القوانين المحكمة في الأصول - ج ٢

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ٢

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٥

١
٢

٣

٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على سيّدنا محمد نبيّه وآله وسلّم تسليما.

وبعد ... فإنّ هذا الجزء الثاني من الموسوعة الأصولية المعروفة ب :

قوانين الأصول للميرزا أبي القاسم القمّي «قدس سرّه».

وهو بقية المجلّد الأوّل من النسخة الحجريّة ، وفيه تتمّة مباحث التخصيص التي في الجزء الأوّل ، كما فيه ابحاث المطلق والمقيّد والمجمل والمبيّن من مباحث الألفاظ ، وأيضا مباحث الإجماع والكتاب والسنّة من الأدلّة الشرعية ، وقد سرت فيه تحقيقا وشرحا وتعليقا بالسيرة التي عرفت.

نسأل الله تعالى القبول ، ونسأله تعالى أن يعيننا على إكماله ويعينكم على إتمامه.

رضا حسين علي صبح

٥
٦

المقصد الثاني

في بيان بعض مباحث التّخصيص

وهو قصر العامّ على بعض ما يتناوله ، وقد يطلق على قصر ما ليس بعامّ حقيقة كذلك (١) كالجمع المعهود ، ومن ذلك تخصيص مثل : عشرة ، والرّغيف ، بالنسبة الى أجزائهما.

والتخصيص قد يكون بالمتّصل ، وهو ما لا يستقلّ بنفسه ، بل يحتاج الى انضمامه الى غيره ، كالاستثناء المتّصل : والشّرط ، والغاية ، والصّفة ، وبدل البعض.

وبالمنفصل : وهو ما يستقلّ بنفسه.

وهو إمّا عقليّ كقوله : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)(٢) ، والمراد غير ذاته تعالى وأفعال العباد.

وإمّا لفظيّ كقوله تعالى : (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ،)(٣) و : (وَلا تَأْكُلُوا)(مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ.)(٤)

واختلفوا في منتهى التخصيص الى كم هو.

__________________

(١) أي يطلق التخصيص على قصر ما ليس بعام حقيقة على بعض ما يشار له ، وذلك مثل لفظ عشرة ، فإنّه ليس عاما حقيقة ، ومع ذلك إذا قصر على خمسة مثلا بالاستثناء المنفصل قد خصّص ، وكذا الكلام في الرغيف والجمع المعهود ، هذا كما في الحاشية.

(٢) الرعد : ١٦.

(٣) البقرة : ٢٩.

(٤) الانعام : ١٢١.

٧

الأشهر أنّه لا بدّ من بقاء جمع يقرب من مدلول العامّ ، ويجوز الاستعمال في الواحد على سبيل التعظيم. وقد يفسّر الجمع القريب من مدلول العامّ بكونه أكثر من النّصف ، سواء علم العدد بالتّفصيل ، أو ظهر بالقرينة كون الباقي أكثر كقولك : أكرم أهل المصر إلّا زيدا وعمروا.

وقيل : لا بدّ في ذلك (١) من بقاء جمع غير محصور.

وذهب جماعة الى جوازه حتى يبقى واحد (٢). وقيل : حتّى يبقى ثلاثة. وقيل : اثنان (٣). وقيل : لا بدّ في صيغة الجمع من بقاء ثلاثة (٤) ، وفي غيرها يجوز الى الواحد.

وقيل (٥) : إنّ التّخصيص إن كان بالاستثناء أو بدل البعض ، جاز الى الواحد ،

__________________

(١) أي في التخصيص.

