خطرة الطيف

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]

خطرة الطيف

المؤلف:

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]


المحقق: أحمد مختار العبّادي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ١٧٣

١
٢

٣

٤
٥

" ... وأهل هذه البلدة ينسب إليهم نوك وغفلة علّتها ، إن صدقت الأخبار ، سلامة وسذاجة ، فتعمر بملحهم الأسمار ، وتتجمل بنوادر حكاياتهم الأخبار. فمنها أن ملك المغرب لما عجب من هذه المئذنة ، استأذنوه في نقلها إلى بلده على سبيل الهدية ، يجعلونها تحفة قدومه ، وطرفة وفادته ..."

من نص الرحلة ص (١٢٥)

" ... وكان الانصراف عنها من الغد ، وما شينا أدواح الزيتون والأشجار ، تساوقها جريّات الأنهار ، تتخللها أطلال الحلل والديار نيّفا على شطر البريد لا تنال صفح ثراه الشمس ولا ترتاده الحرباء ، تتجاوب أصوات الحمام المطوّق فوق غصونه. وقد اقتطعت ذلك الجناب الخصيب أيدي الوحشة ، وأخيفت من حلل غابة السابلة ، وسكن ربوعه الآهلة البوم ، فيالها من مدينة غزر ماؤها وصحّ هواؤها ، وأينعت أرحاؤها ، وضفى عليها من المحاسن رداؤها.".

من نص الرحلة ص (١٢٧)

٦

استهلال

تهدف هذه السّلسلة بعث واحد من أعرق ألوان الكتابة في ثقافتنا العربية ، من خلال تقديم كلاسيكيّات أدب الرّحلة ، إلى جانب الكشف عن نصوص مجهولة لكتاب ورحّالة عرب ومسلمين جابوا العالم ودوّنوا يوميّاتهم وانطباعاتهم ، ونقلوا صورا لما شاهدوه وخبروه في أقاليمه ، قريبة وبعيدة ، لا سيما في القرنين الماضيين اللذين شهدا ولادة الاهتمام بالتجربة الغربية لدى النّخب العربية المثقفة ، ومحاولة التعرّف على المجتمعات والنّاس في الغرب ، والواقع أنه لا يمكن عزل هذا الاهتمام العربي بالآخر عن ظاهرة الاستشراق والمستشرقين الذين ملأوا دروب الشّرق ، ورسموا له صورا ستملأ مجلدات لا تحصى عددا ، خصوصا في اللغات الإنكليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية ، وذلك من موقعهم القوي على خارطة العالم والعلم ، ومن منطلق المستأثر بالأشياء ، والمتهيء لترويج صور عن «شرق ألف ليلة وليلة» تغذّي أذهان الغربيين ومخيّلاتهم ، وتمهّد الرأي العام ، تاليا ، للغزو الفكري والعسكري لهذا الشرق. ولعل حملة نابليون على مصر ، بكل تداعياتها العسكرية والفكرية في ثقافتنا العربية ، هي النموذج الأتمّ لذلك. فقد دخلت المطبعة العربية إلى مصر مقطورة وراء عربة المدفع الفرنسي لتؤسس للظاهرة الإستعمارية بوجهيها العسكري والفكري.

٧

على أن الظّاهرة الغربية في قراءة الآخر وتأويله ، كانت دافعا ومحرضا بالنسبة إلى النخب العربية المثقفة التي وجدت نفسها في مواجهة صور غربيّة لمجتمعاتها جديدة عليها ، وهو ما استفز فيها العصب الحضاري ، لتجد نفسها تملك ، بدورها ، الدوافع والأسباب لتشدّ الرحال نحو الآخر ، بحثا واستكشافا ، وتعود ومعها ما تنقله وتعرضه وتقوله في حضارته ، ونمط عيشه وأوضاعه ، ضاربة بذلك الأمثال للناس ، ولينبعث في المجتمعات العربية ، وللمرة الأولى ، صراع فكري حاد تستقطب إليه القوى الحيّة في المجتمع بين مؤيد للغرب موال له ومتحمّس لأفكاره وصياغاته ، وبين معاد للغرب ، رافض له ، ومستعدّ لمقاتلته.

