طلوع سعد السّعود - ج ٢

الآغا بن عودة المزاري

طلوع سعد السّعود - ج ٢

المؤلف:

الآغا بن عودة المزاري


المحقق: الدكتور يحيى بوعزيز
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٤
الجزء ١ الجزء ٢

الطعن والضرب وصار الناس في الازدحام ، ثم انحدر النصارى لناحية خنق النّطاح ، والمسلمون في أثرهم يريدون نيل النجاح ، فمات من جيش المسلمين في الصدمة الأولى أربعة من الأعيان ، أحدهم السيد أحمد ولد سيدي محمد سعيد المختاري بالاتقان ، فتقدّم له عمّه الأمير ، حمله من بين الصفوف رغما على أنف النصارى وهو في الغيظ الكبير ، ثم تبارز الأمير بعد ذلك مع أحد النصارى فضربه النصراني بحربته ليده اليسرى بوسط راحتها ولم تحصل للأمير منها رعبة ولا حيارى ، فجذبها قرنه وهم بضربه بها ثانيا ، فاختطفها الأمير فورا من يده وجاء بها لجيشه ساريا ، وهو على فرسه الأزرق ، بعد ما قتل قرنه وترك النصارى في الوجل والفلق ، ودام القتال بين الفريقين والمسلمون في غاية التقدم للقتال ، وليس فيهم متأخر عن الضرب والنّزال / وتمادى الأمير في هجومه إلى أن وصل للحصن يريد الدخول ، ورصاص الدولة يصبّ عليه كأنه المطر وهو تحته لا يشعر به رائما من مولاه الفوز والقبول ، وانفصل القتال بينهما عشية ، ورجع كل لمحله وصارت نية المسلمين خالصة قوية ، وإنما تأخر سيدي محي الدين عن الحضور بهذه الواقعة لأمر عاقه عنها كالصاعقة ، وكانت هذه الملحمة في الحادي والثلاثين من شهر أوت من السنة المسيحية المقررة الموافق لجمادى الأولى من السنة الهجرية المحرّرة (١٨٣).

ثم غزاها المسلمون تحت رئاسة الأمير قبل التولية ، وليس معه الشيخان في القولة الحولية ، واجتمع لهذه الواقعة المخزن وغيره ، وهم سائلون من الله فتحها فلم يتم لهم خيره ، فحصل المصاف بينهما بالكرمة ، وصار القتال العظيم والمدفع يصب على المسلمين كأنّه المطر من برج الفرمة ، ودخل النصارى الرعب العظيم ، مما رأوا من القتال الجسيم ، وكان ذلك في شهر أكتبر (كذا) من المسيحية المسطورة ، المطابق لجمادى الثانية من الهجرية المذكورة (١٨٤).

ثم غزاها الأمير بجميع المخزن والحشم وغيرهم قبل توليته أيضا يرومون

__________________

(١٨٣) يقصد عام ١٨٣٢ الموافق يوم ٤ ربيع الثاني عام ١٢٤٨ ه‍ ، وليس جمادى الأولى.

(١٨٤) يقصد أكتوبر عام ١٨٣٢ م الموافق جمادى الثانية عام ١٢٤٨ ه‍.

١٠١

فتحها من الله تعالى والاتمام لخيرهم نفلا وفرضا ، فحصل المصاف بناحية عسة سيدي شعبان ، وكثر القتل وحمى الوطيس وظهر الشجاع من الجبان ووقع بين الفريقين القتال العظيم ، وافترق المسلمون على وهران ما بين خنق النطاح ورأس العين وغيرهما من أرباضها بالتلتزيم ، وجال الأمير في هذه الواقعة وصحبته الحاج المزاري بأرباض وهران إلى أن صعد لهيدور إلى أن حاذى المايدة بغاية الإتقان فقال المزاري في الأمير هذا هو الرجل الشجاع ، ولا ريب أنه يكون منه ما يكون إن دام بهذا المصراع ، ودام القتال الشديد الأكبر ، بين الفريقين إلى أن مات تحت الأمير فرسه الأشقر ، ونادى جهرا للإعانة لما سقط بين الصفوف ، فأنقذه الحشم فورا من يد العدّو وأتوه بفرس آخر فركبه بين الصفوف ، وتعجّب النصارى من فروسيته وشجاعته وبسالته وبراعيته ، وانفصل القتال بين الفريقين ، ورجع كل لمحلّه بغير المين ، وإلى هاتين الواقعتين أشار السيد الحاج عدة بن علي الشريف المذكور في عروبيته بقوله:

أبديت نشدي باسم الجليل بالحاضر

والصلاة على النبي بالسامعين

شفيعنا بكلتوم الصادق المنوّر

والرضى لأصحاب عشر الفايزين

بعد صليت على النبي نعود نشكر

في الفارسين الّي خلعو الكافرين

ابطال وكد خلّوا جيش العد مدمّر

ما يملوش الحرب لبدو العين

إلى آخر القصيدة.

وكانت هذه الواقعة في حادي عشر نونبر (كذا) من العجمية المسطورة ، الموافق لعشرين رجب من العربية المزبورة (١٨٥) وإلى هؤلاء الوقائع (كذا) أشار الأمير / في قصيدته الواوية التي من بحر الطويل بقوله :

ونحن سقينا البيض في كل معرك

دماء العدا لمّا وهت منهم القوى

ألم تر في خنق النطاح نطاحنا

غداة التقينا كم شجاع لهم لوى

وكم هامة ذاك النهار قددتّها

بحدّ حسامي والقنا طعنه شوى

__________________

(١٨٥) يقصد شهر نوفمبر عام ١٨٣٢ م وهذا يوافقه ١٧ جمادى الثانية وليس رجب من عام ١٢٤٨ ه‍.

١٠٢

وأشقر تحتي كلّمته رماحهم

ثمانا (كذا) ولم يشك الجوى بل ولا النوى

بيوم قضى نحب ابن أخي فارتقى إلى

جنان له فيها نبيّ الرضى آوى

فما ارتدّ من وقع السّهام عنانه

إلى أن أتاه الفوز رغما لمن عوى

ومن بينهم حملته وهو قد قضى

وكم رمية كالنجم من أفقه تهوى

ويوم قضى تحتي جوادا برمية

وبي جمعوا لولا أولوا البأس والقوى

وأسيافنا قد جردت من جفوننا

ولا ردّ إلّا بعد ورد به الرّوى

ولمّا بدا قرني بيمناه حربة

وكفى بها نار من الكبش قد شوى

فأيقن أني قابض الروح فانكفّا

يولّي فوافاه حسامي بما هوى

شددت عليهم شدة هاشمية

وقد وردوا ورد المنايا على الغوى

نزلت ببرج العين نزلة ضيغم

فزادوا بها حسرا وعمهم الجوى

وما زلت أرميهم بكل مهنّد

وكل جواد همّه الكرّ لا الشوى

وذا دأبنا فيه حياة لديننا

وروح جهاد بعد ما غصنه ذوى

جزى الله عنّا كلّ صقر مولّع

من أهل غريس إذا أتان وما انزوى

إلى آخر القصيدة ، وانظرها إن شئت في عقد الأجياد وغيره (١٨٦) وقال السيد الحاج محمد بن الشريف المعسكري ثم الغربي دارا في قصيدته جوهرة الرضا ، التي هي من الطويل أيضا :

