رحلة فريزر

جيمس بيلي فريزر

رحلة فريزر

المؤلف:

جيمس بيلي فريزر


المترجم: جعفر الخياط
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٣٢

كما هي الحالة في كلاب الترير (Terrier) التي ينطوي حسنها في قبحها الخاص المعروف. ويأتي أولئك الحسان السود ، الأنثى والذكر منهم ، من مدغشقر وزنجبار غالبا ، حيث يجهزهم في الأعم الأغلب أمام (١) مسقط ـ وهو حليف أمين معتبر من حلفائنا يقبض في يده على جميع الطرق التجارية تقريبا. وكلهم ذوو شفاه غليظة ، ووجوه عريضة ، وعظام بارزة في الوجه ، وأنوف فطس للغاية ، وذقون صغيرة مستدقة ، وعيون بيضاء محدقة ، وجلود سوداء طمطمانية. وإني وإن كنت أبعد ما يكون عن الدعوة إلى اعتبار العبيد بوجه عام عنصرا منحطا عن البيض في الذكاء لوجود بعض الفروق التشريحية الطفيفة بين الفريقين ، لكنني أقول إذا كان هؤلاء قد حباهم الله بالكثير من الذكاء فإن العناية الإلهية لم يكن يسرها مطلقا ان تودع ملكات الذكاء في هيكل أقل إغراء من هذا. على أنك تجدهم هنا مفضلين جدا على غيرهم من الخدام في الحرم والأماكن الأخرى. فالشوارع تعج بهم ، وجلودهم الصقيلة ، وأوجههم الضخمة اللماعة ، وملابسهم الزاهية ، تقود إلى الاستنتاج في الحال بأنهم ينعمون في حال ميسرة. على أن هذا فيه ما يدعو إلى الاستغراب إذا ما أخذ في ضوء ما يعرف عن الأتراك ومعظم الشرقيين من فوقية تجاه عبيدهم. كما ان التبختر الوقح ، واللغة السليطة التي تصدر من أولئك السفهاء السود حينما يمرون بك في الشوارع ، لا تدع مجالا للشك في كونهم محاسيب مدللين لبعض السادة المتطرفين في التساهل. على أن التمتع بهذا النوع من الترف يقتصر على المسلمين فقط ، لأن أي مسيحي أو كافر من أي طبقة كانت لا يسمح له القانون بامتلاك أي نوع من العبيد. وليس هذا هو المنع الوحيد الذي يميز به المسلمون على غيرهم هنا ، فإن المسيحي واليهودي يمنع قانونا من الركوب في الشوارع. ولذلك لم يجرأ اليهود ولا النصارى في أيام داود باشا على الظهور وهم يركبون الخيل أو البغال أو الحمير ، غير أن هذه القواعد أخذت تكسر أحيانا في عهد علي باشا الذي يسود فيه التراخي. ولا أراني

__________________

(١) كان الإمام في مسقط على هذا العهد السيد سعيد.

١٤١

بحاجة إلى أن أضيف على ذلك فأقول إن الإنكليز ، والإفرنج بوجه عام ، يعفون من هذه القيود ويستطيعون الركوب بحرية كما يشتهون.

والخصيصة الأخرى التي يتميز بها الجمهور الذي يغشى الأسواق عادة الأشباح ، المتشحة باللون الأزرق (١) الغامق والمقنعة بالأقنعة السوداء ، التي تمر محتذية أحذية (٢) صفراء صغيرة خاصة ، فيقال لك إنهن نساء. وهن يعلم الله ، حين يظهرن متنكرات بهذا الشكل ، أشبه بأي شيء آخر عدا الجنس اللطيف من المخلوقات. فإن لفافاتهن الزرقاء الغامقة ، أو القماش الأزرق والأبيض الذي يلفهن من الرأس إلى القدم يخفي الشكل واللباس إخفاء فعالا ، بينما يقوم البرقع الأسود (الپيچة) المصنوع من شعر الخيل المنسوج نسجا خفيفا يحجب الوجه عن أعين المارة حجبا تاما ، ولكن المرأة المحجبة به تستطيع في الوقت نفسه أن ترى جميع ما يمر أمامها على الوجه الأكمل. وقد ضحكت مرة حينما رفع أحد هذه البراقع الداكنة بالصدفة وبان من ورائه وجه أشد سوادا من القناع نفسه. لكنه قد يحدث في بعض الأحيان كذلك أن يتوارى وراء الحجاب الضنين وجه جميل من أوجه الفتيات الگرجيات (٣) ، وقد شعرت ذات يوم بدافع قوي يدفعني إلى مديد دنسة أحول بها لحظة من الزمن دون انكساف منظر من أجمل المناظر ، من النادر أن يوجد في هذه الجهات ـ منظر جمال أنثوي أخاذ ـ والحقيقة أن أحدا لم يستطع في يوم من الأيام أن يخترع أقبح وأوحش من الأكفان الفظيعة التي اخترعها الحسد الشرقي ليلتف بها النساء فيشوهن بها أنفسهن عند ما يظهرن في الخارج ، بغية إفزاع العيون المتلصصة والحيلولة دون روحية الخلاعة والفساد. فبها يظهر الشباب

__________________

(١) الظاهر أن عباءة النساء ، أو الإزار الذي كانت النساء تتبرقع به في تلك الأيام كان لونه أزرق بدلا من اللون الأسود الذي يشيع في الوقت الحاضر ويعم.

(٢) كان يسمى هذا النوع من الأحذية الجدوك.

(٣) لا شك أن كلمة كرجية تعني امرأة من الكرج الذين كان يؤتى بهم من كرجستان (جورجيا) في قفقاسية ، ولا تزال توصف المرأة الجميلة في العراق بكلمة كرجية باللغة الدارجة كما لا يخفى.

١٤٢

والشيخوخة ، والجمال والتشويه ، بنفس المظهر المضلل ، والفكرة التي توحيها كل امرأة تتزيا بهذا الشكل فكرة تنم عن عجوز شمطاء مخيفة ، متسربلة بلباس الفقر والضعة.

