رحلة فريزر

جيمس بيلي فريزر

رحلة فريزر

المؤلف:

جيمس بيلي فريزر


المترجم: جعفر الخياط
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٣٢

وعلى هذا يبدو ان هذه المنطقة قد تصبح ذات يوم منجما للعاديات غير المستكشفة. والمقول ان السهل بإجماعه مغطى ببقايا الأبنية القديمة ، ولكن من النادر ان يوجد فيها شيء غير الآجر والفخار وما اشبه.

وفي هذا اليوم أيضا جرت لي مقابلة مع محمد خان «سرتيپ» (١) أو قائد القوات الإيرانية في السليمانية ، وهذه القوة تتألف من أربعمئة رجل وثمانين مدفعيّا مع خمسة مدافع عادية ومدفعي هاون. ولا شك انها قيادة صغيرة لكنها كافية تمام الكفاية لواجب ابتلاع البلاد والنهب حينما لا يستطيعون الحصول على ما يكفيهم بالطرق الأخرى. والحقيقة ان أي جزء من ايران أو البلاد المجاورة لها ليس في مقدوره بحالته الحاضرة ان يقوم بأعباء جيش فعال ويقيته. ويحاول الأمير في كرمنشاه الإبقاء على هذه الولاية تابعة لإيران في وجه پاشا بغداد الذي تتبع لحكومته في العادة ، وحينما يحاول تحقيق ذلك بأقل ما يمكن من الكلفة والمصاريف لحكومته هو يقوم بتخريب ممتلكاته. على أن محمد خان بصرف النظر عن الجهة التي تؤخذ منها مصاريفه ، كان بطلا أهلا للحفاظ على سطوة سيده ضد العالم أجمع! فإنك إذا ما أعطيته الوسائل والإذن اللازم يستطيع أن يبيد المير في راوندوز ، ويحبس پاشا بغداد في داخل حدوده

__________________

(١) سرتيپ كلمة فارسية تعني في الوقت الحاضر رتبة في الجيش بدرجة رئيس أول. وقد ورد اسم سرتيپ محمد خان هذا في تقرير الفريق درويش باشا المعين لتعيين الحدود بين إيران والدولة العثمانية من قبل السلطان في حوالي سنة (١٢٦٠) للهجرة (طبعت التقرير وزارة الخارجية العراقية سنة ١٩٥٣ م). فهو يقول في البند رقم ٥٨ حول طوائف عشيرة البلباس : «.. وقد أرسل محمد باشا (المير محمد) قوة عسكرية إلى كويسنجق واستولى عليها ... ولم يستحسن المرحوم علي باشا (المقصود علي رضا باشا) والي بغداد هذه الحركة فأرسل قوة مسلحة تحت قيادة سليمان باشا متصرف السليمانية لمحاربة محمد باشا ... ولم يتمكن سليمان من القيام بأي عمل حازم وطلب نجدات من إيران وأرسل الإيرانيون سرتيپ محمد خان من تبريز مع قوة كافية وجرت معركة شديدة في قلعة دربند ... فطلب محمد باشا الصلح فوافق الباشا الموما إليه على ترك ثمانية قرى من كويسنجق إلى السليمانية ..».

٤١

ما بين النهرين. حيث إن بثلاثمئة «سرباز» (١) فقط ونصف هذا العدد من الخيالة استطاع ان يكتسح كرميان ، أو البلاد الواطئة ، على حد قوله ، من الموصل إلى خانقين ومن كرمنشاه إلى ما يقرب من أبواب بغداد. ولم يتوقف عن القيام بشيء هائل جدّا في الحقيقة لو لم يعمد الپاشا إلى اتحافه بهدايا ثمينة وتقديم الكثير من العتاب والاعتذارات السلمية. والحق ان سرتيپ خان ينتمي إلى طبقة من الإيرانيين كثيرة العدد جدّا ، أجاد في وصف أمثالهم موريير ، وهم أشد المتبجحين ضلالا في الطبيعة ومع ذلك لا تعوزهم الشجاعة مثل المتبجحين في معظم البلاد الأخرى. وبينما كنت أستمع إلى قصص الخان عن مآثره ـ ومقدار الثناء الذي كان قد حصل عليه من ملك الملوك والمقابلة (خلوت) التي حظي بها بالمثول بين يدي جلالته ـ وعن الخطابات الطويلة التي كان يلقيها الأمير المالك ، والوعد الذي وعده به سموه بسيف مطعم بالذهب ـ وعن تذمراته المرة من عدم التقدير الذي تقابل به مزاياه ، فلا يدفع له الأجر الكافي ولا المخصصات اللازمة ، ولا يتمتع بالإجازات الضرورية لزيارة أسرته (التي فارقها منذ خمس سنوات) بل يؤمر بالعكس بالتوجه إلى هنا وهناك في حملات أخرى لأنه لا يمكن لأحد غير محمد خان ان يقوم بالعمل على أحسن وجه ، وبكلمة أفضى عن تذمره من الحقيقة الجلية بأن الحكومة كانت تعلم أي خادم صالح هو السرتيپ خان ولكنها لم تكن تعرف كيف تستفيد منه ـ أقول بينما كنت أستمع إلى كل هذا تعلمت الكثير مما هو مهم وطريف ، الكثير مما كنت أرغب في الوقوف عليه بشأن البلاد وعدوها پاشا راوندوز (٢) ، وحصلت على الكثير من التسلية كذلك. هذا علاوة على انني قد أرضيت على ما أعتقد الخان النزيه الذي هو في الحقيقة رجل صادق مخلص ، يتناول كأسه كأي فرد منا.

__________________

(١) سرباز كلمة فارسية تعني الجندي الراجل أو المنتمي إلى المشاة.

(٢) هو كور محمد باشا ـ المير محمد ـ المار ذكره في الرسالة الأولى.

٤٢

أول تشرين الثاني

زالة (١) قرية كردية متواضعة تتألف من ستة أو ثمانية دور. أكتب إليك يا عزيزتي من هذه الحفرة الشقية التعيسة لأنني قد توفرت لي ساعة من الزمن ، وليس لأن عندي شيء مهم أكتبه. فقد غادرت السليمانية يوم أمس في حوالي الحادية عشرة قبل الظهر ، بعد أن بقيت أنتظر والحيوانات محملة والخيول مسرجة من السابعة صباحا. لأن الپاشا لم يف بالوعد الذي كان قد قطعه لي بتخصيص دليل يأخذني في الطريق إلى بغداد. فالرجال العظام يأخذهم النسيان فيذهبون إلى النوم ، ولا يتجاسر أحد على إيقاظ سموه. ولذلك جلست في عدتي أضرب بمهمازي واستشيط غيظا حتى حلت الساعة المعتادة التي يخرج فيها سموه من مخدعه ، فقال لخادمي ان أشغالي قد غابت عن ذاكرته! وعلى هذه الشاكلة يؤدي طيش العظيم إلى إتعاب الصغير وخسارته في بعض الأحيان. وقد كان للمسكين شيء من العذر ، لأن شؤونه الخاصة كانت تربكه. فقد اكتشفت بعد ذلك انه كان في اليوم الذي استأذنته بالسفر قد ترأس جلسة سرية مشوشة مع أغواته ، عقدت للمناقشة في كيفية تزويد ثلة من الجند الإيراني ببعض الضروريات التي كانت تبلغ تكاليفها حوالي مئتي تومان ـ فلم يستطيعوا على ما قيل جمع هذا المبلغ من السليمانية وربما كان هذا ينطوي على جزء من البرودة التي كنت أعتقد انها كانت بادية في تصرف الپاشا تجاهي في تلك الحادثة.