لقد بان فضله في حال جهاده

لمّا الأب غزى وهران فأسمع الخبر

بوهران دار الشرك جرّب جوبه

فحلّ برأس العين ما له من مفر

رقى لهيدور حتى حاذا مائده

ولم يخش مرجاج وما به من ضرر

وكم له بخنق النطاح من كرّة

وباعوجه ٤ جراحات فابتدر

لنجل لصنو شاهد لمعركة

حيث لجنان الخلد كان به السّفر

فأخذه رغما لأنف عدوه

ولم يخش مدفعا ولا رصاصا أضر

فيا له من بطل نهيك وباسل

كميّ وشهم والمقسّم والذمر

__________________

(١٨٦) توجد القصيدة بكاملها في ديوان : نزهة الخاطر في قريض الأمير عبد القادر. الذي حققه عبد الوهاب بن منصور (مطبعة ابن خلدون ـ تلمسان ١٣٧١ ه‍ ـ ١٩٥٢ م) وفي بعض أبياتها هنا تصحيف.

١٠٣

وعاد لقومه في غاية عزّه

بنصر من ربّه جلّا علا المقتدر

وصارت جميع الناس تحك لحزمه

وضبطه ما رأوا من الضرب والكرر

مبايعة الأمير عبد القادر أميرا للجهاد

/ وبسبب هذه الوقائع الجهادية التي بانت فيها شجاعة الأمير ، وطار صيته وانتشر في الآفاق بغاية التحرير ، حصل الكلام مع الشيخ السيد محي الدين والد الأمير من الأمّة على أن يكون هو الأمير ، فأبى ذلك وقال لهم عليكم بابننا الحاج عبد القادر فهو الموافق لكم في أمركم وهو الجدير.

قال العلّامة شيخ شيخنا السيد الحاج أحمد بن عبد الرحمان البوشيخي ثم الشقراني ، أسكنه الله بفضله دار التهاني ، في كتابه : القول الأوسط ، في بعض أخبار ما حلّ بالمغرب الأوسط ، ولما يجدوا لذلك المنصب الجليل ، والمقام الجزيل ، إلّا ذا النسب الطاهر ، والكمال الباهر ، رايس الملة والدين ، القامع لأعداء الله الجاحدين ، الفقيه البارع ، المفضال الجامع ، علّامة المحققين ، وصدر الأفاضل المبرّزين المدققين ، شيخ الطريقة ، وإمام أهل الحقيقة ، سلالة المختار ، الحسني السيد الحاج محي الدين بن السيد مصطفى بن المختار ، لكونه أهلا لها وأصلح ، وأولى بها وأنجح ، فامتنع منها وفزع ، وأعرض عنها وجزع وما ذلك إلا لعظمتها عند الله وخطرها وشقوقها ، وخوف الإفراط والتقصير في حقوقها ، وأشار بها إلى ولده الأمجد ، وطلعته الأسعد ، بديع زمانه ، وأديب عصره وأوانه ، وأشجع وقته ، وأفرس آنه العاري عن مقته ، ذي المقدار النّامي ، والمقام السّامي ، ناصر الملة والدين ، المخلص في أحواله لرب العالمين الإمام السيد الحاج عبد القادر بن محي الدين ، لكونه ذا حزم وشجاعة ، ورأي وتدبير وطاعة ، فأذعنوا له وأنفذوا أمره ، وأتهموا غرضه وأكملوا فخره ، وعقد له البيعة أهل الحل والعقد من العلماء والشرفاء والأولياء والأعيان ففاز بها بحول الله وقوته على غيره من الأقران.

واختلف المؤرخون في وقت إمارته على أقوال ، فقال بعضهم أنها وقعت

١٠٤

في حكايته للأقوال ، في ثاني عشرين نونبر (كذا) سنة اثنين وثلاثين وثمانمائة وألف ، الموافق لسابع عشرين جمادى الثانية سنة ثمان وأربعين ومائتين وألف ، وقال بعضهم أنها وقعت في سابع أو ثامن العشرين دسانبر (كذا) من تلك السنة العجمية ، الموافق لثالث أو رابع شعبان من تلك السنة العربية وقال آخر أنه تولى في اثنين أو ثلاثة وثلاثين وثمانمائة وألف الموافق لثمان أو تسع وأربعين ومائتين وألف. وقال غيره أنها كانت من عام اثنين وثلاثين إلى أربعة وثلاثين بإدخال الغاية من القرن التاسع عشر المسيحي ، الموافق لعام ثمان وأربعين إلى خمسين بإدخال الغاية من القرن الثالث عشر الهجري الصريحي. والصحيح أنه تولى يوم الأحد ثاني عشر رمضان سنة ثمان وأربعين ومائتين وألف ، الموافق لثالث فبري (كذا) سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة وألف ، ببطيحة من مزارع غريس يقال لها الدردارة في المشتهر ، محلّ وعدة رجال غريس من أحواز المعسكر (١٨٧) وحضر لهذه البيعة من هو من أهل / التجارب ، والده العلامة السيد الحاج محي الدين وعمّه السيد علي أبو طالب ، والقطب الرباني الغوث الصمداني ، أبو الفتوحات والمنازل ، والارتقاء إلى مشرب مناهل أهل الله الأفاضل كامل الذكاء والدّهاء والقريحة ، السيد الأعرج بن محمد بن فريحة ، والولي الناسك الأشرف ، السيد محمد بن حواء بن يخلف ، وحافظ العصر ، وعلامة الدهر ، الملقب سقاط بالعادة والمعرفي السيد محمد بن عبد الله سقاط بن الشيخ المشرفي والعلامة النحرير ، السيد أحمد ابن التهامي والد العلامة السيد الحاج مصطفى بن التهامي صهر وخليفة الأمير ، والعلامة الباري من المساوي ، السيد عبد الرحمن بن حسن الدحاوي ، والعلامة الدراكة الشهير ، السيد محمد بن آمنة بن عبد القادر بن دوخة العمراوي خال الأمير ، والعلامة ذو البال الصحيح ، الفرغي ، السيد بالمختار بن عبد الرحمان الورغي ، والعلامة ذو الرأي المتعاطي ، السيد محمد بن الثعالبي الزلماطي وغيرهم من السادات ، وجملة الأعيان ما بين المخزن وغيره الذين قد جل عددهم عن الحصران ، وكان أوّل من مدّ يده فبايعه من هؤلاء السادات السيد

__________________

(١٨٧) الصحيح أن الأمير بويع مرتين : البيعة الخاصة بغريس أواخر شهر نوفمبر ١٨٣٢ م ، والعامة في مسجد الباي بمعسكر أوائل شهر فيفري ١٨٣٣ م.