وإذا كان أدب الرحلة الغربي قد تمكن من تنميط الشرق والشرقيين ، عبر رسم صور دنيا لهم ، بواسطة مخيّلة جائعة إلى السّحري والأيروسيّ والعجائبيّ ، فإن أدب الرحلة العربي إلى الغرب والعالم ، كما سيتّضح من خلال نصوص هذه السلسلة ، ركّز ، أساسا ، على تتبع ملامح النهضة العلميّة والصناعيّة ، وتطوّر العمران ، ومظاهر العصرنة ممثلة في التطور الحادث في نمط العيش والبناء والاجتماع والحقوق. لقد انصرف الرّحالة العرب إلى تكحيل عيونهم بصور النهضة الحديثة في تلك المجتمعات ، مدفوعين ، غالبا ، بشغف البحث عن الجديد ، وبالرغبة العميقة الجارفة لا في الاستكشاف فقط ، من باب الفضول المعرفي ، وإنما ، أساسا ، من باب طلب العلم ، واستلهام التجارب ، ومحاولة الأخذ بمعطيات التطور الحديث ، واقتفاء أثر الآخر للخروج من حالة الشّلل الحضاريّ التي وجد العرب أنفسهم فريسة لها. هنا ، على هذا المنقلب ، نجد أحد المصادر الأساسية المؤسّسة للنظرة الشرقية المندهشة بالغرب وحضارته ، وهي نظرة المتطلّع إلى المدنيّة وحداثتها من موقعه الأدنى على هامش الحضارة

٨

الحديثة ، المتحسّر على ماضيه التليد ، والتّائق إلى العودة إلى قلب الفاعلية الحضارية.

إن أحد أهداف هذه السّلسلة من كتب الرحلات العربية إلى العالم ، هو الكشف عن طبيعة الوعي بالآخر الذي تشكّل عن طريق الرحلة ، والأفكار التي تسرّبت عبر سطور الرّحالة ، والانتباهات التي ميّزت نظرتهم إلى الدول والناس والأفكار. فأدب الرحلة ، على هذا الصعيد ، يشكّل ثروة معرفيّة كبيرة ، ومخزنا للقصص والظواهر والأفكار ، فضلا عن كونه مادة سرديّة مشوّقة تحتوي على الطريف والغريب والمدهش مما التقطته عيون تتجوّل وأنفس تنفعل بما ترى ، ووعي يلمّ بالأشياء ويحلّلها ويراقب الظواهر ويتفكّر بها.

أخيرا ، لا بد من الإشارة إلى أن هذه السّلسة التي قد تبلغ المائة كتاب من شأنها أن تؤسس ، وللمرة الأولى ، لمكتبة عربية مستقلّة مؤلّفة من نصوص ثريّة تكشف عن همّة العربيّ في ارتياد الآفاق ، واستعداده للمغامرة من باب نيل المعرفة مقرونة بالمتعة ، وهي إلى هذا وذاك تغطي المعمور في أربع جهات الأرض وفي قارّاته الخمس ، وتجمع إلى نشدان معرفة الآخر وعالمه ، البحث عن مكونات الذات الحضارية للعرب والمسلمين من خلال تلك الرحلات التي قام بها الأدباء والمفكرون والمتصوفة والحجاج والعلماء ، وغيرهم من الرّحالة العرب في أرجاء ديارهم العربية والإسلامية.

محمد أحمد خليفة السويدي

٩
١٠

المقدّمة

يرجع اهتمامي بالمؤرخ الوزير الغرناطي لسان الدين بن الخطيب إلى سنة ١٩٥٢ م عند ما كنت أعد رسالة الدكتوراه في جامعة مدريد بإسبانيا وموضوعها :

مملكة غرناطة في عهد السلطان محمد بن يوسف بن نصر (محمد الخامس الغني بالله) من القرن الثامن الهجري / الرابع عشر الميلادي.