وحينما حضر الدليل كان دليلا جيدا مناسبا ، كما كانت التعليمات التي زود بها دقيقة جدّا بالنسبة لما يختص براحتي وسلامتي. فقد كان عليه أن يوصلني إلى كفري ويكون مسؤولا عن سلامتي بقطع رأسه ، تبعا للطريقة الشرقية في هذا الشأن. فبهذا الشكل تكتب الرسائل التي يزود بها السياح على سبيل التقديم من الأمراء إلى حكام الأماكن الواقعة في طريقهم ، أو التعليمات

__________________

(١) تقع اليوم في ناحية شيروانة التابعة لقضاء كفري ، ويسكنها قسم من قبائل الجاف ولا سيما الروغزادي والشاطري.

٤٣

التي تعطى للأدلاء الذين يأخذونهم إلى حيث يريدون. وهكذا فإن عبد الله (١) خان حينما كتب عني إلى أخيه صمد خان في سرادشت وسائر رؤساء القرى كان يرغب في أن أبعث في الطرق الواقعة داخل حدود المناطق التي يشملها حكمهم بسلامة وشرف ، وأن يفهم بأن أية قطرة من الدم قد تسيل من أحد خيولي يكون جزاؤها خمسة آلاف تومان.

٣ تشرين الثاني

وبدلالة عول خضر أغا غادرنا السليمانية في حوالي الساعة الحادية عشرة ، وبعد أن اجتزنا السهل تسلقنا الجبال الغربية التي تحيط بالوادي الطويل المسمى باسمها ، الذي ربما يبلغ إذا ما أضيف إليه سهل شهرزور سبعين إلى ثمانين ميلا في الطول. ومن قمة الممر كان يمكن للعين أن تشرف على بلاد تنفرد في غناها ، وتنحصر بين السلسلة التي كنا نقف فوقها ، وعلى قمة بارزة الشموخ تقع على مسافة غير يسيرة منا وتكون في الحقيقة الحدود الفاصلة بين البلاد المرتفعة والمنخفضة. وقد كان عليّ في الحقيقة أن أسمي الأراضي التي تقع بيننا وبينها واديا لأنها كانت أخفض من الجبال المحيطة بها ، لكنها كانت حقّا كتلة من أشد الجبال والوهاد وعورة تزينها هنا وهناك شجيرات البلوط والجوز المثمر في الأماكن التي كانت تقوم فيها القرى في يوم من الأيام ، والكروم وشجيرات الرمان والسماق التي لا تزال تنمو نموّا سريعا كثّا.

ولقد شققنا طريقنا عبر هذه البلاد الوعرة الصعبة إلى قرية كرداة التي كان من نصيبنا أن نقضي فيها ليلتنا في ذلك اليوم. فقوبلنا بكل أمارات الضيافة فيها بتأثير من أوامر الپاشا لكننا بلغنا بأن نكون على حذر تام من اللصوص الذين قيل عنهم على الأخص أنهم كثيرون نشطون فيها. ومن صفات هذه القرية أن المئة والخمسين إلى المئتي بيت التي تتكون منها يعود ما لا يقل عن ثلثها إلى سكانها اليهود. وقد ألفيت الأكراد واليهود هنا يمتزجون امتزاجا حسنا فيما بينهم.

__________________

(١) لا بد أن يكون عبد الله خان هذا من رجال الباشا في السليمانية.

٤٤

وفي هذا اليوم وجدنا على مسافة غير بعيدة من البلدة بركة جميلة غزيرة المياه تنبع من الأرض وتتصف ، كما أكد لنا الناس ، بخاصية الإبراء من الأمراض. وقد كان منبعها الأصلي محاطا بسد من الحجر ، كما كان في الماء المنحصر على هذه الشاكلة عدد من الأسماك التي كانت تسبح وتتحرك غير عابئة بأحد لأن الناس لم يكونوا يتعرضون لها. على أن الجنود الروس الذين بعثوا إلى هنا من أذربيجان كانوا قد عملوا على اصطيادها وتقليل عددها برغم الإنذار بالموت الذي كان يصدر من الناس تجاه هذه الإساءة المدنسة للقدسية. فزعم أن بعض الذين أكلوا من هذا السمك قد ماتوا بنتيجة ذلك.

وقد تحدثت في هذا اليوم مع دليلنا في موضوع النذركاهات (أماكن النذور) ، فكان تفسيره لها بسيطا. إذ قال لي «إن الشخص المريض حينما يرى في الحلم أحدا من الأئمة أو الرجال الصالحين يظهر في بقعة خاصة فإنه يعمر تلك البقعة ، وحينما ينال مراده الذي كان ينتظره يبادر إلى تخليد المكان بمثل هذه الأكوام من الحجارة التي كثيرا ما نراها في طريقنا اعترافا منه بالجميل وإرشادا للآخرين عن هذه البقعة المقدسة. فيؤدي هذا إلى مجيء المرضى الآخرين إليها وإضافة أحجار أخرى فوقها ، وبمرور الوقت تصبح الأكوام عديدة وكبيرة. وكثيرا ما يشد الذين انتفعوا بهذه الوسيلة قطعا من ملابسهم كذلك في الشجيرات المحيطة بتلك البقع كما ترى». وهو يقول أيضا إن قبور العظماء من الرجال ، أو الذين يقتلهم اللصوص أو يقتلون خيانة ، لا توضع فوقها هذه العلامات ، ولا تلقى مثل هذا النوع من الاحترام والتوقير. لكن عمودا يحمل علما في أعلاه قد يرفع أحيانا ، أو قد توضع بقربه علامة غير هذه لتدل المسلمين الصالحين على المكان الذي يجب أن يترحموا فيه على الموتى.