١٠٥

الأعرج بن محمد بن فريحة ، من أولاد سيدي محمد بن يحيى مقرّي الجان ذكي القريحة ، فأتبعه الناس على ذلك وهم في فرح وسرور بذلك.

الغمز واللمز في البيعة

ولمّا عقدوا له البيعة بالتغريس ، قال بعض علماء وأولياء الله بغريس ، سبحان الله هذه البيعة لا يستقيم لصاحبها حال ، ولا يهنأ له قرار ومنال ، ولا شفقة له ورحمة في الأعيان وغيرهم من النساء والرجال ، وإنما هو سفاك للدماء ، وليس من السادات الرحماء ، لكون أول من بايعه أسمه الأعرج والمحل المبايع فيه اسمه الدردارة ، فلا ريب أنّ أيامه وأحكامه وأحواله عرجا ولا تستقيم وإنما تبقى مدردارة ، وهلّا كان اسم ومحل غير هاذين ، من الأسماء التي يكون بها التفاؤل ولا تدل على الريب والبين.

قلت وكأنه أخذ في فراسته من قضية المبايعة للإمام سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ورضي عنه الذي هو ليث الكتائب ، لأنه أوّل من بايعه سيدنا طلحة بن عبد الله ، أحد العشرة رضي‌الله‌عنه وعنهم فإنه من ذوي الفضل والجاه ، وكانت يده قد شلّت في قضية أحد فيما اشتهر ، فقال حبيب بن ذؤيب رضي‌الله‌عنه : إنا الله وإنا إليه راجعون أوّل من بدأ بالبيعة يد شلا لا يتم هذا الأمر. ولمّا سمع الأمير الراشدي تلك المقاتلة (كذا) أسرّها في نفسه وأضمر الفتك بمن سيظفر به من علماء وأولياء غريس ، فكان بعد ذلك بينه وبينهم من العداوة الواضحة التغريس ، وإلى كون وقائعه مع أبيه في وهران ، هي سبب توليته أمير بالمغرب الأوسط بغير بهتان ، أشار الأمير في قصيدته الواوية بقوله :

لذاك عروس الملك كانت خطيبتي

كفجأة موسى بالنّبوءة في طوى

وقد علمتني خير كفء لوصلها

وكم ردّ عنها خاطب بالهوى هوى

/ فواصلتها بكرا لدي تبرّجت

ولي أذعنت والمعتدي بالنوى نوى

وقال صاحب جوهرة الرّضى :

لذا انعقد الإجماع من آل راشد

على بيعة الإمام فهو بها أجدر

فأوّل فاه صاح بالبيعة التي

بدت سليل النجادي أعرجها الأبر

١٠٦

وأتبعه السادات في محفل الرّضى

فنادوا بأعلا الصوت إنك ذو نصر

هنيئا مريئا يا أمير بلادنا

لك الطاعة الكبرى لك العز والنصر

فأمر بما شئت وانه عمّا تريده

فيحصل الامتثال بلا ريب لا وزر

فكل الذي يطيع يدرك ما يرضى

وكل الذي يعصى يحلّ به المكر

فأنت الأمير الراشدي لك العلا

وأنت الذي حقا قد ابنا بك الجفر

وفي بكّه (كذا) المشرّفة وبغداد

قيل لأبيك هذا لا شك ينتصر

وأنت في محفل الفضلاء جالس

مع الأب حيث قيل ما قيل فافتخر

الأمير يطلب من مصطفى بن إسماعيل المبايعة

وقد حجّ الأمير في صغره مع والده مرتين ، وحفظ القرآن فكان يقرأه على ظهر قلب بلا مين ، وكان له تدبير حسن وشجاعة باشتهار ، لكنه في نفسه جنة وحوائطه نار ، وصارت سيرته عند من أطاعه حسنة ، وأحواله عندهم مستحسنة ، وسمّه (كذا) أهل غريس بالسلطان ، وسمّاه المخزن بولد المرابط محي الدين كثير الإحسان.

ولمّا انعقدت له البيعة خاطب مصطفى بن إسماعيل بمخزنه بالإذعان له بالطاعة ، والدخول تحت حكمه ليكون واحدا من الجماعة ، فأبى ابتداء ولبّ ثانيا لمّا رأى الناس بايعته جهارا ، وقال امتناعنا ليس فعلا مختارا ، مع قول أخيه الحاج بالحضري وابن أخيه الحاج المزاري وأخيه لأمّه محمد ولد قادي له ، إنّ امتناعنا يلحقنا منه لوم كثير من الحاضر والبادي ، فتوجّه الحاج بالحضري والمختار ولد عدّة له بخيول القادة والسّلاح والعبيد والهدايا ، وهم في فرح وسرور باجتماع الكلمة في الأواسط والزوايا ، فولى من حينه الحاج بالحضري آغة على المخزن وهو الدوائر والزمالة والغرابة والبرجية ، وولّى المختار قائدا على الدوائر في القولة المرجية ، وأمر الحاج بالحضري بالسكنى بالمعسكر ، كما هي العادة فسكنها ممتثلا للأمر.

١٠٧

شروع الأمير في الجهاد وحروبه حول وهران

قال ، ثم خرج الأمير بعد أيام بجيشه للناحية الشرقية للتدويخ ، فنزل بمينا وخلّف عليه السيد محمد الأحمر ولد سيدي عريبي روما للتصريخ ، ثم رجع مغربا فنزل ببلاد البرجية ، والناس معه في غاية الأحوال المرضية ، ثم ارتحل ونزل ببلاد الغرابة ، وزاد لرزيو فقبض على قاضيها العلامة السيد أحمد بن الطاهر بإغراء الحبيب أبي علام وأتى به مكبّلا على حالة الاستغرابة ، فسجنه بالمعسكر ثم قلع عينيه معا بالشيبر ، فهو أوّل من قتله من الرعية والحكم لله / الواحد القدير.

ثم صارت الناس تأتي له أفواجا أفواجا بقصد الإذعان إلى أن تم أمره وزاد في الظهر والإعلان.

ولمّا تولى الجنرال دسمشال (كذا) (١٨٨) بوهران في رابع عشرين إبريل سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة وألف ، الموافقة لسنة ثمان وأربعين ومائتين وألف ، غزى على (كذا) دوار السيد قدور الدبي الغربي وهو نازل بموسى الطويل بإزاء سيدي التركي من مزارع تليلات على مسافة الثمانية والعشرين كيل ميتر (كذا) من وهران وذلك في ثامن ماي من السنة المذكورة الموافق للسابع عشر من ذي الحجة من السنة العربية المسطورة ، فقتله وزوجه عائشة وثمانية عشر نسمة من دواره وغنم غنيمة كبيرة ، وحصل بينه وبين المسلمين قتال شديد فاز فيه بالشهادة رجال من الغرابة لكونها مقتلة كثيرة.