ومع هذا ، فهل يحمي هذا المظهر المنفّر في الحقيقة الثمرة المحرمة عن العيون المشتاقة يا ترى؟ وا أسفاه! إن قصص الحب والمكر التي لا ينضب معينها ، والكوارث المفجعة التي تنتهي بها مآسي الحب والجريمة هذه ، تحدثنا عن قصة تختلف تمام الاختلاف عن هذه وتثبت بكل تأكيد أن القوة المجننة والعواقب التي تنطوي عليها العواطف المكبوتة في هذه البلاد وجميع البلاد الأخرى هي شيء واحد. فمن المعروف تمام المعرفة أن هذه البراقع الواقية في الحقيقة تحجب عن الأنظار في بعض الأحيان أجمل حسناوات الحريم ـ نساء شابات جميلات ، وسواء أكن جميلات أم لم يكن فهن يرتدين أفخر وأبدع ما يمكن أن تسمح به ثروة الوالد أو الزوج. فالتركي يصرف ثروته التي يحاذر التظاهر بها في الخارج على نسائه وبيته ، ويكون صرفه هذا سخيا. فقد تكون غرفة استقباله حقيرة ، وقد يكون سجاده قديما متهرئا ، ووسائده بالية ، وقد يكون الشال الذي يلف به رأسه أو محزمه رثا أو من غير النوع الكشميري الأصلي ، لكن غرف الأماكن التي يمنع الدخول إليها لاتكون مؤثثة تأثيثا مريحا حسب بل مترفا أيضا. ولو تيسر لك الدخول لوجدتها مفروشة بسجاد هراة وكرمنشاه ، ويانات قايين وتفت ، ولرأيت فيها الچيت من الهند وإنكلترة ، والشراشف من يوركشاير وغلوستر شاير ، والحراير من الصين أو يزد أو كاشان ، تزين غرف نسائه وتجعلها جميلة مريحة. وستجد كذلك رؤوسهن مكللة بالشال الكشميري أو بأغلى كفافي ليون المطرزة ، وأجسامهن تكتسي بأبهى أنواع القطيفة وتتدثر بأغلى الفراء. وستلاحظ كذلك آذانهن وجباههن وأعناقهن تتألق بالجواهر ، وشعورهن مضفورة باللآلىء ، وأصابعهن مغطاة بالخواتم المتلألئة ، ومظهرهن كله مع كل شيء من حولهن يدل على الثراء والترف.

وليس هناك في الحقيقة أكثر زهاء وبهاء في اللون والمادة من لباس

١٤٣

السيدات التركيات في بغداد. لكنني أخشى أن أكون عاجزا عن أن أنقل إليكم فكرة صادقة عن أزيائهن من دون رسوم متقنة. فإن المرأة التركية على ما استطعت التوصل إليه ترتدي أولا قميصا يصنع من نسيج حريري رقيق ذي ألوان مختلفة ، ويفتح من الأمام إلى ما يقرب من المحزم لكنه يضم حول العنق بحلية من الحلي عادة. ويكون هذا القميص مطرزا تطريزا جميلا حول العنق وعلى طول الصدر ، كما تكون الأردان الطويلة الفضفاضة التي تبدو معلقة من خنقتي اليد المفتوحتين في السترة معمولة بالذهب والفضة (الكلبدون) والحرير الملون بألوان مختلفة. ويرتدي البعض منهن فوق هذا نوعا من الصدار المزين بزينة جميلة جذابة ، تمتد من العنق إلى الوسط. لكنني أعتقد أن هذه القطعة من الملابس تستعمل في الدرجة الأولى لستر عيب من العيوب في اللباس الذي تغطيه. وتلبس فوق القميص صدرية ذات ذيل طويل تتلبس في الجسم تلبسا تاما يظهر شكله إلى حد الوسط ، مع أردان ضيقة تبقى مفتوحة حتى المرفق تقريبا. وتصنع هذه من جميع أنواع الأقمشة الغالية كالحراير المشجرة أو السادة ، والأقمشة الموشاة ، والشال ، والقطيفة وما أشبه ، وتزين بالوشي أو التطريز من جميع الأنواع تبعا لذوق اللبّاسة. ويرتدي بعضهن سترة قصيرة من قماش مماثل ، مبطنة بشيء من الفرو الناعم ، فرو السمور أو القاقم ، وموشاة بالكلبدون كذلك. لكن الشائع الآن كما علمت استعمال الكورك ، أو رداء الفرو الطويل. أما السراويل الطويلة الواسعة التي تكاد تختفي تحت سائر الألبسة فهي تخاط بالحرير الملون الزاهي. لكن السيدات التركيات يبدين تذوقهن للأناقة والصرف في لباس الرأس والمجوهرات عادة. فلباس الرأس الذي يسمى هنا «باشلك» يتكون اعتياديا من منديل واحد أو منديلين ، أو شال ، تلف حول الفيس (الطربوش) الأحمر الذي يعتبر غطاء الرأس الوطني الذي يلبسه الأتراك جميعهم والنصارى واليهود ، رجالا ونساء ، الداخلون في حكم السلطان. وهو يصنع من اللباد أو القماش الأحمر ، وتكون له عذبة أو شرّابة (پسكولة) من الخيوط الزرق. ويطرز الفيس الذي تلبسه السيدات تطريزا باللؤلؤ ينطوي على الكثير من الذوق. ويبدل في بعض الأحيان لون الشرّابة والفيس بحيث يلائم رغبة

١٤٤

اللابسة. ويلف الشال أو المنديل حول هذا بأشكال تفوق في لفها أي شيء رأيته من هذا القبيل في قبعات أو عمائم السيدات في بلادنا نحن. وأعتقد أن أحسن ما يستعمل من المناديل يصنع في أنوال ليون ، مع أن هناك مناديل مطرزة جميلة جدا من صنع استانبول. لكنني ليس بوسعي أن أصف لكم أو أبالغ في وصف الذوق النفيس والرقة المنطوية في القماش. فإنها تنطوي في جميع ألوان القماش ودرجات الألوان ، وتطرز أكاليل الأوراد فوقها ، تطريزا كله ذوق وأناقة ، بكل درجة من درجات الألوان الرقيقة التي تختلط بكلبدون الذهب والفضة. وحينما تلف المناديل الجميلة هذه حول الرأس يلاحظ في ذلك تعريض هذه الزينة والتطريز إلى الخارج بأجمل شكل ، على أن تبقى نهايتها مدلاة بشكل رشيق خاص. ويكون الشال المستعمل على الدوام من أفخر أنواع الشال الكشميري الذي تطرز حواشيه بكلبدون الذهب والفضة ، أو باللؤلؤ وسائر المجوهرات. وحينما يلبس لباس الرأس هذا يضفر مع الشعر في العمامة ليكون زينة قائمة بذاتها ، وتتدلى من ذلك ضفيرة أو ضفيرتان إلى الخلف تنتهي كل منهما بشرّابة من نقود الذهب أو المجوهرات. ويعلق ملفوفا بالشعر ، من جهة واحدة تحت اللفة أو العمامة ، حبل من خيوط اللؤلؤ يعقد بالأحجار الكريمة. وكذلك يعلق مقدار من اللؤلؤ بأشكال مختلفة بجنبه تبعا لذوق السيدة ورغبتها. أما المجوهرات التي يشيع استعمالها ولبسها ، فإنني لا أدري كيف أصفها من حيث شكلها المختلف ومكانها ولونها. فهناك «الجيكة» وهي حلية صنوبرية الشكل توضع في جهة واحدة و «التيته» في الجهة الأخرى ، و «عين الگوني» في الأمام متدلية على الجبهة ، وتكون هذه الحلي جميعها من الماس ، والياقوت ، والزمرد. وهناك بعد ذلك ألف شيء من الأشياء الأصغر كالفراشات والبكلات والدبابيس والأعلاق ، مما لا يمكن تعدادها أو وصفها. والخلاصة ، أن لباس رأس السيدة التركية بكامل زينته من المجوهرات يكوّن كلّا غنيا مذهلا ، ويبدو لك في الحال شيئا بهيا جميلا يمتلىء بالذوق ويتحدى الوصف.