وقد تحركنا في السابعة من صباح اليوم الثاني. فمررنا في طريقنا بمواقع عدد من القرى المهجورة التي كانت يوما ما تسبغ الحياة والجمال على مرابعها ووديانها الصغيرة. لأن السكان قد هربوا عن هذه البلاد المنكودة الطالع وأخذوا معها ما كان فيها من سلم وازدهار ، فخلفوها فريسة للطغاة

٤٥

واللصوص. وفي طريقنا هذا اليوم شاهدنا الكثير من آثار العنف والضغينة ، لأننا في مسافة لا تزيد على اثني عشر ميلا أبدلنا حراسنا وأدلاءنا مرتين. إذ لا يجرأ سكان القرية الواحدة على الدخول في حدود القرية الأخرى. وقد قص علينا دليلنا عول خضر أغا قصة طريفة في هذا الشأن ، وهي أن قبيلة الهماوند التي تشغل بعض الأراضي القريبة من هذه المنطقة ، والتي أكد لي أنها لا تزيد في عددها على الخمسمئة أو الستمئة أسرة ، قد جعلت من نفسها عشيرة قوية تجاه عشيرة أخرى هي عشيرة الجاف (١) التي تعد بين عشرة آلاف واثني عشر

__________________

(١) والجاف عشيرة كبيرة من العشائر الكردية التي تتألف من أناس مقيمين في مختلف القرى والأرياف التي تمتد من لواءي كركوك والسليمانية في العراق إلى منطقة جوانرورد في داخل الحدود الإيرانية ، ومن قبائل رحل يتجولون في ضمن المنطقة هذه أيضا. وتتألف العشيرة من قبائل عدة تنتشر في جهتي الحدود العراقية ـ الإيرانية. وليست هناك رئاسة خاصة للعشيرة كلها وإنما يترأس كل قبيلة من القبائل المنضوية تحت لوائها رئيس من أسرة الإمارة المعروفة عندها وهي أسرة ظاهر بك. أو (زاير) بالكردية ، الذي يرجع بنسبه إلى بيرخضر شاهو الجد الأعلى الذي قدم من إيران (منطقة جوانرود). وهو رجل من السادة الهاشميين. كانت له رئاسة دينية في بادئ الأمر. وقد تفرعت الإمارة إلى ثلاثة فروع : (١) بهرام بيكيه (٢) كيخسرو بيكيه (٣) ولد بكيه. وقد لعبت قبائل الجاف بوضعها هذا دورا فعالا في الخصومات التي احتدمت بين العثمانيين والإيرانيين حول الحدود والمطامع الإقليمية. واستفاد من ذلك على الأخص أمراء البابانيين الذين كانوا يتناحرون على الحكم في المنطقة. وقد اقتضت الأحوال السياسية أخيرا أن تنقسم قبائل الجاف إلى جمهرتين أو مجموعتين : (١) جاف العراق أو جاف مرادي و (٢) جاف إيران أو جاف جوانرودي. وتسكن قبائل الجاف العراقية في ناحية شيروانة التابعة لقضاء كفري. ومنطقة شهرزور التابعة لقضاء حلبجة في لواء السليمانية. ومن أشهرها قبائل الميكايلي والروغزادي والطرخاني والشاطري والهاروني والصداني والبوداخي واليزدان بخشي والنجم الديني والكلالي وغير ذلك.

أما الهماوند فهم من القبائل الكردية المعروفة بالشجاعة والبسالة. ويقيمون في منطفتي جمجمال وبازيان اللتين يمر منهما طريق كركوك ـ السليمانية الرئيس في ـ

٤٦

ألف بيت أو خيمة بحيث لم يعد بوسع أي رجل من الجاف أن يتعدى إلى تخومها لأنه إذا ما فعل ذلك سرعان ما يقتل بدم بارد. بينما يركب الهماوند بجماعات تعد الواحدة منها عشرين أو ثلاثين خيالا فيذهبون إلى الجاف وينهبون بيوتهم. لكنني أعتقد أن قوله هذا فيه شيء من المبالغة ، لأن الجاف يستطيعون أن يقدموا إلى الپاشا ألف خيال مقتدر في وقت الحاجة. وهم يقطنون في الغالب منطقة شهرزور ، لكنهم ينتشرون أيضا على طول خط الحدود. هذا وقد اغتنم أحد أولئك التعساء من الجاف فرصة مرور قافلتنا فحمل نبالته ووجاهته سالمة إلى خارج المناطق الخطرة.

وقد تم آخر تبديل لحراسنا في جعفران بالقرب من سفح ممر سكرمة ، إحدى بوابات كردستان الكبيرة في هذه الاصقاع. ولما كان قد رافقنا من هناك اثنان من الخبثاء الجريئين الشبيهين باللصوص فقد علق دليلنا عليهما بقوله إنهما يعدان بعشرين فارسا. ثم استطرد قائلا : «إن اللصوص يخشونهما ولا يجرأون على مهاجمتنا بوجودهما ، لكننا يجب علينا أن نكون حذرين على كل حال ، ولتكن حيوانات الحمل غير متباعدة ، ونحن سنكلف أحد هذين بأن يسير في المقدمة.» فجد رفاقي في السير بعد أن صدر لهم مثل هذا الإنذار ، وهم الذين يلجأون في كثير من الأحيان إلى حيلة التلكؤ والتباطؤ الخبيثة ، حتى وصلنا إلى شدقي الممر بالسرعة اللازمة.

فوقفنا هنا وقفة قصيرة ، لكنني سررت لذلك لأنها مكنتني من أخذ رسم

__________________

ـ الوقت الحاضر ، ولا تعد قبيلة الهماوند من القبائل الكبيرة. ويعتقد بعض المؤرخين أنهم في الحقيقة تفرعوا عن عشيرة الجاف الأصلية. وقد جاء في كتاب (عشائر العراق الكردية) أن لغتهم لا تختلف عن لغة الجاف ، لكنها تختلف عن لغة أهل السليمانية وأطرافها المعروفة بلغة الكرمانج. ومن وقائعهم المعروفة في تاريخ العراق الحديث مناوأتهم لباشوية بغداد واضطرار الوالي عمر باشا سردار أكرم إلى تأديبهم بقسوة والتنكيل بهم فأدى ذلك إلى عزله. ولهم موقعة معروفة مع الجاف جرت في مكان يقع بين جمجمال والسليمانية يسمى (كرده لربويه) قتل فيها ابن كيخسرو بك الجاف.

٤٧

تخطيطي سريع لهذه البوابة الطبيعية الفريدة ، التي يسميها الأهلون تسمية في محلها فيطلقون عليها اسم «دربند». وقد استغرق صعودنا ساعة ونصف ، وفي النهاية وقفنا فوق القمة متطلعين من الخلف إلى البلاد الجبلية الموحشة التي اجتزناها. أما من الجهة الأخرى فقد كانت تمتد الأصقاع المنخفضة التي بقي علينا أن نجتازها قبل أن يكون بوسعنا الوصول إلى عاصمة الخلفاء العتيدة. أقول الأصقاع المنخفضة لا المستوية ، لأن البلاد التي صارت تمتد أمام أعيننا الآن كانت بعيدة كل البعد عن الاستواء على كونها من حيث الارتفاع النسبي أوطأ بكثير من المناطق التي خلفناها وراءنا. فقد كانت تقوم أمامنا قمم واطئة من التلال الجرداء المعتمة التي كانت تمتد امتدادا متسلسلا حالت كثافة الجو دون اكتشافنا لنهايته. أما الفسح التي كانت تتخلل تلك القمم فقد كانت تتقاطع معها على نفس النمط سلسلة من الروابي والآكام الصغيرة. فكان المنظر العام بذلك مقفرا ومعتما. ومع هذا فقد كانت هذه بلاد الآشوريين الأصلية ، مهد الامبراطوريات الجبارة ، ومنبت الملوك العظام في الأزمنة الغابرة. ولم يكن يدور في خلد أحد أن هذه المفازة الصخرية الجرداء كانت بلاد سميراميس العظيمة ، أو سارداناپولس (١) المترف. على انها قد تكون الموطن اللائق ل «نمرود الصياد الجبار».

