بِهِ ، وَيَرْوِيهِ ، وَلَوْ عَلِمَ هُوَ أَنَّهُ وَهْمٌ لَرَفَضَهُ.

وَرَجُلٌ ثالِثٌ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله شَيْئاً أَمَرَ بِهِ ثُمَّ نَهى عَنْهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ ، أَوْ سَمِعَهُ يَنْهى عَنْ شَيْءٍ ثُمَّ أَمَرَ بِهِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ ، فَحَفِظَ مَنْسُوخَهُ وَلَمْ يَحْفَظِ النَّاسِخَ ، وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ لَرَفَضَهُ ، وَلَوْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ إِذْ سَمِعُوهُ مِنْهُ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ لَرَفَضُوهُ.

وَآخَر رابِعٌ لَمْ يَكْذِبْ عَلى رَسُولِ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، مُبْغِضٌ لِلْكَذِبِ خَوْفاً مِنَ اللهِ وَتَعْظِيماً لِرَسُولِ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لَمْ يَنْسَهُ ، بَلْ حَفِظَ ما سَمِعَ عَلى وَجْهِهِ فَجاءَ بِهِ كَما سَمِعَ لَمْ يَزِدْ فِيْهِ ، وَلَمْ يُنْقِصْ مِنْهُ ، وَعَلِمَ النّاسِخَ مِنَ الْمَنْسُوخِ ، فَعَمِلَ بِالنّاسِخِ وَرَفَضَ الْمَنْسُوخَ ، فَإِنَّ أَمْرَ النَّبِيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مَثَلُ الْقُرْآنِ ناسِخٌ وَمَنْسُوخٌ ، [خاصٌّ وَعامٌ] ، وَمُحْكَمٌ وَمُتَشابِهٌ ، قَدْ يَكُونُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله الْكَلَامُ لَهُ وَجْهانِ كَلَامٌ عامٌّ ، وَكَلَامٌ خاصٌّ مِثْلُ الْقُرْآنِ ، وَقالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتابِهِ : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)(١) فَيَشْتَبِهَ عَلى مَنْ لَمْ يَعْرِفْ وَلَمْ يَدْرِ ما عَنى اللهُ بِهِ وَرَسُولُهُ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وَلَيْسَ كُلُّ أَصْحابِ رَسُولِ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله كَانَ يَسْأَلُهُ عَنْ الشَّيْءِ فَيَفْهَمُ ، وَكانَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْأَلُهُ ، وَلَا يَسْتَفْهِمُهُ ، حَتَّى أَنْ كانُوا لَيُحِبُّونَ أَنْ يَجِيءَ الْأَعْرَابِيُّ ، وَالطّارِي فَيَسْأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله حَتَّى يَسْمَعُوا.

وَقَدْ كُنْتُ أَدْخُلُ عَلى رَسُولِ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله كُلَّ يَوْمٍ دَخْلَةً وَكُلَّ لَيْلَةِ دَخْلَةً فَيُخَلِّينِي فِيْها أَدُورُ مَعَهُ حَيْثُ دارَ ، وَقَدْ عَلِمَ أَصْحابُ رَسُولِ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله أَنَّهُ لَمْ يَصْنَعْ ذلك بِأَحَدٍ مِنَ النّاسِ غَيْرِي ، فَرُبّما كانَ فِي بَيْتِي يَأْتِينِي رَسُولُ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله أَكْثَرَ ذلِكَ. وَكُنْتُ إِذا دَخَلْتُ عَلَيْهِ بَعْضَ مَنازِلِهِ ، أَخْلانِي ، وَأَقامَ عَنِّي نِسَاءَهُ فَلَا يَبْقى عِنْدَهُ غَيْرِي ، وَإِذا أَتانِي لِلْخَلْوَةِ

__________________

(١). الحشر / ٧.

١٣

مَعِي فِي مَنْزِلِي لَمْ تَقُمْ عَنِّي فاطِمَةُ ، وَلَا أَحَدٌ مِنْ بَنِيَّ.

وَكُنْتُ إِذا سَأَلْتُهُ أَجَابَنِي وَإِذا سَكَتُّ عَنْهُ ، وَفَنِيَتْ مَسَائِلِي إبْتَدَأَنِي.