وتزيّن الأذنان بالأقراط ، كما تحاط العنق بعدد من قلائد الماس والزمرد واللؤلؤ والسلاسل الذهب. وتشد أنواع «البازبند» على الذراع بين الكتف

١٤٥

والمرفق ، وهي ذات قيمة كبيرة. وكذلك تتلألأ المعاصم على الشاكلة نفسها بأساور لا يمكن أن توصف من حيث عددها وتنوعها. كما يحاط المحزم بمنطقة من القطيفة تشد بإبزيم من الذهب المزين بالأحجار الكريمة ، ويثبت بالمنطقة نفسها عدد من قطع الماس. أما الفقراء فيكتفون بأحجار أرخص وشغل الذهب الدقيق. وفي النهاية ، تغطى الأصابع بعدد لا يحصى من الخواتم والحلق المرصع بأحجار في أدق الحجوم وأندر البريق ، وحتى أصابع القدمين تكون لها زينتها من الأحجار. وهكذا تصبح السيدة التركية أثناء وقوفها أو تحركها كتلة من النور الباهر والرونق الأخاذ.

وقد نسيت أن أذكر ، بين الحلي التي تزين بها الأيدي والأقدام ، نوعا غريبا من الحلق يلبس بالإبهام وأصبع القدم وهو أشبه بنصف كشتبان ، يلبس وجانبه العريض يتجه إلى الأعلى ، ويرصع بالزينة اللماعة والمجوهرات. وهناك ، عفوا ، البوابيج الجميلة التي تحتمل أي نوع من الزينة الملائمة لذوق الحسناء وقابليتها على الصرف. وهذه لا تكاد تحفظ أقدامها الجميلة من السجاد الثمين الذي تمشي عليه ، ولكنها لما كانت تستعمل في التنقل من غرفة إلى أخرى فقط فإن خفتها لا تحول دون الاستفادة منها.

وستدركون من هذا بلا شك أن لباس السيدة التركية ليس زاهيا جدا فحسب بل إن ثمنه أيضا يمكن أن يزداد إلى ما لا نهاية تبعا لإيراد صاحبتها ، لأن طراز زينتها يمكن أن يتغير وفقا لذوقها. وقد كنت أتمنى أن أقول علاوة على هذا إن عقول اللابسات الحسناوات تزدان بحلي الفكر والمعرفة كما تزدان أجسامهن بالألبسة. غير أنني بالنسبة لجميع ما استطعت التوصل إليه من معلومات يمكن أن أقول إن هذا بعيد جد البعد عن الحقيقة والواقع. فالحقيقة أن جهل ، وسخافة ، وسماجة نساء الطبقة الراقية في بغداد أشياء تلفت النظر بصورة مؤلمة. وليس من الصعب علينا أن ندرك كيف لا يكنّ على غير هذه الحالة. فأي فرص للتحسن يمكن أن تتوفر لهن في محيطهن ، عن طريق القدوة أو الفرض؟ وأي نماذج تتيسر لهن في مكانهن فيقلدانها ويحسّن من وضعهن على منوالها؟ فهن وقد دربن على تسلية سيد يكون في كثير من

١٤٦

الأحيان شيئا أحسن من الوحش بقليل ، وعلى أن يلبسن ويتزوقن ويبتسمن ويقيّدن أنفسهن بحيث يتلاء من مع مزاج سيدهن الذي لا يستطيع ، ولا يريد ، أن يقدر إبداء أي مقدار من الذكاء والنشاط العقلي في مملوكته المتزوجة ـ كيف ينتظر منهن أن لا يكنّ في الأعم الأغلب سوى دمى خالية من الروح والعقل؟

وليست لديهن في البيت ، على قدر ما استطعت التأكد منه ، أشغال تشغلهن سوى اللبس وترتيب الملابس والمجوهرات ، والتدخين ، وتناول القهوة ، أو القشب والثرثرة مع الخدم والنساء اليهوديات اللواتي يأتين إلى البيوت لبيع الأقمشة واللعب والمجوهرات (الدلالات). وقد يلعبن مع أطفالهن إذا كان لديهن أحد منهم ، لكنهن ليست لديهن أية فكرة عن تربيتهم وتثقيفهم الذي يترك أمره عادة إلى «الدايات» والمربيات. ومن أعظم وسائل الله وو التسلية عندهن التزاور بينهن ، وتنطبع زيارتهن هذه بطابع خاص بها. إذ يندر أن تذهب إحداهن في زيارة مثل هذه لوحدها أو تكتفي حتى بأخذ واحد أو اثنتين من الحاشية معها. ولذلك تجد في هذه المناسبات أن بيتا بكامله يتحرك مرة واحدة كأنه مستعمرة صغيرة ، أو رتل صغير من أرتال الجراد ، فيحط في بيت صديق من الأصدقاء أو جار من الجيران. وقد يتألف البيت المتحرك من زوجتين أو ثلاث زوجات ، مع الأخوات ، والعمات والخالات ، وبنات العم ، وبنات البيت نفسه ، والمملوكات ، والخدم ، والأطفال والمربيات. وعلى المضيفة أن تعد العدة فتضيّف القطيع كله ـ وليس هذا بالواجب السهل ، وخاصة عندما تكون المضيفة على غير علم بقدوم الضيوف أو حينما تكون الضيفة ذات منزلة رفيعة. ولذلك يحصل شيء غير قليل من الهرج والمرج والجري إلى الأسواق والجيران للحصول على الوسائل المطلوبة والمواد للقيام بواجب الضيافة. وكثيرا ما يبلغ عدد الزائرات في زيارة مثل هذه أربعين إلى خمسين شخصا من أولئك الأشخاص المرحين.

