رحلة السيرافي

رحلة السيرافي

المؤلف:


المحقق: عبد الله الحبشي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المجمع الثقافي
الطبعة: ٠
الصفحات: ١٣٩

كان من مدينة مثل خانفو قاسم ملكها ديفو ، والخصىّ يدعى الطوقام وخصيانهم منهم مسلولون ، وقاضي القضاة يقال له لقشى مامكون (١) ونحو هذا من الأسماء مما لا نضبطه.

وليس يملك أحد منهم لأقلّ من أربعين سنة ، يقولون : قد حنّكته التجارب.

والملوك الصغار إذا قعد أحدهم يقعد في مدينته على كرسيّ في بهو عظيم ، وبين يديه كرسيّ وترفع إليه الكتب التي فيها أحكام الناس ، ومن وراء الملك رجل قائم يدعى لينجون (٢) اذا زلّ الملك في شى ممّا يأمر به وأخطأ ردّه ، وليس يعبئون بالكلام ممّن يرفع اليهم دون أن يكتبه في كتاب ، وقبل أن يدخل صاحب القصّة على الملك ينظر في كتابه رجل قائم بباب الدار ينظر في كتب الناس ، فإن كان فيها خطأ ردّه ، فليس يكتب إلى الملك الّا كاتب يعرف الحكم ويكتب الكاتب في الكتاب : كتبه فلان بن فلان ، فان كان فيه خطأ رجع إلى الكاتب اللّوم فيضرب بالخشب ، وليس يقعد الملك للحكم حتى يأكل ويشرب لئلا يغلط ، وأرزاق كل ملك من بيت مال مدينته.

فأمّا الملك الأكبر فلا يرى إلّا في كل عشرة أشهر ، يقول إذا رآني النّاس استخفوا بيّ ، والرّئاسات لا تقوم الّا بالتجبّر ، وذلك أن العامة لا تعرف العدل فينبغي أن يستعمل معهم التجبّر لنعظم عندها.

__________________

(١) (ط) سوفاجه : صامكون شي

(٢) (ط) رينو : «ليخوا»

٤١

وليس على أرضهم خراج ولكن عليهم جزية على الجماجم الذكور حسبما يرون من الأحوال ، وان كان بها أحد من العرب أو غيرهم أخذ منه جزية ماله ليحرز ماله.

وإذا غلا السعر (١) أخرج السلطان من خزائنه الطعام فباعه بأرخص من سعر السوق ، فلا يبقى عندهم غلا ، والذي يدخل بيت المال إنما هو من الجزية التي على رؤوسهم ، وأظن أن الذي يدخل بيت مال خانفو في كل يوم خمسون ألف دينار على أنّها ليست بأعظم مدائنهم.

ويختصّ الملك من المعادن بالملح ، وحشيش ، يشربونه بالماء الحارّ ، ويباع منه في كل مدينة بمال عظيم ، ويقال له الساخ (٢) وهو أكثر ورقا من الرطبة (٣) وأطيب قليلا وفيه مرارة فيغلى الماء ويذرّ عليه ، فهو ينفعهم من كل شيء.

وجميع ما يدخل بيت المال الجزية والملح وهذا الحشيش.

وفي كل مدينة شى يدعى الدّرا وهو جرس على رأس ملك تلك المدينة مربوط بخيط ماد على ظهر الطريق للعامة كافة ، وبين الملك وبينه نحو من فرسخ ، فاذا حرّك الخيط الممدود أدنى حركة تحرّك

__________________

(١) (ط) سوفاجه «السعور».

(٢) قلت : هذا وصف الشاي المعروف لنا الآن ، ولعل صاحب هذا الكتاب هو أول من وصفه من المؤلفين العرب إذ لم يرد ذكره في غيره من الكتب. فليحقق.

(٣) الرطبة : اسم خاص بالقضب (البرسيم) ما دام أخضر طريا رطبا وقال في (المعتمد) للملك الرسولي : ٢٥٢ هو رطب القت ، وهو الفصفصة ، وبلغة أهل اليمن القت تشبه في ابتدائها (الحند قوقا) النابت في المروج فإذا نمت صارت أدق منه ورقا ولها زهر معوج مثل القرن اذا جف ، ويستعمل منها زهرتها وورقها ، ولها خواص طيبة كثيرة انظرها في (المعتمد) : ٢٥٢.

٤٢

الجرس ، فمن كانت له ظلامة حرّك هذا الخيط فيتحرك الجرس منه على رأس الملك فيؤذن له بالدخول حتى ينهي حاله بنفسه ويشرح ظلامته ، وجميع البلاد فيها مثل ذلك.

ومن أراد سفرا من بعضها الى بعض أخذ كتابين من الملك ومن الخصّى (١) ، أما كتاب الملك فللطريق باسم الرجل واسم من معه وكم عمره وعمر من معه ، ومن أي قبيلة هو ، وجميع من ببلاد الصين من أهلها ومن العرب وغيرهم لابد لهم أن ينتموا الى شيء يعرفون به ، وأما كتاب الخصّى فبالمال وما معه من المتاع ، وذلك لأنّ في طريقهم مسالح (٢) ينظرون في الكتابين ، فإذا ورد عليهم الوارد كتبوا : ورد علينا فلان بن فلان الفلاني في يوم كذا ، وشهر كذا وسنة كذا ومعه كذا ، لئلا يذهب من مال الرجل ولا من متاعه شئ ضياعا ، فمتى ما ذهب منه شئ أو مات ، علم كيف ذهب ، وردّ عليه أو على ورثته من بعده.