وكان من الطبيعي أن أهتم بشخصية لسان الدين بن الخطيب لأنه كان وزيرا لهذا السلطان محمد الخامس ، بل كان وزيرا قبل ذلك لأبيه أبي الحجاج يوسف الأول.

ومن ثمّ عكفت في بادئ الأمر على نشر وتحقيق رسائله التي بين أيدينا والتي تعبر عن مشاهداته أثناء رحلاته التي قام بها في بلاد المغرب والأندلس في عهد هذين العاهلين من ملوك بني نصر أو بني الأحمر.

ثم واصلت بعد ذلك نشر وتحقيق بعض أعمال ابن الخطيب الأخرى مثل :

١ ـ كتاب أعمال الأعلام فيمن بويع قبل الاحتلام من ملوك الإسلام (القسم الثالث الخاص بتاريخ المغرب الكبير وصقلية). وذلك بالاشتراك مع المرحوم محمد إبراهيم الكتاني.

(دار الكتاب ، الدار البيضاء سنة ١٩٦٤ م)

١١

٢ ـ كتاب نفاضة الجراب في علالة الاغتراب (الجزء الثاني) في طبعتين! (دار الكتاب العربي بالقاهرة ، دار النشر المغربية بالدار البيضاء)

هذا إلى جانب بعض المقالات التي تناولت فيها جوانب هامة من شخصية ابن الخطيب مثل :

ـ لسان الدين بن الخطيب ونزعاته الاقتصادية (مجلة لسان الدين الجزء التاسع والعاشر ، سبتمبر ـ أكتوبر ، تطوان سنة ١٩٥٤)

ـ سياسة ابن الخطيب المغربية ، مجلة البينة ـ الرباط ـ ١٩٦٢

ـ لسان الدين بن الخطيب وكتاباته التاريخية ـ عالم الفكر ، المجلد السادس عشر ، العدد الثاني سنة ١٩٨٥.

ولما كانت الطبعة الأولى لهذا الكتاب «مشاهدات لسان الدين بن الخطيب في بلاد المغرب والأندلس» التي أصدرتها جامعة الإسكندرية في سنة ١٩٥٨ م ، قد نفدت منذ مدّة طويلة ، فقد رحبت شاكرا بعرض الشاعر نوري الجرّاح (المشرف على مشروع ارتياد الآفاق) لإعادة نشر هذا الكتاب بعد تنقيح النسخة المطبوعة.

أسأل الله تعالى أن يتقبل هذا خالصا لوجهه الكريم

المحقق

أ. د. أحمد مختار العبادي

الإسكندرية مايو / أيار ٢٠٠٢

١٢

مقدمة الطبعة الأولى

لسان الدين بن الخطيب (٧١٣ ـ ٧٧٦ ه‍ ، ١٣١٣ ـ ١٣٧٤ م) وزير ملوك بنى الأحمر بغرناطة ، شخصية من أصحاب الثقافة الموسوعيّة المعروفة في ميادين العلم والسياسة. كتب حوله بحوث عديدة ، كشفت النقاب عن بعض مواهب هذا العبقري الداهنة. وقد سبق لي أن أسهمت في هذا المضمار بمجهود متواضع (١) ، وها أنذا أعاود الكرّة مرّة أخرى محاولا تناول هذه الشخصية العظيمة من زاوية أخرى ، وهي دراسته كرحّالة عظيم ، وذلك على ضوء ما قدّمه لنا من أوصاف دقيقة ، ومشاهدات صادقة ، للبلاد الأندلسيّة والمغربيّة التي زارها بنفسه.

والواقع أن الظروف العلميّة والسياسيّة التي تقلّب فيها ابن الخطيب ، أتاحت له الفرصة في الطواف بأنحاء مملكة غرناطة وبلاد المغرب الأقصى.

