رحلة فريزر

جيمس بيلي فريزر

رحلة فريزر

المؤلف:

جيمس بيلي فريزر


المترجم: جعفر الخياط
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٣٢

المقيمية ، ووصل إلى أوطأ من قمة السدود المحيطة بالمدينة بقدم واحد. وبأمل التمكن من تقديم المساعدة ذهب المستر غروفز إلى المقيمية. لكن المناظر التي شاهدها في الطريق كانت تبعث في النفس التألم والكدر إلى أقصى الحدود ، ولم يكن من الممكن مطلقا الحصول على أي نوع من المساعدة للمصابين الذين كانوا يصارعون المرض. فمن الناس من كانت زوجته تعاني سكرات الموت ، ومنهم من كانت أمه كذلك ، ومنهم من كان مضطرّا لأن يذهب بنفسه إلى الشط فيحمل الماء منه ليغسل طفلا ميتا. لأن السقاة الاعتياديين انعدم وجودهم ، وإذا ما وجد منهم أحد كنت تجده مصحوبا بخادم يسوقه إلى بيت حدثت فيه حادثة وفاة. وقد امتلأت ساحة الجامع بالقبور الحديثة وأخذ الناس يدفنون الموتى في الشوارع العامة. ويقول المستر غروفز «ان الموت قد أصبح الآن مألوفا بحيث إن الناس صاروا يدفنون أقرب الناس إليهم من دون اكتراث يعتد به ، كما لو كانوا يقومون بعمل اعتيادي».

ولم تكن المناظر القريبة أقل من ذلك إثارة للألم والانزعاج. ففي مقابل شبابيك الدار التي كان يقيم فيها المستر غروفز كانت هناك دربونة تؤدي إلى ثمانية بيوت ، ومن هذه البقعة الصغيرة فقط كانوا يشاهدون الجثث تنقل إلى الخارج يوما بعد يوم حتى وصل عددها إلى سبع عشرة جثة. وفي اليوم الثالث والعشرين توفيت أم السيد ، صاحب البيت الذي يسكنه المستر غروفز ، في بيتها ولما لم يكن من الممكن الحصول على مساعدة أحد لنقلها إلى مدفنها في الخارج قبرت في بيتها من قبل خادمتيها اللتين سرعان ما أتى الموت عليهما من بعدها. ونظرا لعدم وجود أحد له علم بمصيرهما فقد بقيت جثتاهما في مكانهما ، تملأ رائحتهما الجو ، حتى نهبت الدار بعد ذلك بمدة وجيزة وكسرهما بابها فأصبح أمرهما معروفا(١).

__________________

(١) جاء في النص ٣٩ و ٤٠ من كتاب (تذكرة الشعراء أو شعراء بغداد وكتابها في أيام داود باشا) لمؤلفه عبد القادر الخطيبي الشهراباني الذي نشره الأب انستاس الكرملي في ١٩٣٦ م : «.. فوقع الطاعون في بغداد وكثر الموت فما بقي شعور عند الأحياء ـ

١٠١

وفي هذا اليوم نفسه شوهدت بنت صغيرة عمرها اثنتا عشرة سنة وهي تحمل طفلا بين ذراعيها في الطريق ، وحينما سئلت عنه أجابت بأنها لم تكن تعرف من هو ـ لقد وجدته في الطريق وعلمت أن والديه قد توفيا. وقد كان عمل الطفلة هذا ضربا من العمل الخيري الشائع جدا يومذاك ، وخاصة بين الإناث من الناس ، لكنه كان شيئا مميتا في كثير من الأحايين. إذ ذكرت امرأة أرمنية جاءت تستعطي شيئا من السكر لطفل التقطته على هذه الشاكلة أن جارتها كانت قد أنقذت طفلين بنفس الطريقة بعد أن وجدتهما متروكين في قارعة الطريق. فمات الطفلان كلاهما ثم أعقبتهما هي نفسها. ومن بين جميع الحوادث المؤلمة المقترنة بالحملات الخيرية التي كان يتولاها المستر غروفز أحيانا عند خروجه من البيت ، كان منظر الأطفال العديدين المتروكين على هذه الشاكلة أشد المناظر إيلاما. فقد كان الآباء والأمهات ، حينما يجدون أنفسهم قد أصيبوا بالمرض ، يعمدون إلى أخذ أبنائهم المرشحين لليتم ويتركونهم بالقرب من أبواب البيوت المجاورة «إلى رحمة الغرباء في وقت قضت فيه التعاسة الشخصية على كل إحساس بشري». كما يقول المستر غروفز. ثم يتابع وصفه قائلا : «وكان الكثير من الأطفال المتروكين على هذه الشاكلة لا يزيد عمرهم على عشرة أيام. وقد وجدت في طريقي إلى المقيمية ثمانية أو عشرة من مثل هؤلاء ولم يتيسر أي عون أو أمل انساني لهم ، إلا إذا كان بوسع الذين تركوهم أن يعودوا

__________________

ـ من دهشة ما حل بهم. يكفيك أن الوالدة لفظت ولدها في الطريق. والخلاصة ما بقي أحد ليغسل الموتى ، ولا بقي من يحفر حفائر ليدفنوا الموتى. في ذلك الوقت المهول المرحوم بكر أفندي كان متوفيا فما وجد أحد يغسله ويدفنه ، وبعد ثلاثة أيام مرّ رجل من الغرباء على بيته فشم رائحة نتنة ، فأتى به إلى مسجد يقال له مسجد بير دود فرأى حفرة فرماه فيها ... وبعد عشرين يوما خلص الطاعون وتراجعت الناس وأمر داود باشا من بقي من معسكر الحيطة (الهايته) أن يدوروا في البلد ، وعلى كل من يرى ميتا أن يرميه في الشط مقابل أجرة تساوي مئة قرش. فتفرق هؤلاء المأمورون في البلد ، وبقوا يسألون الناس عن الأموات الذين باقين على وجه الأرض من غير دفن فيحملونه ويرمونه في الشط ..» (تلاحظ ركاكة اللغة).

١٠٢

إليهم فيسترجعونهم من الطريق بعد أن ييأسوا من عطف الغرباء عليهم. وقد خابت جهودي المخلصة كلها في إيجاد أي نوع من المساعدة المثمرة لنجدة أولئك الصغار الأبرياء ، وكانت أسرتي أيضا ليست في وضع تستطيع فيه تقديم أية مساعدة لهم حتى لو خاطرت بجلب العدوى إلى بيتي».