(٢) وهو اختيار الشريف المرتضى في «الذريعة» : ١ / ٢٤٤ ، والشيخ وأبي المكارم ابن زهرة كما عن «المعالم» : ص ٢٧١. قال المولى محمّد صالح المازندراني في حاشيته على «المعالم» ص ١٤٢ : ادّعى في «النهاية» الاتفاق على جواز التخصص الى الواحد في ألفاظ الاستفهام والمجازات وجعل الخلاف فيما عداهما ولم أجد على موافق له في ذلك ، بل في كلام بعض المحققين تصريح بما ينافيه. وأيضا هو اختيار الفاضل في «الوافية» : ص ١٢٥ ، والعلّامة في «التهذيب» : ص ١٣٦ ، والمحقّق في «المعارج» : ص ٩٠ حيث نقل بأنّه مذهب القفال في ألفاظ العموم ولكن في «المحصول» : ٢ / ٥٣١ : اتّفقوا في ألفاظ الاستفهام والمجازاة على جواز انتهائها في التخصيص إلى الواحد ، واختلفوا في الجمع المعرّف بالألف واللّام ، فزعم القفال أنّه لا يجوز تخصيصه بما هو أقل من الثلاثة ، ومنهم من جوّز انتهاءه إلى واحد ومنع ذلك أبو الحسين في جميع ألفاظ العموم ، وأوجب أن يراد به كثرة.

(٣) كما نقل عن «المعالم» : ص ٢٧١.

(٤) راجع ما نقله في «الفصول» : ص ١٨٦ ففيه زيادة بيان.

(٥) نقل عن الحاجبي بعد أن نقل جملة من الأقوال المذكورة القول المذكور وفيه تفصيل ـ

٨

نحو : له عليّ عشرة إلّا تسعة ، و : اشتريت العشرة أحدها.

وإن كان بمتّصل غيرهما (١) كالشّرط والصّفة والغاية ، أو كان بمنفصل في محصور قليل ، فيجوز التخصيص الى الاثنين ، مثل : أكرم بني تميم الطّوال ، أو : إن كانوا طوالا ، أو : الى أن يفسقوا ، و : قتلت كلّ زنديق وهم ثلاثة (٢). ولعلّه ناظر الى صدق تلك العمومات مع الثلاثة وأكثرها اثنان (٣) ، وهذا من الشواهد على أنّ العامّ يطلق عندهم على الجماعة المعهودة كما أشرنا.

وإن كان التخصيص بمنفصل في عدد غير محصور أو في عدد محصور كثير فكقول الأكثر ، والأقرب عندي قول الأكثر ، لما تقدّم من أنّ وضع الحقائق والمجازات شخصيّة كانت أو نوعيّة ، يتوقّف على التوقيف ، ولم يثبت جواز الاستعمال الى الواحد من أهل اللّغة ، وعدم الثبوت دليل عدم الجواز ، والقدر المتيقّن الثبوت هو ما ذكرنا ، غاية الأمر التشكيك في مراتب القرب ، وهو سهل إذ ذاك في الأحكام الفقهيّة والاصولية ليس بعادم النظير كما في الأفراد الخفيّة (٤)

__________________

ـ في التخصيص بالمتصل بين أن يكون باستثناء أو بدل وبين أن يكون بغيرهما من شرط أو صفة على تفصيل.

(١) أي غير الاستثناء وبدل البعض. واعلم أنّ الأمثلة في الشرط وهو ضربان مؤكد لقوله : قم إن اسقطت ، ومبيّن كقوله : أكرمه إن فعل ، وفي الصفة : أكرم الرجال الطوال ، وفي الغاية : ولا تقربوهنّ حتّى يطهرن. كما ذكر في «المعارج» : ص ٩٠.

(٢) فيجوز أن يقول القائل قتلت كلّ زنديق وهم ثلاثة وقد قتل اثنين.

(٣) أي أكثر الثلاثة اثنان ولذا يصير قريبا من مدلول العام الذي يطلق على الجماعة.

(٤) أي كالتشكيك في بعض أفراد العام هل هو فرد له أو لا ، كالشك في شمول وجوب إكرام العلماء على عالم صرفي مثلا ، وكالشّك في ثبوت طهر ماء البئر بالنزح طهر آلات النزح. وبالجملة فمثل الشّك المزبور ليس بعادم النظير ، هذا كما في الحاشية.

٩

الفرديّة في العامّ واللّوازم الغير البيّنة اللّزوم ، فما ترجّح جوازه في ظنّ المجتهد ، فيجوز ، وما ترجّح عدمه ، فلا ، وما تردّد فيه ، فيرجع فيه الى الأصل من عدم الجواز.

والقول : بأنّ الرخصة في نوع العلاقة في المجاز يوجب العموم في الجواز ، غفلة عمّا حقّقناه في أوائل الكتاب (١) وفي أوائل الباب ، إذ قد عرفت أنّ نوع العلاقة اطّراده غير معلوم بالنسبة الى جميع الأصناف ، وفي جميع أنواع العلائق ، وسنبطل ما استدلّ به المجوّزون.