فمن المعروف أنه في أثناء صباه تلقّى العلم على شيوخ تلك البلاد ، وإن كانت هذه الفترة الأولى من حياته يكتنفها الغموض من حيث حركاته وسكناته. غير أن المصادر المعاصرة تشير إلى أسماء شيوخ له من كافّة أنحاء

__________________

(١) انظر (مختار العبادي : لسان الدين بن الخطيب ونزعاته الاقتصادية ـ مجلة لسان الدين ، الجزء التاسع والعاشر ، سبتمبر ـ أكتوبر سنة ١٩٥٤) وقد تفضل أستاذي المستشرق الإسباني الكبير غرسيه غومز ، فترجم هذا المقال إلى اللغة الإسبانية في مجلة الأندلس ، تحت عنوان : (Los Moviles economicos en La vida de Ibn AL JATIB ـ Andalus ٥٥٩١ Vol. xx fasc ١)

١٣

المغرب والأندلس ، فليس بمستبعد أن يكون ابن الخطيب قد زار هذه البلاد في شبابه سعيا وراء العلم والاتصال بعلماء عصره كما كان يفعل مواطنوه. وكيفما كان الأمر ، فالذي يعنينا هنا ، أن ابن الخطيب حينما تولّى الوزارة ، رافق سلطانه أبا الحجاج يوسف الأول في رحلته التفتيشية بمقاطعات غرناطة الشرقية عام ٧٤٨ ه‍ ، كذلك زار ابن الخطيب بلاد المغرب الأقصى كسفير لسلطان غرناطة في عامي ٧٤٩ و ٧٥٥ ه‍ (٢) ثم التجأ إليها مرّة ثالثة عند ما نفي مع سلطانه المخلوع محمد بن يوسف بن نصر ، الغني بالله ، عام ٧٦٠ ه‍. ولقد استمرّت مدّة النفي ما يقرب من الثلاث سنوات عاد بعدها ابن الخطيب مع سلطانه إلى مقر حكمه مرّة أخرى.

على أن المهم هنا ، هو أن ابن الخطيب طوال مدّة النفي هذه ، لم يقبع في مدينة فاس عاصمة بني مرين كما فعل سلطانه وبقيّة الحاشية واللاجئون

__________________

(٢) يجدر بنا أن نشير بصدد هذه السفارة الأخيرة ، إلى أن سلطان المغرب أبا عنان فارس ، دعا ابن الخطيب إلى حفل رياضي ليشاهد الحرب بين الثور والأسد ، على ما جرت به عادة الملوك. وقد وصف ابن الخطيب هذه المصارعة في إحاطته ج ٢ ، ص ٦ ، ٧ (طبعة القاهرة ١٣١٩ ه‍) وقد أشار إلى أن هذا الصراع بين الوحشين قد انتهى بانتصار الثور وجرح الأسد. عندئذ خرجت طائفة من الرجال المسلحين أخذوا يناوشون الأسد الجريح إلى أن قتلوه بعد أن أردى بعضهم.

يكن الصراع مع الوحوش قاصرا على المغرب ، بل كان منتشرا أيضا في الأندلس ومن العجيب أن ابن الخطيب في موضع آخر من كتاب الإحاطة (نسخة الاسكوريال لوحة ٤٤١) يشير إلى انتشار مصارعة الثيران بين عليّة القوم من أهل غرناطة. وهذا أقدم نص وجدناه عن هذه المصارعة المشهورة الآن في إسبانيا وأمريكا اللاتينية. وكانت الطريقة كما يصفها ابن الخطيب هي أن يطلق الثور (أو البقر الوحشي كما كان يسميه) ثم تطلق عليه كلاب اللان المتوحشة (Bulldogs) ، فتأخذ في نهش جسمه وأذنيه متعلقة بها كالأقراط. وهذا العمل التمهيدي كان الغرض منه هو الحد من قوة الوحش وتهذيب حركته ، وهو ما يقوم مقامه اليوم عمل رماة السهام Banderilleros وطاعن الرمح Picador وذلك تمهيدا للقاء المصارع. وكان المصارع الغرناطي كما يصفه ابن الخطيب ، فارسا مغوارا يصارع الثور وهو ممتط فرسه المدرب ثم يقتله في النهاية برمحه. وهذا النوع من المصارعة لا يزال موجودا إلى اليوم ، ويسمّى الفارس المصارع باسم رخونيادورRejoneador نسبة إلى الرمح القصير الذي يستعمله في قتل الثور واسمه رخون Rejon.

