شرح أبيات سيبويه - ج ٢

أبي محمّد يوسف بن أبي سعيد السيرافي

شرح أبيات سيبويه - ج ٢

المؤلف:

أبي محمّد يوسف بن أبي سعيد السيرافي


المحقق: الدكتور محمّد علي سلطاني
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار العصماء
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٣
الجزء ١ الجزء ٢

[تسكين المتحرك للضرورة]

٥٦٦ ـ قال سيبويه (٢ / ٢٥٩) قال الأخطل :

(إذا غاب عنا غاب عنا فراتنا

وإن شهد أجدى فضله ونوافله) (١)

يمدح بذلك بشر بن مروان بن الحكم ، يقول : غيبته عنا وبعده كغيبة الماء الفرات عنا. يعني أن حاجتهم إليه كحاجتهم إلى الماء الفرات ، وإن حضر أجدى فضله ، أي أغناهم بما يتفضل به عليهم ، ونوافله : زياداته في العطاء الذي يعطيه.

ويروى :

إذا غاب عنا غاب عنا ربيعنا

أي هو بمنزلة الربيع الذي يحيا به الناس.

ويروى :

أجدى فيضه وجداوله

يريد ما يفيض من عطائه ، والجداول : الأنهار. شبه اتصال جوده وذهابه في كل وجه بالأنهار التي تتشعب فتذهب في كل وجه.

__________________

(١) ديوان الأخطل ص ٦٤ من قصيدة له يمدح بشر بن مروان ، وفيه : (وإن شهد) بفتح فسكون أراد شهد فخفف لاستقامة الشعر ، وعند سيبويه (شهد) مثل نعم وبئس ، إتباعا لحركة العين قبل السكون. ويبدو الإبقاء على الأصل بفتح الشين أقرب ، وإنما سكن الهاء للضرورة.

وروي البيت للأخطل في المخصص ١٤ / ٢٢٢

ـ وقد ورد الشاهد في : النحاس ١٠٥ / ب والأعلم ٢ / ٢٥٩

٣٤١

[تشبيه الكاف بالهاء (من أحلامكم)]

٥٦٧ ـ قال سيبويه (٢ / ٢٩٤) في باب ما تكسر فيه الهاء من علامات الإضمار :

«وقال أناس من بكر بن وائل : (من أحلامكم) و (بكم) شبهها بالهاء لأنها علم إضمار قد وقعت بعد الكسرة ، فأتبع الكسرة الكسرة (١) حيث كانت حرف إضمار ، وكان أخف عليهم من أن يضم بعد أن يكسر. وهذه لغة رديئة جدا ، وسمعنا أهل هذه اللغة ينشدون للحطيئة» :

(وإن قال مولاهم ـ على جلّ حادث

من الدهر:ردّو افضل أحلامكم ردّوا) (٢)

يمدح بني لأي بن شماس ، ومولاهم : ابن عمهم وحليفهم ، وجل الشيء : معظمه. يقول : هؤلاء القوم إذا جنى ابن عمهم ـ أو حليفهم أو جارهم عليهم وخشي عقابهم ـ سألهم أن يحملوا عنه فأجابوه. وردّوا فضل أحلامكم : أي ردوا على جنايتي حلمكم الواسع ، فإن أحلامكم واسعة لغفران ذنوب من جنى عليكم.

[تقييد القافية بحذف الضمير عند الوقف]

٥٦٨ ـ قال سيبويه (٢ / ٣٠٢) في باب القوافي ، قال ضرار بن الأزور الأسدي :

__________________

(١) (الكسرة) الثانية تتمة من الكتاب ، ليست في الأصل والمطبوع. وثمة اختلافات أخرى ، طفيفة لا فائدة بذكرها.

(٢) ديوان الحطيئة ص ٢٠ وروي له في : ديوان مختارات شعراء العرب ص ١٢٤

ـ وقد ورد الشاهد في : المقتضب ١ / ٢٧٠ والأعلم ٢ / ٢٩٤ وذكر المبرد أن هذا خطأ مردود.

٣٤٢

(وأعلم علم الحق أن قد غويتم

بني أسد ، فاستأخروا أو تقدم)

بني أسد قد ساءني ما صنعتم

وليس لقوم حاربوا الله محرم (١)

الشاهد (٢) فيه أنه حذف الواو التي هي وصل ـ وهي ضمير ـ حين وقف.

والذي عندي في معناه : أن ضرارا قرّع قومه على ما صنعوا في أمر الردة ، وكان ضرار في جملة جيش خالد بن الوليد حين نهض لقتال أهل الردة. يقول : من خالف ما أمره الله عز وجل به ، لم يحرم دمه وماله ، ولم يكن له حرمة في شيء من أمره.

[حذف الياء من آخر الفواصل والقوافي عند الوقف]

٥٦٩ ـ قال سيبويه (٢ / ٢٨٩) في باب ما يحذف في أواخر الأسماء [في الوقف](٣) من الياءات :

«وجميع ما لا يحذف في الكلام وما يختار فيه أن لا يحذف ـ يحذف في الفواصل والقوافي ، فالفواصل قول الله تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ)(٤) و (ذلِكَ

__________________

(١) أورد سيبويه أولهما بلا نسبة ، والبيتان لضرار في الخزانة ٢ / ٥ من قصيدة قالها وقد بلغه ارتداد قومه من بني أسد. وجاءت القوافي مطلقة الروي. والبيتان مطلع القصيدة بتقديم الثاني.