وفي مناسبات مثل هذه لا بد أن تتوقف جميع الأعمال مهما كان نوعها ـ فعلى المضيفة أو المضيفات ومملوكاتهن أن يعطلن كل عمل ويعلنّ حول عطلة عامة في البيت. وبعد ذلك تبدأ قعقعة الألسنة ، وتتعالى الضحكات ، وتنطلق

١٤٧

الثرثرة. فلا بد للحسناوات التركيات ، وقد خرجن من سآمة بيوتهن وضجرها أو من التقيد بحضور أزواجهن ، أن يكن مرحات بمقدار كاف على الأقل. وحينما يكن مرحات لا يوجد أشد صخبا ولغطا منهم في العالم. ولا أريد في الحقيقة أن أكون غير منصف ، أو قاسيا في حكمي ، ولا أن أقول غير الصدق. لكن أصوات النساء هنا كلها من وزن واحد على ما يبدو ، وهو وزن الصراخ الذي يصدر من بعض الناس هنا حينما يكلم أحدهم صديقه الجالس في طرف آخر من سوق مزدحم. فهن كلهن يزعقن ويصرخن بصوت عال ، وحينما يتكلمن كلهن على هذه الشاكلة في وقت واحد ، كما هي الحالة عادة ، فإن تأثير ذلك يكاد يتفوق على النهيق الذي يصدر من مطاياهن المربوطة في الأسفل وليس هذا بقليل. ولا أقول هذا استنادا إلى معلومات نقلت إليّ ، لأنني حينما مررت ذات يوم في أحد الشوارع بدار كانت قد تشرفت بإقامة حفلة نسوية خاصة تسمعت لأصوات الطرفين فيها. لكنهن لا يكتفين بصوتهن فقط ،

١٤٨

ولا بمباهج أحاديثهن وإنما يستنجدون بالمغنيات والراقصات كذلك. وحينما تكون الحفلة في أوجها وتنطلق أصوات المغنيات والراقصات ثم تتصاعد قرقعات التصفيق من الحاضرات كلهن يصل الضجيج والضوضاء إلى القمة. وقد كنت أتمنى أن يكون تحدث الحسناوات في بغداد بالصوت العالي الذي أتيت على وصفه العيب الوحيد فيهن. ولكنهن ، وهن المعروفات بالجهل ، ينفّرن الأشخاص المتفوقين عليهن من حيث التهذيب بسماجتهن ، ودناءتهن ، وفضولهن. ومن الخطر أن يطلق لفيف منهن بين أشياء منتقاة غريبة ، لأنهن يتهافتن عليها بالمخلب والناب فيشوشن ترتيبها بالكلية ، أو يقطعنها ويفككنها. إذ يتقن لها ، بل ويطالبن بها بخشونة بالغة أحيانا ـ وقد يحصلن على ما يعجبن به حتى عن طريق السرقة أيضا. أما طريقة حديثهن وتخاطبهن فتتميز بكل شيء عدا التحفظ والرقة ، ولا يمكن أن يرتفعن بطبيعة الحال إلى أعلى من نطاق تعلمهن المحدود ومجال عقولهن. على أنهن قد يتحلين في بعض الأحيان بسلوك السيدات المحترمات على ما يقال ، وكثير

١٤٩

منهن يكن لطيفات الطوية حسنات الخلق. وإني أتصور أن هذه الصفات هي التي يتكون منها جماع فضائلهن الاجتماعية ، عدا بعض الاستثناءات الفردية التي يمكن أن توجد بطبيعة الحال. وقد تكون جرثومة الصفات الحميدة الأخرى قد ولدت معهن ، لكنها قد وهنت بالإهمال ، أو قضى عليها تفاقم الرياء ، والاستهتار بالقيم الذي يشجعه وضع المجتمع الذي ينحصرن فيه بشقاء واكتئاب. ولذلك فإني أهنىء النساء الأوربيات ، والإنكليزيات منهن على الأخص لأن العناية الإلهية الرحيمة قد حفظتهن من مثل هذه الحالة المنحطة.

ولم أتطرق حتى الآن إلى ذكر شيء عن طبقات النساء الدنيا لأنهن يكدن يكن الكادحات المسترقات اللواتي يخلفن العوز في جميع البلاد ، وبارتقائهن في سلم الثروة والرفاه يقلدن المتفوقات عليهن. فإنك تجدين النساء العربيات يطفن في الشوارع غير محجبات وبملابس رخيصة جدا ، وهن يتغطين بالعباءة الأبدية ، وقد وشمت جلودهن بعلامات لا عد لها من الوشم. أما المتزوجات منهن فيحملن في أحد منخريهن خزامة من الذهب أو الفضة كأنها زر كبير من أزرار التخريم ، ويتزين بخلاخيل وأساور من الفضة أو النحاس الأصفر تبعا لإيرادهن وحالتهن المالية. وأعتقد أن الأرمنيات والكاثوليكيات يلبسن كالنساء التركيات تقريبا. لكن اليهوديات لهن زي مختلف لا أعرف شيئا عنه ، كما أن أرمنيات الأماكن الأخرى لهن أزياؤهن الخاصة كذلك. وقد قيل لي إن جميع الأزياء النسائية في بغداد تختلف اختلافا غير يسير عن الأزياء في استانبول.

وبعد هذه النبذة الطويلة عن أزياء النساء وملابسهن فإنكم قد تعذرونني لعدم دخولي في تفصيلات خاصة عن ملابس الرجال. فإن الزيين السائدين في هذا الشأن هما الزي التركي والزي العربي. إذ يرتدي التركي صدارا متسعا يشد حول المحزم بشال ، ويلقى فوقه رداء من القماش العريض الذي يكون مطرزا في العادة. وفي الطقس البارد يرتدي سترة مبطنة بالفرو ، وعمامة كبيرة من الموسلين الأبيض أو الشال على رأسه. أما اللباس العربي فقد أتيت عليه من قبل ، وليس عندي ما أضيفه هنا سوى أن أقول إن خليط الملابس والألوان وبريق الأسلحة والنياشين يتكوّن منه منظر بهيج تنبض فيه الحياة لدرجة غير يسيرة.

١٥٠

(٨)

زيارة الباشا ـ مظهره وأخلاقه ـ دهاليز الاغتيال ـ الكهية وضباطه ـ صخب الخدم ومطالبتهم بالبخشيش ـ شره الباشا وتشبثه بقلب المعادن إلى ذهب ـ تجربة ناجحة ـ الدراويش ـ طبقاتهم الثلاث ـ دراويش التكايا ـ الدراويش المتوطنون ـ والمتسولون ـ قصة مأمون المصطفى ـ زيارة للدراويش ـ حيلهم وادعاءاتهم ـ زيارة للشيخ عبد القادر ـ النقيب ـ التربة والجامع ـ كنيسة الروم الكاثوليك ورئيسها.

فاتني أن أذكر لكم أنني بعد وصولي إلى بغداد بيوم أو يومين ذهبت لزيارة الباشا (١) ، الذي كنت قد جلبت له كتابا من شيخ الإسلام في تبريز. وقد استقبلت بما يكفي من المجاملة ، لكنني يمكن أن أقول بالتأكيد إنه ليس هناك شيء يمكن تصوره ليكون أقل تعبيرا عن فخامة المقام وأبهته من مقام سموه ، ولا أقل اعتبارا من خلقه ومظهره.