وتنبغي الإشارة إلى أن هذا النص العربي القديم لم يرد ذكره في الموسوعة الكبرى التي ألّفها خوسيه ماريا قوسيو عن الثيران. انظر (Jose maria Cossio : Los Toros ,٣ Tomos)

١٤

السياسيون ، بل عكف على زيارة البلاد المغربية لمشاهدة آثارها ولقاء العلماء والصالحين فيها (٣) ولقد سجّل ابن الخطيب كل ما رأته عيناه ، وسمعته أذناه في جميع هذه الرحلات ، فأعطانا بذلك مادّة خصبة يرجع إليها الفضل الأول في كل ما نعرفه عن حضارة الغرب الإسلامي في تلك الفترة.

ومشاهدات ابن الخطيب التي دوّنها ، نشر بعضها نشرا جزئيا غير كامل بوساطة بعض المستشرقين ، أما البعض الآخر فلم ينشر بعد وهو الذي يعنينا أمره في هذا الكلام. ولكن نظرا لأن المنشور من هذه الرسائل متفرّق في أماكن متعدّدة كما أنه ليس في متناول يد القرّاء والباحثين لندرته وقدمه ، فقد آثرت لتعميم الفائدة وتوحيد الفكرة ، إضافته إلى الرسائل الأخرى غير المنشورة ، مع إبداء الملاحظات والتعليقات والشروح اللازمة ، على ضوء ما استجدّ من أبحاث في الفترة الطويلة التي تلت هذا النشر والتي تقدّر بنحو قرن من الزمان.

ولدينا الآن أربع رسائل كتبها ابن الخطيب في هذا المضمار ، وهي :

١ ـ خطرة الطيف في رحلة الشتاء والصيف.

٢ ـ مفاخرات مالقه وسلا.

٣ ـ معيار الاختبار في ذكر المعاهد والديار.

٤ ـ رحلته التي دوّنها في كتابه نفاضة الجراب في علالة الاغتراب.

وقد راعيت في ترتيب هذه الرحلات ، التسلسل التاريخي والزمني لها بقدر الإمكان.

أما بخصوص الرسالة الأولى وهي المقامة المسمّاة (خطرة الطيف في رحلة الشتاء والصيف) فقد أورد خطأ كل من الغزيري وبروكلمان

__________________

(٣) انظر (المقري : نفح الطيب ج ٥ ص ٢٣٧ ـ ٢٣٨ ، طبعة محي الدين عبد الحميد).

١٥

ودرنبورج ، أن هذه الرحلة كانت في بلاد المغرب ، غير أنه واضح من نص الرسالة أنها كانت رحلة رسميّة قام بها سلطان غرناطة ، أمير المسلمين أبو الحجّاج يوسف بن نصر (٧٣٣ ـ ٧٥٥ ه‍ ، ١٣٣٣ ـ ١٣٥٤ م) ومعه وزيره ابن الخطيب لتفقّد أحوال الثغور الشرقية لمملكة غرناطه.

ولقد نشر هذه الرحلة المستشرق الألماني ماركوس جوزيف مولر في كتابه المعروف باسم نخب من تاريخ المغرب العربي (٤).

غير أن مولر اعتمد فقط في هذا النشر على النسخة التي وردت ضمن كتاب (ريحانة الكتاب ونجعة المنتاب) (٥) لابن الخطيب ، ولكننا عثرنا على نسخة أخرى لهذه الرحلة في المخطوط رقم ٤٧٠ بمكتبة الاسكوريال بإسبانيا. وهذا المخطوط عبارة عن مجموعة من الرسائل المختلفة لعدّة مؤلفين من بينها هذه الرحلة التي تقع في تسع عشرة ورقة من الحجم المتوسط (رقم ٥١ إلى ٦٩) وكل ورقة تحتوي على خمسة عشر سطرا ، وهي مكتوبة بالخط المغربي. ونظرا لوجود بعض الاختلافات بين النسختين ، آثرنا نشرها من جديد وذلك بعد المقابلة بين النصّين والتنبيه إلى الفروق بينهما معتمدين في ذلك على نسخة المخطوط رقم ٤٧٠ كأصل نظرا لأن تاريخها يبدو أقدم من الأخرى وعباراتها أصح وفقراتها أكثر ، وإن كان المقّري للأسف ، لم يشر إليها إطلاقا بينما أشار إلى نسخة الريحانة في كتابه نفح الطيب (٦).