(٢) ورد الشاهد عند الأعلم ١ / ٣٠٢ مشيرا إلى أن هذا الحذف للضمير قبيح. كما ذكر سيبويه أن أهل الحجاز يدعون القوافي على حالها في الترنم ، ليفرقوا بينه وبين الكلام الذي لم يوضع للغناء.

(٣) تتمة من الكتاب ، ليست في الأصل والمطبوع.

(٤) سورة الفجر ٨٩ / ٤

٣٤٣

ما كُنَّا نَبْغِ)(١) و (يَوْمَ التَّنادِ)(٢) والأسماء أجدر / أن تحذف ، إذ كان الحذف فيها في غير الفواصل والقوافي».

أراد سيبويه أن الفواصل والقوافي ، يحذف فيها من الياءات ما لا يحذف في غير الفواصل والقوافي ، وذلك أن ما فيه الياء من الأفعال نحو (يرمي ويقضي) لا تحذف منه الياء إلا في آخر آية أو في آخر بيت ، فهذا الذي لا يحذف في الكلام. وما يختار فيه أن لا يحذف هو ما فيه الألف واللام من هذه الأسماء التي في أواخرها الياء نحو (الرامي والغازي) وما أشبههما ، لا تحذف منها الياء إلا في آخر آية أو في آخر بيت.

وقوله : «والأسماء أجدر أن تحذف ، إذ كان الحذف فيها في غير الفواصل والقوافي».

يقول : الأسماء التي فيها الألف واللام أجدر أن تحذف من أواخرها الياءات ، إذ كانت الياءات فيها قد تحذف قبل دخول الألف واللام عليها في الوقف ، في غير الفواصل والقوافي. نحو (هذا قاض ، ومررت برام) والفعل المعتل من هذا الباب ، ليس له مكان تحذف فيه الياء في غير الفواصل والقوافي ، فكان حذف الياء مما فيه الألف واللام أحسن من حذفها من الفعل.

وقال زهير :

(وأراك تفري ما خلقت وبع ..

ض القوم يخلق ثم لا يفر) (٣)

__________________

(١) سورة الكهف ١٨ / ٦٤

(٢) سورة غافر ٤٠ / ٣٢

(٣) البيت في : شعر زهير ص ١١٥ من قصيدة في مدح هرم بن سنان. وفيه :

٣٤٤

ويروى : ولأنت تفري.

الخلق في هذا الموضع : التقدير للشيء قبل أن يقطع ، وقد يكون الفري القطع ، وزعموا أن الفري هو القطع على جهة الإصلاح ، والإفراء : القطع على أي وجه كان.

يمدح بذلك هرم بن سنان المرّيّ ، يقول له : أنت إذا قدّرت أن تصنع أمرا أو هممت به ، مضيت ولم تتوقف ، لجرأتك وشجاعتك وجودة رأيك ، ولم يحبسك عنه جبن ولا هيبة.

وفي كلام الحجاج لأهل العراق وتوعّده لهم : «إني لا أهمّ إلا مضيت ، ولا أخلق إلا فريت» (١). يريد أنه إذا قدّر أمرا ، مضى له ، ولم يحبسه عن فعله عجز ولا هيبة.

ومثله قول الآخر :

ماض على الهمّ مقدام الوغى بطل (٢)

والشاهد (٣) في البيت حذف الياء من (يفري) لأجل القافية.

__________________

(فلأنت تفري .. ثم لا يفري) بإطلاق الروي ، وكذلك في : شرح ديوان زهير ص ٩٤ وفيه (ولأنت .. ثم لا يفري). وروي البيت للشاعر في : المخصص ٤ / ١١١ واللسان (خلق) ١١ / ٣٧٥ و (فرا) ٢٠ / ١١

(١) أورد الجاحظ الخطبة في البيان والتبيين ٢ / ٣٠٩ والكامل للمبرد ١ / ٣٨٢ وفي كليهما (ولا أهم إلا أمضيت) وهي أوسع من (مضيت).

(٢) لم أجد البيت ولم أعرف قائله في المصادر لدي.

(٣) ورد الشاهد في : سيبويه أيضا ٢ / ٣٠٠ والنحاس ١٠٧ / أوالأعلم ٢ / ٢٨٩ والكوفي ٢٧٣ / ب

٣٤٥

[حذف ياء المتكلم مع الكسرة قبلها ـ ضرورة]

٥٧٠ ـ قال سيبويه (٢٨٩ ـ ٢٩٠) في : ما يحذف من الأسماء من الياءات في الوقف (١). ثم أنشد للأعشى من قصيدة بيتين متباعدين ، وجمع بينهما في الإنشاد لأجل أن في آخر كل واحد منهما شاهدا على ما ذكر من الحذف (٢). قال الأعشى :

وما إن أرى الموت في صرفه

يغادر من شارخ أو يفن

(فهل يمنعنّي ارتيادي البلا ..

د من حذر الموت أن يأتين) (٣)

الشارخ : الصغير السن الحدث ، واليفن : الكبير ، ويغادر : يترك. يقول : الموت لا يترك أحدا لا صغيرا ولا كبيرا. وصرفه : تصرفه وتقلبه ، وارتياده : ذهابه ومجيئه وطوفه في البلاد ، يقال منه : راد يرود إذا ذهب وجاء ، وارتاد يرتاد.

يقول : هل يمنعني تطوّفي في البلاد ، وتنقلي من موضع إلى موضع من حذر الموت ، أن يأتيني الموت؟ أخرجه مخرج الاستفهام ، وما كان من ألفاظ الاستفهام في تقرير وتوبيخ ، فإنما يأتي بألف الاستفهام ، وقد استعمله الأعشى ب (هل) ، و (أن يأتيني) منصوب مفعول (يمنعني).