[إنصاف أهل الصين في المعاملات]

وأهل الصين ينصفون في المعاملات والديوان ، فإذا كان لرجل على رجل دين كتب عليه كتابا ، وكتب الذي عليه الدّين أيضا كتابا ، وعلّمه بعلامة بين أصبعيه الوسطى والسبابة ، ثم جمع الكتابان فطويا جميعا ، ثم كتب على فصلهما ، ثم فرق فأعطى الذي عليه الدين كتابه باقراره ، فمتى جحد احدهما غريمه ، قيل له : أحضر كتابك ، فإن زعم الذي عليه الدّين انه لا شيء له ودفع كتابه بخطه

__________________

(١) (ط) سوفاجه : الحضي بالضاد.

(٢) (ط) رينو : مسايح.

٤٣

وعلامته وذهب كتاب صاحب الحق ، قيل للجاحد الذي عليه الحق : أحضر كتابا بأنّ هذا الحق ليس عليك ، فمتى ما بيّن عليك صاحب الحق الذي جحدته فعليك عشرون خشبة على الظهر ، وعشرون ألف فكّوج فلوسا ، والفكوج ألف فلس يكون ذلك قريبا من ألفى دينار ، والعشرون الخشبه فيها موته ، فليس يكاد أحد ببلاد الصين يعطى هذا من نفسه مخافة تلف النفس والمال ، ولم نر أحدا أجاب إلى ذلك.

وهم يتناصفون بينهم وليس يذهب لأحد حق ولا يتعاملون بشاهد ولا يمين.

وإذا أفلس رجل بمال قوم فحبسه الغرماء بأموالهم عند السلطان ، أخذ إقراره ، فإن لبث في السجن شهرا أخرجه السلطان فنادى عليه : انّ هذا فلان بن فلان أفلس بمال فلان بن فلان فإن يكن له عند أحد وديعة أو كان له عقار أو رقيق أو ما يحيط بدينه أخرج في كل شهر فضرب خشبات على استه ، لأنه أقام في الحبس يأكل ويشرب وله مال ، فهو يضرب أقرّ له أحد بمال أو لم يقرّ له فهو يضرب على كل حال ، يقال : ليس لك عمل الّا اخذ حقوق الناس والذهاب بها ، ويقال له : احتل حقوق هؤلاء القوم فإن لم يكن له حيلة وصحّ عند السلطان أنه لا شيء له دعى الغرماء فأعطوا من بيت مال البغبون (١) وهو الملك الأعظم وانما سمى البغبون ومعناه ابن السماء ، ونحن نسميه المغبون ، ثم ينادى : من بايع هذا فعليه القتل ، فليس يكاد يذهب لأحد مال ، وأن علم أنّ له

__________________

(١) في (ط) سوفاجه : البغبور وفي (المسالك والممالك) لابن خرداذبة : البغبور لقب ملك الصين وكذا في (نخبة الدهر) : ١٤٩.

٤٤

عند أحد مالا ولم يقرّ المودع بالمال قتل بالخشب ، ولم يقل لصاحب المال شيء فيؤخذ المال ويقسم على الغرماء ولا يبايع بعد ذلك.

[الحجر الذي فيه ذكر الأدوية]

ولهم حجر منصوب طوله عشرة أذرع مكتوب فيه نقرا في الحجر ذكر الأدوية والادواء ، داء كذا دواؤه كذا ، فان كان الرجل فقيرا أعطى ثمن الدواء من بيت المال.

وليس عليهم خراج في ضياعهم وإنما يؤخذ من الرءوس على قدر أموالهم وضياعهم ، وإذا ولد لأحد ذكر كتب اسمه عند السلطان فإذا بلغ ثماني عشرة سنة أخذت منه الجزية ، فإذا بلغ ثمانين سنة لم يؤخذ منه جزية وأجرى عليه من بيت المال ، ويقولون : أخذنا منه شابا ونجرى (١) عليه شيخا.

وفي كل مدينة كتّاب ومعلّم يعلم الفقراء ، وأولادهم من بيت المال يأكلون ، ونساؤهم مكشفات الشعور والرجال يغطون رؤوسهم.

وبها قرية يقال لها تايوا في الجبل فهم قصر ، وكلّ قصير ببلاد الصين ينسب إليها.

وأهل الصين أهل جمال وطول وبياض نقي مشرّب حمرة ، وهم أشدّ الناس سواد شعور ، ونساؤهم يجزّون شعورهنّ.

[ذكر بلاد الهند]

وأمّا بلاد الهند فانّه اذا ادعى رجل على آخر دعوى يجب فيها القتل ، قيل للمدّعي : أتحامله النار ، فيقول : نعم ، فتحمى حديدة

__________________

(١) (ط) سوفاجه يجرين.