فقد كان الدخول إلى مسكنه ، الذي يصعب أن يسمى قصرا ، على أقل ما يمكن أن يكون ، وكان القائمون على خدمته يتناسبون مع المكان الذي يعملون فيه تناسبا تاما ـ إذ كان هناك عدد من الألبانيين الرثين في مظهرهم ، وقليل من الأتراك المنصرفين إلى التدخين ، وجماعة من الموظفين سيئي الهيئة والهندام. ولم يكن الشخص الذي أدخلنا للمثول بين يديه على حال أحسن بكيثر منهم. فقد وجدنا هناك رجلا بدينا يناهز الخمسين من عمره ، عليه رداء من الفرو ، وفي رأسه طربوش ، يجلس في جناح خارجي مؤثث تأثيثا اعتياديا ، ومفتوح على الساحة بكليته. وكانت هناك على الأرض سجادة لا بأس بها ،

__________________

(١) إنه علي رضا باشا اللاز كما لا يخفى.

١٥١

وكان المسند والأفرشة التي جلسنا علينا مغطى بقماش من الحرير القرمزي.

وكان الباشا ، على ما ذكرت ، رجلا بدينا فيه شيء كثير من سحنة التتر ، ولكن بشكل مقبول. وقد تحدث إليّ كثيرا ، رادا على فارسيتي باللغة التركية. فكان حديثه على وجه العموم شيقا بالنسبة لمقام الباشوية الذي يشغله. غير أن المجلس كان فيه عدد كبير من الأشخاص لا يسمح للباشا بأن يفتح لي قبله بحضورهم ، كما كان من المؤمل أن يفعل لو كان لوحده على ما روي لي عنه. فقد كانت الغرفة ملأى بأناس كانوا يرتدون ملابس تركية وعربية وإيرانية وكردية ، ولم يكن يخلو المجلس من المحدثين والمتكلمين. ولما كانت الفائدة من مثل هذا التحدث قليلة نهضت بأقرب ما كانت تسمح به اللياقة والحشمة ، وبعد أن ترخصت من فخامته ذهبت لزيارة الكهية الذي كان يجلس في غرفة مظلمة تقع في ممر يبدو على درجة كبيرة من الكآبة. وفي مثل هذه الدهاليز المظلمة من سرايات الأمراء والباشوات تقترف حوادث القتل والاغتيال الكثيرة عادة. فإن الضحية المسكينة التي يراد الإجهاز عليها ما إن يمر منها وهو خلي البال مما يهدد سلامته حتى يجد نفسه وقد لفّ شال حول عنقه من الخلف قبل أن يصرخ بكلمة «الله» ، أو يخرج إليه من باب جانبي ألباني جلواز فيفرغ النار من قربينة (بندقية صغيرة) في بطنه ، أو يطلق خرطوشة مسدس في دماغه ، فينتهي أمره وسرعان ما يشاهد جذعه الخالي من الرأس معروضا في «الميدان». وقد حدث شيء من هذا القبيل قبل مدة قصيرة في هذا الممر بالذات ، على ما روي لي ، على أني اجتزته سالما والحمد لله فوجدت الكهية ، الذي كان على رأس الجيش المنكسر (١) جالسا في زاويته وبالقرب منه عقيد في الجيش النظامي ، وضابط من ضباط الخيالة الألبانيين ، وعدد من أناس غير معروفين ، مسطرين في جوانب الغرفة الثلاثة وقد جاءوا يهنئونه على

__________________

(١) المنكسر في اشتباكه مع عنزة في جانب الكرخ ، كما مر في الرسالة السابقة. وكان علي رضا باشا قد عين في منصب الكهية وكالة ، بعد أن قضى على المماليك ، الحاج يوسف أغا من وجهاء حلب الذين رافقوه في الحملة. ومع ذلك عين لهذا المنصب أصالة الحاج محمد أسعد أفندي آل النائب ، والأرجح أنه هو المقصود بهذه النبذة.

١٥٢

مآثره الأخيرة على ما أحسب. لأنهم على ما يقولون قد قاموا بأعمال باهرة برغم هزيمتهم المنكرة! فقد أقسم قائد المدفعية أيمانا مغلظة بأنه أطلق خمسمئة قذيفة من مدافعه ، فقتلت كل قذيفة خمسة عشر رجلا من رجال العدو. وهو لا يذكر رقما «أكبر» من هذا لأنه يود أن يبقى في ضمن الحدود المعقولة القابلة للتصديق! ومع كل هذا فقد أجبروا على التقهقر بطريقة من الطرق ، إنه يعترف بهذا على كل حال.

وقد اكتفينا هنا بزيارة قصيرة : إذ تناولنا القهوة ودخّنا شطبا أو شطبين (١) ـ هذا ما فعلوه هم على الأقل ـ ثم عدت من السراي محفوفا بلفيف من خدام فخامته وهم يطالبونني ، وليس يرجونني ، بالهدايا مطالبة ملأى باللجاجة والإلحاف. وهذا إزعاج ممجوج للغاية تشاهده هنا وفي استانبول ، لكنه أشد إزعاجا هنا. فإن «جميع» الخدم الذين يقفون في خدمة أي رجل كبير تزوره هنا ينتظرون من الغريب أن يطعمهم أو يقدم لهم هدية من الهدايا ، وقد أصبحت هذه العادة الممقوتة جزءا من الوضع العام بحيث إن الخدم يعدون هذه الإكراميات قسما من أجورهم أو رواتبهم ، ولذلك لا يمكن لأي شخص أن يتحاشى الإذعان لها. فكل فرد أو مراجع لا بد ان يستفيد من المراجعة فيدفع لهم تبعا للفائدة التي يحصل عليها. إذ يدفع الموظفون والمستخدمون هذه «الرسوم» لخدام الرجل الكبير من أجل تكوين أصدقاء في الديوان ، بينما يدفع لهم هم بدورهم من يروّجون له أشغاله. وهكذا أصبح هذا التعامل عادة شائعة بحيث إن المرء لا يمكنه القيام حتى بزيارة اعتيادية بسيطة دون أن يدفع شيئا للجميع. وقد أصبحت هذه في السراي على الأخص عادة ممقوتة للغاية ، إذ يحدق الأتباع والخدام الذين لا حصر لهم بالمرء كاللصوص ، وينفذ الاجبار على الدفع إلى حد قيام الجنود الذين يقفون للتحية بمد بنادقهم لقطع الطريق عليك حتى تدفع «الرسم» المطلوب.

__________________

(١) لقد أشرت في حاشية متقدمة أن الشطب هو الجبوق ، ويقدم للزائر أو الضيف كما تقدم النارجيلة (الشيشة) أو السيكارة. وقد كان في ديوان الباشا يومذاك عادة ، رجل موكل بهذه الخدمة يسمى (جبوق باشي).