وقد رمزنا لهذه النسخة الأصلية بالحرف (أ) ولنسخة الريحانة بالحرف (ب).

ونص الرحلة يشير إلى خروج الركب السلطاني من العاصمة غرناطة في يوم الأحد ١٧ محرم عام ٧٤٨ ه‍ (١٣٤٧ م) تتقدمه الألوية والبنود الحمراء شعار دولة بنى الأحمر. ويصل الركب إلى مدينة وادي آش أو وادي إيش Guadix

__________________

(٤) Marcus Muller : Beitrage Zur Geschichte Der Westlichen ٦٦٨١

(٥) مخطوط بمكتبة الاسكوريال رقم ١٨٢٥ ، والرحلة تشغل فيه ثمان ورقات من الحجم الكبير (لوحة ٢٢٠ ـ ٢٢٧)

(٦) المقّري : نفح الطيب ج ٩ ، ص ٣٠٦.

١٦

في شمال شرق غرناطه ، وهناك يستقبلهم الأهالي استقبالا رائعا بملابسهم البيضاء وهو الزيّ التقليدي لأهل الأندلس عموما منذ أيام الأمويين.

ثم تواصل الرحلة سيرها شرقا مارّة ببعض المدن والحصون الهامة مثل بسطه Baza وبرشانه Purchena ويشير ابن الخطيب إلى أن هذه البلاد الشرقية كانت تعاني قحطا شديدا نتيجة لغارات الأعداء وسيول الأمطار التي اجتاحت أراضيها. وقد صور ابن الخطيب هذه الحالة في إطار مستملح طريف ، ومثال ذلك وصفه للدجاجة التي أهداها لهم قاضي إحدى هذه المدن فيقول : (.. وتقدّم بها أعوانه يزفّونها كالعروس فوق الرؤوس ... قلت يا قوم ، ظفرتم بقرّة العين ، فقد ذبح لكم غراب البين ..).

ثم يواصل الركب السلطاني سيره إلى أن يبلغ أقصى الحدود الشرقيّة وهي مدينة بيره Vera ، (الثغر الأقصى ، ومحل الرباط الذي أجر ساكنه لا يحصى). وقد أشار ابن الخطيب إلى قلق سكان هذا الثغر ، وترقبهم لغارات الأعداء المفاجئة ، كما أشار إلى صعوبة موقع المدينة ووعورة مسالكها وطرقها لدرجة أنهم اضطروا إلى اتخاذ دليل ماهر ليقودهم وسط الجبال والوهاد إلى الطريق الصحيح.

ثم يعود المرتحلون أدراجهم عن طريق آخر مارّين بثغر المريةAlmeria وهنا يشير ابن الخطيب إلى استقبال رجال البحرية للسلطان بملابسهم الجميلة وأبواقهم وطبولهم ، وإلى استعراض قطع الأسطول الغرناطي في الميناء.

كذلك يشير إلى استقبال رجال الجيش وكيف كانوا يحملون على أعناقهم قسي الفرنج. وفي هذه العبارة الأخيرة دليل واضح على مدى تأثّر مملكة غرناطة بالنظم الحربيّة للبلاد المسيحية المجاورة مثل قشتاله وأراجون.

هذا ومن المعروف أن مملكة غرناطه كانت تستورد أسلحة من فرنسا ولا سيّما من مدينة بوردو (برذيل) (٧) لاستخدامها إلى جانب أسلحتها الخاصّة التي كانت تصنعها في مدينة المريه بالذّات.