__________________

(١) وتتمة عنوان الباب في الكتاب : (التي لا تذهب في الوصل ، ولا يلحقها تنوين ، وتركها في الوقف أقيس وأكثر ..) ،

(٢) أراد أنّ سيبويه جمع بين البيت الثاني من هذين البيتين ـ وترتيبه الخامس في القصيدة ـ وبين البيت الثاني من البيتين الآتيين للأعشى ، وترتيبه الثلاثون في القصيدة نفسها إذ لا شاهد في القافيتين (يفن وشزن) في هذا الباب.

(٣) ديوان الأعشى ق ٢ / ٤ ـ ٥ ص ١٥ من قصيدة طويلة في مدح قيس بن معديكرب الزبيدي وجاء في صدر الأول (الدهر) بدل الموت. وروي الأول للأعشى في اللسان (يفن) ١٧ / ٣٤٩

٣٤٦

يقول : هل يمنع مني الموت أن ينزل بي ـ طوفي في البلاد. ثم قال :

تيمّم قيسا وكم دونه

من الأرض من مهمه ذى شزن

(ومن شانىء كاسف وجهه

إذا ما انتسبت له أنكرن) (١)

يمدح قيس (٢) بن معديكرب الكندي ، تيمم : تقصد. وفي (تيمم) ضمير يعود إلى / راحلته ، وكم دونه : يريدكم دون بلاده من مهمه ، والمهمه : الأرض القفر البعيدة الأطراف ، والشزن : الغلظ من الأرض ، يقال أرض شزنة إذا كانت صعبة المسلك ، والشانىء : المبغض ، يقال منه شنأ يشنأ ، والكاسف : المتغير العابس ، يقال كسف وجهه يكسف.

وقوله : إذا ما انتسبت له أنكرن ، للعداوة التي بينهما.

وأراد الأعشى بما وصفه أن يعدد على قيس ما لقي من الأهوال والشدائد في طريقه حتى وصل إليه.

والشاهد (٣) في حذف ياء المتكلم والكسرة التي قبلها في (أنكرن) وفي (يأتين).

__________________

(١) ديوان الأعشى ق ٢ / ٢٩ ـ ٣٠ ص ١٩ من القصيدة المذكورة قبل. وجاء في صدر الأول (تيممت قيسا ..) وتبدو مرجوحة لأن الحديث قبله كان عن ناقته.

وروي أولهما للشاعر في اللسان (أمم) ١٤ / ٢٨٨ و (شزن) ١٧ / ١٠١ والثاني له في : أمالي القالي ٢ / ٢٦٣

(٢) ملك جاهلي يماني يكنى أبا الأشعث ، ولده الأشعث المشهور في العصر الإسلامي الأول (تقدمت ترجمته) وأخبار قيس في : الوصايا للسجستاني ١٢٥ والبيان والتبيين ١ / ١٨ والخزانة ١ / ٥٤٥ ورغبة الآمل ٤ / ٧٠

(٣) ورد الشاهد في : النحاس ١٠٧ / أوالأعلم ٢ / ٢٩٠ وما منّ به الرحمن ٧٦ والكوفي ٢٧٥ / أوالأشموني ٢ / ٤٩٥

٣٤٧

[إثبات الواو في الروي المضموم]

٥٧١ ـ قال سيبويه (٢ / ٢٩٨) : في باب القوافي : «وقال في الرفع للأعشى :

(هريرة ودّعها وإن لام لائمو

غداة غد أم أنت للبين واجمو) (١)

يريد أنهم وقفوا على آخر البيت بواو ثابتة في اللفظ ، فهذا ما وقفوا عليه بحرف مد مما كان منونا في الكلام.

و (هريرة) منصوب بإضمار فعل تفسيره هذا الظاهر ، ولم يجز أن يكون نصبه بالظاهر لاشتغال الظاهر بالعمل في ضميرها ، واختير فيها النصب بإضمار فعل ، لأن معنى الكلام الأمر ، والأمر لا يكون إلا بفعل ، فاختير في الجملة التي هي أمر أن يكون فعل الأمر مبدوءا به في اللفظ.

وإن تأخر واشتغل بضمير الاسم المتقدم ، قدر فعل مثله في أول الكلام ، نحو قولك : اضرب زيدا ، وزيدا اضربه. تريد : اضرب زيدا اضربه.

والواجم : الحزين الساكت ، يريد أنه شغله حزنه بفراقها حتى بقي واجما متحيرا ، لا يمكنه أن يودعها لما قد أصابه. و (أم) في هذا الموضع فيها معنى الإضراب. كأنه قال : بل أنت للبين واجم.

وقال جرير فيما لا ينون :

__________________

(١) ديوان الأعشى ق ٩ / ١ ص ٧٧ من قصيدة قالها يهجو يزيد بن مسهر الشيباني ، غير أن الروي بالضم فحسب لا بالواو.

ـ وقد ورد الشاهد عند الأعلم ٢ / ٢٩٨

٣٤٨

(أقلّي اللوم عاذل والعتابا

وقولي إن أصبت لقد أصابا) (١)

أراد : يا عاذلة فرخّم. يقول أقلّي لومي يا عاذلة ، ودعيني وتأملي ما أفعله فإذا كنت مصيبا فصوّبيني ، ولا تعذلي على شيء ما عرفته ولا تبينته ، حتى تخبري فتقولي ما تقولينه على علم.

وقال جرير :

(متى كان الخيام بذي طلوح!