٤٥

إحماء شديدا حتى يظهر النار فيها ، ثم يقال له : إبسط يدك فتوضع على يده سبع ورقات من ورق شجر لهم ، ثم توضع على يده الحديدة فوق الورق ثم يمشي بها مقبلا ومدبرا حتى يلقيها عن يده فيؤتى بكيس من جلود فيدخل يده فيه ، ثم يختم بختم السلطان ، فإذا كان بعد ثلاث أتي بأرز غير مقشّر فيقال له افركه ، فان لم يكن في يده أثر فقد فلح ولا قتل عليه ، ويغرّم الذي ادعى عليه منا من ذهب يقبضه السلطان لنفسه ، وربّما اغلوا الماء في قدر حديد أو نحاس حتى لا يقدر أحد يدنوا منه ثم يطرح فيه خاتم حديد ويقال ادخل يدك فتناول الخاتم ، وقد رأيت من ادخل يده وأخرجها صحيحة ، ويغرم المدّعي أيضا منا من ذهب.

[عادة أهل سرنديب في موت ملوكهم]

وإذا مات الملك ببلاد سرنديب صيّر على عجله قريبا من الأرض وعلّق في مؤخرها مستلقيا على قفاه يجر شعر رأسه التراب عن الأرض ، وامرأة بيدها مكنسة تحثو التراب على رأسه ، وتنادي : أيها الناس هذا ملككم ، بالأمس قد ملككم وكان أمره نافذا فيكم ، وقد صار الى ما ترون من ترك الدنيا ، وأخذ روحه ملك الموت ، فلا تغترّوا بالحياة بعده ، وكلام نحو هذا ثلاثة أيام ، ثم يهيّأ له الصندل (١) والكافور والزعفران فيحرق به ، ثم يرمي برماده في الريح (٢) ، والهند كلّهم يحرقون موتاهم بالنار.

__________________

(١) الصندل : شجر طيب الرائحة خشبه أحمر ، ومنه الأصفر والأبيض ، وهو أنواع أجوده الأحمر والأبيض ، وله فوائد طبية منها انه يحلل الأورام ، ونافع للخفقان والصداع (تاج العروس) ٧ : ٤٠٨

(٢) أنظر هذا الخبر أيضا في مروج الذهب للمسعودي ١ : ٨٣

٤٦

[عادات أهل الهند في إحراق موتاهم وعباداتهم]

وسرنديب (١) أخر الجزائر وهى من بلاد الهند ، وربما أحرق الملك فتدخل نساؤه النار فيحترقن معه ، وان شئن لم يفعلن.

وببلاد الهند من ينسب إلى السياحة في الغياض والجبال وقلّ ما يعاشر الناس ويأكل أحيانا الحشيش وثمر الغياض ، ويجعل في احليله حلقه حديد لئلا يأتي النساء ، ومنهم العريان ، ومنهم من ينصب نفسه للشمس مستقبلها عريانا ، إلا أن عليه شيئا من جلود النّمور ، فقد رأيت رجلا منهم كما وصفت ، ثم انصرفت وعدت بعد ست عشرة سنة ، فرأيته على تلك الحال ، فتعجّبت كيف لم تسل عينه من حر الشمس.

[توارثهم الملك والصناعات]

وأهل بيت المملكة في كلّ مملكة أهل بيت واحد لا يخرج عنهم الملك ولهم ولاة عهود ، وكذلك أهل الكتابة والطبّ أهل بيوتات لا تكون تلك الصناعة الّا فيهم.

وليس تنقاد ملوك الهند لملك واحد بل كل واحد ملك بلاده ، وبلهرا ملك الملوك بالهند ، فأمّا الصين فليس لهم ولاة عهود.

[امتناع ملوك الهند عن اللهو والشراب]

وأهل الصين أهل ملاه ، وأهل الهند يعيبون الملاهي ، ولا يتخذونها ، ولا يشربون الشّراب ولا يأكلون الخلّ لأنّه من الشراب ، وليس ذلك دين ولكن أنفه ، ويقولون : أيّ ملك شرب الشراب فليس بملك ، وذلك أنّ حولهم ملوكا يقاتلونهم ، فيقولون :

__________________

(١) سبق ذكرها.

٤٧

كيف يدبّر أمر ملكه من هو سكران (١) ، وربما اقتتلوا على الملك وذلك قليل ، لم أر أحدا غلب أحدا على مملكته إلّا قوم تلو بلاد الفلفل ، وإذا غلب ملك على مملكة ولّى عليها رجلا من أهل بيت الملك المغلوب ، ويكون من تحت يده لا يرضى أهل تلك المملكة الّا بذلك.

[أكل أهل الصين لحم ملوكهم]

فأما بلاد الصين فربما جار الملك الذي من تحت يد الملك الأكبر فيذبحونه ويأكلونه ، وكل من قتل بالسيف أكل الصينيون لحمه.