وفي الرابع والعشرين من الشهر أدى سقوط أحد جدران المقيمية بسبب المياه المترشحة في داخلها إلى قيام المستر غروفز بزيارتها مرة أخرى. فلم يصادف في طريقه إلى هناك ولا نسمة واحدة من الناس في الشوارع ، عدا الذين كانوا يحملون الجثث والأشخاص المصابين بالطاعون الوبيل. وكانت صرر الملابس ، من مخلفات الموتى ، ملقاة بالقرب من كثير من الأبواب. وقد أغلقت ساحة الجامع الكبير ، إذ لم يبق فيها مكان لهم. ولذلك كان الناس يحفرون القبور في جوانب الطرق ، وحتى في الطرق نفسها ، وفي كل بقعة فارغة أخرى. وبينما كان المستر غروفز يتحدث إلى الخادم الوحيد الذي بقي حيا من خدم الكولونيل تايلور في المقيمية تناهى إليه أن عمته ، التي كانت ثامن شخص من أقاربه يصاب بالعدوى ، قد قضت نحبها مثل غيرها. ومات هذا اليوم كذلك بائع مشهور من باعة قطن الأكفان ، بعد أن كان يستغل حلول النكبة ويبيع القطن بأسعار مرتفعة. ولذلك لم يبق في المدينة شيء من هذه السلعة. وارتفع سعر الحبال أيضا إلى أربعة أضعاف سعرها الأصلي. وبدلا من أن تدفن الجثث بموجب مراسيم الدفن المعتادة صارت تلقى حتى جثث الموسرين من الناس على ظهور البغال أو الحمير ثم تؤخذ لتدفن في حفرة من الحفر. ومما يذكره المستر غروفز أنه صادف في طريقه نساء عربيات كن يقمن بإيماءات غريبة تلفت النظر ـ وكأنهن كن يخاطبن بها الله عزوجل متعجبات من بقاء الإفرنج والكفار مثله على قيد الحياة ، بينما كان يموت ذلك العدد الكبير من المسلمين. فكان تأثير ذلك عليه شيئا مرعبا ومؤلما ، خاصة وقد كان في تلك اللحظة محاطا بالموتى وزمجرة الكلاب التي كانت تنهش بالجثث (حتى قبل أن يسلم أصحابها الروح أحيانا إلى بارئها) ، المختلطة بصراخ الأطفال الملقاة في قارعة الطريق ، الأمر الذي كان يتكوّن منه منظر مفزع فظيع لا يمكن أن ينمحي من ذاكرته.

١٠٣

وقد ازداد عدد الوفيات في هذه الأثناء ازديادا ملحوظا. إذ تأيد في اليوم السادس والعشرين من الشهر لدى المسؤولين في السراي بأن عدد الموتى بلغ خمسة آلاف نسمة في يوم واحد ـ ولا شك أن العدد قد ازداد بمقدار أربعة آلاف على ما يبدو ، وكان هذا من مجموع السكان الذي لم يكن يتجاوز في ذلك الوقت الخمسين أو الستين ألفا. لأن ثلث السكان على الأقل كانوا قد غادروا المدينة. ثم ارتفع مستوى الماء ارتفاعا مخيفا كذلك ، فكان توقع ما يمكن أن يؤدي إليه تدفقه إلى المدينة شيئا فظيعا. على أن جميع ما كان يتوقعه الناس بفظاعته قد تجاوز التحقق في اليومين التاليين. ففي تلك الليلة تهدمت كتلة كبيرة من السور فاندفع الماء بكل قوته إلى داخل المدينة ، وغمر محلة اليهود بسرعة ، فتهدمت مئتا دار من دورهم في الحال. وقد سقط كذلك قسم من سور القلعة ، ولم يكن هناك أمل كبير بإمكان بقاء أي بيت أو جدار قائما عند تسرب الماء إليه بالنظر لطبيعة الملاط الذي تبنى به الجدران وقابليته للتفتت. وما حلت الليلة الثانية حتى كان القسم الأسفل من المدينة بأجمعه تحت الماء ، فسقط على ما يقال سبعة آلاف دار مرة واحدة ، دافنة بذلك المرضى والذين كانوا يعانون سكرات الموت والأموات والأصحاء في رمس مشترك. والمقول استنادا إلى مراجع موثوقة أن ما لا يقل عن خمسة عشر ألف شخص ، مريض وغير مريض ، أتى عليهم الماء فأغرقهم بلججه في هذه الحادثة وحدها. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار احتشاد السكان في الأماكن التي كان يمكن الالتجاء إليها من المدينة ، وتعذر الهرب على الناس في الخارج بسبب الطوفان الحاصل ، نجد أن هذا العدد ليس مما لا يمكن تصديقه على كل حال. وقد جاء القليلون الذين نجوا من هذه الكوارث بمخلفات أسرهم المحطمة إلى الدور التي بقيت سالمة في الأجزاء المرتفعة من المدينة وخالية بسبب الهجر أو الطاعون ، وبهذه الوسيلة زودوا الوباء الفتاك الذي كان لا يزال مرابطا في المساكن التي أشغلوها بغذاء جديد. ويعلق المستر غروفز على هذا الحادث بقوله «ليس هناك شيء يمكن أن يعطي فكرة مثيرة حقا عن مقدار تعاسة الأفراد وبؤسهم في هذه الفترة أكثر من مرور هذه الحادثة المخيفة من دون ملاحظة تذكر ، أو جهد يبذل للتفريج عن المصابين بوطأتها ، بينما كانت

١٠٤

حادثة مثل هذه إذا وقعت في أي وقت آخر لا يتردد ذكرها على كل لسان فقط وإنما تبذل أيضا أشد الجهود وأعظمها لمساعدة المتضررين بها».