ثم توجّه الأمير لمّا سمع بذلك بجيشه مخزنا وغيره لوهران ، فحلّ بها وقاتل العدوّ في الثلاثة الأيام المتتابعة في الزمان ، وهي الخامس والسادس والسابع والعشرين من ماي من السنة المذكورة ، الموافق لسادس المحرم فاتح تسع وأربعين من العربية المسطورة ، وكان المصاف بعسة الأصنام وهي جنان بني مزاب من خنق النطاح ، فأحاط الأمير بها ونال منها نيلا جليلا لكون القتال الصادر من جيشه كان بالقلب والنية الخالصة فأظهر من الشجاعة ما دل على الفوز ونيل النجاح.

__________________

(١٨٨) يقصد : دي ميشال : DES.MICHEL.

١٠٨

ثم جاء الأمير بجيشه غازيا على وهران ، وانقسم الجيش على محلتين أحدهما (كذا) بالكرمة تحت رئاسة الأمير بغاية الاتقان ، والأخرى بمسرقين تحت رئاسة مصطفى بن إسماعيل ، ووقع القتال الشديد وبانت فيه مقاومة العدوّ للأمير بغاية التأويل.

وكان والد الأمير السيد محي الدين حاضرا في غاية المرض مظهرا للتجلد والقوة ، ومتوكلا على من به الحول والقوة ، وقد مات من البرجية بمسرقين الشجاع أبو نواشة ، وغيره فضلا عمّن انجرح من الأعيان الذين لهم طواشة ، فبينما الناس في ذلك الحال وإذا ببني عامر من جملتهم بني مطهر ، غاروا على إبل الدوائر وأخذوها بإغراء الحشم فيما اشتهر ، ولمّا سمع الدوائر (كذا) بذلك ، رفعوا أمرهم للأمير بمحضر والده الناسك ، فقال لهم سيدي محي الدين عليكم بهم لطغيانهم وتعديهم وأنا ضامن لكم عليهم النصر ، والغنيمة والظفر ، وقال لولده الأمير ، إياك أن تنزع المخزن من يدك فإن نزعته فأنت الحقير ، وقال للدوائر إنني ذاهب لتلمسان لأزور ثم ارجع للمعسكر ، وإن زاد الله في عمري على ما رأيت فلأقطعن لبني عامر وغيرهم الأثر ، ثم التفت لولده الأمير وقال له يا عبد القادر إياك أن يغرك الزمان ، فتنزع من يدك جنود النحل وتمسك جنود الذّبّانّ ، فمات رحمه‌الله بتلمسان في شعبان من السنة المذكورة قبل إتمام ما تمنّاه جعل الله الجنة منزله ومأويه (كذا) وأوسع ضريحه ، وأسكنه بحبوع الجنة في غاية فسيحه.

ثم غاز (كذا) المخزن بأجمعه / على بني عامر فألفوهم بالسبخة ، التي وقعت فيها المكافحة بالرضخة ، فأخذوا منهم الإبل ، وذهب بنوا عامر ، بعد أن مات من الفريقين من تمّ أجله القاصر ، وانجرح كذلك من الأعيان وغيرهم وتمادى المخزن مع الأمير ، ماشيا إلى أن وصل للمعسكر بالتحرير ، ورجعوا لمّا أمرهم بالرجوع ، واستقر هو بالمعسكر ومهمى أراد شيئا إلا كان عنده المخزن قبل جملة النجوع.

ثم أمر الأمير الناس بإعطاء الزكوة (كذا) والعشور المأمورين شرعا بإخراجه وجمعه بمحل معيّن لتعمر بيت المال بإدراجه ، فأبى بنوا عامر بين سائر الناس

١٠٩

من ذلك ، فأمر الأمير مصطفى بن إسماعيل على يد آغة الحاج بالحضري بمقاتلتهم بمخزنه ولا يدعهم إلا بدفع ذلك ، فقاتلهم مصطفى بالمخزن شديدا ، وقاهرهم عنيدا ، ولازمهم إلى أن أدوا ما وجب عليهم من الزكوة (كذا) والعشور ، وأذعنوا بالطاعة وأبوا من النفور ، واشتكوا للأمير بأن يأمر المخزن بترك قتالهم ، فكاتب المخزن بما يظهر منه الغضب على قتالهم.

قال : وفي رابع جليت (كذا) سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة وألف ، الموافق لرابع عشر صفر من سنة تسع وخمسين ومائتين وألف ، ظفر الجنرال دسمشال (كذا) (١٨٩) بمرسى رزيو عنوة ، ومنها ركب لمستغانيم فظفر بها أيضا عنوة ، وذلك في ثلاثين جليت من العام المذكور ، الموافق لحادي عشر ربيع الأول من العام المزبور (١٩٠) ، وألفى بها إبراهيم أبا شناق كبيرا فولاه عليها لإزالة كل شقاق.

وفي خامس أوت من تلك السنة الموافق لسابع عشر ربيع المذكور بعامه هجم المخزن على وهران إلى أن لحقوا بسورها ، وقتلوا كمنادرها (كذا) بليسا (١٩١) وتمادوا على حصورها (كذا) ، وبها الجنرال فتاس جاص (١٩٢) وصار النصارى يسئلون (كذا) النجاة والخلاص.

ثم في تلك الأيام غزى الكولونيل لتاف (١٩٣) على (كذا) الزمالة بوادي التافراوي ، وهو دوار آغة الحاج المرسلي نازلا بأبي ستار فألفاهم متأهبين لقتاله بضعيفهم والقاوي ، فكان القتال شديدا ، ورجع العدو خائبا لا يريد مزيدا ، وقد مات لمحمد ولد قادي فرسه وانجرح عدة أناس ، فضلا عن الذي مات باحتراس ، ورجع الكلونيل لمستغانيم فغزاه الأمير بجيشه وهو بمزغران ، فكان القتال شديدا مات به جملة من الأعيان ، ثم جاءت شرذمة من افرانسا وذهبت

__________________

(١٨٩) يقصد دي ميشال الحاكم الجديد على وهران أما السنة الهجرية فهي ١٢٤٩ ه‍ وليس ١٢٥٩ م ويبدو أنه سبق قلم فقط.

(١٩٠) ١٢٤٩ ه‍.

(١٩١) يقصد حاكمها الذي يحمل لقب كماندار. ولا ندري من هو بالضبط.

(١٩٢) لا ندري من هو بالضبط.

(١٩٣) لا ندري من هو بالضبط.

١١٠

لمسرقين ، ودخلتها مسايفة بحسب التمكين وذلك في ثامن أكتبر (كذا) من السنة المقررة ، ثم غزى النصارى دوار الشماليل من الزمالة بأسفل الشواكي فلم يحصلوا على طايل وذلك في ثالث دسانبر (كذا) من السنة المحرّرة ، وقد كان القتال كثيرا ، والنزال عسيرا.