وأهل الهند والصين اذا أرادوا التزويج تهانئوا بينهم ، ثم تهادوا ، ثم يشهرون التزويج بالصّنوج والطبول ، وهدّيتهم من المال على قدر الامكان.

واذا احضر الرجل منهم امراة فبغت ، فعليها وعلى الباغي بها القتل في جميع بلاد الهند ، وإن زنى رجل بامرأة اغتصبها نفسها قتل الرجل وحده فان فجر بامرأة على رضى منها قتلا جميعا.

[حكمهم في حد السرقة]

والسرقة (٢) في جميع بلاد الصين والهند في القليل منه والكثير القتل ، فأما الهند اذا سرق السارق فلسا فما فوقه أخذت خشبة طويلة فيحدّد طرفها ثم يعقد عليها على أسته حتى تخرج من حلقه.

__________________

(١) انظر مثل هذا في المسعودي : مروج الذهب ١ : ٨٤

(٢) انظر عقوبة السرقة والزناء عند الهنود في كتاب (تحقيق ما للهند من مقوله مقبولة في العقل أو مرذوله) للبيروني : ٤٧٥ ط حيدر أباد سنة ١٣٧٧ ه‍.

٤٨

وأهل الصين يلوطون بغلمان قد أقيموا لذلك بمنزلة زواني البددة (١).

[بناء أهل الصين والهند]

وحيطان أهل الصين الخشب ، وبناء أهل الهند حجارة وجصّ وآجرّ وطين ، وكذلك ربّما كان بالصين أيضا ، وليس الصين ولا الهند بأصحاب فرش.

ويتزوج الرجل من الصين والهند ما شاء من النساء.

وطعام الهند الأرز وطعام الصين الحنطة والأرز ، وأهل الهند لا يأكلون الحنطة ولا يختتن الهند ولا الصين.

[ديانة أهل الصين والهند]

وأهل الصين يعبدون الاصنام ويصلّون لها ويتضرّعون اليها ولهم كتب دين.

[عجائب متفرقة]

والهند يطولون لحاهم ربّما أربت لحية أحدهم ثلاث أذرع ، ولا يأخذون شواربهم ، وأكثر أهل الصين لا لحالهم خلقة لأكثرهم.

وأهل الهند اذا مات لأحدهم ميت حلق رأسه ولحيته.

والهند اذا حبسوا رجلا أو لازموه منعوه الطّعام والشراب سبعة أيام وهم يتلازمون.

ولأهل الصّين قضاة يحكمون بينهم دون العمّال وكذلك أهل الهند.

__________________

(١) البددة : اسم للصنم الذي يعبد عندهم ، وقيل اسم بيت الصنم (معرب من اللفظ الفارسي) (تاج العروس) ٢ : ٢٩٥ و (الألفاظ الفارسية المعربة : ٢٧).

٤٩

والنمور والذئاب ببلاد الصين جميعا ، فأما الأسد فليست بكلى الولايتين.

ويقتل قاطع الطريق ، وأهل الصين ، والهند يزعمون أن البددة تكلمهم وانما يكلمهم عبّادهم.

والصّين والهند يقتلون ما يريدون أكله ولا يذبحونه فيضربون هامته حتى يموت.

ولا يغتسل الهند ولا الصين من جنابة ، وأهل الصين لا يستنجون الا بالقراطيس ، والهند يغتلسون كل يوم قبل الغدا ثم يأكلون.

والهند لا يأتون النساء في الحيض ويخرجونهنّ عن منازلهم تقزّرا منهنّ.

والصّين يأتونهنّ في الحيض ولا يخرجونهنّ.

وأهل الهند يستاكون ولا يأكل احدهم حتى يستاك ويغتسل وليس يفعل ذلك أهل الصّين

وبلاد الهند أوسع من بلاد الصين وهى أضعافها وعدد ملوكهم أكثر ، وبلاد الصين أعمر ، وليس للصين ولا للهند نخل ولهم سائر الشجر ، وثمر ليس عندنا ، والهند لا عنب لهم ، وهو بالصين قليل ، وسائر الفواكه عندهم كثيرة والرّمان بالهند أكثر.

وليس لأهل الصّين علم وانما أصل ديانتهم من الهند ، وهم يزعمون أنّ الهند وضعوا لهم البددة ، وانهم هم أهل الدين ، وكلا البلدين يرجعون إلى التناسخ ويختلفون في فروع دينهم (١).

والطبّ بالهند والفلاسفة ولأهل الصين أيضا طبّ ، وأكثر طبّهم

__________________

(١) حول التناسخ عند أهل الهند انظر «تحقيق ما للهند» للبيروني ٣٨ ـ ٤٤.

٥٠

الكىّ ولهم علم بالنجوم وذاك بالهند أكثر ، ولا أعلم أحدا من الفريقين مسلما ولا يتكلم بالعربيّة.

وللهند خيل قليل ، وهى للصين أكثر ، وليس للصين فيلة ولا يتركونها في بلادهم تشاؤما بها.

وجنود ملك الهند كثيرة ولا يرزقون وإنما يدعوهم الملك الى الجهاد فيخرجون ينفقون من أموالهم ليس على الملك من ذلك شيء ، فأمّا الصين فعطاؤهم كعطاء العرب.