وقد بلغت صعوبة الحصول على المؤن أشدها في هذه المرحلة. إذ صار الأشخاص المحترمون جدا يدورون على الأبواب ليستجدوا شيئا من أبسط الضروريات اللازمة للعيش. وكذلك ازداد عدد الموتى المتروكين في الشوارع إلى درجة مخيفة. وتعذر وجود الوسائل اللازمة لرفع جثثهم ودفنها. وقد شارك في هذا الوضع الذي وصلت فيه الشدة حدها الأقصى مشاركة تامة عاهل المدينة المبتلاة وسيدها الهمام. إذ أصبح السراي شبيها بمساكن القسم الأعظم من رعاياه ـ أي كومة من الأنقاض يقبع فيها هو نفسه ، وهو على أشد ما يكون من الرعب والحيرة. وقد صرح لخادم من خدام المستر غروفز بأنه كان لا يعرف أين ينام فيضمن سلامة نفسه. حيث إنه كان يخشى في كل ليلة أن يدفن بين أنقاض القسم المتبقي من مسكنه. ولذلك بعث يطلب الزورق الباقي لدى المقيمية لعله يستطيع الهرب به من المدينة ، لكن نوتيته لم يكن قد بقي منهم على قيد الحياة سوى رجل واحد ، وحتى الباشا لم يستطع تأمين الرجال اللازمين لتشغيله. ويقول المستر غروفز في هذا الشأن «إن الخوف منه لم يعد له أثر بين الناس ، ولم يعد لمحبته وجود». فكان حتى في قصره مجردا عن السلطة ، لأن الموت كان يعمل جاهدا فيه كما كان يعمل في أي مكان آخر ، وتضاءلت السلطة التي كانت مطلقة في أيام الحكم البشري حتى أصبحت في حكم العدم تجاه تأثيرات القدرة الإلهية. فمن مجموع المئة گرجي الذين كانوا يقفون في خدمته لم يبق على قيد الحياة سوى أربعة فقط. وجل ما كان يمكن عمله هو أن يرمى الموتى من الشبابيك إلى النهر لئلا تسري عدواهم إلى الأحياء وليحال دون التأثير على نفسيتهم. ثم تهدمت اصطبلات القصر كما تهدم القصر نفسه ، فصارت خيول الباشا جميعها تهيم على وجهها في الشوارع حيث كان بوسع كل أحد أن يقبض عليها ، فبيعت معظمها إلى الأعراب. ولذلك علق المستر غروفز على وضع الباشا يقول «إذا كان الباشا على مثل هذا الحرمان من العون والمساعدة فأي بؤس وشقاء كان لا بد أن يرزح تحتهما الجهمور الأعظم من الناس الذين تركوا ليصارعوا الموت وحدهم».

١٠٥

وفي أثناء هذا الصراع الرهيب مع الموت كانت المناظر المحيطة ببيت المستر غروفز وأسرته على مقدار كبير من الكآبة والعسر ، مع كل ما حبتهم به العناية الإلهية من تحاشي المرض الحقيقي وأخطاره. فمن الدربونة الصغيرة المقابلة لهم كانوا قد شهدوا بأم رأسهم خمسة وعشرين جثة تحمل إلى الخارج ، وكانوا على علم بوجود عدة أشخاص مرضى فيها. وفي إحدى الدور التي كانت تحتوي على ثماني أنفس لم يبق سوى شخص واحد على قيد الحياة ، وعلى الشاكلة نفسها لم يبق من الثلاثة عشر شخصا الذين كانت تضمهم دار أخرى بقربها سوى نفر واحد. ولم تكن هذه حوادث فريدة في بابها بأي حال من الأحوال. فمن مجموع الثمانية عشر خادما وسپاهيا الذين كان الكولونيل تايلور قد تركهم لرعاية المقيمية لم يبق في نهاية الشهر غير أربعة ، وحتى هؤلاء أصيب اثنان منهم بعد ذلك ففارقا الحياة. وكان في المؤسسة التابعة للمستر غروفز خمسة معلمين للغتين العربية والأرمنية ، فأتى الموت على كل واحد منهم وأزالهم من الوجود. ومع كل هذا السيل الجارف من الموت الذي كان يكتسح الناس زرافات ووحدانا ، لم يقلل المرض من ضراوته ولم يتناقص عدد الوفيات اليومية. فقد تجمع السكان الباقون في بقع أضيق فأضيق من المدينة بتأثير الغرق الذي داهم الكثير من محلاتها ، فهيأ ذلك لسهام الطاعون ونباله أهدافا أوضح ومقاتل أسهل نيلا. ولا غرو فإن تدفق السكان من المناطق المغمورة بالماء على البيوت الملوثة من قبل قد هيأ للوباء ضحايا جديدة ، فبقيت جثث الموتى وهي تنفث سمومها في جميع باحات البيوت وفسح المدينة ، وتملأ الشوارع فتربك الحالة فيها.

ولم يكن هذا القضاء المخيف على الأرواح البشرية مقتصرا على المدينة وحدها ، فإن قافلة كبيرة إلى دمشق كانت قد غادرت بغداد في بداية أمر الطاعون ، لكنها أخذت العدوى المميتة معها وصادفت في طريقها بالإضافة إلى ذلك عدوا آخر لا يقل عن الطاعون قدرة على الفتك والدمار ، وهو الفيضان. فالتجأت إلى بقعة من الأرض مرتفعة ارتفاعا نسيبا وبقيت محاصرة هناك لمدة أسابيع ثلاثة كان الماء خلالها يضيق الخناق عليها باستمرار ويقلل

١٠٦

عدد أفرادها يوميا ، فكان رئيس القافلة «قافلة باشي» في عداد الموتى منهم. وقد حاول الكثيرون أن يعودوا فيجربوا حظهم فيعيشوا في بيوتهم من جديد لكن الزوارق كان يندر الحصول عليها ، كما كان القليل الذي يمكن الحصول عليه منها يسام غاليا بحيث لا يستطيع الاستفادة منه إلا القليل منهم.

وعلى الشاكلة نفسها ، خرجت قافلة من بغداد متوجهة إلى همذان في إيران وهي تتألف من ألفي شخص. فحملت الوباء معها وأدى ذلك إلى موت نصفهم في الطريق. فكانت هذه القافلة تترك في كل منزل تنزل به من ستين إلى سبعين جثة ملقاة على الأرض ، كما كان عدد غير يسير يموت في أثناء المسير على ظهور الخيل والبغال أو يقع من فوقها حينما يمرض فيترك ليموت على قارعة الطريق ، وتسلب لوازمه من قبل الذين لم تمتد إليهم يد الموت.

والأنكى حتى من كل ذلك ما كانت عليه حالة الألوف الذين تأخروا بالفرار من الطاعون فأحاطت بهم المياه الفائضة وقضت عليهم. فقد اضطروا إلى التراجع إلى البقع المرتفعة إلى الارض ، وظلوا يرقبون المياه وهي تطغى وترتفع من حولهم حتى صعدت إلى ارتفاع نصف ياردة في كل خيمة. ولم يتيسر لهم الطعام ولا الوسائل اللازمة لإشعال أي نوع من النار. ولذلك لم يكن بوسع المريض ولا المعافى أن ينام أو يستلقي ، والأسوأ من هذا أنهم لم يكن لديهم من الوسائل ما يستطيعون به أن يدفنوا الموتى الذين كانوا يزدادون بينهم. وقد حاول البعض وهو نصف مخبول من اليأس أن يعود فيموت في بيته ، لكن المياه لم تترك له أي سبيل وتعذر الحصول على الزوارق بأي ثمن. ومما كان يزيد في حراجة الموقف الذي كان يقف فيه هؤلاء اللاجئون أن الذين كانوا يتوفقون في الإفلات من حصار الماء كانوا على يقين بأنهم لا بد أن يقعوا في أيدي اللصوص من الأعراب الذين كانوا يسلبون جميع من يصادفونه ، نساء ورجالا ، من دون تمييز.