فَمَا نَزَلَتْ عَلى رَسُولِ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله آيَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا أَقْرَأَنِيها وَأَمْلاها عَلَيَّ فَاكْتَتَبْتُها بِخَطِّي ، وَعَلَّمَنِي تَأْويِلَها وَتَفْسِيرَها ، وَناسِخَها وَمَنْسُوخَها ، وَمُحْكَمَها وَمُتَشابِهَها ، وَخاصَّها وَعامَّها ، وَدَعا اللهَ أَنْ يُعْطِيَنِي فَهْمَها وَحِفْظَها فَمَا نَسِيتُ آيَةً مِنْ كِتابِ اللهِ ، وَلَا عِلْماً أَمْلَاهُ عَلَيَّ وَكَتَبْتُهُ مُنْذُ دَعا اللهَ لِي بِما دَعا.

وَما تَرَكَ شَيْئاً عَلَّمَهُ اللهُ مِنْ حَلَالٍ وَلَا حَرامٍ ، وَلَا أَمْرٍ وَلَا نَهْي كانَ أَوْ يَكُونُ ، وَلَا كِتابٍ مُنْزَلٍ عَلى أَحَدٍ قَبْلَهُ مِنْ طاعَةٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ ، إِلَّا عَلَّمَنِيهِ وَحَفِظْتُهُ ، فَلَمْ أَنْسَ حَرْفاً واحِداً.

ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلى صَدْرِي وَدَعا اللهَ أَنْ يَمْلَأَ قَلْبِي عِلْماً وَفَهْماً وَحُكْماً وَنُوراً فَقُلْتُ : يا نَبِيَّ اللهِ ، بِأَبِي أَنْتَ وَامِّي مُنْذُ دَعَوْتَ اللهَ لِي بِمَا دَعَوْتَ لَمْ أَنْسَ شَيْئاً ، وَلَمْ يَفُتْنِي شَيْءٌ لَمْ أَكْتُبْهُ أَفَتَتَخَوَّفُ عَلَيَّ النِّسْيانَ فِيمَا بَعْدُ؟ فَقَالَ : لَا لَسْتُ أَتَخَوَّفُ عَلَيْكَ النِّسْيانَ وَالْجَهْلَ» (١).

فإنّ في كلامه عليه‌السلام بيان لُاصول علم الدراية وعلم الحديث ، من أحوال الخبر وكيفيّات النقل ، مضافاً إلى أحوال الراوي الناقل من ناحية الصفات العمليّة والعلميّة

تعريف علم الرجال

وقد عُرّف بتعاريف عديدة متقاربة ، محصّلها : إنّه العلم الباحث عن رواة الأخبار ، وتشخيصهم ذاتاً وصفةً ، وتوفّرهم على شرائط القبول ، وهذا بخلاف

__________________

(١) اصول الكافي ١ / ٦٢ ، كتاب فضل العلم ، باب اختلاف الحديث.

١٤

علم الدراية الباحث عن أحوال الحديث متناً وسنداً ، وكيفيّة تحمّله وآدابه ، وأمّا التعرّض لسند الحديث فيه فهو بما هو من أحوال الخبر وصفة له ، أي أنّ البحث في مجموع السند ، وأنّه على أي درجة ، وبالتالي فلا يبحث فيه عن أحوال أفراد السند بأشخاصهم وأعيانهم ، وإنّما البحث فيه من قبيل الكبرى ، بينما الصغرى يتكفّلها علم الرجال.

وبذلك يتّضح موضوع علم الرجال ، ويتّضح امتيازه عن موضوع علم الدراية ، وكذلك تتّضح الفائدة منه ، مضافاً إلى ما سيأتي في المدخل من بيان وجه الحاجة لعلم الرجال ، إلّا أنّنا نضيف في المقام فوائد اخرى :

منها زيادة البصيرة في المسائل الاعتقاديّة ؛ وذلك لانطواء البحث الرجالي على دراسة الفرق المنحرفة والمستقيمة ، وهذا يعطي للباحث إلماماً بموارد الانحراف وكيفيّة نشوئه ، والاطّلاع على المذاهب الاعتقاديّة المختلفة ، كما تجد ذلك في ترجمة أمثال : محمّد بن أبي زينب ، ويونس بن ظبيان ، والمغيرة بن سعيد ، وبنان.