وبلاد الصّين أنزه وأحسن ، وأكثر الهند لا مدائن لها ، وأهل الصّين في كل موضع لهم مدينة محصّنة عظيمة ، وبلاد الصين أصح وأقلّ أمراضا وأطيب هواء لا يكاد يرى بها أعمى ولا أعور ولا من به عاهة ، وهكذا كثير ببلاد الهند.

وأنهار البلدين جميعا عظام فيها ما هو أعظم من أنهارنا ، والأمطار بالبلدين جميعا كثيرة.

وفي بلاد الهند مفاوز كثيرة والصين كلها عمارة ، وأهل الصّين أجمل من أهل الهند ، وأشبه بالعرب في اللباس والدّواب ، وهم في هيئتهم في مواكبهم شبيه بالعرب يلبسون الأقبية (١) والمناطق وأهل الهند يلبسون فوطتين ، ويتحلّون باسورة الذهب والجوهر الرجال والنساء.

ووراء بلاد الصين من الأرض التغزغز (٢) وهم من الترك ،

__________________

(١) الأقبيه : جمع قباء ، وهو نوع من الملابس وهو يختلف باختلاف الأزمان والبلدان ، انظر (معجم الألفاظ التاريخية) لمحمد احمد دهمان : ١٢١.

(٢) التغزغز : جنس من الأتراك يقول ابن خردذابه : ٣١ «وهم أتراك وفيهم مجوس يعبدون النار ، وفيهم زنادقة والملك منهم في مدينة عظيمة لها اثنا عشر بابا من حديد وأهلها زنادقة.

٥١

وخاقان (١) تبّت (٢) هذا ممّا يلي بلاد الترك فأما ما يلي البحر فجزائر السيلا وهم بيض يهادون صاحب الصّين ، ويزعمون انهم إن لم يهادوه لم تمطرهم السماء ، ولم يبلغها أحد من اصحابنا فيحكى عنهم ، ولهم بزاة بيض.

تمّ الكتاب الأول

نظر في هذا الكتاب الفقير محمد في سنة احدى عشر بعد ألف أحسن الله عاقبتها وما بعدها آمين

اللهم اغفر لكاتبه ووالديه والمسلمين.

__________________

(١) خاقان : يقول ابن خرداذبه : ١٦ «ملوك الترك والتبت والخزر كلهم يلقبون بخاقان خلا ملك (الخرلنج) فإنهم يسمونه (جبغويه) وملك الصين (بغبور).

(٢) تبت : بلاد متاخمة للصّين من احدى جهاتها وللهند من أخرى مقدار مسافتها مسيرة شهور ، بها مدن وعمارات كثيرة ولها خواص عجيبة في هوائها وميائها وأرضها وسهلها وجبلها ولا تحصى عجائب أنهارها وثمارها وآبارها ، وهي بلاد تقوى بها طبيعة الدّم ، فلهذا الغالب على أهلها الفرح والسرور ، فلا يزال الانسان بها ضاحكا فرحا لا يعرض لهم الهم والحزن ، وبها معدن الكبريت الأحمر ، وبها ظباء المسك ، انظر (آثار البلاد وأخبار العباد) للقزويني : ٧٩ ط دار صادر.

٥٢

الكتاب الثاني

من أخبار الصين والهند

قال أبو زيد الحسن السيرافي : انّني نظرت في هذا الكتاب يعنى الكتاب الأول الذي أمرت بتأمله وإثبات ما وقفت عليه من أمر البحر وملوكه وأحوالهم وما عرفته من أحاديثهم ممّا لم يدخل فيه ، فوجدت تاريخ الكتاب في سنة سبع وثلاثين ومائتين وأمور البحر في ذلك الوقت مستقيمة لكثرة اختلاف التجار اليها من العراق.

[تكذيب المؤلف لخرافة أكل الموتى الطعام]

ووجدت جميع ما حكى في الكتاب على سبيل حق وصدق ، إلّا ما ذكر فيه من الطّعام الذي يقدّمه أهل الصين إلى الموتى منهم وانه إذا وضع بالليل عند الميت أصبحوا فلم يوجد وادعوا انه يأكله ، فقد كان بلغنا هذا حتى ورد علينا من ناحيتهم من وثقنا بخبره فسألناه عن ذلك فأنكره ، وقال : هى دعوى لا أصل لها كدعوى أهل الأوثان انّها تكلمهم.

وقد تغيّر بعد هذا التاريخ أمر الصين خاصّة ، وحدثت فيه حوادث انقطع لها الجهاز (١) اليهم وخرب البلد وزالت رسومه وتفرق أمره وأنا أشرح ما وقفت عليه من السّبب في ذلك إن شاء الله :

السبب في تغيّر أمر الصين عما كان عليه من الاحكام والعدل

__________________

(١) الجهاز والتجهيز : الرحلة والتوجه اليها بمحتاجاتهم.