فأدت بنا نزلة صخرية مخفية ، ومسافة عدة أميال قطعناها في البلاد المنخفضة التي أتيت على وصفها ، إلى هذا المكان المسمى زالة ، إنها مكان بسيط جدّا كما بينت من قبل ، والحقيقة أنني لم أر أسوأ من هذا المكان للمبيت.

وقد أزعجنا في هذا المكان ، وفي المنزل الذي نزلنا فيه الليلة الماضية ، ما نشب من خصام بين مهمندارنا (٢) وأهالي القريتين حول الشعير والتبن الذي

__________________

(١) سميراميس هي ملكة آشور الأسطورية قريبة الإلهة عشتار ، أما ساردانا بولس فهو أشور بانيبال الملك الآشوري ابن أسر حدون وقد ورد ذكره في الإنجيل باسم اسنابر.

(٢) مهمندار كلمة فارسية بمعنى الرجل الذي يتولى شؤون الضيوف.

٤٨

كان يجب أن يقدم لخيولنا ، والطعام لنا. فقد أشرت أكثر من مرة قبل هذا إلى العادة الشائعة في هذه البلاد ، بأن المرموقين من الأجانب والأشخاص الموصى بهم من الأصدقاء أو السلطات الحاكمة يعتبرون ضيوفا عامين وليس مختصين بشخص دون آخر ، وهم والحالة هذه يزودون بالطعام والمنام على حساب الحكومة الاسمي أو الخانات وحكام الأماكن الواقعة على طريقهم. وهذا امتياز تعد مساوئه أكثر من فوائده. فمن الطبيعي أن السائح من دونه لا تتهيأ له الفرصة للاتصال بالطبقات العليا من الناس ، وقد يمر بالبلاد من دون أن يتسنى له الاطلاع على أي شيء من عاداتهم وأحوالهم. لكنه في كثير من الأحيان يصبح قيدا يعيق تحرك السائح وترتيباته ، لأنه لا يستطيع اتخاذ ما يلزم للبقاء في بعض الأماكن أو التوجه إلى أخرى من دون مساعدة مضيفه وموافقته عليها. وقد تكون آراء المضيف نفسه مختلفة عن آراء ضيفه ، أو مؤديه إلى الحيلولة دون تحقيق أعز رغباته عليه.

وفي هذه الحالة ، كنت أنا ضيفا على الپاشا في السليمانية. وتتطلب الأصول المتبعة في هذا الشان أن أستمر على كوني ضيفا ما دمت موجودا في بلاده. غير أنه لما كان هذا يعد شيئا باهظا في تكاليفه فقد حملت القرى التابعة له على تحمل النفقات ، وحتى لو كانت هذه النفقات تقيد على حسابه من قبل خدامه فإن القرويين المساكين كانوا لا يستفيدون شيئا من ذلك لأن الخدام يستفيدون منها هم أنفسهم ويلقون العبء على القرويين على كل حال. أما ما حدث في الليلة الماضية ، فبعد كل ما فعله دليلنا عول خضر أغا لم يأت القرويون بالمقدار الكافي من العلف لخيولي ، ولذلك أخبرت خدامي الخاصين بشرائه على حسابي أنا. ولا أدري إذا كانوا قد فعلوا ذلك أم لا ، لكنني دفعت المبلغ المطلوب. وفي هذه الليلة انتشر في القرية النحيب والعويل ـ فقد حرمت نساء الأسر الخمس أو الست التي تتألف منها القرية من ذخيرتها الشحيحة من الحبوب ، وجاءت إحداهن إلى حيث كنت أمكث معولة مولولة لتسترجع دجاجتها الوحيدة التي كانت قد أخذت منها قسرا ليدخل ريشها في تكوين مخدتي ، فاستعادتها حينما كانت السكين تهم بذبحها.

٤٩

وببضع بنسات أمكن الحصول على دجاجة أخرى ، غير أن المهمندار تدخل في الأمر لأن شرفه وضع على المحك حيث إنه كان مسؤولا عن إعاشتي مجانا من جميع الوجوه ، عدا الريح الذي كان ينتظره لنفسه ، ولذلك استرجع الدراهم قسرا من العجوز صاحبة الدجاجة وأعادها إليّ. وقد بدأت ، محاولات عدة لتسوية المشاكل بشراء ما كنا نحتاجه ، لكن الدراهم وإن كانت تقدم بصورة سرية فإن الناس كانوا يخشون المهمندار بحيث يأبون تسلمها. وأخيرا ، فبعد أن تم اعتصار كل ما يمكن استخراجه كانت الطريقة الوحيدة التي كان يترتب عليّ اتباعها لتحاشي لعنات المجتمع المنهوب هو أن أبعث أحد الخدم سرّا خلال الليل إلى دور المتضررين فأدفع لهم قيمة ما كان يؤخذ منهم مع إضافة قليلة. وكنت أعتمد في ذلك على نزاهة خادمي ـ وهو اعتماد قد يكون في غير محله بلا شك. لكنني لم يكن لدي وجه آخر للاختيار ، وأعتقد أنه لا بد أن يكون قد نفذ ما كنت أعتمد عليه فيه جزئيّا على كل حال لأن معظم الناس جاءوا ، حينما كنت أهم بالركوب في صباح اليوم الثاني ، يودعونني بوداع حار وتمنيات طيبة.

كفري ٤ تشرين الثاني

ومن زالة ، المكان الذي أرخت به كتابي الأخير ، أوصلتني مسيرة اثنين وعشرين أو أربعة وعشرين ميلا إلى إبراهيم خانجي إحدى القرى الكردية التابعة لرئيس من رؤساء الكرد ، حيث كنا سنقضي ليلتنا. وقد أدت بنا الأميال الخمسة أو الستة الأولى من طريقنا إلى بقعة صخرية فريدة لم أر مثلها قط. لكن مقدار العشب الذي نبت برغم ذلك في الربيع والصيف كان شيئا مدهشا. فلا يزال قسم منه نابتا حتى الآن ، بينما ترك القسم الأعظم منه بعد أن أشعلت فيه النار فسحا كبيرة من سطح الأرض وهي سوداء ، مرقطة بالأحجار الرمادية.

