شرح أبيات سيبويه - ج ٢

أبي محمّد يوسف بن أبي سعيد السيرافي

شرح أبيات سيبويه - ج ٢

المؤلف:

أبي محمّد يوسف بن أبي سعيد السيرافي


المحقق: الدكتور محمّد علي سلطاني
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار العصماء
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٣
الجزء ١ الجزء ٢

مجيبا عن كلامه : إذن يرد. والمكروب : الموثق بالكرب وهو عقد الحبل بعد عقده ، وأراد أنه كان يقطع قوائمه بالسيف فيسقط فلا يتحرك.

ويروى : (لا يرتع بروضتنا) أي لا يأكل منها.

[العطف بالظاهر على المضمر المرفوع]

٤٠٣ ـ قال سيبويه (١ / ٣٩٠) في باب الضمير ، وأنه لا يعطف على الضمير المرفوع المتصل حتى يؤكّد : «وقد جاء في الشعر. قال عمر بن أبي ربيعة :

(قلت إذ أقبلت وزهر تهادى

كنعاج الملا تعسّفن رملا)

قد تنقّبن بالحرير وأبدي ..

ن عيونا حور المدامع نجلا (١)

الشاهد (٢) فيه أنه عطف على الضمير في (أقبلت) من غير أن يؤكده.

والزّهر : جمع زهراء وهي البيضاء. وتهادى : تميل في مشيها يمينا وشمالا ، والنعاج : نعاج الوحش ، والملا : الصحراء ، وتعسفن رملا : يريد أن هؤلاء النسوة يمشين كمشي نعاج الوحش إذا وقعت في الرمل ، فهن ينقلن قوائمهن نقلا بطيئا ، وتتحرك أحشاؤهن لتكلفهن نقل قوائمهن.

__________________

(١) أورد سيبويه أولهما بلا نسبة ، وهما لعمر في ديوانه ص ٣٦١ وديوانه (ليبسيك) ق ٤٠٩ / ١ ـ ٢ ج ٢ / ٢٤٠ وفي كليهما ورد البيتان فحسب بلا ثالث.

(٢) ورد الشاهد في : الكامل للمبرد ١ / ٣٢٢ و ٣ / ٣٩ والنحاس ٨٦ / ب والأعلم ١ / ٣٩٠ وشرح الأبيات المشكلة ٢٥١ والإنصاف ٢ / ٢٥٢ و ٢٥٣ والكوفي ١١٣ / ب وابن عقيل ش ٧٥ ج ٢ / ١٨٥ والعيني ٤ / ١٦١ والأشموني ٢ / ٤٢٩ وهذا العطف على الضمير المستتر المرفوع غير المؤكد ؛ ضرورة عند البصريين ، جائز عند الكوفيين. وكان الوجه أن يقول : أقبلت هي وزهر.

١٠١

شبه مشي النساء بمشي بقر الوحش التي قد وقعت في رمل متعقد يتعب من مشى فيه. ويروى :

قلت إذ أقبلت تهادى رويدا

ولا شاهد فيه على هذه الرواية. ويروى : (كنعاج المها) والمها : بقر الوحش. وأراد : قد تنقبن من حرير. وحور المدامع يريد أنهن كحل العيون ، بيض الخدود. والنجل : الواسعة وهو جمع نجلاء. يقال عين نجلاء أي واسعة.

[نصب (غير) على الاستثناء المنقطع]

٤٠٤ ـ قال سيبويه (١ / ٣٦٧) قال الفرزدق :

فإن أك محبوسا بغير جريرة

فقد أخذوني آمنا غير خائف

(وما سجنوني غير أني ابن غالب

وأني من الأثرين غير الزعانف) (١)

الشاهد (٢) فيه على أنه نصب (غير) على الاستثناء المنقطع.

والذي حبسه وسجنه خالد بن عبد الله القسري ، وكان من قل هشام على العراق. وقوله : فقد أخذوني آمنا : يريد أنه لم يذنب فيحذر ، وأنه أخذ وهو آمن من السلطان ، ولم يكن عنده أنه يطلب.