٥٣

وانقطاع الجهاز اليه من سيراف : انّ نابغا نبغ فيهم من غير بيت الملك يعرف ببابشو (١) وكان مبتدا أمره الشطارة (٢) والفتوّة وحمل السلاح والعيث واجتماع السفهاء إليه حتى اشتدت شوكته وكثر عدده واستحكم طمعه ، فقصد خانفو من بين مدن الصين ، وهى المدينة التي يقصدها تجّار العرب ، وبينها وبين البحر مسيرة أيام يسيرة ، وهى على واد عظيم وماء عذب ، فامتنع أهلها عليه فحاصرهم مدّة طويلة ، وذلك في سنة اربع وستين ومائتين إلى أن ظفر بها ، فوضع السيف في أهلها ، فذكر أهل الخبرة بأمورهم : انّه قتل من المسلمين واليهود والنصارى والمجوس سوى من قتل من أهل الصين مائة وعشرون ألف رجل كانوا تبؤوا بهذه المدينة فصاروا بها تجارا ، وانما عرف مقدار عدد هذه الملل الأربع لتحصيل أهل الصّين بعددهم ، وقطع ما كان فيه من شجر التّوت وسائر الأشجار ، وذكرنا شجر التّوت خصوصا لاعداد أهل الصين ورقه لدود القزّ حتى يلف الدود ، فصار سببا لانقطاع الحرير خاصّة عن بلاد العرب.

ثم قصد بعد تخريب خانفو إلى بلد بلد فأخربه ، وعجز ملك الصين عنه إلى أن قارب مدينة الملك وتعرف بخمدان (٣) فهرب الملك

__________________

(١) سبق ذكره. وفي مروج الذهب ١ : ١٣٨ يانشو.

(٢) الشطار : هنا هم اللصوص وقطاع الطرق ، وفي اللغة (الشاطر) من أعيى أهله ومؤدبه خبثا ومكرا ، وهو مأخوذ من شطر عنهم اذا نزح مراغما ، انظر (تاج العروس) ٣ : ٢٩٩.

(٣) خمدان : من بلاد الصين وقصبتها (خمدان) العظمى وهي على شاطئ نهر (خمدان) الغربي يحيط بها جزيرة مخالطه بنهر منه يكون سعته ثلاثة أيام في مثلها ، وعلى النهر جسور من جهات يعبر العابر عليها الى (خمدان) «نخبة الدهر : ١٦٨».

٥٤

منه إلى مدينة بمذو متاخمة لبلاد التبت فأقام بها ، ودامت أيام هذا النابغ وعظم شأنه ، وكان قصده ووكده خراب المدن وقتل أهلها إذ لم يكن من بيت ملك ومن يطمع في اتّساق الأمر له ، فبلغ من ذلك مبلغا فسد به أمر الصّين إلى وقتنا هذا ، ولم تزل تلك حال هذا النابغ الى أن كتب ملك الصين الى ملك التغزغز من بلاد الترك وبينهم مجاورة ومصاهرة ووجّه إليه رسلا يسأله كشف هذا الرجل عنه فأنفد ملك التغزغز ابنا له إلى هذا النابغ (١) في عدد كثير وجموع وافرة فأزاله بعد حروب متصلة ووقائع عظيمة ، فزعم قوم انه قتل ، وزعم آخرون انّه مات ، وعاد ملك الصّين إلى بلده المعروف بخمدان وقد أخربه عليه وعلى سبيل ضعف في نفسه ونقص في أمواله وهلاك قوّاده وصناديد رجاله وكفاته ، وغلب مع ذلك على كل ناحية متغلب منع من أموالها وتمسّك بما في يده منها ، فدعت ملك الصّين الضرورة لقصور يده إلى قبول العفو منهم بإظهار الطاعة والدعاء له دون السمع والطاعة في الأموال ، وما كان من الملوك ينفذ فيه ، فصارت بلاد الصّين على سبيل ما جرت عليه أحوال الأكاسرة عند قتل الاسكندر لدارا (٢) الكبير وقسّمته أرض فارس على ملوك الطوائف ، وصار بعضهم يعضد بعضا للمغالبة بغير أذن الملك ولا أمره ، فاذا أناخ القوىّ منهم على الضعيف تغلّب على بلاده واجتاح ما فيه وأكل ناسه كلهم ، وذلك مباح لهم في شريعتهم لأنهم يتبايعون لحوم الناس في اسواقهم ، وامتدت أيديهم مع ذلك الى ظلم من قصدهم من التجار.

__________________

(١) انظر خبر هذا الناجم بتوسع في مروج الذهب للمسعود ١ : ١٣٨

(٢) دارا : هو دار ابن بهمن أحد ملوك الفرس انظر أخباره في (التنبيه والإشراف) للمسعودي : ٩٤

٥٥

ولما حدث هذا فيهم التأم اليه ظهور الظلم والتعدى في نواخذة (١) العرب وأرباب المراكب فألزموا التجار ما لا يجب عليهم وغلبوهم على أموالهم واستجازوا ما لم يجر الرسم به قديما في شيء من أفعالهم ، فنزع الله جلّ ذكره البركات منهم جميعا ومنع البحر جانبه ووقع الفناء بالمقدار الجاري من المدبّر تبارك اسمه في الربابنة (٢) والادلاء (٣) بسيراف وعمان.