قضية الشيخ بالغماري وبني عامر

ولمّا دخل الشيخ بالغماري المسمّى بزلبون رايس (كذا) انقاد تحت الطاعة وحصل منه الإذعان ، الذي هو سبب العداوة بين الأمير والمخزن في الزمان والمكان ، وأحسن الأمير مثواه في السر والإعلان طلب من الأمير في أثناء الكلام أن يأذن له بالنزول في التل بالقولة المديمة خشية من بني / عامر لما بينهما من العداوة القديمة ، وأن يكون محاذيا بنزوله للدوائر والزمالة وأن يكاتب الدوائر ، ويوصي كبراءهم عليه ليكونوا منه ببال في الجايل والغائر ، يحمونه من أعدائه بغير ملتغي ، فأجابه لذلك وكاتب الدوائر لكن حكمه وقتذاك ليس بنافذ كما يبتغي ، ولما دخل انقاد في حماية الدوائر ، رأوا في حال ارتحالهم اجتماع بني عامر فأعلموا بذلك مصطفى بن إسماعيل وغيره من أعيان الدوائر ، وقالوا لهم ما نظن في اجتماعهم خيرا ، وإذ رأينا ما يدل على الحركة نجحوا (كذا) نحوكم للتعضد نفعا لا ضيرا ، فأجابهم مصطفى بمن معه من الأعيان بما يسرهم وأنهم لا خشية عليهم من السر والإعلان.

وصارت الأخبار عند ذلك خارجة وداخلة والآذان لها صاغية ، بأن الأمير يريد غزو البرجية والزمالة والدوائر فيبدأ بالبرجية ثم الزمالة ثم الدوائر لأن جميعهم فرقة باغية ، أو يعكس الأمر على ما أراده باختياره من الأحوال ، وكثر عند ذلك القيل والقال ، وأوقد النار بين المخزن والأمير شياطين الأنس والجن ، وتغيرت الأحوال وسيء الظن.

هذا وأنّ الشيخ بالغماري لا زال بالمعسكر جالسا عند الأمير ، فزحف بنوا عامر بإغراء الحشم أيضا لقتال أنقاد بالكبير والصغير ، وأعان المخزن أنقاد للعهد والرعاية لما به كاتبهم الأمير ، تكون طاعته مطلوبة وهو الذي أمر بالذب عن

١١١

العزيز والحقير ، وحصل المصاف بينهما بمحل من بلاد بني عامر يقال له قرقر ، انجلا (كذا) فيه الأمر بقتل الحاج المزاري لأبي شويشة ولد العسري رايسهم (كذا) فيما هو مشتهر ، بعد تجاولهما في السروج ، وروم أبي شويشة اقتلاع الحاج المزاري من سرجه وكل منهما كأنّه الأسد الهيوج ، فاستخرج الحاج المزاري بشطولة (كذا) من حزامه وضرب بها أبا شويشة فتركه يتشحط في دمه ، وانجرح بالحاج المزاري فرسه وجاء به بلا ندمه.

ولمّا سمع الشيخ بالغماري بالواقعة قال للأمير قد ظهر ما قلته لك في بني عامر وسأل منه التسريح ، فجاء صحبة آغة الحاج بالحضري في القول الصحيح ، وألفى ابنه وابن أخيه قد ماتا في تلك الواقعة ، كما مات البعض من الدوائر والخلق الكثير من أنقاد بنزول الصاعقة ، فمنها بنوا عامر رجعوا لمحلهم منهزمين بكلهم لا ببعضهم ، ومنها الدوائر وأنقاد خيّموا على حالهم بأرضهم.

ثم وقع قتال آخر بين الدوائر وأنقاد وبين بني عامر بجميع أحلافهم وأجنادهم ، فانهزم فيه بنوا عامر وأطردوا من بلادهم ، حتى أن كبيرهم الزين بن عودة نهبت محلته ، وحل في الغضب وسلبت حلته ، فذهب بنوا عامر للحشم واستنجدوهم بالمال الكثير ، وسألوا منهم أن يقولوا فورا للأمير ، أن الدوائر ، ومن انخرط معهم في عقد السلك ، إن لم يبادرهم بالغزو وتشتيت الشمل لا محالة يتغوّلون عليه وينتزعون من يده الملك ، وأنهم قد ارتبطوا بأهل سيق وهبرة ومينا وشلف وتيارت ، وراموا تشتيت شمله والتوصل لملكه بالقول الثابت.

/ ولما قال الحشم ذلك للأمير ، رسخ ذلك بباله وظن صحته ونسي وصية والده ولم يدر ما يفعله الشيطان العدوّ من التنفير ، وبعث مكاتبه للنواحي الغربية ذات الغوغاء والصياح ، مثل ولهاصة ، ونزارة ، والغسل ، ومديونة ، وأولاد رياح ، قائلا لهم اعلموا أني في يوم كذا اغزو الدوائر والزمالة وأنقاد ، ثم أعود للبرجية وبطيوه فكونوا أمامهم وأنا خلفهم لأمحو أثرهم من الأرض وأقطع ذكرهم من البلاد وأريح منهم العباد ، فإنهم كأصحاب مينا وشلف لا زالوا على سلف الترك سالكين ، وللمشي في سبيلنا تاركين.

١١٢

محاولة مصطفى بن إسماعيل الدخول تحت

طاعة الفرنسيس

وكان في تلك الأقوام المكتوب لهم صديق لمصطفى بن إسماعيل ، فأطلعه على ما في مكتوب الأمير وأنذره بالتأويل ، ولما تحقق مصطفى بذلك أخبر مخزنه وذهب فورا للجنرال دسمشال (DES MICHEL) وسأل منه الدخول تحت الدولة ويكفيه أمر الأمير بكل حال ، فأبى ذلك وحصل بين المخزن والدولة المقاتلة الفادحة بمسرقين ، وحيث تحقق مصطفى بأنه سدت عليه الأبواب البحرية التجأ للناحية الغربية ورام الدخول في طاعة سلطان الغرب بالترقين ، وأمر الدوائر والزمالة وأهل أنقاد بالانتقال للنواحي الغربية للصيانة والحماية بالعناية ، فجدوا السير باليل (كذا) والنهار إلى أن نزلوا أسفل تلمسان بالحناية ، وفيها لحقهم الأمير بجيوشه صباحا ، وطعن بعض الدواوير والزغاريت عليه باختلاف ألحانها من نساء تلك الدواوير صياحا ، فرحا به وظنا منهم أنه لم يرد شيئا من الشرور ، وهم معه في غاية الفرح والسرور والأعيان في بعد منه بجيشهم وبأيديهم خيول القادة ، ينتظرون ما يكون به الحال مصاحبين لسلاحهم من البنادق والبشاطيل (كذا) والسيوف اللامعة الصقيلة الهندية الوقّادة ، فابتدأهم الأمير من قلّة عقله بالحرب ، ولم يترقب العواقب فعوّلت لذلك الشجعان على الطعن والضرب ، واشتد الحرب وحمى الوطيس ، وغاب الحاجز وقوي الحسّ والحسيس ، وذهب المسامر والأنيس المنادم وصاحب الجلوس ، ودارت رحا (كذا) الحرب وشعلت نارها فوق الرؤوس ، فلم يك (كذا) غير ساعة إلا وانتصروا عليه وهزموه هزيمة شنيعة ، وهجم عليه مصطفى في خمسين فارسا شجاعا إلى أن أنقله من محلّه الثابت به وغنم المخزن منه الغنيمة العظيمة سريعة ، وضربه الشجاع الحاج محمد ولد عبد الله بن الشريف الكرطي التلاوي ملامسة بمكحلته فأتت رصاصتها في فرسه فسقط ميتا ، وفرّ الأمير راجلا ولو لا مبادرة جيشه إليه وإردافهم إياه خلف فارس لحصل الظفر به حيا كان أو ميتا.