واحتجّ الأكثرون على ذلك (٢) : بقبح قول القائل : أكلت كلّ رمّانة في البستان وفيه آلاف ، وقد أكل واحدة أو ثلاثا. ولعلّ مرادهم استقباح أهل اللّسان واستنكارهم ذلك من جهة ما ذكرنا من عدم ثبوت مثله عن العرب (٣) ، لا محض الغرابة والمنافرة الموجبتين لنفي الفصاحة ، إذ عدم الفصاحة لا يستلزم عدم الجواز إلّا أن يراد استقباحه في كلام الحكيم ، سيّما الحكيم على الإطلاق الذي هو موضوع علم الأصول (٤) ، ولكنّ ذلك لا يثبت نفي الجواز لغة ، والقطع بعدمه في كلام الحكيم أيضا مطلقا ، غير واضح ، والمقام قد يقتضي ذلك.

احتجّ مجوّزوه الى الواحد بأمور :

الأوّل : أنّ استعمال العامّ في غير الاستغراق ، مجاز على التحقيق ، وليس بعض

__________________

(١) في قانون جواز إرادة أكثر من معنى من معاني المشترك في إطلاق واحد وعدمه.

(٢) أي على أنّه لا بد في منتهى التخصيص من بقاء جمع يقرب من مدلول العام ، وبذكرهم للمثال المذكور في نفس الباب في «المعالم» و «الوافية» و «التهذيب» و «المعارج» و «الفصول» وبمثال مثله في «المحصول».

(٣) فالمراد من الاستقباح حينئذ مساوق الغلط.

(٤) أي كلام الحكيم الذي هو الكتاب المجيد موضوع علم الأصول.

١٠

الأفراد أولى من البعض ، فيجوز أن ينتهي الى الواحد.

وردّ : بمنع عدم أولويّة البعض (١) ، لأنّ الأكثر أقرب الى الجميع.

وعورض (٢) : بأنّ الأقلّ متيقّن الإرادة مع الكلّ ومع الأكثر ، بخلاف الأكثر ، فإنّه متيقّن المراد من الكلّ خاصّة ، على أنّ أقربيّة الأكثر تقتضي أرجحيّة إرادته على إرادة الأقلّ لا امتناع إرادة الأقلّ.

وفي أصل الاستدلال وجميع الاعتراضات نظر.

أمّا في الاعتراضات فإنّ مبناها على ترجيح المراد من العامّ المخصوص كما لا يخفى ، لا بيان جواز أيّ فرد من أفراد التخصيص وعدمه كما هو المدّعى ، فإنّما يتمشّى هذه إذا علم التّخصيص في الجملة ، فلو دار الأمر بين التخصيصات المختلفة ، أمكن التمسّك بأمثال ما ذكر ، ولا يمكن ذلك في إثبات أصل الجواز وعدمه ، بل لا يجري بعض المذكورات (٣) فيه أيضا.

مثلا إذا قيل : اقتلوا المشركين ، والمفروض أنّ المشركين مائة ، واحد منهم مجوسيّ والباقون أهل الكتاب ، وورد بعد ذلك نهي عن قتل المجوس ، وورد نهي آخر عن قتل أهل الكتاب ، وفرضنا تساوي الخاصّين من حيث القوّة ، فمن يلاحظ الأقربيّة الى الجميع ، فلا بدّ أن يبني على النّهي الأوّل (٤) ، ومن يلاحظ تيقّن الإرادة ، فلا بدّ أن يبني على الثاني (٥) ، ولكنّك خبير بأنّه لا معنى حينئذ

__________________

(١) حكاه في «المعالم» عن العلّامة في «النهاية» وفي «تهذيبه» : ص ١٣٦ أيضا.

(٢) وهذا من صاحب «المعالم» : ص ٢٧٣.

(٣) وهو القول بأنّ الأقل متيقن الإرادة مع الكلّ ومع الأكثر.

(٤) وهو النهي عن قتل المجوسي.

(٥) أي على النهي الثاني وهو النهي عن قتل أهل الكتاب.