كما أنّه يوقف المتتبّع في الأبحاث الرجاليّة على مذاق الشرع في كثير من الامور باطّلاعه على سيرتهم عليهم‌السلام مع مختلف أصناف الرواة ؛ إذ تعاملهم معهم تجسيد عملي لرأي الشارع المقدّس تجاه أدقّ المسائل الحالكة المعضلة في أبواب كثيرة.

وبعبارة اخرى : إنّ البحث الرجالي تدقيق عميق في سيرة الأئمّة العمليّة واتّجاههم في قبال الاعتقادات الموجودة في زمانهم ؛ وبكلمة : أنّ البحث الرجالي في المفردات بمثابة الفتوى في الأحكام الاعتقاديّة المنطبقة على تلك المفردة ، وعليه فالباحث الرجالي لا غنى له عن الاعتماد على مذهب كلامي في الجرح

١٥

أو التعديل للمفردة الرجاليّة.

ومنها الاطّلاع على مسائل اعتقاديّة انفرد علم الرجال بتحريرها ، حيث إنّ هناك من المسائل الاعتقاديّة التي لم تُحرّر في علم الكلام ، ولا في الفقه ، يجدها الباحث محرّرة استطراداً في علم الرجال ، ومثال على ذلك مسألة ما لو كان أحد الرواة لا يعلم بجميع الأئمّة عليهم‌السلام ، بل إلى الإمام المعاصر له ، فهل مثل هذا يُدرج في الإماميّة أم لا؟ وقد ذهب مشهور الرجاليّين إلى الحكم بإماميّته ، وممّن عنون هذه المسألة السيّد بحر العلوم في رجاله.

ومثال آخر : الحدّ الفاصل بين الضروريّات وغيرها من المسائل الاعتقاديّة ، وفي تفاصيل المعارف ، واختلاف طبيعة المسائل الاعتقاديّة ، وقد أشار المحقّق البحراني الشيخ سليمان الماحوزي ـ في المعراج في ترجمة أحمد بن نوح السيرافي ـ إلى ذلك ، وأنّه لم ينقّح ذلك إلّا في علم الرجال ، حتّى إنّه اضطرّ إلى الخوض في ذلك بشكل معمّق مستشهداً بسيرة الأئمّة عليهم‌السلام مع أصحابهم في ذلك ، وكذلك أشار المولى الوحيد البهبهاني إلى ذلك في تعليقته في ترجمة جعفر بن عيسى ، أنّه يظهر من تلك الترجمة ، وترجمة مثل يونس بن عبد الرحمن ، وزرارة ، والمفضّل بن عمر ، وغيرهم من أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام ، كثير من المباحث ، وكذا التعرّف على جذور الضرورات الدينيّة في التاريخ ونشوء البحوث العقائديّة.

ومثل ما ذكره الرجاليّون من كيفيّة الجمع بين الأخبار النافية لجملة من مقامات وشئون الأئمّة عليهم‌السلام وبين المثبتة ، وأنّ مرجع ذلك إلى قابليّة الراوي ، ومستواه العلمي ، وقدرة تحمّله الذهني.

ومثل مقارنة المسألة العقائديّة في هذا اليوم ما كانت عليه في العصور الاولى ،

١٦

ومثل مسألة حكم من أنكر نيابة النوّاب الأربعة ، أي النيابة الخاصّة.

منها الاطّلاع على مسائل فرعيّة وفقهيّة انفرد علم الرجال بتحريرها والتركيز عليها ، وذلك بسبب ما يوفّره للمتتبّع من الاطّلاع على سِير العديد من أصحاب الأئمّة في أبواب الفقه المختلفة.