وفي أثناء تراكم هذا المقدار الكثير من التعاسة والشقاء البشري لم يكن هناك أروع من الهدوء الشبيه بهدوء الموت الذي كان يخيّم على المدينة في جميع أرجائها. فقد كف الملالي عن الأذان للصلاة ، وتخلّى النادبون عن ندب

١٠٧

الموتى. ووصف المستر غروفز ذلك بقوله : «إن البلية ألجمت الناس بحيث كان المرض يستولي على اللب حينما كان يفكر المرء به».

وقد كانت أول لمحة من لمحات الفرج في مضاعفات الألم هذه ومعاناته تنطوي في هبوط مستوى المياه الذي حصل في بداية أيار. وبعد ذلك بمدة وجيزة جيء بشيء من الرز من الجانب الآخر. وكان محتكرو الحطب الذين استغلوا احتياج السكان المساكين وعوزهم قد وقعوا فرائس للوباء فأصبح الحصول على ما كان عندهم من وقود شيئا ممكنا. ثم تسنى للمساكين التعساء الذين لم يتذوّقوا طعاما مفيدا مدة طويلة من الزمن أن يطبخوا طعاما مناسبا. وبعد قليل ، أي في الرابع من أيار ، ظهرت بوادر التخفيف من وطأة الطاعون نفسه. إذ كانت الأيام التي سبقت ذلك جميلة وسماؤها صافية الأديم ، وبشّر ارتفاع الحرارة بالحد من ضراوته. وفي ذلك اليوم نفسه قل عدد الحالات المرضية الجديدة وهبط عدد الوفيات أيضا ، بينما تطاولت قائمة المتماثلين إلى الشفاء. «وقد سرّت أنظارنا» على حد قول المستر غروفز «حينما رأينا ثلاثة أو أربعة من السقائين يعودون للعمل وهو أول منظر نشاهده من هذا القبيل خلال عشرة أيام. كما شوهد المزيد من الناس يمرون بالأزقة والشوارع ، وفي هذه الليلة سمعت لأول مرة منذ ثلاثة أسابيع الملالي يؤذنون للصلاة».

ومنذ هذا الوقت فصاعدا كانت أخبار المدينة تتحسن بالتدريج. غير أن ما يؤسف له أن المرض الذي لم يتعرّض لبيت المستر غروفز حتى الآن ظهر فيه في اليوم السابع من أيار ، وكما هو معروف تمام المعرفة كان على ذلك الرجل الممتاز والمسيحي المتفاني أن يتحمل المصاب المؤلم بفقد زوجته وطفله. ثم أصيب شخصان آخران هناك فماتا كذلك ، وقد كان أحدهما المعلم الذي سبق له أن فقد على هذه الوتيرة من قبل أربعين قريبا من مجموع أربعة وأربعين.

هذا وبوسعنا ان نستمر في سرد حوادث الموت الكاسحة التي عرف بها سير الطاعون في هذه الفترة ونتمادى في ذلك من دون توقف. فقد محيت مئات الأسر عن آخرها ، ولم يبق من كثير من الأسر الأخرى التي كان يبلغ

١٠٨

عددها عشرين أو ثلاثين شخصا سوى شخص واحد أو شخصين فقط على قيد الحياة. وذكر أحد الأرمن للمستر غروفز أن سكان المئة والثلاثين دارا التي كانت تتكوّن منها محلته لم يبق منهم حيّ سوى سبعة وعشرين شخصا فقط. كما أخبر ابن الملا المتصل بالمستر غروفز أن المحلة التي يقيم فيها هو لم يبق فيها حيّ ولا شخص واحد ، فقد ماتوا كلهم. أما السيد إبراهيم ، الخادم الوحيد الذي بقي على قيد الحياة من خدام الكولونيل تايلور ، فلم يسلم من أسرته البالغ عددها أربعة عشر شخصا سواه هو وحده. ومن حوادث الوفيات الفريدة في بابها ، التي حصلت في جهات الباشوية الأخرى ، يمكن أن أذكر أن الحلة لم يكد يبقى فيها أحد من الناس بسبب الطاعون ، بعد أن كان عدد نفوسها قبل الطاعون يناهز العشرة آلاف نسمة. ويبدو مما استطعت أن أحصل عليه من الأخبار ، ومما يرتأيه المستر غروفز ، أنه من المحتمل جدا أن يكون الطاعون قد أتى على ثلثي (١) السكان كلهم في بغداد ، وأن عدد الذين وقعوا فريسة لهذا المرض لم يكن أقل من مئة ألف نسمة إذا لم يكن أكثر. ولا شك أن عدد الوفيات قد ازداد بصدفة الفيضان المؤسفة ، فقد وقع أولا في الريف فحال دون هروب الناس من الطاعون وحاصر القسم الأعظم منهم ما بين الأسوار. ثم تسرّبت المياه إلى المدينة نفسها وعند ذلك لم تغرق الألوف من الناس أو تدفن في خرائب البيوت فقط وإنما احتشد من بقي على قيد الحياة

__________________

(١) لقد ظل الطاعون خطرا مرعبا في جميع أنحاء المعمورة على مر الدهور وكر القرون ، وظل شبحه المخيف يقض مضاجع الأمم ويقضي على الملايين من نفوسها حتى استطاع العلم الحديث تشخيص ميكروبه وتعيين طريقة عدواه في نهاية القرن التاسع عشر. فقد بلغت ضحايا الطاعون في روما سنة (٨٠) للميلاد عشرة آلاف نفس في اليوم الواحد. وقضى الطاعون الذي انتشر في أوروبة كلها عام ١٣٤٨ م على (٢٥) مليونا من البشر ، أي على ما يقرب من ربع السكان فيها جميعهم. فهبط عدد نفوس روما بهذا السبب إلى عشرين ألف نسمة فقط. ومات في فلورنس وحدها ما يزيد على (١٠٠) ألف نسمة. هذا وقد كان ضحايا هذا الطاعون الوبيل تبلغ الملايين في البلاد الأسيوية ، وخاصة الكبيرة منها مثل الهند والصين.