سقيت الغيث أيتها الخيامو) (٢)

__________________

(١) ديوان جرير ص ٦٤ وهو مطلع قصيدة قالها يهجو الراعي النميري. والرواية متفقة والقافية مطلقة بالألف. كما ورد البيت لجرير في : القوافي ٧٨ والأغاني في خبر ٨ / ٣٢ وبلا نسبة في اللسان (روي) ١٩ / ٦٨

ـ وقد ورد الشاهد في : سيبويه أيضا ٢ / ٢٩٩ والمقتضب ١ / ٢٤٠ والنحاس ١٠٧ / ب وتفسير عيون سيبويه ٨ / ب والأعلم ٢ / ٢٩٨ والإنصاف ٢ / ٣٤٨ والكوفي ١٦٧ / أو ١٦٩ / أو ٢٧٢ / ب و ٢٨١ / أوالمغني ش ٥٦٧ ج ٢ / ٣٤٢ وأوضح المسالك ش ١ ج ١ / ١٤ وابن عقيل ش ١ ج ١ / ١٦ والعيني ١ / ٩١ وشرح السيوطي ش ٥٥١ ص ٧٦٢ والأشموني ١ / ١٢ و ٣ / ٧٦١ والخزانة ١ / ٣٤ و ٤ / ٥٥٤ وقد ذكر الأخفش أن كل ياء وألف وواو تحذف في الوقف لا تكون رويا أبدا ، وذلك لأنهن مزيدات على ما قبلهن لتمام الشعر. وروي البيت بالتقييد (.. والعتاب .. لقد أصاب) وبما أن الشعر للغناء والترنم والحداء فقد زيدت عليه حروف المد لإجراء الصوت.

كما أشار الكوفي ١٦٩ / أإلى أن الحجازيين يترنمون بالألف وتجعل نونا في إنشاد بني تميم (.. والعتابن .. لقد أصابن) وذلك لأن النون الخفيفة تشبه التنوين ، والفتح يشبه النصب وأنت إذا وقفت على المنصوب المنون وقفت بالألف.

(٢) البيت مطلع قصيدة لجرير في ديوانه ص ٥١٢ وروي بلا نسبة في القوافي ١٠٦ واللسان (روي) ١٩ / ٦٨

٣٤٩

طلوح (١) موضع في بلاد بني يربوع ، والخيام : شبه البيوت تعمل من الشجر وإنما كانوا يعملونها إذا ارتبعوا ، فإذا انقضى ربيعهم ، وعادت كل قبيلة إلى دارها وموضعها تركوا الخيام كما هي ، فإذا مرّ بمرتبعهم راكب قد رآهم فيه ـ وقد كان رأى فيهم من يهواه ، فإذا اجتاز بالموضع الذي ارتبعوا فيه بعد رحيلهم ، ورأى الخيام وآثارهم ـ تذكرهم وحنّ إلى لقائهم. فلهذا تذكر الخيام في المواضع التي كان فيها الناس وارتحلوا عنها.

وأخبرنا أبو (٢) بكر بن مقسم قال : أخبرنا أبو العباس ثعلب (٣) قال : قال لي يعقوب (٤) : قال لي ابن (٥) الكلبي : بيوت العرب ستة : قبة من أدم ، ومظلة من شعر ، وخباء من صوف ، وبجاد من وبر ، وخيمة من شجر ، وأقنّة من حجر.

__________________

(١) اسمه ذو طلوح ، واد لبني يربوع. انظر البكري ٤٥٤

(٢) هو محمد بن الحسن بن يعقوب العطار ، من أهل بغداد ، عالم بالقراءات والنحو الكوفي ، عيب عليه قراءته بحروف تخالف الإجماع ، له كتب في للتفسير والنحو والرد على المعتزلة. (حياته ٢٦٥ ـ ٣٥٤ ه‍) ترجمته في بغية الوعاة ١ / ٨٩

(٣) اسمه أحمد بن يحيى بن يسار الشيباني بالولاء ، إمام الكوفيين في النحو واللغة ، عاش ببغداد (ت ٢٩١ ه‍) من كتبه : معاني القرآن ، القراءات ، الفصيح وغيرها. ترجمته في بغية الوعاة ١ / ٣٩٦

(٤) هو ابن السكيت على الأرجح ، واسمه يعقوب بن إسحاق ، أبو يوسف. كان عالما بنحو الكوفيين وعلم القرآن واللغة والشعر ، له كتب كثيرة في النحو وتفسير دواوين العرب.

قتله المتوكل سنة ٢٤٤ ه‍. ترجمته في بغية الوعاة ٢ / ٣٤٩

(٥) هو المؤرخ النسابة هشام بن محمد بن السائب ، أبو المنذر ، عالم بأيام العرب وأخبارها ، من أهل الكوفة ، كان غزير التأليف. من كتبه : أنساب الخيل في الجاهلية والإسلام ، والأصنام. (ت ٢٠٤ ه‍). ترجمته في : البيان والتبيين ١ / ١٣١ و ٣٦١ ومقدمة (الأصنام) لأحمد زكي.

٣٥٠

وقوله : سقيت الغيث : المعنى أنه دعا لها أن يمطر الموضع الذي هي فيه حتى يخرج نباته ، فإذا صار فيه نبت نزله الناس في وقت الربيع.

والشاهد (١) فيه إثبات الواو في آخره في الوقف.