ثم صعدنا بعد ذلك جبلا كثير الصخور يعلو إلى ارتفاع غير يسير ، وهو آخر موقع ذي أهمية يحجز بيننا وبين دجلة. وقد كان أجرد من كل شيء عدا بعض العشب ، لكن شجرة عظيمة من أشجار البلوط كانت تنشر ظلها فوق

٥٠

قمته ، وهي لا بد أن تكون آخر ما بقي من غابة كانت تغطي هذه الجهات بأجمعها في يوم من الأيام. وهذه الشجرة مدينة في بقائها لتقليد من التقاليد لا يمكنني تفسيره ـ إذ ربما يكون أساسه قد ضاع بمرور الزمن. لأن جل ما يمكن معرفته اليوم في هذا الشأن هو أن المسافرين الذين يأوون إلى ظلها بعد صعود متعب سرعان ما يزول عنهم التعب وتدب فيهم القوة لمتابعة المسير. وقد كانت محاطة بجدار من حجر ، ويطلق عليها «دور المنده».

وعلى بعد عدة أميال من الممر الصخري الذي نزلنا هذا الجبل منه وقفنا لنتناول فطورنا في قرية كردية حقيرة تسمى جان ريز ، حيث يسكن سليم أغا رئيس أكراد الدلو (١) من فروع البابوات في السليمانية. وحينما أشرفنا على القرية لا حظنا وجود رماح وخيول مسرجة ، ثم وجدنا عند وصولنا أن البك كان يعد العدة للخروج إلى الصيد لأنه كان محاطا برجال الحاشية المجهزين للركوب ، والذين كانوا يمسكون عددا من كلاب الصيد (السلق) بأربطتها ، ويحملون فوق قبضات أيديهم الصقور الملفوفة رؤوسها بالغماء.

وقد حصلت لنا كلمة قالها الدليل ، الذي تقدمنا بعدة ياردات ، على ترحيب معهم بالمجاملة من هذا الرئيس الذي كان شخصا محبوب المظهر ، يتجاوز منتصف العمر ، بلحية يختلط فيها الشيب وتقاسيم تدل على قوة معتدلة. ثم استنكر الاعتذار الذي تقدمت به عن تطفلنا عليه واعتراض سبيل خروجه إلى الصيد. وحلف برأس الپاشا وعيونه هو بأنه يرحب بنا ألف مرة لا مرة واحدة. على أنه تأسف لأن معدات الراحة عنده غير كافية ، وطعامه غير مناسب بحيث إنه يخجل من الاحتفاء بنا بهذه الوسائل. حيث قال «لكننا نحن الأكراد أناس خشن نعيش في السهول والجبال وليس عندنا في أي وقت من الأوقات ما نفاخر به ، والآن فإن القليل الذي كان عندنا قد زال ـ فنحن ما بين أمير أو پاشا ننشد

__________________

(١) جاء في النص ١٧١ من كتاب العشائر العراقية (ج ٢) أن الدلو يسكنون في أنحاء كفري وأنحاء خانقين ... ومنهم بيت البيرقدار ، كان رئيسهم يحمل بيرق البابان والآن هذا البيت في أنحاء الصلاحية (كفري).

٥١

رغيف الخبز.» ثم مضى يقول هو يأخذ قطعة من الخبز الأسود الذي وضع بين أيدينا على الصينية مع شيء من اللبن «انظر ماذا نأكل ، فنحن وخيولنا نقتات على الشيء نفسه. لقد كان بوسعنا من قبل أن نقدم لضيفنا رغيفا من خبز القمح ، لكن ذلك العهد قد انتهى وعلينا أن نقنع الآن بالرخيص».

واستطرد بعد ذلك يقول في نفس الموضوع الذي كنت أحاول إخراجه منه بأسئلة أوجهها له ، أو بعلامات الاقتناع والعطف «فقد كنا نحن الأكراد في زمن من الأزمان جنودا أقوياء ، ولم نكن نفكر بغير الركوب والتدرب على الحرب بالسيف والرمح ، وبالصيد والبزدرة ، وما أشبه من الألعاب. لأننا كان عندنا ما يكفي لمعيشتنا وكان فلاحونا يزرعون الأرض لنا ، لكن كل رجل منا مضطر اليوم لأن يضع السيف والرمح جانبا وينصرف إلى «الجفت» (أي الثورين لسحب المحراث). وما هو نفع الجندي يا سيدي حينما يأخذ بمباشرة المحراث؟ لكن الإيرانيين والپاشا يتمادون في مطاليبهم كلها ، فماذا تكون عاقبة ذلك ـ لا يبقى للفلاح سوى أن يلتجئ إلى الفرار والذهاب إلى راوندوز وكرمنشاه أو الموصل أو أي مكان آخر بدلا من أن يبقى حيث لا يستطيع تحمل إخوانه ـ ولهذا تخلو البلاد من سكانها كما ترى.»

وقد كان البك كثير السؤال على الأخص عن الإنكليز والروس مع أن جهله بالفريقين كان شديدا جدّا ، فتركه وهو ممتن من زيارتي له على ما آمل. لأنني بعد أن أشبعت رغبته بالبرهنة على قوة أسلحتي النارية ، وخاصة مسدساتي الصغيرة التي كان يحتقرها إلى أن شاهد مفعولها وتأثيرها ، قدمت له هدية من بعض المصنوعات الإنكليزية التي استأثرت بلبه إلى حد كبير ، ثم افترقنا ونحن أحسن الأصدقاء.

فقلت لدليلنا عول خضر أغا حينما ابتعدنا «إن هذا الرجل المدني ، هذا الأغا الذي استقبلنا بمثل هذا الاستقبال الحار ، ورحب بنا مثل هذا الترحيب ـ لو فرضنا أننا لم تكن معنا أنت ولا أي دليل آخر من السليمانية ، والتقينا به وبقافلته في البادية ، فإنه لا أظنه كان سيتورع عن مهاجمتنا وسلبنا لو كان بوسعه أن يفعل ذلك؟» فأجاب وهو يضحك بملء شدقيه «أقسم برأس سليمان پاشا ،

٥٢

وبرأسك يا سيدي أنك تعرف هذا الرجل كما أعرفه أنا على ما يبدو ، وقد أصبت كبد الحقيقة. إن سليم أغا هو ابن بجدتها والرجل المعد لهذا العمل. فهو عمل الحاجة يأكل الخبز معك باعتبارك ضيفا عنده وبعد أن يودعك بكلمات مثل «خوش أمدى وخدا حفيظ» يعمد إلى لف لحيته وتبديل لفته ويتنكر هو ورجاله بحيث لا تستطيع معرفتهم ثم يركب فيقطع الطريق عليك ويسلبك إلى حد العري ثم يتركك. إنه أشد الأوغاد شرّا في كردستان وأكثر الأوباش فقدا للضمير ، إن هذا الرجل يا سيدي سلب النساء وتركهن عرايا هائمات في الصحراء.»