١٠٩

منهم في مساحة ضيقة فوق البقع الجافة من الأرض ، واضطروا على اللجوء إلى البيوت الملوثة بجماعات يتراوح عدد أفراد كل منها بين العشرين والثلاثين ، وهم محاطون بالفساد والتفسخ ، ومحرومون من الملابس والمؤونة ، أو وسائل إشعال النار. وقد كان تراكم الجثث غير المدفونة كذلك مؤديا إلى تفاقم التأثيرات الناجمة عن تفشي الطاعون ، بتلويث الجو وجعله أشد إيذاء وإهلاكا للنفوس (١).

__________________

(١) لقد وقعت قبل هذا الطاعون المخيف في العراق طواعين أخرى كان لها تأثيرها البين في إماتة الروح فيه خلال تلك الأيام الخوالي. وأذكر فيما يلي ما وقع منها في الحقبة المنحصرة بين العقد الأخير من القرن السابع عشر للميلاد وسنة ١٨٣١ م ، أي السنة التي وقع فيها هذا الطاعون. فقد حدث قبيل وصول والي بغداد الحاج حسن باشا الكبير إلى العراق أن تفشى الطاعون فيه سنة ١٦٨٩ م وظل يفتك بالناس وتشتد وطأته مدة تزيد على الخمسة أشهر. وبلغ من ضراوته وكثرة ضحاياه أن صار يسميه البغداديون «أبو طبر» ، والمعتقد عند بعض المؤرخين أن هذا الطاعون قد فتك بمئة ألف نسمة من السكان وقضى عليهم. وقد سرت عدواه إلى بغداد من مندلي على أثر مجاعة كبيرة بدأت بالموصل والمناطق المجاورة لها ، ثم امتدت إلى العراق الأوسط والجنوبي نظرا لقلة الأمطار وجفاف الحقول. فأدى تقاطر السكان إلى بغداد بهذا السبب إلى انتقال المرض إليها وانتشاره في محلاتها. ثم عاد هذا الطاعون إلى بغداد في السنة التالية (١٦٩٠ م) ، فكان أشد فتكا وضراوة من قبل على ما يقال ودام مدة تناهز الثلاثة أشهر فمات من جرائه خلق كثير. ثم سرت عدواه إلى الجنوب حتى وصل إلى البصرة. وتقول بعض الروايات إن ضحاياه فيها قد زادوا على عدد الضحايا التي جند لها في بغداد بحيث إن الناس في البصرة قد عجزوا عن دفن موتاهم ، فصاروا يوارونهم التراب في المحل الذي كانوا يقعون فيه. وفي أواخر سنة ١٧٣٧ م تفشى الطاعون في الموصل وبقي مقيما فيها إلى السنة التي تلتها ، فبلغت إصاباته ألف إصابة في اليوم الواحد. ولم تمض سنتان على ذلك حتى ظهر الطاعون في بغداد أيضا ، فقضى على خلق كثير من سكانها.

وفي سنة ١٧٧٢ م تسلل الطاعون من استانبول إلى بغداد وظل فيها مدة تناهز الستة أشهر. ومن أجل هذا خرج الكثير من الناس إلى القرى والأرياف فرارا من شره ، ـ

١١٠

ومع هذا ، فحتى في حالة عدم وجود مثل هذا الاتفاق في الأسباب

__________________

ـ ومن جملتهم الوالي عمر باشا الذي خرج إلى ضواحي الأعظمية وخيم فيها مدة تزيد على الشهرين. وفي رحلة أبي طالب أن سبعين ألفا من الناس قد ماتوا في أول أدوار الإصابة. وبذلك قضى الموت بهذا المرض الوبيل على عدد غير يسير من البيوتات والأسر ، وارتبكت أحوال البلاد بتأثيره فانعدم الأمن وتوقفت التجارة وقلت الحركة. ومع هذا فقد سرت عدواه بعد ذلك إلى البصرة وبوشهر أيضا. وإلى القرى والبوادي.

وقد أمحلت الدنيا وانقطعت الأمطار في شتاء سنة ١٧٨٥ م فعم القحط بسرعة. لأن انقطاع الأمطار في هذه السنة كان قد حصل في السنة التي تقدمتها أيضا. ولذلك ارتفعت الأسعار ارتفاعا فاحشا بلغ فيه سعر الوزنة من الحنطة ثمانية قروش ، ومن الشعير ستة قروش. فاضطر الوالي سليمان باشا الكبير إلى توزيع المخزون من الأطعمة على الأهلين بأسعار واطئة. ومع هذا كله لم يكن ينفع هذا التدبير. فهاج البغداديون ، وهاجموا سراي الحكومة فاضطرت إلى ردهم بالسلاح وتأديب المحرضين منهم. وفي نهاية هذه السنة بالذات تفشى الطاعون فكان فتكه بالناس ضغثا على إبّالة. وقد دام عدة أشهر وقضى على ما لا يحصى من الأرواح.

وفي السنة الأولى من سني القرن التاسع عشر ظهر الطاعون في بغداد أيضا فقضى على الكثير من معالم الحياة فيها. وقد صادف ظهوره هذا قبيل وفاة الوالي سليمان باشا الكبير. فاضطر إلى الفرار والتوجه إلى بلدة الخالص حيث خيم مع حشمه وحاشيته في مكان يدعى «ميدان السلق» وكان يشكو من داء المفاصل الذي اشتد عليه وفي وقت ظهور الطاعون. ولم تمض سنتان على ظهوره هذا في بغداد حتى داهمها من جديد في سنة ١٨٠٣ م ، ودام فيها مدة تزيد على الثلاثة أشهر. وقد عاث فتكا وفسادا في بغداد وما جاورها ، فاضطر الوالي علي باشا أن يؤخر عودته إلى عاصمته المنكوبة من حملته التي ذهب على رأسها لتأديب العصاة في سنجار.

وفي سنة ١٨٢٠ م وصلت الهيضة (الكوليرا) ، أو الهواء الأصفر ، من الهند إلى البصرة ففتكت فتكا ذريعا فيها وقضت على ما يزيد على الخمسة عشر ألف نسمة من أهاليها. ومن ثم أخذ هذا المرض يزحف إلى الشمال بالتدريج فوصل سوق الشيوخ والعرجة والسماوة ، وانتشر بعد ذلك بين عشائر الشامية ، ومنها وصل إلى الحلة وكربلاء ، ثم إلى بغداد نفسها. وبعد أن قضى على الكثير من الأنفس فيها زحفت ـ

١١١

المؤسفة كان لا بد لوباء مثل هذا أن يحدث في أية مدينة شرقية أخرى تأثيره المعروف الذي لا يمكن أن يحصل في المدن الأوربية ، في أيامنا هذه على الأقل ، بوجود قوة نظامية من الشرطة. فإن فائدة حجر الناس وعزل البيوت عن العدوى أصبحت حقيقة لا جدال فيها. إذ من النادر أن يصاب أحد من الأوربيين في استانبول أو غيرها حينما تتخذ مثل هذه الحيطة. ولو كان من الممكن إقناع الأهلين هنا باتخاذ تدابير وإجراءات مماثلة لكان من الميسور لتأثيرات هذا المرض المميتة ، وربما لمدة بقائه أيضا ، أن تتناقص على وجه التأكيد.