قال سيبويه (٢ / ٢٩٩) : «وأما ناس كثير من بني تميم ، فإنهم يبدلون مكان المدة النون فيما ينون وما لا ينون لمّا لم يريدوا الترنم ، / أبدلوا مكان المدة نونا ولفظوا بتمام البناء وما هو منه ، كما فعل أهل الحجاز ذلك بحروف المد». قال العجاج :

ما هاج أحزانا وشجوا قد شجن؟

(من طلل كالأتحميّ أنهجن) (٢)

(ما) استفهام يعني : أي شيء هاج عليّ حزني؟ والشجو : الحزن. يقال : شجاني يشجوني شجوا إذا أحزنني ، والطلل : ما شخص من آثار الديار ، و (من طلل) في صلة (هاج) ، والأتحميّ : ضرب من البرود فيه سواد وحمرة ، وأنهج : أخلق. (كالأتحمي) وصف للطلل ، و (أنهج) يصلح أن يكون في موضع الحال بمعنى (منهجا)

__________________

(١) ورد الشاهد في : النحاس ١٠٧ / ب وتفسير عيون سيبويه ٩ / أوالأعلم ٢ / ٢٩٨ والمغني ش ٦٠٣ ج ٢ / ٣٦٨ وشرح السيوطي ش ١٣٩ ص ٣١١ وش ٥٨٥ ص ٧٨٥ والأشموني ٣ / ٧٦٢ والخزانة ٣ / ٦٧٢

(٢) البيتان للعجاج في ديوانه ق ٣٣ / ١ ـ ٢ ص ٣٤٨ من أرجوزة طويلة ومنها البيت الذي أورثه لقب العجاج ، وهماله في : مجموع أشعار العرب ق ٥ / ١ ـ ٢ ج ٢ / ٧ وانتهت القافية فيهما بألف الإطلاق. وهما كذلك للعجاج في أراجيز العرب ص ٧١ كما رويا للشاعر في أمالي القالي ١ / ٣٧ وثانيهما بلا نسبة في اللسان (بيع) ٩ / ٣٧٤

ـ وقد ورد الشاهد في : النحاس ١٠٧ / ب وشرح السيرافي (خ) ١ / ٢٨٤ والأعلم ٢ / ٢٩٩ وشرح السيوطي ش ٥٩٩ ص ٧٩٣

٣٥١

فإن قال قائل : الفعل الماضي عند سيبويه لا يكون حالا ، وأبو الحسن (١) يجعله في موضع الحال؟ قيل له : إذا دخل الفعل الماضي (قد) صلح أن يكون للحال ، لأن (قد) يكون للتوقع ، فإذا قيل : قد كان كذا .. فهو إخبار عن وقوع الشيء الذي كان يتوقع في الوقت الذي يليه الوقت الذي هو حال. وقد تحذف (قد) من الفعل وهي تراد.

ويجوز أن يكون (أنهج) وصفا للطلل ، يريد أن الطلل أنهج كما ينهج الثوب. يقول : أي شيء هاج عليّ حزني حين نظرت إلى الطلل؟ وهو استفهام في معنى التعجب من نظره إلى هذا الطلل.

وقال العجاج :

(يا صاح ما هاج العيون الذّرّفن)

من طلل أمسى تخال المصحفن

رسومه والمذهب المزخرفن (٢)

__________________

(١) هو الكسائي على الأرجح واسمه علي بن حمزة بن عبد الله. أسدي بالولاء ، فارسي الأصل ، إمام الكوفيين في النحو واللغة ، وأحد القراء السبعة. استوطن بغداد وأدب ولد الرشيد ، له مجالس ومناظرات (ت بالري ٢٨٩ ه‍) ترجمته في : البيان والتبيين ٢ / ٢٩٧ وبغية الوعاة ٢ / ١٦٢

(٢) الأبيات للعجاج في ديوانه ق ٤٤ / ١ ـ ٢ ـ ٣ ص ٤٨٨ برواية متفقة من أرجوزة طويلة قالها يمدح عبد العزيز بن مروان ، والأبيات للشاعر في : مجموع أشعار العرب ق ٣٥ / ١ ـ ٢ ـ ٣ ج ٢ / ٨٢ وجاء في الثاني (يحاكي) بدل تخال ، والأبيات فيهما مطلقة الروي بالألف. وهي كذلك للشاعر في أراجيز العرب ص ٤٨ وجاء في أولها (الدموع) بدل العيون.

ـ وقد ورد الشاهد ـ وهو وصل القافية بالنون للترنم ـ في : النحاس ١٠٧ / ب وتفسير عيون سيبويه ٨ / ب والأعلم ٢ / ٢٩٩ والأشموني ٣ / ٧٦٢

٣٥٢

الذّرّف : جمع ذارفة ، وهي التي يذرف دمعها يسيل ، ولم يرد أن الطلل هاج العيون التي تبكي ويسيل دمعها ، وإنما يريد أن الطلل هاج العيون التي كانت غير باكية فبكت ، وإنما صارت ذرفا لهيج الطلل ، فعبر عنها بما صارت إليه حالها.

ومثله :

والسبّ تخريق الأديم الألخن (١)

أراد أن السب تخريق الصحيح الذي إذا سب يصير ألخن.

ومثله للعجاج :

والشوق شاج للعيون الحذّل (٢)

والحذّل : التي قد فسدت ، وإنما شجاها وهي عيون صحاح ، فبكت فحذلت. و (المصحف) المفعول الأول ، و (رسومه) المفعول الثاني ، والمذهب : الجلد الذي عليه ذهب ، أو اللوح أو ما أشبه ذلك ، والمزخرف : المزين. شبه آثار الديار بمصحف وبجلد منقوش مذهب.