١١

لدخول الأقلّ في الأكثر ، فإنّ المجوس ليس من جملة أهل الكتاب كما لا يخفى.

نعم ، يمكن إجراء ذلك في المخصّص بالمجمل ، مثل : اقتلوا المشركين إلّا بعضهم ، ولكنّه لا ثمرة فيه لسقوط العامّ عن الحجّيّة بقدر الإجمال.

نعم ، قد يجري ذلك فيما لو أريد من بعضهم النّكرة المطلقة الموكول تعيينها الى اختيار المخاطب ، ولكنّ ذلك لا يفيد قاعدة كليّة تنفع للأصولي في جميع الموارد. وكيف كان ، فلا دخل لما ذكر فيما نحن بصدده.

فالتحقيق في الجواب (١) : أنّ الأولويّة إنّما تثبت فيما حصل من الاستقراء جوازه كما بينّا.

والمراد بلفظ الأولويّة في كلام المستدلّ وفي جوابنا هو المستحقّ الممكن الحصول ، مقابل الممتنع ، مثل قوله تعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ)(٢) ، لا الأرجح كما هو غالب الاستعمال ، والغفلة عن ذلك (٣) إنّما هو الذي أوجب مقابلته بهذه الأجوبة والاعتراضات.

فحاصل مراده (٤) ، أنّ العلاقة المجوّزة لاستعمال العامّ في الخصوص هو العموم والخصوص ، وهو في الكلّ موجود ، فما الوجه لتخصيص بعض الأفراد بالجواز دون بعض؟ وليس مراده بيان نفي المرجّح بعد قبول الجواز حتى يقابل ما ذكر.

وحاصل جوابنا : أنّ الذي ثبت عن استقراء كلام العرب من الرّخصة في جواز

__________________

(١) وهو الجواب عن استدلال المجوّزين للتخصيص الى الواحد.

(٢) الأنفال : ٧٥.

(٣) وهو كون المراد هو المستحق الممكن الحصول مقابل الممتنع لا الأرجح كما هو غالب الاستعمال.

(٤) مراد المستدلّ.

١٢

استعمال العامّ في الخاصّ ، إنّما هو الاستعمال في الجمع القريب بالمدلول ، لا مطلق علاقة العموم والخصوص حتّى يتساوى الكلّ فيه.

وما يظهر من بعضهم (١) ، أنّ العلاقة هو علاقة الكلّ والجزء ، واستعمال اللّفظ الموضوع للكلّ في الجزء ، غير مشروط بشيء. كما اشترط في عكسه كون الجزء ممّا ينتفي بانتفائه الكلّ وهو مساو في الجميع.

ففيه : أنّ أفراد العامّ ليست أجزاء له ، فإنّ مدلول العامّ كلّ فرد ، لا مجموع الأفراد مع أنّ استعمال اللّفظ الموضوع للكلّ في الجزء إنّما يثبت الرّخصة فيه ، فيما لو كان الجزء غير مستقلّ بنفسه ، ويكون للكلّ تركيب حقيقي وهو مفقود فيما نحن فيه.

ومن ذلك يظهر أنّ الكلام لا يجري في مثل العشرة أيضا (٢) رأسا ، فضلا عن صورة إبقاء الواحد ، واتّفاق الفقهاء على أنّ من قال : له عليّ عشرة إلّا تسعة ، يلزمه واحد ، لا يدلّ على صحّة هذا الإطلاق كما سيجيء.

وجواز إبقاء الجمع القريب بالمدلول فيه أيضا لا يلزم أن يكون بسبب علاقة الجزئية ، فإنّ الحيثيّات معتبرة ، والمعتبر هو علاقة العموم والخصوص وإن لم يكن من باب العموم المصطلح المشهور وإن كان يرجع إليه بوجه ، لأنّ المراد بالعشرة في الحقيقة هو مميّزه ، مثل الدّراهم والدّنانير ، فيصير من باب الجمع المعهود ، فكان المعنى : له عليّ دراهم عددها عشرة.

وكذلك الكلام في الأعداد التي مميّزها في صورة المفرد ، فإنّ معناها جمع.