ثم سألته قائلا : «هل يعد هذا شيئا شائنا حتى في كردستان؟» فأجابني الدليل يقول : «إن هذا شائن عندنا بحيث إنني لا أعرف الكلمات المناسبة لوصفه. لكن سليم أغا هذا هو حيوان لا حياء له ولا شعور. فإن عنده تحت تصرفه حوالي أربعين أو خمسين خيالا ، يستخدمهم في قطع الطريق بحيث يتعذر على القوافل وزوار كربلاء القادمين من إيران المرور منه. وهو يجرد جميع من يقبض عليهم من كل ما يملكون.» فسألته : «ولكن ماذا يقول الپاشا في كل هذا؟ ألا يعتبر الأغا من خدام سموه؟» «على وجه التأكيد» أجاب عول خضر أغا «وأن الپاشا لا بد أن يحرق أباه إذا فعل مثل هذه الأشياء ، ولكن ماذا أقول يا سيدي؟ إن الپاشا عنده ما يكفي من المشاكل في بلده ـ إننا لا نحتفظ بالحاكم في منصبه مدة تكفي لأن يصبح قويّا بحيث يستطيع المحافظة على الهدوء التام والسكينة ، ولذلك لا يسعنا سوى أن نبذل جهدنا على كل حال. ولكن سليم أغا هذا أشد الأنذال خبثا ، ألم يرك ذراعه يا سيدي؟ إننا نقول هنا بأن ذلك كان عقوبة من الله جوزي بها على صنيعه الشائن». وبعد ذلك قلت له «حسنا ولكن رستم أغا الذي سنذهب إلى بيته هذه الليلة إن شاء الله ، أي نوع من الرجال يمكن أن يكون؟ هلا يفعل مثل ما يفعله سليم أغا ـ ألا يسلبنا هو أيضا إذا تمكن من ذلك؟» فأجاب يقول «هناك شيء من هذا القبيل في الحقيقة يا سيدي. إنه رئيس قبيلة الزنكنة (١) ، ولكنه ولله

__________________

(١) جاء في النص ٣٥٨ من كتاب الشرفنامة للبدليسي (حاشية المترجم الملا جميل ـ

٥٣

الحمد من خدام سليمان پاشا. ومع هذا فإنه سيوصلك سالما إلى كفري إن شاء الله». فرددت عليه بقولي «إن شاء الله ، إن شاء الله ، ولكنني لا حظت من هذا كله أن كل رئيس من رؤساء الفروع القبلية هؤلاء يعمد إلى اللعب بنفس اللعبة في هذه البلاد». فأجاب «آه بارك الله سيدي ، لقد قلت الحقيقة ، ولكن هذا لم يكن كذلك دائما في أيام عبد الرحمن پاشا والد سليمان پاشا ومحمود پاشا ، فلم يكن يحدث في أيامه أي شيء من هذا. فقد كان من الممكن لك أن تسير والجواهر فوق رأسك والذهب في يديك من أول الپاشوية إلى آخرها ، أي من سرادشت إلى كفري ومن كوي إلى بانه من دون أن يسألك أحد عن أي شيء. إن الدنيا كانت هنا سلام عليكم ، وعليكم السلام. ولكن النزاع بين الأخوين هو الذي جر الخراب على البلاد وأنزل بها البلايا. فمرة محمود ومرة سليمان من دون أن يبقى أحدهما أكثر من ثلاث سنوات. وبعد ذلك تدخل العجم لتسوية النزاع فأخذوا البلاد لأنفسهم وأكلوها هم وجيشهم. ثم جاء على أثرهم الطاعون ، والمجاعة ، فعملا معا على استئصال شأفة الناس وإبقاء الأعداء لنا. وأصبح الحال بحيث إن السرقة حينما تقع يتهم بها كل فريق الفريق الآخر ، أي خصمه. فخدام سليمان ينسبون انتهاك الحرمة لخدام محمود. بينما يرد خدام محمود عليهم بأن يعزوها إلى رجال سليمان. أما الحقيقة فهي أن الپاشا لم تبق له لديه القوة اللازمة لمعاقبة من يجده مذنبا أو يقترف خطأ ، ولا للسيطرة على من تحدثه نفسه بالشر ، لأن الإيرانيين يلتهمون كل شيء يمكن ان يقع في قبضة أيديهم وبذلك يضطر الرجال النزهاء إلى الهرب فتبقى البلاد للصوص».

ولم يكن هناك ما يقال ضد هذا الكلام الصريح الصحيح ، ولذلك غذذنا السير إلى قرية إبراهيم خانچي (١).

__________________

ـ روزبياني) : وتقطن هذه العشيرة اليوم منطقة زنكنة المعروفة باسمها في ناحية قادر كرم ، ويبلغ عدد أسرها (٨٠٠) أسرة يقطنون ٤٥ قرية تقريبا. وكان رئيسها عام ١٨٣٤ م رستم أغا واليوم عبد الكريم وآخرون.

(١) وهي مركز عشيرة الزنكنة.

٥٤

وقد كنا الآن في وسط آشور القديمة تقريبا ، التي كنا في الحقيقة قد دخلناها حينما اجتزنا الفتحة الأخيرة التي نزلنا فيها إلى سهل السليمانية. والحق أن البلاد لم يكن فيها ما يدل في الوقت الحاضر على أنها كانت مركزا للامبراطوريات قوية الشكيمة. فإن هذه القمم الجرد وتلك الوعورة التي تخترقها الوهاد الجافة فتمتد من حولنا إلى بعيد أو قريب لا يمكن أن تكون قد كانت يوما ما مسرحا للحوادث الجسام التي ينسبها التاريخ إلى امبراطورية سميراميس وأخلافها حيث كان عدد لا يحصى من المتحاربين يتقاتل من أجل النصر والممتلكات المترامية الأطراف.

ومهما كانت المزايا التي كان يتحلى بها أولئك المحاربون الآشوريون ، فإننا وجدنا أخلافهم قساة خشن الطباع مثل المناطق التي يعيشون فيها. فقد كانت إبراهيم خانجي ، القرية التي يسكنها رستم أغا ، عبارة عن مجموعة تتألف من حوالي مئة كوخ مبنية من الطين والحشيش. أما الديوان خانة ، كما كانت تسمى ، التابعة للرئيس التي أدخلنا إليها فقد كان بناؤها واهيا بحيث إنني توقعت أن ندفن بين أنقاضها إذا ما هب شيء من الريح أو سقطت مزنة من المطر خلال الليل. وقد استقبلنا ابنه الذي كان حدثا لطيفا لكنه كثير الفضول قليل الخجل ، له مثلهم جميعا أصابع كصنارة صيد السمك يضعها فوق كل ما تصل إليه يده. ثم جاء رستم أغا نفسه في المساء وهو رجل خفيف الروح طلق المحيا ذو سحنة سمراء داكنة ووجه مدور وضحكة لا مبالية ، فاستقبلنا بمجاملة تهويشية صاخبة. وقد كان من أولئك الشرسين الذين يكونون في أحسن حالاتهم حينما لا يعاكسهم أحد ، كما قالت الممرضة السكوتلاندية عن طفلها المدلل فهو يبتسم دائما عندما يكون على سجيته ، ويقطب حاجبيه حالما يستاء من أحد.