وحدّثني بعض من حضر للواقعة أن ابن عمّه سي المولود بو طالب كان واقعا على رأسه فقال لخزناجيه سي بن عبّ انزل على فرسك واركب عليه

١١٣

الأمير ، فأجابه بقوله لا أنزل لأنه يوم عسير ، وإن أراد النجاة فليشتري فرسا بخلخال أختك زوجه كما فعلته في القول الجدير ، فغضب / لذلك سي المولود وضربه ببشطوله (كذا) فأتته رصاصته بين الخدّين ، وذهبت للأنف فصار خنّا بغير المين ، ثم فرّ الأمير بقية يومه ونزل بوادي سكّاك وهو أبو جرّار ، وقال له قدّور بالمخفي انظر أيها الأمير لرأي الحشم وبني عامر أصحاب الخداع وجر الهزائم على الملوك في السر والإجهار ، إلى أين أوصلك بجيشك حتى هزمنا بالتحقيق ، كيف بك تغزي الدوائر والزمالة وقد أوصاك أبوك على المخزن بوصية التوفيق ، ألم تعلم يا سيدنا إن خمسة أعراش يكون الغزو بهم لا عليهم ، وهم الدوائر والزمالة والغرابة والبرجية والمكاحلية وما من أولاد سيدي عريبي قد انضاف إليهم لأنهم المخزن الحقيقي وغيرهم أتباع لهم في القولة الشريفة ، فالأربعة الأولى مخزن الباي والخامس مخزن الخليفة ، هذا هو الترتيب في دولة الأتراك.

قبائل المخزن وأوصافهم

والمخزن هم الأعيان بالإجماع ، واستقامة الملك إنما تكون بالمخزن الأعيان لا بالأتباع ، وهل سمعت أحدا من الملوك السالفة ، غزى هؤلاء الأعراش قط ومن لهم في الحالفة ، ولو أعلمتنا أوّلا أنك تريد الغزو على أخوتنا ، لقلنا لك ما هو صادر في قولتنا ، وترانا قد مات منّا معك جل أعياننا منهم الفارس الذي لا ينزل ساحته ضيم ولا كشف يبغي ، وهو الشجاع الكرار الشريف الحسني الزياني محمد ولد القايد البشير بن يخلف البلغي ، فقال من حضر بالمجلس من الحشم وبني عامر للأمير ، وهم من كلام بالمخفي في الغيظ الكبير يا سيدنا لا تسمع لكلام قدور ، ولا تلتفت إليه لا في السر ولا الجهور ، لأنك خبير بأنّ البرجية يحبون الدوائر وينعرون عليهم ، كما أن الدوائر كذلك لا يحبون عليهم ، لكونهم أخوة من العهد القديم ، ووجاق واحد نعرة لبعضهم بعض في الجديد والقديم ، فاجذبهم الأمير مع ما فيه من الغيظ أيها الناس إن كان هؤلاء إخوة لبعضهم بعض فهم لنا أيضا إخوة ، ومنا وإلينا وذاتنا وقرابتنا فهم لنا ونحن لهم أسوة ، وقد أوصاني والدي كما قال قدّور عليهما والغرابة وسائر المخزن عيانا ، فكفوا عن كلامكم ولا تعيده (كذا) لنا لأن رأيكم قد أفسد علينا ديننا ودنيانا ، ثم قال لهم

١١٤

قدّور يا هؤلاء إن كلام العرب المقول في الأعراش هو الفرق بين أهل الجودة والرداءة والشجاعة والجبانة والنصيحة والأغشاش ، فقالوا ما هذا الكلام ، كأنهم لا علم لهم به في كل محفل ومقام ، فقال : قد قالت العرب في الدوائر ، من كان له في الإعانة الدوائر ، فلا يخشى من صولة الماشي ولا الطّاير ، ولا يطيق عليه الساير ولا الغاير ، وقالت في الزمالة من كانت أعانته الزمالة ، حصل منه لأعدائه النكالة ، ولا يخاف من القاطن ولا الجوالة. وقالت في الغرابة من كان صديقه الغرابة ، زالت عنه النكاية والكرابة ، ووقعت منه لأعدائه الأمور العطابة. وقالت في البرجية من كانت حمايته البرجية ، حلّت به الأشياء المنجية ، ولا يخشى الأضرار القولية والفعلية. وقالت في مجاهر من كان عونه مجاهر ، نال الذي يبتغي من المسافر والحاضر ، وأطرد عن نفسه المذمة في المناقر / فهم أهل النجدة والنعرة وما به اتضاح الأمر ، فكل من جاء منهم فإنه على فرسه يهر. وقالت في المكاحلية من كان في رفقته نجع المكاحلية ، فإنه لا يرى الأضرار المواحلية ، وساكنهم في الأمان بغاية الفلاحية. وقالت في صبيح من كانت نعرته بعرش صبيح ، نال السرور والرفعة وقهر عدوّه ببارود الفيح. وقالت في عكرمة من كان في حلافة عكرمة ، أطرد عن نفسه كل مذلة ومذمّة. وقالت في بني شقران من كان في ذمة بني شقران ، فقد نال كل ما كان لأنهم قبيل العز والأمان ، والمنتصر بهم لا يخشى الهوان.