__________________

(١) هذا بمنزلة الردّ على الجواب ، بل على جلّ استدلاله المختار. والبعض هذا ذكره صاحب «المعالم» رحمه‌الله : ص ٢٧٣ بقوله : فإن قلت.

(٢) اي في بقاء الأكثر أيضا.

١٣

وممّا ذكرنا (١) ، ظهر أيضا أنّ العلاقة ليست من باب استعمال الكلّيّ في الجزئي أيضا ، وإنّما هو في العامّ والخاص المنطقيين (٢).

ثم إنّ صاحب «المعالم» رحمه‌الله (٣) أجاب عن أصل الدّليل : بأنّ العلاقة في ذلك المجاز إنّما هو المشابهة ، لعدم تحقّق الجزئيّة في أفراد العامّ ، وهي إنّما تتحقّق في كثرة تقرّب من مدلول العامّ ، فهذا وجه الاختصاص.

وفيه : منع حصر العلاقة فيهما ، بل العلاقة إنّما هو العموم والخصوص ، وكون ذلك من جملة العلائق ، من الواضحات التي لا تحتاج الى البيان ، مصرّح به في كلام أهل الأصول والبيان.

والظاهر أنّ كونه علاقة اتّفاقيّ ، وما يتراءى من الخلاف من كلام بعضهم كالمحقّق الكاظمي (٤) في «شرح الزبدة» ، حيث نسب كون العلائق خمسة

__________________

(١) من كون المراد من مدلول العام كلّ فرد ... الخ.

(٢) والنسبة بين العام والخاص منطقا واصولا هو التباين كما لا يخفى ، والفرق ان الكلي المنطقي جزء للجزئي دون الاصولي ، والأوّل جنس مطلق والثاني هو الأفراد ، والأوّل يصدق على فرده دون الثاني. والحاصل أنّ الفرق بينهما انّ المنطقي هو المطلق والاصولي ، هو العام في اصطلاح اهل الاصول فتأمل. وقيل العلاقة فيما نحن فيه علاقة المشابهة الناشئة عن الكثرة اي الاشتراك في صفة الكثرة. هذا كما في الحاشية.

(٣) فيه ص ٢٧٤.

(٤) وهو السيد محسن بن الحسن بن مرتضى الأعرجي الكاظمي والمعروف بالمحقق البغدادي أيضا. وهو عالم فقيه أصولي من أعلام العلماء في عصره ، ومصنفاته مشهورة منها : «المحصول» و «الوسائل» ، كما بأمره صنّف أبو علي كتاب رجاله ، تلمّذ على السيد بحر العلوم وشارك كاشف الغطاء في الدرس ، اشتغل بالتجارة الى حدود الأربعين من عمره ثم هاجر الى النجف للتحصيل الى زمان الطاعون بعد ان تفرّق اهل النجف سنة ١١٨٦ وثم عاد الى النجف وجلّ تصانيفه بعد هذا.

١٤

وعشرين ، ومن جملتها العموم والخصوص الى المشهور. والمحقّق البهائي رحمه‌الله في «حاشية الزبدة» حيث نسبه الى القدماء ، فهو ناظر الى تغيير العبارات من حيث الإيجاز والإطناب ، فبعضهم ردّها الى اثنين (١) وبعضهم الى خمسة ، وبعضهم الى اثني عشرة ، وكلّ ذلك اختلاف في اللّفظ ، وإلّا فلا خلاف.

ولأصحاب هذا القول أيضا حجج واهية أخرى ، منها قوله تعالى : (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ). (٢)

وفيه : أنّه من باب التشبيه لقصد التعظيم لا من باب ذكر العامّ وإرادة الخاصّ ، فكأنّه لاجتماعه جميع صفات الكمالات الحاصلة في كلّ واحد سيّما وصف الحافظيّة ، صار بمنزلة العامّ أو لأنّ العظماء لمّا جرت عادتهم بأنّهم يتكلّمون عنهم وعن أتباعهم فيغلّبون المتكلّم ، فصار ذلك كناية عن العظمة ، ومنها قوله تعالى : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ ،)(٣) والمراد نعيم بن مسعود باتّفاق المفسّرين.

واجيب (٤) : بمنع اتّفاق المفسّرين أوّلا ، وإنّ الناس ليس بعامّ ، بل للمعهود ثانيا ، والظاهر أنّ مراده عهد الجمع.