١٥٣

ولا أدري إذا كان لا بد لي أن أعود إلى موضوع الباشا نفسه ، على أن رسم صورة تقريبية لبغداد لا يمكن أن يتم من دون تكريس عدد من جرات القلم لوصف سيدها الحالي. فقد سبق لي أن أتيت على وصف علي باشا ومظهره الخارجي. أما عقله فليس أكثر جاذبية من الوعاء الذي يحل فيه. فهو ضعيف الرأي ، واهن العزيمة ، متردد في العمل ، فظ في قابلياته وشهواته ، أناني جشع. والمقول عنه إنه غير ميال في طبيعته إلى القسوة أو الظلم ولكنه يكره ازعاج نفسه بالإجهاد من أي نوع كان بحيث إنه يفضل تعذيب الآخرين من دون رحمة على الخضوع لمثل هذا الإزعاج ولو أدى به الأمر إلى ارتكاب أفظع الجرائم. ولذلك استغل خدامه نقطة ضعفه هذه ، والطمع الذي يساوره ، في الجور على الناس لأنهم مطمئنون بأنه لا يمكن أن يشاجر أحدا يأتي له بالمال ولا يعمل على إقلاق راحته. وهو على ما يقال دمث الأخلاق ، مطلع على شيء غير يسير من الأدب التركي ، وقد سمعت من مصدر ثقة أن أبيات الشعر التي ينظمها بالتركية لا بأس بها. لكنه بمجموعه رجل ذو ميول خسيسة ، وغير لائق أبدا للمنصب العالي الذي يشغله بمسؤوليته الكبيرة (١).

__________________

(١) جاء في كتاب لونكريك عن علي رضا باشا «.. وقد أبدى خلال اشتغاله في هذه المدة شيئا من حرية الفكر. وكان كرمه مضرب الأمثال ، كما كان قسم كبير من سماجته مختفيا وراء اعتداله .. يضاف إلى ذلك أنه كان ذا أخلاق سامية ، وله رغبة في عمل الخير زيادة على ميوله الأدبية والعلمية. على أنه كان حاكما فاشلا حقا ، فقد كانت خطته الوحيدة في حكم القبائل أن يحرك قبيلة على أخرى. وكان كسله وسمنه المفرط يمنعانه عن إجهاد نفسه في العمل .. ولم يكن قادرا على ضبط المدن ولا القبائل ، ولا قواته الخاصة غير النظامية .. أما في الأمور المالية فقد وجد على عهده العسف في الجباية وفراغ الخزينة في صعيد واحد. وعلى هذا يمكن القول إنه لم يفز بالذكر الحسن إلا بنجاحه في خلع داود باشا ، وبسخائه في منح الأراضي. وقد تزوج في بغداد ثم انتقل إلى سورية في ١٨٤٢ م» هذا وقد تزوج في بغداد بنتا من بنات المماليك هي سلمى خانم شقيقة والي بغداد الأسبق سليمان باشا الصغير. أما زوجته الأولى التي تركها في حلب فقد كان كريمة يوسف باشا الصدر الأعظم في أيام السلطان عبد الحميد خان.

١٥٤

وللباشا ولع شديد بالكيمياء القديمة (السيمياء) من بين جميع الصنعات الأخرى ، وهو يصرف على ما يقال مبالغ غير قليلة على الدراويش والقلندرية والمغامرين الذي يدعون المهارة بها. ولو أردنا تصديق الأخبار التي ترددها الأفواه نجد أن هذا المال لا يصرف كله عبثا ، إن هناك الآن رجل في هذه المدينة قد نجح بالفعل ، كما يؤكد البعض ، في قلب النحاس الأصفر إلى ذهب والرصاص إلى فضة. ويمكنكم بأن تطمئنوا هذا الخبر كان كافيا ليوقظ فيّ حب الاستطلاع ، فقررت أن أرى إن أمكن هذا الكيميائي أو بعض الناس الذين شاهدوا بأنفسهم هذه العملية على الأقل. فتبين بعد البحث أن التجربة قد أجريت بحضور الباشا نفسه ورجل إيطالي يدعى المسيو دي ماركي (١) ، كان يشرف في زمن الباشا السابق (أي داود) على المسلح (دار الأسلحة) ودار سك النقود (السكة خانة) معا ، واستمر على ذلك حتى الوقت الحاضر. وهو فوق هذا كله رجل بارع. وقد حصلت منه على قصة هذه التجربة كلها ، وهي إذا لم تؤيد بالتمام جميع ما أخبرت به في هذا الشأن فإنها على الأقل تثبت أن الباشا كان يتعامل مع رجل غير دجال. فقد أعلن هذا الرجل ، وهو عربي ، في الأخير انه على استعداد ليجرب فنه بعد أن ظل عدة شهور يشتغل في مختبره في تحضير أكاسيره ومركباته ، وتسلم كثيرا من المال لمتابعة العمل. وإذ كان المسيو دي ماركي مشككا في الموضوع وغير مؤمن بدجل هذا الفنان الماهر ، فقد قرر أن يراقب العملية بدقة ليكتشف الادعاء الفارغ ، ويزن بيديه هو نفسه النحاس الأصفر ، الذي جاء به هو أيضا ليقلب إلى ذهب ، ويضعه في البودقة. وقد أجريت العملية في مختبر «السكة خانة» (٢) واستعملت أجهزته فيها. وفي

__________________

(١) يبدو أن هذا الرجل ظل مقيما مع أسرته التي لا يزال نسلها موجودا فيها.

(٢) بدأ الباشوات المحليون بسك النقود ـ بكميات محدودة ـ في «القلعة» منذ أن استعاد السلطان مراد بغداد من الصفويين سنة ١٦٣٨ م ، ثم أخذت تسك أو تضرب في خان من الخانات يقع في سوق (السكة خانة) الكائن تجاه الباب القديمة لخان الأورتمة أو خان مرجان (المتخذ متحفا من المتاحف في الوقت الحاضر). ومما جاء في كتاب الرحالة فيلكس جونز (١٨٤٦ م) أن (عقد السكة خانة) من العقود ـ

١٥٥

أثناء العملية طلب الرجل شيئا قليلا جدا من الزرنيخ الأبيض والأصفر ، ولأجل أن يحول المسيو ماركي دون استخدام أية حيلة بعث يجلب هذا المركب من مخزن كان بوسعه أن يعتمد عليه في كونه يبيع أشياء أصلية غير مغشوشة. وقد وضع هو بنفسه حتى الزرنيخ في البودقة ، ولم يتقرب الكيميائي الممتحن منه مطلقا سوى لإضافة كمية قليلة جدا من مسحوق معين أخرجه بملعقة صغيرة من احدى العلب. وسكب المسيو دي ماركي بنفسه المعدن المتميع حينما أصبح جاهزا من البودقة وحفظه عنده. فوجد عند ما فحصه أن قسما منه قد استحال إلى ذهب بالفعل ، وحينما وزن الكتلة كلها وجدها أثقل قليلا من النحاس الذي كان قد وضعه في البودقة. فاستفسر من الكيميائي العربي كيف يمكنه أن يعلل هذا الفرق في الوزن ، فذكّره هذا في الحال بالزرنيخ المضاف الذي يؤلف بمجموعه نفس المقدار إذا ما أضيف إليه النحاس. وقد أجرى المسيو دي ماركي بعد ذلك التجربة نفسها فوجد النتيجة على مثل ما قال عنها رجل الكيمياء الماهر.