أوصاف قبائل الحشم والأحرار وبني عامر

وقالت في الحشم : الحشم أهل الظلم والمكر والشتم ، فالحشمي ينكرك ، وعوده يعرفك وهو لا يعرفك ، إن أمّنته خدعك ، وإن آويته صدعك ، لسانه في الشر موافق لقلبه ، وهو يعبد في الطاعة من ربه ، ويؤذي من ظفر به ولو ولد صلبه ، شأنهم البخل والجبانة ، والمكر والظلم والخيانة ، وقال فيهم سيدي أبو زيد التجيني صاحب الفج بمينا الكلخ والحشم ، والحمري والدسم ، والبخل والذم ، والله لا رجع أبو زيد أبدا إلي ، ثمّ ، وقال أيضا حشم الدشيش ، أهل البغض والعشيش ، والخداع لأهل الصلاح والريش ، لا يصدر منهم إلا الدفيش ، ومحبتهم للطمع كمحبة دوابهم للحشيش. وقالت في الأحرار ، الأحرار هم

١١٥

الأقشار ، لا يلاديهم ملاد في الكفاح والجود والأصعار ، نصرتهم كاملة ، ونعرتهم للخير شاملة. وقالت في عرب أنقاد من كان في نعرته أنقاد ، نال الذي أحبّ وبلغ المراد ، وقالت في بني عامر بنوا عامر هم بنوا دامر ، أهل الخديعة الكثيرة وفعل المناكر ، وجرّ الهزيمة على الملك ولو كان هو الطاير ، ربّلين (كذا) البقرات بادئين العورات ، هاتكين الحرمات ، داخلين الظلمات ، لا يحصل منهم فرق بين ما فيه النفع وما فيه المضرّات ، ويفرحون بفعل ما فيه المعرّات ، أشجعهم الأعور ، ومدبرهم الأجهر ، وجوادهم الأكول الأحقر ، ألم تعلموا يا هؤلاء إن كل دولة سورها الحصين المخصوص هو المخزن لأنه بنيانها المرصوص ، وأنتم دائما شأنكم الخلاط ، وحرفتكم الخديعة والعياط ، وفي القتال من شدة الخوف يكثر فيكم الهروب والضراط فالمخزن هو المخزن ، وبه تعز الدولة أو تهن (كذا) ، ويقوي ساعدها أو يوهن ، فتبسّم الأمير من قوله ضاحكا ، وقبل كلامه وصار لكلام غيره تاركا ، وانفصل المجلس في الساعة والحين ، وصار الحشم وبنوا عامر يدبرون الحيلة لإيقاع قدور بالصحراوي وقدور بالمخفي في شبكة التخزين.

الحرب بين الأمير وقبائل المخزن

قال ثم أن الأمير بدا له أن يهجم ليلا على المخزن ، والمخزن بدا لهم في الهجوم ليلا على الأمير ، وصار كل يترقب وقت الحاجة لاغتنام الفرصة ونيل التيسير ولمّا جنّ اليل (ذا) جدّد الدوائر والزمالة الغارة على محلة الأمير بغتة وداموا على ضرب البارود برصاصه والسيف إلى أن غنموا أخبيته وأثاثه وما فيها من الأثقال ، وألويته وطبوله ودوابّه وفرّ هاربا بنفسه كواحد من جيشه سائلا / للنجاة من القتال ، مستمرا في هروبه إلى أن بات ليلته بمكرّة وألفى الضدّ الكلام مع الأمير ، وقالوا له انظر لكلام البرجية كيف أوصلك إلى هذا الأمر العسير ، فأخذ بقولهم وسجن قدورين مدة ثم سرّحهما لما زال غضبه ، وحلّ به سروره وطربه ، وإلى هذه الواقعة أشار قدور بالصحراوي البرجي ثم النقايبي بقوله في عروبيته :

١١٦

ما شفنا سلطان جاما لزوايا

ما شفنا حضري اتقيد

هلّكها زلبون باتت داويا

عشت في مكرا اتورّد

إلى آخرها وقال أيضا في أخرى :

امحلّت الروين قعدت بأوتاقها

وسبابها المخزن وعرب زلبون

بين الخدودسي بن عبّ ممكون

ولم تحضرني واحدة منهما.

مصطفى بن إسماعيل يسعى للخضوع للفرنسيس

ويفشل

ثم أنّ الأمير لمّا رجع للمعسكر ، بعث مصطفى بن إسماعيل للجنرال (كذا) دسمشال (ديميشال) بوهران ، يخبره بأن العداوة قد تمت بين المخزن والأمير وأنهم يريدون الدخول في حماية الدولة بغاية الإذعان ، وبنفس وصول رسل مصطفى للجنرال سجنهم وظن أن ذلك مكيدة من المسلمين ، ليستعين به على مقاومة المخزن بغاية التمكين ، ولما اتضح الأمر بعد ذلك حصلت للدولة الندامة ، لما لم تقبل المخزن من أول وهلة إلى أن قامت القيامة ، وكانت هذه الواقعة في عام ثلاثة وثلاثين وثمانمائة وألف ، الموافق لعام تسع وأربعين ومائتين وألف.

ولما رجع الأمير للمعسكر بقي أياما وغزى وهران ، فكمن الجيش بضاية المرسلي وتقدموا للدار البيضا (كذا) فأفسدوها كثيرا وكان القتال بين السرسور والعرب في غاية ما كان ، وقال بعضهم إن تلك المعركة كانت بين الغرابة وحدهم ، وبعد ذلك الأمير أمدّهم ، وذلك في سادس جانفي سنة أربع وثلاثين وثمانمائة وألف الموافق للتاسع والأربعين ومائتين وألف (١٩٤).

__________________

(١٩٤) يقصد هجرية.

١١٧

قبائل المخزن تسعى للخضوع

لسلطان المغرب الأقصى

ولمّا انفصل المخزن من المقاتلة مع الأمير بالحناية ، ذهبوا مغربين وأرسلوا رسلهم لمولاي عبد الرحمان سلطان المغرب فأمرهم بالمكث ببلادهم وهو يمدهم بما تكون لهم به العناية ، ففهم مصطفى بأن تلك مكيدة من سلطان المغرب ليكون ناجيا من الكلام ، وأنه يروم الصلح بين الفريقين بما يزيل للخصام ، فبقي في الحدود نازلا ، وللكواعب حائزا وبازلا.

ثم خرج الأمير حاركا بجيشه على وهران ، ووقع بينه وبين الدولة شديد القتال بتمزوغة يشيب له الرضيع في وقت الآمان ، ثم اصطلح مع الدولة على مدة على يد جنرال وهران ، وهو دسمشال (١٩٥) على أن لا يتعرض واحد منهما للآخر بشيء من الحرب ، وتمد الدولة الأمير بما يحتاج إليه من آلة الحرب ، وهو يمدها بما يحتاج إليه الجيش / ، ولا يكون بينهما لغوب ولا طيش ، وبعث الأمير من عنده رهينا سفيرا يقال له بن يخ (كذا) يمكث مدة الصلح بوهران ، وبعثت الدولة رهينا سفيرا من الممالك القدم يقال له دسبون (١٩٦) وتسميه العرب عبد الله اكمادار (كذا) يمكث بالمعسكر مدة الصلح بلا توان ، وذلك سادس عشرين فبري (كذا) سنة أربع وثلاثين وثمانمائة وألف ، الموافق لخامس عشرين شوال وقيل رابع عشر ذي القعدة سنة تسع وخمسين ومائتين وألف (١٩٧) ولمّا تم الصلح قال الجنرال لرسول الأمير سلم على سيدك من عندي وقل له ينظم جيشه من العسكر والخيالة ولا يتكل على المطاوعة فإنهم بمثابة النخالة ، لأنه لا طاقة له على مقاومة المخزن إلّا بهذا المطلوب ، وإلّا فليترك محاربته من المخزن لأن شكوته صعيبة لقيامهم على البارود ، ومعرفتهم بمكائد الحروب ، فلذلك شرع الأمير في تنظيم الجيش من العسكر والخيالة ، وعمل بأمر الجنرال دسمشال بغير

__________________

(١٩٥) يقصد المعاهدة المبرمة بين الطرفين أواخر فيفري ١٨٣٤ م.