وفيه : إشكال لأنّ الناس اسم جمع (٥) ، وإطلاقه على الواحد على سبيل العهد

__________________

(١) قال في الحاشية : الحاجبي والآمدي رداها الى الخمسة ، وبعضهم ردها الى اثنين المشابهة وعدمها ، والرّازي الى اثني عشر.

(٢) الحجر : ٩.

(٣) آل عمران : ١٧٣.

(٤) وهو لصاحب «المعالم» : ص ٢٧٥ ، ثمّ إنّ اتّفاق المفسّرين على إرادة الواحد من الناس ، إنّما نقل بخبر غير العدل ، فلا يثبت به حكم ، كذا نقل عنه رحمه‌الله.

(٥) هذا رد للجواب الثاني.

١٥

غير واضح ، وهذا التفسير (١) رواه أصحابنا عن أئمّتهم عليهم‌السلام فلا وجه لردّه.

والصواب في الجواب أن يقال : إنّ ذلك أيضا ليس من باب التخصيص ، بل من باب التشبيه ، فإنّ أبا سفيان لمّا خرج الى ميعاد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله للحرب بعد عام احد ألقى الله الرّعب عليه ، فأراد الرجوع وكره أن يكون ذلك على وجه الصّغار والإحجام عن الحرب ويكون ذلك سببا لجرأة أهل الإسلام ، فأراد تثبيط (٢) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الحرب على سبيل الخداع بأن يخوّفهم حتّى يتقاعدوا ، فلقي نعيم بن مسعود ، واشترط له عشرة من الإبل على أن يثبّطهم عن الحرب ، فجاء نعيم وقال لهم : إنّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم.

ووجه التشبيه أنّه لمّا أخبر عن لسان الناس يعني أبا سفيان وجيشه ، وتكلّم عن مقتضى مقصدهم ، وكان ذلك رسالة عنهم ، فكأنّهم قالوا ذلك بأنفسهم ، وهذا مجاز شائع في المحاورات ، وفي تكرير المعرّف باللّام إيهام إلى المبالغة في الاتّحاد.

ومنها (٣) : أنّه علم بالضّرورة من اللّغة صحّة قولنا : أكلت الخبز وشربت الماء ، ويراد به أقلّ القليل ممّا يتناوله الماء والخبز.

وفيه : أنّا قد حقّقنا في أوّل الباب (٤) ، انّ المفرد المحلّى باللّام حقيقة في الجنس ، ومجاز في غيره ، والقرينة قائمة هنا على إرادة الفرد المعيّن عند المتكلّم المطابق للمعهود الذهني ، وهو نظير قولنا : جاء رجل بالأمس عندي ، لا من قبيل :

__________________

(١) وهذا رد للجواب الأوّل.

(٢) يقال يثبّطهم عن الحرب أي يحبسهم ويشغلهم عنها ، قال تعالى : (وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ.)

(٣) من الوجوه التي احتج بها من يتجوّزونه إلى الواحد ، وذكرها في «المعالم» : ص ٢٧٣.

(٤) وهو باب العموم والخصوص.

١٦

جئني برجل. فكما أنّ للنكرة إطلاقين قد مرّ بيانهما (١) ، فكذلك للعهد الذّهني المساوق لها في المعنى.

والحاصل ، أنّ المراد به المعهود الذّهني ، سواء قلنا باشتراك المعرّف باللّام بين المعاني الأربعة (٢) ويعيّن ذلك بالقرينة ، أو قلنا بكونه حقيقة في الجنس واستعمل هنا في الفرد حقيقة من باب إطلاق الكلّيّ على الفرد مع قطع النظر عن الخصوصيّة ، فإنّ استعمال الكلّيّ في الفرد وإن كان على سبيل المجاز أيضا ، فهو من باب استعمال العامّ المنطقيّ في الخاصّ ، لا العامّ الأصوليّ ، وكيف كان فهو خارج عن المبحث.

احتجّ مجوّزوه الى الثلاثة والاثنين : بما قيل في الجمع ، وأنّ أقلّه ثلاثة أو اثنان (٣).

وفيه : منع واضح ، إذ لا ملازمة بين الجمع والعامّ في الحكم.