والأثرون : جمع الأثرى وهو الأغنى ، يريد أنه أغنى من غيره. وأراد بالأثرين الأغنياء من المكارم والحسب والرفعة والشرف. والزعانف : رذال القوم والملصقون بهم.

__________________

(١) ديوان الفرزدق ٢ / ٥٣٦ من قصيدة قالها يمدح هشام بن عبد الملك.

(٢) ورد الشاهد في : النحاس ٨٢ / أوالأعلم ١ / ٣٦٧ والكوفي ٢٣٩ / ب.

١٠٢

[العطف بالجر على الكلام الأول كأن اللام مذكورة فيه]

٤٠٥ ـ قال سيبويه (١ / ٤١٨) في الجواب بالفاء. قال الفرزدق.

فقلت لها الحاجات يطرحن بالفتى

وهمّ تعنّاني معنّى ركائبه

(وما زرت سلمى أن تكون حبيبة

إليّ ولا دين بها أنا طالبه)

ولكن أتينا خندفيّا كأنّه

هلال غيوم زال عنه سحائبه (١)

الشاهد (٢) فيه أنه جر (دين) على أنه توهم أن اللام مذكورة في قوله : (أن تكون حبيبة) ومعناه : لأن تكون حبيبة ، فلما كان المعنى معنى اللام ، عطف على الكلام الأول كأن اللام مذكورة. وسلمى / أحد جبلي طيّىء.

وسبب هذا الشعر أن الفرزدق نزل بامرأة من العرب من طيىء ، فقالت له : ألا أدلّك على رجل يعطي ولا يليق شيئا. فقال : بلى. فدلته على المطلب بن عبد الله بن حنظب المخزومي. وكان مروان بن الحكم خاله ، وبعث به مروان على صدقات طيىء ، ومروان عامل معاوية يومئذ على المدينة.

فلما أتى الفرزدق المطّلب وانتسب له ، رحب به وأكرمه ، وأعطاه عشرين أو ثلاثين بكرة ، فأعطى الطائية بكرة. وقال هذه القصيدة.

__________________

(١) ديوان الفرزدق ١ / ٩٢ ـ ٩٣ من قصيدة قالها يمدح المطلب بن عبد الله المخزومي. ولم يرد البيت الثالث في قصيدة الديوان ، وأورده السيوطي في هذه الأبيات من مدحة الفرزدق في شرح شواهد المغني ص ٨٨٥ وروي الثاني للفرزدق في : اللسان (حنطب) ١ / ٣٢٥ والأول بلا نسبة في (عنى) ١٩ / ٣٤٠

(٢) ورد الشاهد في : معاني القرآن ٢ / ٢٩٩ والنحاس ٨٩ / ب وتفسير عيون سيبويه ٣٩ / أوالأعلم ١ / ٤١٨ والإنصاف ٢١٧ والكوفي ٢٤٠ / أوالمغني ش ٧٨٧ ج ٢ / ٥٢٦ وشرح السيوطي ش ٧٥٨ ص ٨٨٥ والأشموني ١ / ١٩٧

١٠٣

والمعنّى : المتعب ، والركائب : جمع ركاب وهي الإبل التي يركبونها ويسار عليها.

[رفع جواب الأمر بدل جزمه]

٤٠٦ ـ قال سيبويه (١ / ٤٥١) قال صفوان (١) بن محرث الكناني :

بني أسد أغنوا سليما لديكم

ستغني تميم عنكم غطفانا

(وكونوا كمن آسى أخاه بنفسه

نموت جميعا أو نعيش كلانا) (٢)

كذا أنشد سيبويه. والشاهد (٣) فيه أنه رفع (نعيش) ولم يجعله جوابا لفعل الأمر وهو (كونوا). والذي رأيته في شعره : (فنحيا جميعا أو نموت كلانا) ولا شاهد فيه على هذا الإنشاد.