فكنا متحفظين لدرجة ما في بادئ الأمر ، ولما كنت أحاول دوما التوفيق بيني وبين الناس في كل المناسبات على قدر ما يمكن ، فسرعان ما تم التفاهم بيننا ودخلنا في حديث ودي. لكن ذلك بدأ بشكل غريب. فحالما انتهينا من التعارف والمجاملات المطلوبة دعا خادمي الذي كان واقفا في

٥٥

داخل الغرفة فسأله : ما اسمك؟ ومن أين أنت؟ وكم صار لك في معية الصاحب؟ وهل يدفع لك أجرا أو أن أحدا بعثك معه؟ وهل أنت سعيد في خدمته؟ وبعد أن أجيب على جميع أسئلته هذه أضاف قائلا بلهجة حازمة «أي المسدسات يملك سيدك؟ اءتني بها» فأشرت له بأن يأتي بها ، وسرعان ما أصبحت بين يدي الأغا. وعندما رأى أن الطبنجات لها عدتها الخاصة رماها جانبا بازدراء وهو يقول «إني أعرف هذا النوع من السلاح ، فإن اثنين من طائفتك جاءا إلى هنا قبل مدة من الزمن فقد ما لي زوجين منها لكنني أبيت أخذهما ، فأي نفع فيهما لي؟ إني أريد مسدسات من هذا النوع وأخرج مسدسين جيدين من مسدسات مورتيمر المزدوجة ، لكنهما كان متآكلين من الاستعمال. ثم قال «فلو كان عندك من هذه لأخذتها منك ، لكن مسدساتك هذه عديمة الفائدة. والآن قل لي هل لديك أشياء أخرى؟ إن الأشياء التي أنا مغرم بها هي المسدسات والشال والستر مثل هذه» وأشار إلى سترته التي كانت من القماش القرمزي. «هل عندك شال كشميري مثل هذا؟ انظز» قال هذا وهو يشير إلى شال قديم مطرز بالفضة فوق رأسه. فقلت له ان السياح الذين يمرون من هنا في طريقهم إلى بغداد لا يكون عندهم مثل هذه الأشياء عادة. والحقيقة أنني لا أملك الآن سوى فراشي وملابسي الخاصة. فرد عليّ قائلا «لا شيء ، انظر هذا بعض ما أعطاني إياه الإفرنج الذين حدثتك عنهم» وأخرج سكينة «سپورت» من صنع إنكليزي .. ثم ابتدرني قائلا «حان وقت الصلاة ، يجب عليّ أن أصلي» وفرش السجادة على الأرض بجنبي وبدأ بصلاته (نماز).

وأخيرا انتهى منها والتفت إليّ. وكنت في هذه الأثناء قد أخرجت سكينا كبيرا كنت قد خصصته لاستعمالي أنا أثناء السفر ، فقدمته له باعتباره سلاحا ذا فائدة كبيرة في القتال والسلم ، وهو من أحسن مصنوعات إنكلترة. فتقبله بلطف وبشاشة ولاح لي أن أساريره قد تفتحت بعض الشيء ، لأنه أصبح ينكت ويمزح.

ثم تطرقنا إلى أحاديث كثيرة من هذا القبيل ، وقد توصلت منها إلى أن البك كان يعرض بالهدايا على الدوام. فقد أشار عدة مرات إلى ما كان قد

٥٦

أهدي له من السياح الآخرين. ولما كنت راغبا في تكوين أصدقاء كثيرين على قدر ما يمكن لفائدة الذين قد يمرون بعدي من هنا اغتنمت فرصة تذمره من مقص إيراني كان يحاول عبثا أن يقص به قطعة من الورق ، فأهديه مقصّا إنكليزيّا ممتازا. فزاد هذا في مقدار ما كان قد سببه عنده السكين قبلا من الرضا والسرور ، وأخذ يثني بكثرة على الإنكليز وسلعهم الممتازة. ثم تطرقنا في حديثنا إلى أكل لحم الخنزير وتناول المسكرات وأوجه تحريمها ، وإلى موضوع الأشباح والأرواح الخبيثة فكان البك غير ملم بشيء عنها. غير أنه مع ما كان عنده من خشونة طباع وعادات افتراسية نهابة كان يؤمن إيمانا غير يسير ببعض الخرافات ، وهذا شيء شائع بين أهل المكر وقطاع الطرق.

والظاهر أن يوم التوبة ، بالنسبة للنهب وسفك الدماء ، لا يزال بعيدا عند رستم بك. فقد أسهب في وصف المعارك التي خاضها ومقدار السلب الذي حصل عليه بحماسة وحرارة كانتا تدلان على مقدار الخبث والشيطنة المتأصلين فيه. ثم قال لي إنه كان قد جرح عشر مرات على الأقل برغم أحسن الدروع التي يملكها. وهو يقول «عندي دروع من كل نوع ، وقد كنت أستعملها على الدوام ، لكنني تعلمت أن لا أعتمد عليها إلا قليلا بل أعتمد على الله وحده». وقد ضم صوته للآخرين في ندب الأيام السود التي حلت بالعنصر الكردي. فهو يقول «إن أزمنة الأكراد الذهبية قد ولت. اركب وتجول في البلاد فأية روحية وأية حيوية تجد فيها؟ إن جميع الخيالة الماهرين والرجال الشجعان قد قضوا نحبهم. أو هربوا إلى بلاد أخرى ، أو تسلموا المحراث اضطرارا للحصول على المال الذي يدفع للپاشا ولإعالة الزوجات والأطفال. وأي نفع يبقى في الجندي حينما ينصرف إلى المحراث يا ترى؟» فصدقته على ما قال حول زوال أمارات الرفاهية والازدهار من البلاد ، لكنني قلت له ان الناس كلهم على ما يبدو لم ينصرفوا إلى المهن السلمية وتبرهن على ذلك أخطار الطريق. فأجابني يقول «إن هذا بسيط ، إنها ليست سوى بعض حوادث للسرقة والنهب هنا وهناك ، فلا وجود الآن لعصابات الخيالة الباسلة. لكني أرجو أن تطمئن بأنني أنا رستم بك أتعهد بضمان سلامتك ، وسوف لا يمسك أي شيء ما بين هذا المكان وكفري. أنت رجل طيب ممتاز ، وإني أودك وأقدرك حيث

٥٧

أنك لا تشبه البعض من أهل بلادك الذين قابلتهم قبل هذا ، ممن لا يستطيعون أن يفعلوا شيئا سوى الأكل والنوم ، إن عيونك مفتحة وعندك ذوق. اطمئن ، فسوف ترى كفري سالما يوم غد».