وقد تكلمت بإسهاب عن الطاعون في بغداد على الأخص ، لأن تأثيراته ازداد وقعها فيها أكثر من أي مكان آخر نظرا لما شاهدته بنفسي منها. غير أنه من النادر أن تجد مدينة من المدن الإيرانية لم يحصل فيها مثل ما حصل هنا ، باستثناء ما حصل من الغرق وفيضان المياه. فقد فقدت كرمنشاه وهمذان وكردستان كلها نسبة أكبر من سكانها ، وكذلك فعلت مازندران وأستراباد. كما هبط عدد النفوس في منطقة گيلان كلها إلى خمس العدد الأصلي ـ ويدّعي الأهلون أن هذا الهبوط في عدد النفوس وصل إلى حد العشر فيها وأقفرت رشت فخلت من سكانها بالكلية ، وكذلك فعلت لاهيجان وفومن وتيريگورام وما أشبه. تصوّروا هذا الاكتساح الرهيب للحياة البشرية ، وهذا المقدار الهائل من العذاب والمعاناة ، أنه يعزى في الدرجة الأولى إلى الجهل وسوء الإدارة! وفكروا بنعم المدينة وبركاتها ـ فبجهاز حكومي منتظم ، وإجراءات مستمدة من الإدراك والخبرة ، يمكن بعون الله وتقديره التخفيف من وطأة هذا الوباء المخيف وحدته ، إذا لم يمكن تحاشيه بالكلية.

أما بالنسبة لبغداد نفسها ، فقد فر الطاعون منها في الأخير أمام حرارة

__________________

ـ عداوه إلى الشمال كذلك ، فتفشى في كركوك وقضى على نحو من ألف نسمة فيها. وانتقل من هناك إلى السليمانية وما جاورها ، ويروى في هذا الشأن أن الوالي داود باشا طلب من طبيب المقيمية الإنكليزية في بغداد جلب الأدوية اللازمة لمكافحة الهيضة هذه فجيء بها متأخرة من الهند.

١١٢

الصيف المتزايدة. فبحلول اليوم السادس والعشرين من الشهر انقطع ظهور الإصابات فيها. ففتح المستر غروفز بيته بعد ذلك في الحال ، وخرج القلائل من السكان الباقين على قيد الحياة من البيوت ليتفرجوا على حطام مدينتهم المهيضة الجناح. وقد كان المنظر يبعث في النفس قدرا كبيرا من الكآبة وانقباض النفس. فلم يبق قائما من بنايات بغداد كلها سوى مجموعة صغيرة على ضفاف النهر حيث كان مستوى الأرض مرتفعا ، وجامع واحد أو جامعين كانت جدرانهما وأسسهما قد شيّدت بمزيد من المتانة منذ البداية. وحتى البنايات التي بقيت قائمة بعد كل ما حدث يندر أن توجد واحدة منها لم يحصل فيها شيء من التصدع أو التخريب. وقد استمر سقوط الدور وتداعي الجدران حتى بعد هبوط منسوب المياه في النهر ، بالتأثير الذي أحدثه الماء في مواد البناء والانخساف الذي أخذ يحصل في الأرض. وفيما وراء هذه المجموعة من الأبنية كان يمتد إلى جميع الجهات فضاء خال يصل إلى الأسوار نفسها ، ويتسم ببقايا الجدران المهدمة وخرائب الدور التي يتكون منها ما يزيد على ثلثي المدينة. وكانت توجد هنا وهناك بحيرات كبيرة تخلفت في البقع المنخفضة من الأرض بعد انحسار المياه الفائضة. ومن بين خطوط الأسواق الطويلة ، أصاب الخراب العام عددا غير يسير منها ، وقد مرت مدة طويلة قبل عودة الأسواق التي بقيت غير مهدمة إلى الامتلاء ، والدكاكين إلى فتح أبوابها من جديد بمقدار يعتد به. فإن معظم التجار ، وجميع الصناع وأرباب الحرف تقريبا ، قد أتى عليهم الموت فأزالهم من الوجود. وإنك في هذا اليوم لو أردت أن تحصل على بعض الحاجيات المصنوعة ، التي كانت تشتهر بصناعتها هذه البلاد ، يقال لك «آه» ، إن ذلك لا يمكن الحصول عليه الآن لأن جميع من كانوا مختصين بصنعه قد ماتوا». ولذلك فقد انمحت من هنا صنعات معروفة بأكملها ، ومر وقت غير يسير قبل أن يصبح من الميسور للسكان الباقين على قيد الحياة الحصول على ضرورياتهم الاعتيادية ، كالأغذية والملابس.

وبعد ذلك جاءت المجاعة الشريرة تكشر عن أنيابها فقضت على قسم من الأحياء الذين بقوا في المدينة بعد الطاعون ، لكنني سوف لا أتطرق إليها بشيء. على أن خراب القرى المحيطة بالمدينة ، وتأثيرات الحرب وما سببه