وسبب هذا الشعر أن البرّاض (٤) الكناني قتل عروة (٥) الجعفري ، فهاجت

__________________

(١) لم تذكره المصادر لدي.

(٢) أورد سيبويه البيت الثاني ، ونسبه بقوله : (وقال معروف ..) مع احتمال أن تكون (معروف) تكملة لتفسير بيت سابق .. والبيتان لصفوان في : شرح الكوفي ٢٤٠ / أ.

(٣) ورد الشاهد في : النحاس ٩٥ / ب والأعلم ١ / ٤٥١ والكوفي ٢٤٠ / أ.

(٤) هو البرّاض بن قيس الكناني ، جاهلي ، يضرب المثل بفتكه ، وبسببه قامت حرب الفجار الكبرى بين قيس وقريش سنة ٣٨ ق ه. ومات البراض قبل نشوبها. ترجمته في : سيرة ابن هشام ١ / ١٩٥ والدرة الفاخرة ١ / ٣٣٥ والمؤتلف (تر ٣٨٧) ١٢٥ وثمار القلوب ١٢٨ وجمهرة الأنساب ١٨٥ و ٢٨٦ ومجمع الأمثال ٢ / ٤٣٠ وسرح العيون ٩١

(٥) هو عروة بن عتبة بن جعفر بن كلاب ، جاهلي ، كثير الرحلة إلى الملوك ، قتله البراض الكناني فقامت حرب الفجار الرابعة. ومات عروة قبل قيامها. ترجمته في : سيرة ابن هشام ١ / ١٩٦ وأسماء المغتالين ـ نوادر المخطوطات ٦ / ١٤١ ، والمؤتلف (تر ٣٨٧) ١٢٥ وجمهرة الأنساب ١٨٥ و ٢٨٦ وثمار القلوب ١٢٩ وسرح العيون ٩٠

١٠٤

الحرب بين قيس وخندف. وأسد وكنانة أخوان ، ابنا خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر.

يقول لهم : أغنوني إخوتكم. وأغنوا عنهم سليما ، أي ادفعوا عنهم بني سليم فإن بني تميم ستدفع غطفان. رتب كل قبيلة من خندف بإزاء كل قبيلة من قيس. فجعل تميما بإزاء غطفان وبني أسد بإزاء سليم ، وكانت قريش وكنانة بإزاء بني عامر بن صعصعة. وتميم هو تميم بن مرّ بن أدّ بن طابخة بن إلياس بن مضر.

يقول لبني أسد : أنتم إخوتنا ، فكونوا مواسين لنا. نعيش جميعا أي مجتمعين في الحياة ، أو نموت كلانا.

و (كلانا) توكيد للضمير في (نموت) وإنما استعمل قوله (كلانا) لأنه أراد حيّي كنانة وأسد.

[إلغاء عمل (ما) لدخول (إن) عليها]

٤٠٧ ـ قال سيبويه (١ / ٤٧٥) في باب (إن) الخفيفة : «فتصرف [الكلام](١) الى الابتداء ، كما صرفتها ما الى الابتداء. وذلك قولك : ما إن زيد ذاهب». يريد أنّ (إن) هذه الخفيفة إذا دخلت بعد (ما) التي للنفي ، لم تعمل (ما) عمل ليس على مذهب أهل الحجاز ، لأن (إن) كفتها عن العمل.

وقوله : (كما صرفتها ما) يعني كما صرفت (ما) إنّ المشددة عن عملها في قولك : إنما زيد قائم. و (ما) صرفت إنّ المشددة عن العمل في (إنما) ، و (إن) المخففة صرفت (ما) عن العمل.

__________________

(١) تعديل من نص سيبويه. وفي الأصل والمطبوع (فتصرف ما الى الابتداء).