ثم عمد المسيو دي ماركي بعد ذلك إلى مفاعلة الكتلة كلها مع ماء الفضة (حامض النتريك) فأذاب ما تبقى من النحاس الأصفر وترك الذهب وكأن لم يمسسه شيء ، وحينما وزن هذا تبين أنه يقدر بثلث الكتلة كلها. وعند ما طلب إليه أن يبين لم لم ينقلب النحاس كله إلى ذهب أجاب إن العملية كلها عبارة عن عملية تجريبية وهي لا بد أن تكون غير تامة من جميع النواحي ، أي أنها كانت على ما أعتقد ثاني تجربة أجراها مع هذه المواد. وقد فحص الذهب وأخضع لتأثير حجر الحك (محك الذهب) في السوق فوجد أنه على أحسن ما يكون ، وأنه ذهب يمكن تسويقه.

__________________

ـ التابعة لمحلة الصفافير. وقد ظلت الحكومة مخولة بذلك حتى سنة (١٢٦٢ ه‍) ١٨٤٥ م حين أسست الدولة العثمانية في استانبول (سكة خانة) حديثة جلبت آلاتها من إنكلترة فصار في مقدورها سك النقود لجميع الولايات التابعة لها. ومن عرف في بغداد من المشرفين على سك النقود عدا المسيو دي ماركي أحمد أغا الجيبه جي ، الذي كان يشغل منصب (سكة أميني).

١٥٦

ولم يكن المسيو ماركي سخيفا بحيث يمكن أن يتواطأ في عملية تزييف يمكن أن تصدر من هذا الرجل العربي ، ولذلك أجد نفسي ملزما بتصديق قصته ومعتقدا بها ضمنيا. وقد كان المسيو دي ماركي حذرا في إعطاء رأي ثابت في الموضوع ، وإنما أعلن فقط عن عزمه على مراقبة حركات الرجل وخاصة خلال قيامه بإجراء تجربة أكبر من التجربة السابقة في خلال الأيام القليلة التالية. فأبديت رغبة قوية في الحضور أثناء القيام بإجرائها ، غير أن المحاولة صرف النظر عنها ، لأنها لم يكن من الممكن إجراؤها من دون المجازفة باستثارة حسد الباشا في أمر يكون شديد الحساسية فيه على الأخص. وقد علمت بعد ذلك أن المحاولة قد تمت فكان الإخفاق حليفها ، وطلب الرجل السماح له بالذهاب إلى جبال كردستان على ما أعتقد ليجمع منها بعض ما كان يحتاجه من المواد. لكن الباشا رفض أن يسمح له بمغادرة المدينة خوفا من عدم عودته بطبيعة الحال. فما أغرب هذا الخليط المتكون من الإيمان بالشيء وعدم الثقة به في الوقت نفسه!! فالباشا يؤمل ويعتقد اعتقادا جازما بنجاح محاولات هذا الرجل ، ومع ذلك فهو على تغاضيه عن نفس الأشياء التي يجب أن تفتح له عينيه وتقضي على آماله يتمسك بها برغم ما تدل عليه قدرته في التمييز والحكم على الأشياء. وقد ذهبنا ذات يوم لزيارة الكيميائي المذكور في معمله ، فكان رجلا اعتيادي المظهر ميالا إلى البدانة ، من دون أن تبدو عليه أمارات العبقرية والجرأة في الحديث. وكان عند دخولنا قد أخرج لتوه من الفرن شيئا مسخنا إلى حد البياض ، وهو جرعة لأمير المناطق الجنوبية ذات رائحة كريهة. وقد كان الرجل وقتذاك في حالة أشبه بحالة الاعتقال المبجل ، وإني أرى أنه إذا لم يعمل في الحال على اعادة شيء من مال الباشا بشكل سبائك ذهب فما عليه إلا أن ينصرف إلى البحث عن اكتشاف يجعله منيعا ضد الشنق أو الإعدام ، لأن تطاول صبر الباشا وانتظاره سيؤديان به إلى الموت إذا امتد إلى أكثر مما امتد إليه حتى الآن.

وقد أخبرنا دي ماركي بأن عدة أشخاص من مثل هذا الرجل قد أقنعتهم سلامة نية الباشا الممزوجة بالطمع إلى محاولة هذه العملية. ومن هؤلاء أناس وقعوا في الشرك الذي كانوا قد نصبوه لفخامته ، بينما نجح آخرون في غشه

١٥٧

وابتزاز مبالغ غير يسيرة منه. فرثى لسلامة النية الموجودة عنده ، بينما كان يستنكر الضعف المؤدي إليها. وكان من الواضح أنه كان يعتقد بأن المغامر الذي كنت أسهب في التحدث عنه لا بد أن يظهر دجله في النهاية ، ويكتشف احتياله ، كذلك.

أما الدراويش والفقراء والقلندرية والمتسولون والمتشردون من جميع الأنواع فليسوا قلة في بغداد ، إنها في الحقيقة موطنهم الملائم. ومع أنهم لا يدعون كلهم بقدرتهم على صنع الذهب فإنهم يجدون الوسائل المناسبة للتمتع بعيش مريح بكفاية من تصدق المسلمين عليهم واعتقادهم بالخرافة هنا. فهناك عدا الإخوان المتولين عدة تكيات لهؤلاء الناس هنا ، كما في استانبول ، وهي تنعم بمقدار غير يسير من الخيرات والهبات. ولا يقوم أعضاء هذه الربط بالاستجداء بصخب وعلانية ، لكنهم لا يردون هبات الميالين إلى التصدق من الناس وهداياتهم. ويحصلون على المال بوسائل مختلفة ، وخاصة وسيلة القيام بمعجزات مزعومة. فلا يعطون الرقى والتعاويذ ضد المرض والجروح والشرور من جميع الأنواع فقط ، وإنما يوجد أيضا صنف منهم يزعمون أنهم لا يؤثر فيهم الحديد ولا يمكن حرقهم بالنار. ويجتمع هؤلاء في أيام الجمع حول قبر من قبور الأولياء الذين ينتمون إلى صنفهم ويعرضون معجزاتهم على الناس المندهشين الذين يأتون للتفرج على حلقاتهم القدسية. لكنني قبل أن أروي لكم قصة زيارة قمت بها لهؤلاء المتعصبين أراني ميالا إلى أن أسجل لغرض تثقيفكم بعض التفصيلات المختصة بدراويش بغداد ، التي اقتبستها من أوراق أحد الأصدقاء حول الموضوع.