ولا شك أنك قد عرفت الآن ما يكفي عن رستم أغا. لقد أغريت على وصف شخصيته والكتابة عنه بشيء من التفصيل لأنه نموذج ممتاز للرئيس الكردي المتوحش. وقد زودنا في صباح اليوم التالي بدليل للطريق ورسالة إلى كفري ، مقسما فيها بعيونه وبحياة ضيفه نفسه بأن لا تمس ولا شعرة من رأسي في أي مكان تكون فيه كلمته مسموعة. وهنا كذلك سوف أترك التحدث عن أصدقائنا الأكراد الخشن الذين ربما تكونون قد مللتم من تحدثي عنهم. فهم مثل سائر الأمم والرجال مخلوقات من نتاج الظروف والتثقيف ، لكنهم يتصفون بصفات قومية خاصة يمكن أن تتحول إلى الاعتبار الصالح. فإنهم شجعان وأصحاب ضيافة إلى حد معين ، لكن الصفة الأخيرة قد تضاءل شأنها في السنين الأخيرة إلى حد مؤسف بسبب الفقر والجور. وهم مثل معظم الأقوام التي تعيش عيشة الرعاة وتحكم بحكم شيخي معروف يتميزون بحب قوي للأهل والعشيرة ، مما يجعلهم شرسين عنيفين في تخاصمهم وتشاجرهم. فيتبنون الضغينة والثأر الناشىء عن الإساءة الحاصلة لقريب من الأقارب ويطورونها بسلسلة من القتل الخالية من الرحمة والضمير. وهم وإن كانوا بعيدين بطبيعتهم عن القسوة فإن هذه الضغائن ، وتولعهم بشؤون القتال والنشاط الحربي ، تميل بهم إلى ان يصبحوا تحت رحمة الطيش في سفك الدماء وتؤدي بهم إلى أن يضعوا حياة الإنسان من حيث الاعتبار في مستوى أحط من المستوى الذي توضع فيه في البلاد المسالمة. ومع ذلك فإن حروبهم تكون غير مميتة وإن نفس الشعور بالعواقب غير المتناهية المتأتية عن سفك الدماء يعمل على كبح عواطفهم كبحا ناجعا حينما يكون مجرد الشعور بالرحمة أو الحس الأخلاقي بفظاعة الجريمة أضعف من أن يستطيع الحيلولة دون وقوع القتل. وهكذا تكون الحالة في الحقيقة بين القبائل نصف المتوحشة ، حينما ينعدم وجود قوة مهيمنة عليا تستطيع ممارسة السيطرة المطلوبة. وإذا ما أراد المرء أن يكوّن فكرة قريبة إلى ذهنه عن الأكراد أو التركمان أو حتى العرب ،

٥٨

من حيث النزاع والتعامل الاجتماعي ، فعليه أن يتصور ما كانت عليه الحالة في مرتفعاتنا السكوتلاندية قبل قرنين من الزمن.

أما بالنسبة للأشخاص فإن الأكراد فعالون وأقوياء ، ولا يختلفون إلّا قليلا من حيث الأساس عن جيرانهم الإيرانيين. غير أن قسمات الوجه القومية لها شكلها الخاص البارز بصورة تلفت النظر. فهيئة التقاطيع حادة ، وشكل الوجه بيضوي ، والصورة الجانبية تلفت النظر من حيث بروز عظام الأنف وتقهقر الفم والذقن ، الأمر الذي يسبغ على الشكل العام شكلا نصف دائري ، أما العيون فمتأصلة بعمق ، وهي غامقة اللون ، سريعة ومدركة. ويكون الحاجبان كثين واضحين لكنهما يميلان قليلا إلى الوراء لتكملة الشكل المفروض للصورة الجانبية. أما شكل التقاطيع العام فهو أكثر دقة ونحافة منه عند الإيرانيين الذين يكونون في العادة أقوى بنية من الأكراد. ومن النادر أن تجد الأنف الأفطس في كردستان. ويكاد يكون الفم كامل التكوين ، بأسنان لطيفة دقيقة. وتكون الأيدي والأصابع صغيرة ونحيفة. هذا ويمكن أن نقول باختصار ان هناك شيئا من الرشاقة والانسجام في الشكل الكردي ، الأمر الذي يجعل منهم أمة وسيمة مليحة ما بين أمم العالم الأخرى.

وتنطبق نفس النقاط على النساء أيضا ، بقدر ما تدل عليه الملاحظات التي أمكنني التوصل إليها ، فهن حينما يكن شابات جميلات للغاية ، لكنهن حينما يتقدمن في السن أو حتى عند ما يصلن إلى دور النضج فإن بروز التقاطيع الحاد الذي يتميزن به مع الرجال يبتعد بهن ابتعادا أكيدا عن حد الجمال ، وسرعان ما يبدو عليهن الكبر والذبول. فقد أتيحت لي فرص عدة لملاحظة هذه التفصيلات فيهن لأنهن لا يتحجبن كما تتحجب النساء الإيرانيات ، وغاية ما يصنعن من هذا القبيل هو أن يسحبن المنديل الذي يغطين به رؤوسهن إلى حيث يحجبن به الفم والذقن عن النظر. لكنني آسف لأنني لم أتمكن من متابعتهن إلى داخل البيوت حيث أستطيع وصفهن في عملهن البيتي. على أنني عندي ، بالنسبة لما أعرفه ، ما يحملني على الاعتقاد بأنهن في حياتهن ، وواجباتهن ، وأعمالهن ، يشبهن نساء القبائل الإيرانية شبها قريبا من جميع

٥٩

الوجوه. لكن نساء الطبقة الموسرة التي تعيش في المدن يبقين في حرم أزواجهن أو آبائهن ، ويتحجبن حينما يخرجن إلى الخارج.

ها قد وصلنا كفري بعد أن اجتزنا حوالي اثنين وعشرين ميلا من البلاد المقفرة غير المهمة ، التي كانت تشبه إلى حد كبير المرحلة الأخيرة من الطريق ، سوى أن السهول أصبحت أكثر اتساعا هنا بالنسبة للمناطق المرتفعة ، لكن الحريق العام الذي تعرضت له على ما يبدو يسبغ على وجه الأرض كله مظهرا كريها. ولم نجد كذلك أية قرية من القرى في طريقنا كله. على أننا كنا غير راغبين في مشاهدة أي نوع من البشر ، فليس من المحتمل أن يكون الناس الذين نصادفهم في هذه الأوعار ممن يمكن مصاحبتهم أو السير معهم.

وتقع كفري في مدخل فتحة تتفتح في سلسلة من الجبال الواطئة ،

٦٠