١٠٥

قال فروة (١) بن مسيك :

فإن نهزم فهزّامون قدما

وإن نغلب فغير مغلّبينا

(فما إن طبّنا جبن ولكن

منايانا ودولة آخرينا) (٢)

الشاهد (٣) فيه أنه ألغى عمل (ما) لما دخلت (إن) عليها. ويقال : ما طب فلان كذا وكذا ، أي ليس هو من شأنه. ويقول الرجل للرجل يعامله : ما طبي أن أخدعك ، يريد ليس من شأني أن أخدعك.

يقول : ليس الجبن من شأننا. وقوله : (فإن نهزم فهزامون قدما) يقول : إن انهزمنا في هذه الوقعة فقد هزمنا الناس قبلها مرارا كثيرة (٤). والمغلّب : الذي يغلب كثيرا. يقول : نحن غير مغلبين.

__________________

(١) فروة بن مسيك المرادي ، أبو عمر ، شاعر صحابي شريف في قومه ، أسلم عام الفتح ، واستعمله الرسول صلّى الله عليه وسلّم على مراد ومذحج وزبيد وأقره عمر (ت بالكوفة نحو ٣٠ ه‍) ترجمته في : جمهرة الأنساب ٤٠٦ والإصابة (تر ٦٩٨٣) ٣ / ٢٠٠ وشرح شواهد المغني للسيوطي ٨١ ـ ٨٣ والخزانة ٢ / ١٢٣ ورغبة الآمل ٤ / ١٠

(٢) أورد سيبويه البيت الثاني بلا نسبة ، والبيتان لفروة في فرحة الأديب ٥٥ / أوسيلي نص ذلك ، وأتى بهما السيوطي في شرح شواهد المغني ٨٢ في أبيات كثيرة ، قال في نسبتها إنها لفروة وتروى لعمرو بن قعاس. ورويا في أبيات لفروة في الخزانة ٢ / ١٢٢ وهما للشاعر في : اللسان (طبب) ٢ / ٤٣

(٣) ورد الشاهد في : سيبويه أيضا ٢ / ٣٠٥ والكامل للمبرد ١ / ٣٤١ والمقتضب ١ / ٥١ و ٢ / ٣٦٤ والأعلم ١ / ٤٧٥ وشرح ملحة الإعراب ٥٠ والكوفي ٥٠ / أو ٢٤٠ / ب والمغني ش ٢٤ ج ١ / ٢٥ وشرح السيوطي ش ٢١ ص ٨١ والخزانة ٢ / ١٢١

(*) عقب الغندجاني على ما أورده ابن السيرافي هنا من شرح بقوله :

قال س : هذا موضع المثل :

فهيهات القرارة أن تراها

أتى من دونها القدر المتاح

١٠٦

__________________

بعيد على المستفيد معرفة معنى قوله : (فإن نهزم) وأنه لم اعترف بالانهزام ـ مع ما فيه من العار ـ إذا لم يعرف القصة. وكنت قد ذكرت لك أن الشعر إذا كان متعلقا بقصة ، فإن أصحاب المعاني لا يقدرون على استخراج معناه إلا بها.

وكان من قصة هذا الشعر أنه كان صنم مراد في «أعلى» و «أنعم» وهما بطنان من مراد فقالت أشراف من مراد : ما بال آلهتنا لا تكون في عرانيننا .. فأرادوا انتزاع الآلهة منهم ، فخرجوا منهم فأتوا بني الحارث فاستجاروابهم ، وأرسلت مراد الى بني الحارث أن أخرجوا إخوتنا من داركم ، وابعثوا إلينا برجلين منكم لنقتلهما بصاحبنا ، وكانت مراد تطلب بني الحارث بدم.

فلما رأى الحصين بن يزيد بن قنان أن مرادا قد ألحّت في طلب أصحابهم ، هابهم ، وعلم أنه لا طاقة له بهم. وكانت مراد إذا قتل منهم رجل ، قتلوا به رجلين ، وكانوا لا يأخذون الدية إلا مضاعفة. فسار حصين بن يزيد ـ وهو رئيس بني الحارث ـ الى عمير ذي مرّان ، فسأله أن يركب معه الى أرحب فيصلح بينه وبينهم ، ويسألهم الحلف على مراد ، لأنه كانت بينه وبين أرحب دماء.