فهناك على ما يبدو في بغداد ثلاث طبقات كبيرة من الدراويش :

أولا دراويش التكايا الموقوف لهم ، وثانيا المتسولون المتفرقون الذين يمكن أن نسميهم بالمتوطنين ، وثالثا القلندرية أو الأولياء المتجوّلون.

ويعيش دراويش التكايا من واردات خاصة يحترمها حتى أسوأ الحكام. والحقيقة أن بعضهم رجال منصرفون إلى الدراسة والتأمل ، وبعضهم الآخر متعصب متحمس ، والعدد الأكبر منهم ينهمك في الشهوات ويدمن على

١٥٨

المسكرات وهؤلاء مجانين غريبو الأطوار. وهم يلبسون في رأسهم قبعة مخروطية الشكل تصنع من اللباد أو القطن المنسوج وتزين حاشيتها أحيانا بالمرجان أو شغل الابرة المشغول بخيوط ملونة ، كما يلبسون سترة غامقة اللون ويحتذون نعلا خفيفا. ويحملون أحيانا صولجانا من الحديد أو بلطة خاصة ، وإناء أسود مجوفا يصنع من ثمر بعض النخيل ويعلقونه بسير من الجلد في أيديهم. وتعلم أجسامهم بعلامات خاصة تدل على طبقة الواحد منهم ومرتبته.

وعلى دراويش التكايا المختلفة أن يجتمعوا مساء كل جمعة بحلقة كبيرة وبين يديهم شيخهم المريد ، في مكان معرض للمتعبدين العديدين والمتفرجين المستطلعين من المدينة. فتوضع في الوسط مناقل من الفحم المشغول مع السيوف والخناجر وحربات الحديد الطويلة الحادة المثبتة في قبضات خشبية سميكة مزودة بعدد كبير من حلق الحديد المتحرك الذي يحدث جلجلة خاصة عند التحريك. ثم ينبري أخ من إخوان الحلقة إلى ترنيم بعض الأدوار بنغمة محزنة في ذكر الله وتمجيده ، وتعابير إلهية بعيدة الفهم ، أو إلقاء مرثاة عن وفاة شهيد من الشهداء ومعاناته ، تصحبه في ذلك وتسيطر على نغماته نقرات طبلة يقوم بالنقر عليها شخص آخر منها. وبعد أن يخيم السكون والخشوع على كل شيء مدة من الزمن ينهض في الأخير أخ أو أكثر من الإخوان ببطء ، وإذ يأخذ بالاهتزاز القليل طردا وعكسا يشرع بترديد الكلمات «حق ، حق ، هو ، هو ، هو الحق» ويتأمل بكلمات الذات الإلهية في الوقت نفسه. وفي هذه الأثناء تزداد حركاته سرعة واستمرارا فتنقلب إلى دوران وتدويم بالتدريج وتصبح شفتاه بفعل حركاته وسرعة ترديده للكلمات مغمورتين بالزبد ، وعيناه مسدودتين جاحظتين ، وتشكل خصل شعره الطويلة شيئا أشبه بالهالة من حول رأسه ، ويزرق من الإجهاد ، فيسقط في النهاية منهكا لا حراك له وهو يسبح في عرقه.

وإذ يستفز هذا المنظر إخوانه الآخرين يحذون حذوه في هذا العشق الإلهي حتى يهجم المشاهدون الدنيويون ، وقد سيطر عليهم الهياج لحد الجنون ، إلى استنشاق النفس والتمتع ببركات شيخ الحلقة. ثم يأخذون

١٥٩

السيوف والخناجر والحربات الباردة أو المسخنة فوق النار وبعربدة وحركات تشبه عربدة السكارى وحركاتهم يضربون أنفسهم بالأسلحة ، أو يضعون الحدائد المشتعلة فوق وجوههم ، وهم يقدمون التضرعات والابتهالات لولي من الأولياء أو شهيد من الشهداء ، أو يصرخون بكلمة هو! وأخيرا يسقطون على الأرض ومنهم من هو جريح مضرج بالدماء ، أو سالم من الأذى لكنه يتمرغ على الأرض كالمأخوذ ، أو هامد الجثة لا حراك فيه. والمعروف أن الذي يجرح في معركة المكر والخداع هذه مع الحماسة والتورع يكون قد أدى حسابا عن ذنوب قديمة لم يكفر عنها من قبل ، بينما يخرج الظاهر منها سالما من دون أذى تحميه بركات الشيخ وأنفاسه. وقد تنشأ حوادث خطيرة عن مثل هذه الاستعراضات المؤلمة ، التي تعاد برغبة أي سيد مغرض من السادة في أي وقت يختاره لتجربة أتباعه والوقوف على مقدار إخلاصهم وورعهم ، أو لنشر نفوذه وسلطته الروحية.

ويندر الاستجداء بين هذه الطبقة من الدراويش ، ولكنهم جميعا حينما يتنزلون لالتماس الصدقة والإحسان يرددون كلمة «حق» أو «هو» بنغمة عميقة وصوت جهوري طنان ، وقليل من الناس من يرفض مثل هذا الطلب المتصف بالقدسية لأن المفروض أن مثل هذا الرفض لا بد أن تعقبه إصابة أحد أفراد الأسرة بمصيبة أو نكبة. وهم وحدهم يستطيعون الدخول إلى أي ديوان أو بيت من دون أن يحاذروا من شيء وبصرف النظر عن أي عائق ، ولهذا السبب يكون هؤلاء قادرين على أخذ ما يريدون وعلى استحصال المعلومات التي تبدو من قبيل المعجزة في بعض الأحيان. وقد شذ بعض المنتمين لهذه الطبقة شذوذا كليّا بدافع من خيالهم البعيد ، وانتحالهم المتكرر للقيام بالأعمال الخارقة ، بحيث صاروا ينتحلون الألوهية نفسها ويرددون على الدوام «أنا الحق». لكن هذه القحة ، على استعصاء أمرها ، كانت السلطات الزمنية في الإسلام تعاقب عليها بالموت على الدوام. والملاحظ أن هذه النقاط تشمل أنواعا عدة من دراويش التكايا ـ أي الدراويش الراقصون والدوامون الذين يطلق عليهم أحيانا «الدراويش المولولون» في استانبول حيث يوجد منهم عدد غير يسير كذلك ،

١٦٠