[بعض من أحكام أهل الصين في الجنايات]

وذكر في الكتاب طرف من سنن أهل الصّين ولم يذكره غيره وهو سبيل المحصن والمحصنة عندهم اذا زنيا القتل ، وكذلك اللص والقاتل ، وسبيلهم في القتل ، أن تشدّ يدا من يريدون قتله شدا وثيقا ، ثم تطرح يداه في رأسه حتى يصيرا على عنقه ، ثم تدخل رجله اليمنى فيما ينفذ من يده اليمنى ، ورجله اليسرى فيما ينفذ من يده اليسرى ، فتصير قدماه جميعا من ورائه ويتقبض ويبقى كالكرة لا حيلة له في نفسه ويستغني عن ممسك يمسكه ، وعند ذلك تزول عنقه عن مركبها وتتزايل خرزات ظهره عن بطنها وتختلف وركاه ويتداخل بعضه في بعض ويضيق نفسه ويصير في حال لو ترك على ما هو به بعض ساعة لتلف ، فإذا بلغ منه ضرب بخشبة لهم معروفة على مقاتله ضربات معروفة لا

__________________

(١) نواخذة : جمع ناخوذاه : و (الناخذاه) : هو رئيس السفن مأخوذ من ناخذا ، وهو مركب من (ناوا) أي سفينة ومن (خدا) أي صاحب واللفظة من الفارسية انظر أدى شير : (الألفاظ الفارسية المعربة) : ١٥٠.

(٢) الربابنة : مفرده ربّان وهو متولي السفينة ومن يجريها والجمع أيضا ربابين ، وقال الأزهري وأظنه دخيلا انظر (تاج العروس) ٩ : ٢١١ ط مصر

(٣) الأدلاء هو المرشدون للسفن.

٥٦

تتجاوز فليس دون نفسه شيء ، ثم يدفع إلى من يأكله.

[ديوان الزواني]

وفيهم نساء لا يردن الإحصان ويرغبن في الزنا ، وسبيل هذه أن تحضر مجلس صاحب الشرط فتذكر زهدها في الاحصان ورغبتها في الدخول في جملة الزواني ، وتسأل حملها على الرسم في مثلها ، ومن رسمهم فيمن أراد ذلك من النساء أن تكتب نسبها وحليتها وموضع منزلها وتثبت في ديوان الزواني ، وتجعل في عنقها خيط فيه خاتم من نحاس مطبوع بخاتم الملك ويدفع اليها منشور يذكر فيه دخولها في جملة الزواني وأن عليها لبيت المال في كل سنة كذا وكذا فلسا ، وإنّ من تزوّجها فعليه القتل ، فتؤدي في كلّ سنة ما عليها ويزول الانكار عنها.

فهذه الطبقة من النساء يرحن بالعشيات عليهنّ ألوان الثياب من غير استتار فيصرن إلى من طرا إلى تلك البلاد من الغرباء من أهل الفسق والفساد وأهل الصّين ، فيقمن عندهم وينصرفن بالغدوات ، ونحن نحمد الله على ما طهّرنا به من هذه الفتن.

[معاملات أهل الصين بالفلوس والتجارة]

وأما تعاملهم بالفلوس ، فالسبب فيه انكارهم على المتعاملين بالدنانير والدراهم : أنّ لصّا لو دخل منزل رجل من العرب المتعاملين بالدنانير والدراهم لتهيأ له حمل عشرة آلاف دينار ومثلها من الورق على عنقه ، فيكون فيها عطب صاحب المال ، وأنّ لصّا لو دخل إلى رجل منهم لم يحمل أكثر من عشرة آلاف فلس ، وإنما ذلك عشرة مثاقيل ذهب.

٥٧

[فلوس أهل الصين]

وهذه الفلوس معمولة من نحاس وأخلاط من غيره معجونه به ، والفلس منها في قدر الدرهم البغلي (١) ، وفي وسطه ثقب واسع ليفرد الخيط فيه ، وقيمة كل ألف فلس منها مثقال من ذهب ، وينظم الخيط منها ألف فلس على رأس كلّ مائة عقدة ، فإذا ابتاع المبتاع ضياعا أو متاعا أو بقلا فما فوقه دفع من هذه الفلوس على قدر الثمن ، وهى موجوده بسيراف وعليها نقش بكتابتهم.

[طريقة أهل الصين في بناء بيوتهم]

وأمّا الحريق ببلاد الصّين والبناء وما ذكر فيه فالبلد مبنّى على ما قيل من خشب ومن قنا مشبّك على مثال الشقاق القصب ، عندنا ويليّط بالطين وبعلاج لهم يتخذونه من حب الشهدانج (١٢٨) (٢) فيصير في بياض اللبن ، وتدهن به الجدر فيشرق اشراقا عجيبا ، وليس لبيوتهم عتب (١٢٩) (٣) لأن أملاكهم وذخائرهم وما تحويه أيديهم في صناديق مركبة على عجل تدور بها ، فإذا وقع الحريق دفعت تلك الصناديق بما فيها فلم يمنعها العتب من سرعة النفوذ.