فركب معه إليهم ، فأصلح بينهم ، وسألهم أن ينصروه ويحالفوه على مراد. فقال الحصين : يا معشر أرحب ، إني لست بأسعد بهلاك مراد منكم. وكانت أرحب تغاور مرادا قبل ذلك. فحالفته أرحب وغدوا.

فسار حصين بن يزيد ببني الحارث ، وسارت البادية من همدان وعليهم يزيد ابن ثمامة الأرحبي الأصم. وأقبلت مراد كأنهم حرّة سوداء يدفّون دفيفا ، وعليهم الحارث بن ظبيان المثلم وكان يكنى أبا قيس الأنعمي. فاقتتلوا بموضع يقال له الرّذم الى جنب إياد قتالا شديدا فتضعضعت بنو الحارث.

١٠٧

__________________

وأقبل عليهم الحصين فقال : يا بني الحارث ، والله لئن لم تضربوا وجوه مراد بالسيوف حتى يخلوا لكم العرصة لأتركنكم تنفّون في العرب ، ثم أقبل على بادية همدان فقال : يا معشر همدان ، الصبر الصبر ، لا تقول مراد : إنا لجأنا الى عدد همدان وعزها فلم يغنوا عنا.

فاقتتل القوم قتالا شديدا ، فقتل الحصين ، وصبر الفريقان جميعا ، فتهيأت بنو الحارث للفرار ، وتضعضعت أرحب ، وقد كانوا أحضروا النساء معهم فجعلوهن خلف ظهورهم ، فلما رأت أرحب النساء قد بدت خلاخيلها للفرار ، عادوا للقتال وقالوا : لا نفر حتى يفر يغوث. وصبروا للقوم ، وصبرت بنو الحارث معهم.

فانهزمت مراد ، واستذرع القتل فيهم ، وسبوا نساء من نسائهم ، فأدرك الإسلام وهنّ في دور همدان ، وقتل يومئذ المثلم رئيس مراد ، وعزيز وقيس ونمران وسميّ المراديون. وقتل في ذلك اليوم الحصين بن يزيد الحارثي. فقال في ذلك يزيد بن ثمامة الأرحبي :

١) لقد علم الحيّ المصبّح أنني

بجنب إباء غير نكس مواكل

٢) تركت عزيزا تحجل الطير حوله

وغشّيت قيسا حدّ أبيض قاصل

٣) ونمران قد قضّيت منه حزازة

على حنق يوم التفاف القبائل

٤) عكبّ شفيت النفس منه وحارث

بنافذة في صدره ذي عوامل

٥) وأردت سميّا في المكرّ رماحنا

وصادف موتا عاجلا غير آجل

قال س : إذا لم يعرف معنى القصة ، لم يعرف معنى البيت :

فإن نهزم فهزّامون قدما

وإن نغلب فغير مغلّبينا

وذلك أن مرادا ، لم تدر عليهم دائرة قبل يوم الرّذم».

(فرحة الأديب ٥٥ / أوما بعدها)

١٠٨

يقول : ليست العادة أن يغلبنا الناس ، بل العادة أن نغلبهم ، ولكن هذه الوقعة هزمنا فيها لأنه كانت منايانا قد حضرت ، وقدّرت الدولة لغيرنا ، فلم يمكنا دفعهم.

و (منايانا) مرفوع بإضمار فعل ، معناه : ولكن قدرت منايانا ودولة قوم آخرين.

[حذف الفاء من جواب الشرط]

٤٠٨ ـ قال سيبويه (١ / ٤٣٥) في باب الجزاء ، قال كعب بن مالك الأنصاري :

فإنما هذه الدنيا وزينتها

كالزاد لا بد يوما أنه فان

(من يفعل الحسنات الله يشكرها

والشرّ بالشر عند الله مثلان) (١)

الشاهد (٢) فيه أنه حذف الفاء من جواب الشرط. وكان ينبغي أن يقول : فالله يشكرها.