وقد يوجّه بأنّ العامّ إذا كان جمعا كالجمع المعرّف باللّام ، فيصدق على الثلاثة والاثنين ، ولا قائل بالفصل (٤).

وفيه : أنّ من ينكر التخصيص الى الواحد والاثنين والثلاثة ، لا يسلم ذلك في الجمع المعرّف باللّام أيضا.

وحجّة التفصيل مع جوابه : يظهر بالتأمّل فيما ذكر وما سيجيء.

__________________

(١) بيان الاطلاقين للنكرة ، أحدهما : هو كونها معيّنا عند المتكلّم المبهم عند المخاطب نحو : (جاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ ،) وثانيهما : المبهم عند المتكلّم أيضا ك : جئني برجل.

(٢) وهي الجنس والاستغراق والعهد الخارجيّ والذّهني.

(٣) وذكره في «المعالم» : ص ٢٧٦.

(٤) أي بين الجمع المعرّف باللّام وغيره من ألفاظ العموم.

١٧

قانون

إذا خصّ العامّ ، ففي كونه حقيقة في الباقي أو مجازا أقوال (١).

وقبل الخوض في المبحث ، لا بدّ من تمهيد مقدّمات :

الأولى :

أنّ الغرض من وضع الألفاظ المفردة ليس إفادة معانيها ، لاستحالة إفادتها لغير العالم بالوضع. واستفادة العالم بالوضع أيضا غير ممكن ، لاستلزامه الدّور (٢) ، لأنّ العلم بالوضع مستلزم للعلم بالمعنى واللّفظ ، ووضع اللّفظ للمعنى ، فالعلم بالمعنى متقدّم [مقدّم] على العلم بالمعنى ، بل إنّما المقصود من وضعها تفهيم ما يتركّب من معانيها بواسطة تركيب ألفاظها الدّالّة عليها للعالم بالوضع.

__________________

(١) فقال قوم من الفقهاء : إنّه لا يصير مجازا كيف كان التخصيص ، وقال أبو علي وأبو هاشم يصير مجازا كيف كان التخصيص ، ومنهم من فصّل ، وقال أبو الحسين : إنّ القرينة المخصّصة إن استقلّت بنفسها صارت مجازا وإلّا فلا ، وهو مختار الرازي أيضا في «المحصول» : ٢ / ٥٣٢ ، وفي «المعالم» : ص ٢٧٦ : إذا خصّ العام وأريد به الباقي فهو مجاز مطلقا على الأقوى وفاقا للشيخ والمحقق والعلّامة في أحد قوليه وكثير من أهل الخلاف ، ثمّ فصّل ابن الشهيد بحثه ، وأمّا العلّامة في «مباديه» : ص ١٣١ : الحق أنّه مجاز إن خصّ بمنفصل عقليا كان أو نقليا ، وحقيقة إن كان متصلا. وأمّا في «التهذيب» : ص ١٣٦ فصّل.

(٢) وتقرير الدّور انّ استفادة المعنى من اللّفظ أي العلم به موقوف على العلم بالوضع ، والعلم بالوضع موقوف على العلم بالمعنى. أما الأولى فواضحة ، وأما الثانية فلما ذكره المصنّف في قوله : لأنّ العلم بالوضع مستلزم ... الخ. فالطرفان معلومان ، وما هو مذكور تقريبا للمقدمة الثالثة والدور مصرّح.

١٨

فإن قلت : فما معنى الدّلالة عليها ، وما معنى قولهم : الوضع تعيين اللّفظ للدلالة على معنى بنفسه ، وجعل الدّلالة غرضا للوضع ينافي ما ذكرت من نفي ذلك؟

قلت : لا منافاة (١) ، فإنّ مرادهم من الدّلالة على معنى هناك ، صيرورته موجبا لتصوّر الموضوع له.