[حال الواو والياء في الوقف ـ رويا أو وصلا]

٥٧٢ ـ قال سيبويه (٢ / ٣٠١) : «وزعم الخليل أن ياء (يقضي) وواو (يغزو) إذا كانت واحدة منهما حرف الروي لم تحذف ، لأنها ليست بوصل حينئذ ، وهي حرف روي ، كما أن القاف في قوله ـ يريد قول رؤبة ـ :

(وقاتم الأعماق خاوي المخترق) (٣)

__________________

(١) انظرهما في حواشي الفقرة ١٥٧

(١) انظرهما في حواشي الفقرة ١٥٧

(٢) أورده سيبويه بلا نسبة ، والبيت لرؤبة في : مجموع أشعار العرب ق ٤٠ / ١ ج ٣ / ١٠٤ وأراجيز العرب ص ٢٢ مطلع أرجوزة في وصف المفازة. وروي للشاعر في

٣٥٣

[حرف](١) روي ، فكما لا تحذف [هذه](٢) القاف ، لا تحذف واحدة منهما».

يريد أن الياء والواو ، إنما يحذفان في الوقف ـ في أواخر الأبيات ـ إذا كانتا وصلا ، فإن كانتا رويا لم يجز حذفهما في الوقف ، وجرتا مجرى الحروف الصحاح نحو القاف في (المخترق) وغير ذلك.

والسبب في ثباتهما في مثل هذا ـ وأنه لا يجوز حذفهما ـ أنهما إذا كانتا رويا ، فما قبلهما من الحروف مختلف ، فإن اسقطتهما في الوقف اختلف أواخر البيت في القصيدة ، فصار آخر كل بيت في القصيدة يخالف ما قبله وما بعده. ومن ذلك قول الشاعر (٣) :

حلّأها عن شربها من الطّوي

كلّ غليظ الرّكن مضبوح شقي

لكن ربيع قد سقاها بسقي

قولي لها حرّ وإن عشت حري (٤)

__________________

اللسان (عمق) ١٢ / ١٤٣ وبلا نسبة في القوافي ٣١ واللسان (كأد) ٤ / ٣٧٦ و (قثم) ١٥ / ٣٥٩ و (وده) ١٧ / ٤٥٨ و (غلا) ١٩ / ٣٦٩

ـ وقد ورد الشاهد في : الإيضاح العضدي ٢٥٤ والأعلم ٢ / ٣٠١ والكوفي ٢٧٣ / أوالمغني ش ٥٦٩ ج ٢ / ٣٤٢ وابن عقيل ش ٣ ج ١ / ١٧ وشرح السيوطي ش ٥٧٨ ص ٧٨٢ وص ٧٦٤ والأشموني ١ / ١٢ والخزانة ١ / ٢٨ و ٤ / ٢٠١

(١) تتمات من الكتاب ، ليستا في الأصل أو المطبوع.

(١) تتمات من الكتاب ، ليستا في الأصل أو المطبوع.

(٢) لم أجد الأبيات في المصادر لدي ، ولم أعرف الشاعر.

(٣) رابع الأبيات غير واضح في الأصل. وجاء في المطبوع : قولي لأحر وإن عست حري ..

ـ حرّ : زجر للمعز.

٣٥٤

لو حذف الياء في هذا وأشباهه في الوقف ، لصارت أواخر الأبيات مختلفة تخرج عن حد الشعر. والقاتم : هو الأغبر ، أراد : ورب بلد قاتم الأعماق ، والأعماق : جمع عمق وهو البعد ، ويقال : بلد عميق ومعيق أي بعيد ، والخاوي : الخالي ، والمخترق : الموضع الذي يمرّ فيه. يريد أن الطرق في هذا الموضع خالية ، لأنها لا تسلك.

ـ قال سيبويه (٢ / ٣٠٠) : «وإذا ثبتت التي بمنزلة التنوين في القوافي» يريد أن الألف التي تبدل من التنوين في المنصوب ، تثبت / في الوقف في القوافي ـ «لم تكن التي هي لام أسوأ حالا».

يريد أن الألف التي هي من حروف الكلمة ، لا يجوز حذفها في القوافي إذا وقفت ، كقولك : مولى ويخشى وملهى .. وما أشبه ذلك يقول : إذا كانوا لا يحذفون الألف ـ التي هي بدل من التنوين في المنصوب ـ لم يحذفوا الألف التي هي من نفس الكلمة ، ثم قال : «ألا ترى أنه لا يجوز لك أن تقول :

لم يعلم لنا الناس مصرع (١)

في الوقف «فتحذف الألف لأن هذا لا يكون في الكلام ، فهو في القوافي لا يكون». ثم مضى في كلامه حتى انته إلى أن أنشد لرؤبة :

(داينت أروى والديون تقضى)

فمطلت بعضا وأدّت بعضا (٢)

__________________

(١) تقدم البيت في حواشي الفقرة (٥٦٣).

(٢) أورد سيبويه البيتين بلا نسبة وهما لرؤبة في : مجموع أشعار العرب ق ٢٩ / ١ ـ ٢ ج ٣ / ٧٩ وروي البيتان للشاعر في : اللسان (اضض) ٨ / ٣٨٣ و (دين) ١٧ / ٢٦ وهما بلا نسبة في المخصص ١٧ / ١٥٥ وأولهما بلا نسبة في : القوافي ص ١٠٦ واللسان (بيع) ٩ / ٣٧٤ و (روي) ١٩ / ٦٨

٣٥٥

وقال بعده : «فكما لا تحذف ألف (بعضا) لا تحذف ألف (تقضى)».

الشاهد (١) فيه أنه جعل الألف التي هي من الكلمة ، بمنزلة الألف التي هي بدل من التنوين. وقال : فكما لا تحذف التي هي بدل من التنوين ، كذلك لا تحذف التي هي من الكلمة.