١١٣

الجشع الإنساني من حمل سكان المناطق المجاورة على الالتجاء إلى البلدة ، كان من شأنه أن يكسو هيكل بغداد الخاوي بمقدار من السكان الذين كانوا ، على قلة عددهم بالنسبة لما كانوا عليه من قبل ، كافين ليصبحوا أهدافا جديدة لهجمتين جديدتين من هجمات الطاعون ويقدموا لهما خمسة آلاف ضحية في الأولى وسبعة آلاف في الثانية (١). وكان السبب في وافدة الطاعون الأخيرة التي انتهى أمرها في شهر أيار الأخير طمع حاكمها الحالي الذي بدلا من أن يمنع كل اتصال ممكن مع كرمنشاه لتفشي الطاعون فيها في مثل هذا الوقت ، عرّض المدينة لوافدة وبائية كان يمكن أن تضاهي وافدة ١٨٣١ م بفظاعتها ، برغم تحذير المقيم البريطاني وتذكيره بالعواقب الوخيمة ، لأنه كان يطمع بالإتاوة التي يقبضها من الزوار الإيرانيين. وسواء أكانت طبيعة الوباء نفسها على جانب أقل من الضراوة في هذه المرة ، أم كان الغذاء المتوافر لها قد تناقص مقداره ، لأن التربة التي ينهكها الحاصل الزراعي يندر أن تغل في أعقابه حاصلا وفيرا آخر ، فقد كانت الوفيات في هذه المرة أقل من وفيات الطاعون الأول بكثير. ومن أسباب هذا الفرق المقترن بالحظ تيسر الحرية للناس في الهرب إلى الخارج هذه المرة عند أول ظهور المرض. لأنهم لم يصادفوا أية معارضة لا من الإنسان ولا من المياه الفائضة عند خروجهم ، فاستغلوا هذه الحرية إلى أقصى حدودها. ولذلك هربت مناطق وجماعات بأسرها إلى الخارج ، مع جميع متاعها ، عند أول ظهور المرض. فخرج اليهود كلهم على الأخص ، وكان من نصيب الخارجين جميعهم أن شملتهم العناية الإلهية برعايتها فلم يمسسهم ضرر. أما في حادثة الطاعون الأولى فإن الباشا نفسه كان قد تدخل في الأمر ومنع الناس من الحركة بأمل الحيلولة دون ما حصل من انتشار الذعر والهلع بين جميع طبقات الناس عند أول ظهور الوباء في المدينة ، ثم جاء الفيضان بعد ذلك فحاصرهم حصارا تاما. وقد بذلت نفس المحاولة في البصرة كذلك ، حيث أغلقت أبواب المدينة فكانت عواقب ذلك شيئا على

__________________

(١) لا بد أن تكون الطواعين الثلاثة هذه هي التي يتحدث عنها جمهور البغداديين اليوم فيضربون المثل بها في شتى المناسبات.

١١٤

أشد ما يكون من الرزء والنكبة. لأن الخوف والهلع قد أديا إلى اشتداد أمر الوباء على السكان المحاصرين في الداخل ، فتجاوزت الوفيات ما حصل منها ببغداد نسبيا. وكان من بين الضحايا الحاكم (١) المخطىء نفسه الذي ذاق جزاء ما صنعت يداه.

__________________

(١) جاء في (مختصر تاريخ البصرة) لعلي ظريف الأعظمي أن والي بغداد عين عبد القادر باشا متسلما للبصرة في سنة ١٢٤٦ للهجرة ، وهي سنة الطاعون ، بعد عزل عزيز أغا عنه. وقد مات عبد القادر باشا هذا بالطاعون بعد أن تولى الحكم فيها بضعة أشهر فقط.

١١٥
١١٦

(٦)

عواقب الطاعون السياسية ـ سخط الباب العالي على الباشا ـ القبوجيون والفرامين ـ قتل صادق أفندي بأمر من الباشا ـ تخوّف الباشا ـ تعيين علي باشا لبغداد ـ محاصرة المدينة ـ الباشا يسلّم نفسه ـ تسليم المدينة بطريقة الخيانة ـ ارسال داود إلى استانبول ـ الإجراءات التي اتخذها علي باشا ـ قتل المماليك الكرج ـ طبيعة حكومة علي باشا.

لم تكن عواقب الوباء السياسية أقل أهمية من تأثيراته المهلكة على السكان ، ومن الممكن أن يقال إنها كانت شيئا قاضيا على پاشوية بغداد. فقد ذكرت قبل هذا أن داود باشا قد أصيب بكراهية الباب العالي له. لأن روحية الاستقلال الخطرة والتشامخ اللذين كان يبديهما قد أيقظا في السلطان الخشية والحسد منذ أمد طويل ، فحملاه على أن يعتزم القضاء على داود عند سنوح أول فرصة مناسبة لذلك. لكن الذنب المباشر الذي أثار السخط عليه في هذا الوقت بالذات لم يكن سوى قتل الموظف الملكي الذي كان قد أوفد من الباب العالي بمهمة رسمية إلى الباشا. ولا ينكر أن الغرض من هذه المهمة كان تدميره هو ـ وربما موته ، لكن العمل الذي اقترفه كان شيئا لا يقل عن القتل والخيانة إزاء سيده السلطان. لأن الأصول الرسمية في تركيا كانت تقضي أن يقابل الرسول ، الذي يبعث به جلالته لتقديم الخلعة أو تدبير القتل ، بنفس الاحترام والتقدير وكان من واجبات الوظيفة كذلك أن يحني الموظف رأسه بنفس المقدار من التقبل في كلتا الحالتين.

على أن هذا الإتقان للخضوع لا يمكن أن يتم ما لم يكن للرئيس الأعلى القدم المعلى في السلطة ، ولا بد أن ينقطع حينما تكون سلطته قد تضاءلت وقل شأنها. وهذا ما حدث بالذات للسلاطين في هذه الأيام التي اختلت فيها

١١٧

الأمور ، فقد أصبح من أسلوب الباشوات أن تهمل حتى أبسط أوامر السلطان وأسهلها تقبلا وأن تعامل بمقت وازدراء على الرغم من مظاهر الاحترام التي تقابل بها. ومع هذا فقد كانت العادة أن يحافظ الجميع على المظاهر ، لأنه كان لا يزال هناك في أنحاء الامبراطورية كلها شعور مستديم بتوقير اسم السلطان وسلطته ، حينما يذكر على الملأ ، بحيث يندر أن يجرؤ أي رئيس أو باشا مهما كان قويا على انتهاك حرمته. وعلى هذا فحينما كان يعلم أن قبوچيا (١) أو رسولا قد توجه لأداء إحدى المهمات تتخذ الإجراءات لاستقباله تبعا لطبيعة مهمته التي يخبر الباشا بالغرض منها قبل أن يصل الوفد بمدة طويلة ، من قبل صديق أجير موجود في الباب العالي عادة. وحينما تكون المهمة في صالحه يكون استقبال الرسول وديا مفعما بالتكريم ، أما إذا كان الأمر على العكس من ذلك فتتخذ التدابير عادة لتأخير وصوله حتى تسنح الفرصة المناسبة لتنحيته عن مهمته ـ فيدبر أمر وقوع حادث عرضي له في الغالب ، ولا يعد هذا شيئا صعبا في بلاد تكثر فيها العصابات والعشائر السلابة.