ومرادهم ثمّة في نفي كون استفادة المعاني غرضا في الوضع ، التصديق بأنّ تلك المعاني قد وضعت لها تلك الألفاظ ، فمجمع القاعدتين (٢) ، أنّ الألفاظ قد وضعت بإزاء المعاني لأجل أن يحصل تصوّر المعاني بمجرّد تصوّر الألفاظ ليتمكّن من تركيبها حتى يحصل المعنى المركّب ويحصل به تفهيم المعنى المركّب. ولمّا كان المقصود (٣) من وضع الألفاظ تفهيم المعاني المركّبة الموقوفة غالبا على استعمال الألفاظ وتركيب بعضها مع بعض ، ولا بدّ أن يكون الاستعمال أيضا على قانون الوضع ولا ينفكّ الدّلالة غالبا عن الإرادة ، بمعنى أنّ المدلول غالبا لا بدّ أن يكون هو المراد ، ولا بدّ أن يكون المراد ما هو مدلوله اللّفظ ، ويحمل اللّفظ عليه وإن لم يكن مراد اللّافظ في نفس الأمر ، ولا بدّ أن يكون المراد موافقا لقانون الوضع من حيث الكميّة والكيفيّة ، فلا استبعاد أن يقال : مرادهم من الدّلالة في

__________________

(١) وقد ردّ على هذا القول المحقق الاصفهاني في «هدايته» : ٣ / ٢٧٠ وجعل من الغرابة ما ذكره المصنّف.

(٢) أي قاعدة انّ الغرض من وضع الألفاظ معانيها على ما يستفاد من لام الدّلالة ، والقاعدة التي اختارها هنا بأنّ الغرض من وضع الألفاظ هو الضمّ والتركيب. وقال في الحاشية : أي قاعدة جعل الدلالة غرضا للوضع وقاعدة نفي كون استفادة المعاني غرضا في الوضع.

(٣) هذا وجه آخر لدفع المنافاة بين القاعدتين.

١٩

تعريف الوضع ، هو الدّلالة على مراد اللّافظ ، ويتّضح حينئذ عدم المنافاة غاية الوضوح ، وحينئذ فالمشترك لا يدلّ إلّا على معنى واحد ، لأنّ الوضع لم يثبت إلّا لمعنى واحد ، وقد مرّ تحقيق ذلك في محلّه.

وإن أبيت إلّا عن أنّ مرادهم (١) من قولهم : الوضع هو تعيين اللّفظ للدلالة على معنى هو تعيينه لأجل تصوّر المعنى مطلقا (٢).

وقلت : إنّه حاصل في المشترك إذا تصوّر معانيه بمجرّد تصوّر لفظه ، فكيف ينكر دلالته عليه ، وعدم جواز إرادة أكثر من معنى في الاستعمال لا يستلزم عدم تصوّر الأكثر من معنى عند تصوّره ، بل تصوّر المعنى يحصل عند تصوّر اللّفظ وإن لم يستعمل اللّفظ أو استعمله من لا إرادة له أصلا كالنّائم والسّاهي.

فنقول : إنّ تصوّر معنى المشترك ليس عين تصوّر ما عيّن له اللّفظ ليحصل من تصوّره تصوّره ، إذ الواضع قد عيّن اللّفظ بإزاء كلّ منهما مستقلّا ، فلم يثبت من الواضع إلّا كون كلّ من المعنيين موضوعا له اللّفظ في حال الانفراد ، والتعدّي عنه خروج عن قانون الوضع ، فمدلول اللّفظ ـ يعني ما عيّن الواضع اللّفظ لأجل الدّلالة عليه ـ ليس إلّا معنى واحد. فراجع ما حقّقنا لك في أوائل الكتاب وتبصّر.

والى ما ذكرنا (٣) ، ينظر كلام المحقّق الطوسي قدس‌سره [القدّوسي] في بيان عدم

__________________

(١) يعني وإن أبيت عن ذلك أي ممّا ذكرنا من التوجيه في دفع المنافاة بين جعل الدلالة غرضا للوضع ، ونفي كون استفادة المعاني غرضا في الوضع ، هذا كما في الحاشية.

(٢) أي مع قطع النظر عن أن يكون ذلك من أجل تصوّر المعنى المراد للّافظ.

(٣) من أنّ الدلالة غالبا لا تنفك عن الإرادة ، بمعنى أنّ المدلول غالبا لا بد أن يكون هو المراد ولا بد أن يكون المراد ما هو مدلول اللّفظ ... الخ. وأيضا : من كون تصوّر معنى المشترك ليس عين تصوّر ما عيّن له اللّفظ ... الخ.

٢٠