وأروى : امرأة ، وقوله : داينت أروى ، يريد أنه أسلفها محبة و [وفاء](٢) يوجبان عليها المكافأة له ومجازاته ، فلم تجازه على جميع ما فعله ، فمطلت بعضه وامتنعت من دفعه إليه ، وهو يطالبها به ، وأعطته بعض ما كان التمس منها.

[جواز تسكين الروي الموصول بمد]

٥٧٣ ـ قال سيبويه (٢ / ٢٩٩) : «وأما الثالث (٣) : فأن يجروا القوافي مجراها لو كانت في الكلام ولم تكن قوافي شعر ، جعلوه كالكلام حيث لم يترنموا وتركوا المدة ، لعلمهم أنها في أصل البناء» يريد في أصل بناء البيت ، وأن وزنه لا يتم إلا بحرف المد. قال : «وسمعناهم يقولون :

أقليّ اللوم عاذل والعتاب (٤)

 .....

وقف على الباء ولم يتبعها ألفا. وقال الأخطل :

__________________

(١) ورد الشاهد عند الأعلم ٢ / ٣٠٠

(٢) تتمة يقتضيها السياق ، مطموسة في الأصل.

(٣) يذكر سيبويه ما ملخصه أنهم إذا أنشدوا ولم يترنموا فعلى ثلاثة أوجه : أولها أهل الحجاز إذ يدعون القوافي على حالها في الترنم ليفرقوا بينه وبين الكلام الذي لم يوضع للغناء ، وثانيها أن قوما من بني تميم يبدلون مكان المدة نونا ، وأما الثالث ..

(٤) تقدم البيت في الفقرة (٥٧١) وحاشيتها.

٣٥٦

(دع المغمّر لا تسأل بمصرعه

واسأل بمصقلة البكريّ ما فعل) (١)

يمدح الأخطل مصقلة (٢) بن هبيرة الشيباني. والمغمر : الضعيف الرأي الذي لم يجرب الأمور ، وقيل : إنه عرّض في قوله : المغمّر بالقعقاع (٣) بن شور الذهلي ، وقيل : إنه عرّض بمالك (٤) بن مسمع. وقوله : لا تسأل بمصرعه ، أي لا تسأل عن مصرعه ، واسأل عن خبر مصقلة وحاله ، فإنه أهل لأن يعنى بالمسألة عنه.

[جمع (فعل) على (أفعال) على غير القياس]

٥٧٤ ـ قال سيبويه (٢ / ١٧٦) في باب الجمع المكسّر : «والقياس

__________________

(١) ديوان الأخطل ص ١٤٣ من قصيدة قالها يمدح مصقلة بن هبيرة الشيباني. وروي البيت للأخطل في : المخصص ١٤ / ٦٥ واللسان (صلل) ١٣ / ٤٠٥

ـ وقد ورد الشاهد عند الأعلم ٢ / ٢٩٩

(٢) من بكر بن وائل ، كان من رجال علي ، ثم فر إلى معاوية فكان معه في صفين ثم ولاه طبرستان فهلك فيها مع أكثر جيشه حوالي ٥٠ ه‍ فضرب بعودته المثل : «حتى يرجع مصقلة من طبرستان». ترجمته في : عيون الأخبار ٣ / ٥٠ والمعارف ٤٠٣ وثمار القلوب ٤١ وجمهرة الأنساب ١٧٣ و ٣٢١ ومعجم الشعراء ٤٧٥

(٣) من بكر بن وائل ، له أخبار في مجالس معاوية ، اشتهر بالكرم وحسن المجاورة ترجمته في : البيان والتبيين ١ / ٤٧ وعيون الأخبار ١ / ٣٠٦ والكامل للمبرد ١ / ١٧٧ وثمار القلوب (جليس القعقاع) ١٢٨ وجمهرة الأنساب ٣١٩ ومعجم الشعراء ٣٣٠ ورغبة الآمل ٢ / ٢٠٥

(٤) سيد في بكر بن وائل ، أبو غسان ، ومن أقوالهم : ساد الأحنف بحلمه ، وساد مالك بن مسمع بمحبة العشيرة له (ت ٧٣ ه‍) ترجمته في : البيان والتبيين ١ / ٣٢٥ وحاشيتها وعيون الأخبار ١ / ٢٢٥ والمعارف ٤١٩ و ٥٨٧ والكامل للمبرد ١ / ٢٠٧ و ٢٢٩ و ٣ / ٣٠٦ وثمار القلوب ٣٧٧ و ٣٩٨ وجمهرة الأنساب ٣٢٠ والكامل لابن الأثير ٤ / ٢٩ وسرح العيون ١٩٤ و ٣٨٠ ورغبة الآمل ٢ / ٧٨ و ٣ / ٤٨

٣٥٧

في (فعل) ما ذكرنا ، وأما ما سوى ذلك فلا يعلم إلا بالسمع ، ثم تطلب النظائر كما أنك تطلب نظائر الأفعال هاهنا».

يريد أن جمع (فعل) في القلة (أفعل) وفي الكثرة (فعول وفعال) وذكر غير ذلك مما جاء جمع (فعل) عليه. فإن جاء له شيء خارج عن القياس حملت على نظيره مما جاء خارجا عن القياس. ثم قال :

«فتجعل نظير الأزناد قول الشاعر» قال الأعشى :

(إذا روّح الراعي اللّقاح مغرّبا

وراحت على آنافها غبراتها)

أهنّا لها أموالنا عند حقّها

وعزّت بها أعراضنا لانفاتها (١)

جعل سيبويه نظير (الأزناد) في الخروج عن القياس : الآناف. والقياس (٢) فيهما : أزند وآنف. ويروى : (على آفاقها غبراتها).