[خدم ملوك الصين وخصيانهم]

وأما أمر الخدم فذكر مجملا وانما هم ولاة الخراج وأبواب المال ، فمنهم من قد سبى من الأطراف فخصى ، ومنهم من يخصيه

__________________

(١) الدرهم البغلي : ينسب كما يقال الي البغل وكان يهوديا يقوم على سك النقود في زمن بني أميه.

(٢) الشهدانج : هو القنب وهو حب مستطيل يتخذ من شجرة معروفة (المعتمد : ٢٧٦)

(٣) عتب جمع عتبه. عتبة الدار

٥٨

والده من أهل الصّين ويهديه إلى الملك تقرّبا به إليه ، فأمور الملك في خاصّته وخزائنه ومن يتوجه إلى مدينة خانفو التي يقصد اليها تجار العرب هم الخدم ، ومن سننهم في ركوب هؤلاء الخدم وملوك سائر المدن إذا ركبوا : أن يتقدمهم رجال بخشب تشبه النواقيس يضربون بها ، فيسمع من بعد فلا يقف أحد من الرعية في شيء من ذلك الطريق الذي يريد الخادم أو الملك أن يمرّ فيه ، ومن كان على باب دار دخلها وأغلق الباب دونه ، حتّى يكون اجتياز الخادم أو الملك المملك على تلك المدينة ، وليس في طريقه أحد من العامّة ترهيبا وتجبرا ، ولئلا يكثر نظر العامة إليهم ولا يمتدّ لسان آحد إلى الكلام معهم. (١)

[حذق أهل الصين في صناعة الحريري وغيرها]

ولباس خدمهم ووجوه قوّادهم فاخر الحرير الذي لا يحمل مثله إلى بلاد العرب عندهم ومبالغتهم في أثمانه.

وذكر رجل من وجوه التجار ومن لا يشكّ في خبره : أنّه صار إلى خصىّ كان الملك أنفذه إلى مدينة خانفو لتخيّر ما يحتاج إليه من الأمتعة الواردة من بلاد العرب ، فرأى على صدره خالا يشفّ من تحت ثياب حرير كانت عليه ، فقدّر أنّه قد ضاعف بين ثوبين منها فلما ألحّ في النّظر ، قال له الخصى : أراك تديم النظر إلي صدري فلم ذلك ، فقال له الرجل : عجبت من خال يشفّ من تحت هذه الثياب ، فضحك الخصىّ ثم طرح كمّ قميصه إلى الرجل ، وقال له : أعدد ما علىّ منها ، فوجدها خمسة أقبية بعضها فوق بعض والخال يشفّ من تحتها.

والذي هذه صفته من الحرير خام غير مقصور ، والذي يلبسه

__________________

(١) ملوكهم أرفع من هذا وأعجب.

٥٩

[حذق أهل الصين في دقيق الصناعات](١)

وأهل الصين من احذق خلق الله كفّا بنقش وصناعة وكلّ عمل لا يقدمهم فيه أحد من سائر الأمم ، والرجل منهم يصنع بيده ما يقدّر أنّ غيره يعجز عنه ، فيقصد به باب الملك يلتمس الجزاء على لطيف ما ابتدع ، فيأمر الملك بنصبه على بابه من وقته ذلك إلى سنة ، فان لم يخرج أحد فيه عيبا جازاه وأدخله في جملة صنّاعه ، وان أخرج فيه عيب اطّرحه ولم يجازه.

وأن رجلا منهم صوّر سنبلة عليها عصفور في ثوب حرير لا يشكّ الناظر إليها أنها سنبلة وأن عصفورا عليها ، فبقيت مدّة وانّه اجتاز بها رجل أحدب فعابها ، فأدخل إلى ملك ذلك البلد وحضر صانعها فسأل الأحدب عن العيب ، فقال : المتعارف عند النّاس جميعا انّه لا يقع عصفور على سنبلة إلّا أمالها ، وأن هذا المصوّر صوّر السنبلة قائمة لا ميل لها ، وأثبت العصفور فوقها منتصبا فأخطأ فصدّق ولم يثبت الملك صانعها بشيء ، وقصدهم في هذا وشبهه رياضة من يعمل هذه الأشياء ليضطرهم ذلك إلى شدّة الاحتراز وإعمال الفكر فيما يصنع كل منهم بيده.

[قصة ابن وهب القرشي وما وقع له مع ملك الصين](٢)

وقد كان بالبصرة رجل من قريش يعرف بابن وهب من ولد هبّار (٣) بن الاسود ، خرج منها عند خرابها فوقع إلى سيراف ، وكان فيها مركب يريد بلاد الصّين فنزعت به همّته بالمقدار الجاري على

__________________

(١) أنظر هذا النص في مروج الذهب ١ : ١٤٦

(٢) أنظر هذه القصة بتوسع في مروج الذهب ١ : ١٤٢

(٣) هو هبّار بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزي القرشي شاعر من الصحابة وكان له قدر في الجاهلية وهو جد الهباريين ملوك السند (الأعلام ٨ : ٧٠).

٦٠