بل إنّ البحث الرجالي يُشرف على العديد من الضرورات ومسلّمات المذهب ، والتي كانت من معالم الطائفة يَعرِفهم بها القاضي والداني ، وذلك نظير الرجعة ـ فإنّها وإن كانت مثالاً للمسائل الاعتقاديّة وقد وردت بها الروايات المتواترة ـ حيث يشاهد الباحث في العديد من تراجم متكلّمي الطائفة من أصحاب الأئمّة وسجالاتهم مع وجوه العامّة أنّ القول بالرجعة هو من المتسالم عليه عند مذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، وأنّهم كانوا يُعرفون به ، وأنّ النقاش في الأندية العلميّة بين الفريقين كان محتدماً حوله (١).

وبعبارة موجزة : إنّ التراث الرجالي ثروة زاخرة بالتراث الديني المتجسّد في السيرة العمليّة للمفردات الرجاليّة ولأصحاب الأئمّة ، وموقف الأئمّة عليهم‌السلام تجاه تلك الظواهر المنتشرة ، ولا يخفى على الباحث الفقهي مدى أهمّية سيرة أصحاب الأئمّة في استكشاف الأحكام الفقهيّة.

كما أنّ موقف الأئمّة العملي خير شاهد ودليل على تفسير فقه طوائف الروايات الواردة في ظهور معيّن ، فإنّ ذلك الموقف يكون قرينة على المراد

__________________

(١) لاحظ في ذلك ترجمة مؤمن الطاق ، محمّد بن عليّ بن نعمان البجلي ، وغيره من متكلّمي أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام ، ولاحظ ترجمة جابر بن يزيد الجعفي في كتاب رجال العامّة ، وقول سنان : «إنّ النّاس كانوا يحملون عن جابر ، وكان من وجوه الرواية قبل أن يظهر الإيمان بالرجعة».

١٧

الجدّي من ذلك ، وعلى تحكيم طائفة من الروايات على طوائف اخرى ، كما هو الحال في طوائف الروايات الواردة في شرطيّة الإيمان في الإسلام ، أو أنّ الشهادتين يُحقن الدم ويحرم المال وتحلّ المناكح والذبيحة ، وكذا في تحديد درجة النُّصب وأنّه المجاهر بعداوتهم هو الذي يترتّب عليه الآثار من النجاسة والكفر وغيرها ، دون بقيّة درجات النُّصب ، وكذلك تحديد الغلوّ الموجب للكفر وأحكامه ، وكذلك تحديد التقصير في المعرفة ، أو أدنى درجات المعرفة به تعالى وبرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وبهم عليهم‌السلام ، التي يكون ما دونها تقصير.

فهذا الشيخ الطوسي في العدّة ـ مثلاً ـ تراه يستشهد في تفسير فقه الآيات والروايات الواردة في حجّية الخبر وأقسامه بعمل الطائفة في عدّة من أقسام الخبر في كتبهم الرجاليّة والفهارس والحديث ، ويستخلص منه التسالم العملي على ذلك إلى زمن الأئمّة عليهم‌السلام ، ولقد شدّد عدّة من أساطين الفقه على لزوم إحراز سيرة الأصحاب وديدنهم في الأبواب الفقهيّة المختلفة كشرط في الوصول إلى الفقه السليم لمدلول طوائف الروايات الصادرة عنهم عليهم‌السلام ، وأنّ الظهور للروايات المجرّد عن سيرة أصحابهم لا يشكّل عناصر الدلالة بتمامها لاستكشاف المراد الجدّي.

ومن البيّن الواضح أنّ الاطّلاع على تلك السير لا يتمّ إلّا بتوسّط علمي الرجال والحديث ، لأنّه تاريخ قطعي للمسير الفقهي لدى الطائفة الإماميّة في عصر الأئمّة عليهم‌السلام ، والحال كذلك في أبواب المعارف والروايات فيها. فلاحظ ـ مثلاً ـ ما ذكره الوحيد البهبهاني في فوائده في شرح اصطلاح الواقفيّة ، من بيان منشأ الشبهة التي حصلت لهم من ألفاظ الروايات ك (صاحب الأمر) ، ولفظ (القائم من آل محمّد) و (القائم بالأمر) ، مستشهداً بما ورد في ترجمة عنبسة ،

١٨

وأبي جرير القمّي ، وإبراهيم بن موسى بن جعفر ، وغيرهما ، وكذا كلامه في الناووسيّة ، وكذا كلام غيره من الرجاليّين.