(١٩٦) ذكر صاحب التحفة بأن اسمه عبد الله ويسون. وأصله من مماليك مصر استخدمته فرنسا في جيش المشاة. ج ١. ص ١٤٧.

(١٩٧) الموافق سنة ١٢٤٩ ه‍ ، وليس ١٢٥٩ ، فهو سبق قلم.

١١٨

المحالة ، لما رأى شوكة المخزن عظيمة ، ومقاومته لم يكن له عليها طاقة لكونها جسيمة ، فنظم جيشه من الرّكاب والمشات (كذا) ولم يتكل على المطاوعة فإنهم ما بين الطاعة والعصاة ، إن رأوا فيه الفرصة اغتنموها ، وإن رأوها له من فورهم احتكموها ، سيما القوم الضالة وهم الحشم وبنوا عامر ، فإنهم كالمنسج منهم الحائر والناير.

الأمير يصطدم بالدوائر والزمالة

ولمّا جمع عنده ما أحبّ من العسكر ، وتيقن في نفسه أن يكون له به الظفر في الكر والمفر ، سأل من البرجية الغزو معه أيضا على الدواير فأبوا وقالوا له لا يحصل منا ذلك ولو آل أمرنا إلى سكنا المقابر ، ولنا خبرة بأنك تحب مقاتلتنا طاعة منك للحشم وبني عامر ، فافعل ما شئت وما ظهر لك فيه بادر ، فجمع جيشا من الحشم والغرابة وبني شقران وبني عامر وعسكره وغزاهم ، فقاوموه شديدا مدة من أيام بعد أن أتوه بالقادة فرغب عنها وبالقتال جزاهم ، وكان لهم الظفر به لولا جر الهزيمة الواقعة من أهل الجهة الشرقية ، وهم الذين في طاعة ولد سيدي عريبي فحلت الهزيمة بالجميع في غاية الترقية ، ثم كرّ البرجية في آخر النهار لقتاله ، ودام الحرب فجرّ الشراقة الهزيمة أيضا فانجلا أهل البرج منه وأضرمه نارا وتكرر منه ضرب المدفع في حال قتاله ، وغنم البرج وفرّ أهله لناحية القلعة ، فاتبعهم بها وفروا لرؤوس الجبال الشاهقة والغيب المانعة فاستخلصوا منه وهم في الولعة ، ثم زادوا لمينا وبها نزلوا ، إلى أن أذعنوا له باختيارهم وبالطاعة جزلوا.

ولما تمّ أمره ورأى نفسه أنه اشتد بالإقامة ، زحف للدواير والزمالة وهم ما بين تافتة وواد الزيتون بالمقامة ، ونزل بمحلته في سيدي أبي الأنوار ، وحصل المصاف بملتقى الوادين بموضع يقال له المهراز بالاشتهار وغرض الأمير أن يخلف يوم الحناية / وليلة سكّاك ، ولم يدر أنّ الله فعّال لما يريد من غير شرّاك ، فدارت رحا الحرب بين الفريقين وحمى الوطيس ، واشتعلت النار وفقد الأنيس ، ودام القتال من أول النهار إلى العشية ، وقد انجرح فيه الأعيان من البحايثية ، فمنها مصطفى بن إسماعيل من كلتا يديه بلا نزاع ، أحدها في الأصبع والأخرى

١١٩

في الذراع ، وأصيب في ثيابه بما يزيد على السبع رصاصات ، وأنجاه الله في ذلك اليوم من الممات ، كما انجرح الحاج المزاري محمد ولد قادي ، وكذلك انجرح إسماعيل ولد قادي ، وغيرهم من الأعيان ، ومات نحو الثلاثين نفرا منهم بالعيان ، ومات من جيش الأمير العدد الكثير ، وانجرح ما لا يضبطه العدّ بالتحرير ، وكان يركب من الدوائر ستة عشر مائة ، ويركب من الزمالة ثمانمائة.

ويحكى أن الحاج المزاري لمّا تألم وهو محمول بالجراح ، نزل بقرب المعركة طالبا للاستراح ، فقيل له اركب وبعّد (كذا) من العدوّ فإنك منه لقريب ، فقال إن كان عمي مصطفى حيا فلا أخشى لا من العدو البعيد ولا القريب ، وكلامه يدل على أن عمه بلغ النهاية في الشجاعة والبسالة والبراعة.

الأمير يطلب الصلح مع الدواير والزمالة

ولما رأى الأمير هذه الواقعة بالمهراز ، وأنه مع كثرة جيشه لم يجد لهم سبيلا للانتهاز ، آل إلى الصلح وبعث رسولين أصلهما من الدوائر ، لأعيان المخزن يرغبهم في الصلح المأمور به شرعا والكف عن القتال المحرّم شرعا المفضي بالفناء للرجال من الفريقين بسجال القتال وإدارة الدوائر ، قائلا لهم نحن إخوة في الإسلام بغير المين ، والسلم بيننا أولى من إهراق دماء المسلمين من الجانبين ، لأنه وصف ذميم لا يحبه الله ولا رسوله ، فمني الايجاب ومنكم قبوله ، فامتثل لهذا الكلام مصطفى بن إسماعيل والحاج بالحضري والحاج المزاري ومحمد ولد قادي وغيرهم من الأعيان ، وبعثوا محمدا ولد قادي في رفقة من الأخوان ، وبعث الأمير خليفته سي محمد البوحميدي خليفة تلمسان ، في رفقة التقى الفريقان ملاقة مشروحة وهما في ميدان الحرب والأموات بينهما مطروحة ، فتكلم كل بما يقتضيه الحال من غير المغاير ، فكان من كلام محمد ولد قادي أيها السيد إننا قبلنا ما أراده الأمير فأنت الضامن عليه فيه كما أنا الضامن في ذلك على الدواير غير أنه لا يخفاكم حال مصطفى بن إسماعيل وابن أخيه الحاج المازري وسائر الأعيان ، وحماستهم وما هم فيه من القوة والعناية والمداومة على الفتن لمن أرادها والفرح بمن أراد الإحسان ، وأنه يقول لنا ولكم إذا تراضيتم بالسّلم وعليه وقع الاتفاق ، فليخرج الأمير بجيشه من ميدان الحرب

١٢٠