__________________

(٧) راجع (المقّري : نفح الطيب ج ١ ، ص ١٨٨).

١٧

كذلك يشير ابن الخطيب إلى الجالية المسيحية المقيمة بثغر المريه ، وكان أفرادها يشتغلون بالتجارة والاستيراد والتصدير بطبيعة الحال ، ومن كلامه نلاحظ أنهم ساهموا في الترحيب بالسلطان بأن نشروا فوقه مظلّة كبيرة من الحرير لتحجب عنه أشعة الشمس.

ثم يتكلّم ابن الخطيب عن صعود السلطان إلى قلعة المدينة لتفقد حصونها الدفاعية ، ومشاهدة آثار الأولين الذين ساهموا في تأسيسها ولا سيّما خيران العامري الصقلبي والمعتصم بن صمادح وهما من ملوك الطوائف الذين حكموا هذه المنطقة في القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) (٨).

ثم بعد ذلك يغادر السلطان وصحبه مدينة المريه مارّين ببعض المدن الهامّة مثل بجانه Pechina ومرشانه Marchena وفنيانه Finana وينتهي بهم المطاف مرّة أخرى إلى مدينة وادي آش ومنها إلى العاصمة غرناطه ، مقر الحكم والسلطان.

وينبغي أن نشير في هذا الصدد إلى عبارات أوردها ابن الخطيب في سياق النص تشير كلّها إلى خروج النساء في جماعات كبيرة واختلاطهن بالرجال للمشاركة في استقبال السلطان ، فمن ذلك مثلا قوله : (.. واختلط النساء بالرجال ، والتقى أرباب الحجا بربّات الحجال ، فلم تفرّق بين السلاح والعيون الملاح ، ولا بين حمر البنود وحمر الخدود).

ويبدو من هذا النص وأمثاله ، أن نساء غرناطه كنّ أكثر تحررا من نساء العالم الإسلامي في ذلك الوقت. ولعلّ هذا ناتج من تأثير الجوار بالبلاد المسيحية المحيطة بهذه المملكة الصغيرة من كل جانب. وهناك شواهد أخرى كثيرة تؤيد هذا الكلام إلا أنها مع الأسف الشديد وردت فقط في المصادر

__________________

(٨) انظر Antonio Prieto y Vives : Los Reyes De Taifas) Madrid ٦٢٩١ (انظر كذلك (مختار العبادي : الصقالبة في إسبانيا ، لمحة عن أصلهم ونشأتهم وعلاقتهم بحركة الشعوبية ، مدريد ١٩٠٣).

١٨

المسيحيّة وحدها (٩). وهذا يجعلنا رغم قلّة المصادر العربية ، لا نستطيع إبداء حكم صريح في هذا الموضوع.

والرسالة الثانية التي ألّفها ابن الخطيب في هذا الموضوع أيضا ، رسالته المعروفة باسم (مفاخرات مالقه وسلا) وهي كما يتضح من العنوان ، مفاضلة بين المدينة الأندلسية وأختها المغربية في مختلف النواحي الاقتصادية والجغرافية والاجتماعية ... الخ.

ومن العجيب أننا نلاحظ أن ابن الخطيب رغم حبّه لبلاد المغرب ولمدينة سلا بالذات التي لجأ إليها في أوقات محنته ، إلا أن شعوره الوطني جعله يتغاضى عن كل هذه الاعتبارات ويتحيّز إلى المدينة الغرناطية مالقه ، فيجعلها المفضّلة على طول الخط. وقد يرجع هذا الشعور إلى روح المنافسة التقليدية القديمة التي كانت سائدة بين الأندلسيين والمغاربة والتي تظهر أيضا بوضوح في رسالة الشقندي قبل قرن من الزمان (١٠).