والمغرّب : الذي يرعى متباعدا عن الحي. يريد أن المغرب يروح إلى الحي ولا يقيم بمكانه ، لأنه يخشى على الإبل من شدة البرد لأنها مهازيل ، والمهازيل / يخشى عليها أن يؤذيها البرد.

والضمير في (آنافها) يعود إلى اللقاح. ومن روى (آفاقها) أراد آفاق السماء ، ولم يجر للسماء ذكر ، لأنه معلوم أنه يراد به ضمير السماء. ويروى (معجّلا)

__________________

(١) ديوان الأعشى ق ١٠ / ٣٥ ـ ٣٦ ص ٨٧ يهجو بها شيبان الجحدري أحد أبناء عمومته. وجاء في صدر الأول (معجلا) وفي عجزه (آفاقها). وروي البيت للشاعر في اللسان (أنف) ١٠ / ٣٥٥ وبلا نسبة في المخصص ١ / ١٢٨ و ٩ / ٥٧

(٢) ورد الشاهد عند الأعلم ٢ / ١٧٦

٣٥٨

مكان (مغرّبا) ، يراد به أنه يعجّل رواحها. والغبرات : جمع غبرة ، والضمير المضاف إليه (الغبرات) يراد به الأرض.

يريد أنه راحت الإبل وعلى آنافها غبرات الأرض ، وإنما جعل لها غبرات لأنها مجدبة لم تمطر بعد. ولو كانت مطرت ما بان لها غبرة.

مدح الأعشى بذلك قومه. يقول : إذا أجدب الناس ، أهنّا لها : أي للسنة المجدبة ـ أموالنا عند حقها ، أي عند ما يلزمنا من بذل الأموال ، وإعطاء السائل ، وقرى الأضياف. وعزّت بها أعراضنا ، أي عزت فيها ، في هذه السنة المجدبة أعراضنا. يريد أنهم صانوا أعراضهم في مثل هذه السنة ، أن يوصفوا بالبخل وبالتهاون بأمر الأضياف ورد السائل. وقوله : (لا نفاتها) أي لا يفوتنا صيانتها ، يريد لا نسبق بذمّنا قبل أن نسبق نحن بالعطاء.

ـ قال سيبويه (٢ / ١٧٦) : «واعلم أنه قد يجيء في (فعل) (أفعال) مكان (أفعل) ، قال الأعشى» :

فإن حمير أصلحت أمرها

وملّت تسابي أولادها

(وجدت إذا اصطلحوا خيرهم

وزندك أثقب أزنادها) (١)

يمدح بهذا الشعر سلامة ذا فائش الحميري. والتسابي : أن يسبي بعضهم بعضا. يقول : إذا اصطلحت حمير فيما بينهما وملت الحرب ، فأنت خيرهم في السلم ، وأعطاهم للمال.

__________________

(١) ديوان الأعشى ق ٨ / ٤٢ ـ ٤٣ ص ٧٣ من قصيدة قالها يمدح سلامة ذا فائش الحميري (انظر في حواشي الفقرة ٢٤٨).

ـ وقد ورد الشاهد في : المقتضب ٢ / ١٩٦ والنحاس ١٠٤ / أوالأعلم ٢ / ١٧٦ وأوضح المسالك ش ٥٤٦ ج ٣ / ٢٥٧ والأشموني ٣ / ٦٧٤

٣٥٩

وذكر بعد هذين البيتين حاله وجلده وصبره إذا وقعت بينهم الحروب. وقوله : وزنذك أثقب أزنادها : أي أنت أسرعهم عطاء ، وأكثرهم نوالا ، وأقلهم مطلا. ويقال : ثقب الزند : إذا خرجت ناره. جعل سرعته بمنزلة سرعة قدح الزند للنار.

و (وجدت) في هذا الموضع يتعدى إلى مفعولين ، والتاء قد قامت مقام المفعول الأول ، و (خيرهم) المفعول الثاني و (زندك) مبتدأ و (أثقب) خبره ، والجملة في موضع نصب ، وهي معطوفة على المفعول الثاني ، كأنه قال : وجدت خيرهم ، ووجدت زندك أثقب أزنادها ، والضمير في (أزنادها) يعود إلى القبيلة ، يريد بها حمير قوم الممدوح.

ـ قال سيبويه (٢ / ١٧٦ ـ ١٧٧) : «وقد يجيء (خمسة كلاب) يريد به خمسة من الكلاب ، كما تقول : هذا صوت كلاب ، أي هذا من هذا الجنس ، كما تقول : هذا حبّ رمّان».

يريد أنه بيّن العدد القليل بالجمع الكثير فقال : هذا يراد به خمسة من هذا الجنس ، لم يجىء به لبيان العدد ، إنما أراد أن يذكر الجنس الذي منه العدد ، ولم يقصد أن يبيّن العدد بجمع ، وفائدة الكلام بإبانة العدد بجمع ، وبإضافته إلى الجنس الذي منه المعدود ، واحدة. وقوله : هذا صوت كلاب يريد أنه صوت هذا الجنس.

والفرق بين قولهم : خمسة أكلب ، وخمسة كلاب ، أنك إذا قلت : خمسة أكلب ، فأكلب بيان للخمسة من أي جنس هي ، وجئت ب (أكلب) وأكلب هي الخمسة. وإذا قلت : خمسة كلاب ، فكلاب ليست بتبيين للخمسة ، وإنما (الكلاب) لفظ يعم جميع الجنس ، وجميع الجنس أكثر من خمسة.

٣٦٠