وإذ يكون القبوچيون أنفسهم على علم تام بالخطر الذي يتعرضون له من جراء مهماتهم ، يعمدون إلى اتخاذ الاستعدادات الخاصة بهم فينشأ عن ذلك كله عرض منتظم للمناورات التي تصدر من الطرفين. فيحاول الباشا تحاشي النزال والتصادم ، بينما يبذل القبوچي كل جهد للوصول إلى مجلس الباشا. لأنه ما إن يكون هناك حتى يكون الاحترام لفرمان السلطان ، الذي لا يزال التمسك به قويّا كما ذكرت من قبل ، ويستطيع تقديم أوراق اعتماده إلى الباشا حتى إذا كان محاطا بحرسه ، فإن الحرس أنفسهم سيساعدونه على تنفيذ ما جاء من أجله. لكن هذه المحاولة تكون محفوفة بالخطر لأن الفشل فيها يؤدي في الغالب إلى هلاك القپوچي الذي يعد بناء على هذا نوعين من الفرامين عادة. فإذا وجد الباشا قويا بحيث يصعب تحديه ، وخطره عظيما بمقتضى ذلك ،

__________________

(١) القبوجي كلمة تركية تعني «البواب» بالعربية ، أما في العرف الاصطلاحي لذلك الزمان فقد كان يراد بها حاجب السلطان أو رسوله الذي يوفده في مهمات رسمية.

١١٨

يصدر أمرا بالتنصيب والخلعة على سبيل الحيلة حتى تسنح فرصة ملائمة لتنفيذ إرادة سيده الأصلية.

وكان داود باشا قد تمتع بالوزارة مدة سبع عشرة سنة (١) ، واستخدم وقته ذلك كله بكد واجتهاد في توطيد سطوته وترسيخ أقدامه. فكان عنده جيش كامل قوامه ثلاثون ألف خيال وراجل ، وكان خمسة أو ستة آلاف منهم على درجة غير يسيرة من الضبط والانتظام ومجهزين بمدفعية فعالة. كما كانت وارداته من الباشوية كثيرة جدا على ما يعرف ، ومع ذلك فإنه خلال هذا الوقت كله لم يقدم إلا القليل منها إلى خزينة السلطان. ولذلك كانت حكومة استانبول بطبيعة الحال تعتبر ان داود باشا كان يتبع خطوات محمد علي باشا في مصر ، ويستهدف جعل نفسه مستقلا عنها. فقررت خلعه ، وأوفدت رسولا يسمى دانش (٢) أفندي ليحاول تنفيذ هذا القرار ، بينما نجحت دسائس علي الذي كان يشغل باشوية حلب يومذاك في أن يحصل لنفسه على الترشيح للشاغر المؤمل حصوله ببغداد.

ومهما كانت الشكوك التي كانت تساور داود باشا ، وضروب التحوط السرية التي اتخذها ، يبدو أنه لم يكن مستعدا تمام الاستعداد للضربة المنتظرة حينما حان أوانها. فقد نجح دانش أفندي في الوصول إلى بغداد ، وكانت الترتيبات التي أعدها للباشا ترتيبات استطاعت تضليله بالنسبة لطبيعة ما كان عنده من تعليمات وأوامر. غير أن القبوجي ، لما كان شاعرا بالخطر الذي كان يكتنف موقفه في بغداد ، ونظرا أنه كان عديم الثقة بأحد كما هو شأن الغدارين جميعهم ، رفض أن تكون إقامته في السراي لاعتقاده بأنه سيصبح تحت رحمة الباشا فيه. ولذلك جعلت إقامته في دار موظف من الموظفين الذين كانوا يتمتعون بثقة الباشا التامة يسمى محمد أفندي ، ويعرف أو يشتهر بلقب «مصرف».

__________________

(١) لقد شغل الوزارة ، أو باشوية بغداد الكبرى ، من عشرين شباط ١٨١٧ م إلى ١٨٣١ م ، أي لمدة خمس عشرة سنة.

(٢) إن معظم المصادر التاريخية تورد اسم (صادق أفندي) وليس (دانش أفندي).

١١٩

ثم أخذ في الوقت نفسه يفتش من حوله عن آلات مسخرة يستعين بها على تنفيذ مهمته الخطرة ، فوقع اختياره على موظف آخر من الموظفين الذين يضع فيهم الباشا جل اعتماده وهو المير آخور (١) أو «رئيس الخلية» ـ فكان هذا رجلا يتحلّى بمواهب غير قليلة. فأفضى إليه بأمر السلطان ، وعرض عليه في الوقت نفسه أن ينصبه هو في الباشوية بشرط أن يكون ملزما بمساعدته في قتل سيّده الباشا ، لكن المير آخور ، على كونه من أصحاب المواهب والقابليات ، لم تحمل أعصابه تلك المهمة الخطرة التي كلّف بها بهذه الطريقة. على أننا دعنا نأمل كذلك أن تكون للتقدير الخالص لسيد لطيف متسامح حصة في تعيين الموقف الذي اتخذه. فأخبر السيد «المصرف» بالأمر ، وذهبا معا إلى الباشا فأخبراه بالطبيعة الأصلية للمهمة التي جاء بها القبوچي (٢).

أما الباشا الذي كانت شجاعته الأدبية على ما يبدو لا تساوي قابلياته الأخرى ، فقد ارتبك للخبر وتبين أنه غير قادر على اتخاذ قرار ما حول السبيل الذي كان يترتب عليه أن يسلكه. لكن الأمر كان أخطر من أن يقابل بالتلكؤ والتباطؤ. وما كان من مشاوريه المذكورين إلا أن يقولا له «لا بد أن نقضي على القبوجي ، وإلا فسيقضي هو عليك وعلينا. وإذا كنت تشك في مهمته فإنك مقضيّ عليك لا محالة. إن هذا هو وقتك فاغتنم الفرصة فيه» .. وإذا

__________________

(١) المير آخور كلمة فارسية الأصل تعني رئيس الخيلية ، وكان اسم هذا الشخص سليمان أغا.

(٢) يقول لونكريك في كتابه (أربعة قرون ..) إن داود باشا هو الذي دعاهما للاجتماع والمذاكرة ودعا معهما إسحاق الصراف اليهودي مشاوره الخاص ، بعد أن فاتحه صادق أفندي بعزله. أما علي ظريف الأعظمي في (مختصر تاريخ بغداد القديم والحديث) فيروي الحادث كالآتي : «.. ثم دعا أعوانه ومعتمديه ، من جملتهم صالح أغا حاكم المحاويل ، ورستم أغا ضابط المكرية ، والحاج أحمد أغا متولي المسيب ، وسليمان أغا (أحد معتقيه) ، ومصرف محمد أغا ، والصراف باشي إسحاق اليهودي ، وشاورهم فيما جاء صادق أفندي من أجله فقر رأي الجميع على قتل صادق أفندي وأرسلوا من قتله غيلة ودفنوه سرا في رابية الصابونية في القلعة الخارجية». وتقع رابية الصابونية تجاه الدار التي قتل فيها.

١٢٠