نشر رسالة ابن الخطيب العالم الألماني مولر السالف الذكر في نفس كتابه المذكور (١١). ثم جاء المستشرق الهولندي دوزي DOzy ، فاختصر هذه الرسالة في المجلة الألمانيةZDMG (XXpU ٦١٦) كما استغل ألفاظها في معجمه المعروف Supplement aux Dictionnaires Arabes وجاء المستشرق الإسباني سيمونيت Simonet فاستعان بهذه الرسالة أيضا في مقالاته التي كتبها تحت عنوان) Malga Sarracenica أو مالقه العربية) التي نشرها في المجلة الغرناطية

__________________

(٩) انظر على سبيل المثالPerez de hita : Guerras Civiles de Granada. I, P. LXXV ١) Prologo (Lafuente Alcantara : Historia de Granada III, p. ٦٦١ ـ ٧٦١ Fernandez y Gonzalez : Mudejares de Castilla P. ٩٢٢ ١ Menendez Pidal : Poesia Juglaresca y Juglares) Coleccion Austral, n. ٠٠٣)

(١٠) راجع نص رسالة الشقندي في فضل الأندلس في (المقري : نفح الطيب ج ٤ ص ١٧٧ وما بعدها) راجع كذلك الترجمة الإسبانية لهذه الرسالة تحت عنوان) Al ـ Saqundi, Elogio del ISlam Espanol) Risala fi fadl al Andalus (traduccion espanola por Emilio Garcia Gomez) Madrid ٤٣٩١)

(١١) انظر. (M.G.Muller : Op.Cit.pp.١ ,٣١)

١٩

(LA Estrella de Occidente نجمة الغرب) في أغسطس ١٨٨٠. ولقد استفاد من هذه الأبحاث المؤرخ المالقي Robles Guillen جلين روبلس ، عند ما كتب كتابه المعروف بمالقه المسلمةMalaga Musulmana.

وأخيرا جاء أستاذنا العالم الإسباني المعروف غرسيه غومزE.Garcia Gomez فترجم رسالة ابن الخطيب إلى اللغة الإسبانية وعلّق عليها بمعلومات قيّمة (١٢) أفدت منها في معظم ما أوردته من حواشي وتعليقات على هذه الرسالة.

أما الرسالة الثالثة التي كتبها ابن الخطيب عن مشاهداته ، فهي مقاماته المعروفة باسم (معيار الاختبار في ذكر أحوال المعاهد والديار). وهي عبارة عن وصف لأهم مدن المغرب الأقصى ، مع وصف ٣٤ مدينة من مملكة غرناطه ، ويتخلل هذا وذاك ذكر محاسن وعيوب كل مدينة.

وقد نشر الجزء الخاص ببلاد غرناطه ، المستشرق الإسباني فرنسسكو سيمونيت F Simonet في آخر كتابه المعروف باسم (de Granade, (Madrid Descripcion del Reino ١٨٦٠ أي وصف مملكة غرناطه ، أما الجزء الخاص بمدن المغرب فقد نشره جوزيف مولر في كتابه السابق الذكر ، مع إضافة تصويبات لأخطاء وقع فيها سيمونيت في الجزء الذي نشره (١٣). هذا ولم يحدّد كل من الناشرين تاريخ تأليف هذا الكتاب ، بينما يروي ابن الخطيب في كتاب آخر له ، أن تدوين معيار الاختبار كان في أثناء المدّة التي قضاها في المنفى بمدينة سلا (٧٦٠ ـ ٧٦٣ ه‍) (١٤).

الرحلة الأخيرة التي سجّلها ابن الخطيب لم تنشر بعد ، وكانت في ربوع المغرب الأقصى في عهد دولة بني مرين. وذلك ، كما أشرنا من قبل ، عند ما عزل سلطان غرناطه محمد الغني بالله بواسطة أخيه إسماعيل في عام

__________________

(١٢) انظر

E. Garcia Gomez : El Parangon Entre Malaga y Sale, Al Andalus II, ٤٣٩١, fasc. I ((.

(١٣) انظر (M.J.Muller : Op.cit.pp.٧٤ ـ ٨٩)

(١٤) انظر (ابن الخطيب : نفاضة الجراب في علالة الاغتراب لوحة ٦٧)

٢٠