منها معرفة درجات الضعف والقوّة في طريق الخبر ، فإنّه مؤثّر جدّاً في جبر أو كسر الخبر بالشهرة العمليّة أو الفتوائيّة على القول بهما ، فإنّ مجرّد عدم الصحّة لا يطّلع الباحث على درجة الضعف كي يعرف حصول الجبر من عدمه ، وكذا الصحّة من دون معرفة علم الرجال لا يطلع الدرجة القابلة للكسر ، ومن ذلك يتّضح توقّف معرفة التواتر والمستفيض بالدقّة على معرفة علم الرجال ، فإنّه تراكم الاحتمالات كيفاً وتعدّد الكمّ إنّما يقف عليه الباحث بهذا العلم ، وإلّا كيف يتعرّف على بُعد وجود الدواعي للتواطؤ على الكذب. وكذا تتّضح درجات وأقسام التواتر والمستفيض.

منها معرفة صحّة النُّسخ والمتون ، فإنّ كلّياتها وإن كان بحثها مختصّ بعلم الدراية ، أو صغرياتها بعلم الحديث ، إلّا أنّ الجانب المهمّ من صغرياتها يتوقّف على معرفة كتب الفهارس والمشيخة ، وكيفيّة وصول النُّسخ ، وطُرق الإجازات ، ونحو ذلك ، وهذه الفائدة يعرف خطورتها الممارس لعمليّة الاستنباط في الأبواب الفقهيّة أو الاعتقاديّة.

منها حصول الإحاطة التامّة بمجموع التراث الحديثي الروائي ، والابتعاد عن الغفلة عن مظانّ المدارك ، فإنّه من أوّليّات اصول الفحص والبحث عن الدليل الشرعي ، ويتمّ الاطّلاع بتوسّط ما يذكر من اصول وكتب للمترجم له في المفردات الرجاليّة.

منها الاطّلاع على اختلاف أقوال القدماء وتعدّدها من الرواة وأصحابها الأئمّة عليهم‌السلام في مختلف المسائل ، سواء الفقهيّة أو اصول الفقه ، أو الكلام ،

١٩

أو الرجال ، وغيرها من مسائل العلوم الدينيّة ، فإنّ كثيراً منهم لم تكن له كتب مؤلّفة في تلك العلوم ، أو كانت ولم تصل إلينا ، فلا يتمّ تحقيق الأقوال في تلك المسائل أو وجوه الاستدلال المذكورة لها إلّا بضميمة ما يحصّله البحث في المفردات الرجاليّة.

منها إنّ هناك عدّة فوائد يقدّمها علم الرجال لعلوم اخرى ، كعلم التاريخ لتحقيق الوقائع والأحداث العامّة بدقّة ، وبتحديد أدوار المفردات الرجاليّة فيها ، وانطباع ما يذكر فيها على تحليل تلك الوقائع ، وكعلم الأخلاق والسير والسلوك لتهذيب النفس ، فإنّ نماذج المفردات الرجاليّة عبرة لأنماط التجارب التي تمرّ بها البشريّة في مسيرها العلمي أو العملي ، وكيفيّة صعود بعض وتسافل آخرين ، وتبديل بعض ثالث من حال إلى آخر ، وكعلم الكلام والفقه ، وقد مرّ بيانه ، وكعلم الحديث والدراية وقد تبيّن ممّا سبق ، وكذا بقيّة العلوم الدينيّة وقد مرّت الإشارة إلى ذلك

امتيازات الكتاب

وقد تضمّن هذا الكتاب مضافاً إلى منهجة الأبواب المقرّرة في الفوائد الرجاليّة عدّة فوائد اخرى :

الاولى : بيان القيمة العلميّة للأحاديث الضعيفة والآثار الشرعيّة الاخرى المترتّبة عليها.

الثانية : الكشف عن مراد القدماء في تعبيرهم بتخريج أحاديث الكتاب عن الثقات ، كما في كتاب الكافي والفقيه والتهذيبين وكامل الزيارات ، وغيرها.

الثالثة : أنّ تقسيم الحديث لدى القدماء عبارة عن أربعة تقاسيم ، وكلّ منها

٢٠