__________________

(١) ذكر سيبويه البيت الثاني فقط منسوبا الى حسان بن ثابت. وهو وحده في ديوانه ق ٣٥٧ ص ٥١٦ أخذا بنسبة سيبويه ، ونسبه المبرد في المقتضب ٢ / ٧٢ الى عبد الرحمن ابن حسان ، وجعلهما السيوطي في شرح شواهد المغني ١٧٨ لعبد الرحمن بن حسان أو لكعب ابن مالك ، وشبيه بقول السيوطي ما جاء في الخزانة ٣ / ٦٤٤ وهما في ديوان كعب بن مالك ص ٢٨٨ في مقطوعة من أربعة أبيات. وجاء في قافية الثاني (سيان) بدل (مثلان) وروي الثاني لعبد الرحمن بن حسان في اللسان (بجل) ١٣ / ٤٩

(٢) ورد الشاهد في : المقتضب ٢ / ٧٢ ومجالس العلماء ٣٤٢ والنحاس ٩٣ / أوسر صناعة الإعراب ١ / ٢٦٦ والأعلم ١ / ٤٣٥ وشرح ملحة الإعراب ٦٨ وإملاء ما منّ به الرحمن ص ٤٦ و ٧٧ والكوفي ٢٠ / ب و ١١٩ / أو ٢٣٦ / أوالمغني ش ٨١ ج ١ / ٥٦ وأوضح المسالك ش ٥١٣ ج ٣ / ١٩٣ وشرح السيوطي ش ٧٧ ص ١٧٨ وص ٢٨٦ والأشموني ٣ / ٥٨٧ والخزانة ٣ / ٦٤٤

وجدير بالاهتمام خبر في الخزانة يقول : «نقل ابن المستوفي قال : وجدت في بعض نسخ

١٠٩

والمعنى أنه من فعل خيرا شكره الله عز وجل وضاعفه ، ومن فعل سوءا فعل به مثله.

ويروى : من يفعل / الخير فالرحمن يشكره

ولا شاهد فيه على هذه الرواية.

[الرفع على البدل في اللغة التميمية]

٤٠٩ ـ قال سيبويه (١ / ٣٦٦) في الاستثناء ، قال : غيلان بن حريث :

تهدى لزغب دارهنّ دارها

درادق لمّا تطر صغارها

لم يغذها الرّسل ولا أيسارها

(إلا طريّ اللحم واستجزارها) (١)

الشاهد (٢) فيه أنه أبدل (طري اللحم) من (الرسل). والرسل : اللبن. وهو في تأويل : لم يغذها الطعام إلا طري اللحم.

__________________

الكتاب في أصله ، قال أبو عثمان المازني : خبّر الأصمعي عن يونس قال : نحن عملنا هذا البيت ، وكذلك نقله الكرماني في الموشح ..». قلت : يقصدون بذلك الرواية بحذف الفاء وهو أمر مستهجن مستبعد على أية حال.

(١) أورد سيبويه الثالث والرابع بلا نسبة ، والأبيات مجتمعة لغيلان بن حريث في شرح الكوفي ٢٤٠ / ب.

(٢) ورد الشاهد في : النحاس ٨١ / ب والأعلم ١ / ٣٦٦ والكوفي ٢٤٠ / ب.

وأشار النحاس الى أن إبدال (طري اللحم) من (الرسل) على اللغة التميمية ، ولو جاء على الحجازية لنصب ، لأن (طري اللحم) غير الرسل والأيسار» فهو من الاستثناء المنقطع. قلت : إلا إذا قصد به الطعام عموما على الاتساع كما ذكر ابن السيرافي.

١١٠

وصف عقابا وفراخها ، والزغب : فراخ العقاب وغيرها من الطير. دارهن دارها : لأنهن في وكرها يكن ، والدرادق : الصغار ، لما تطر ، يقول : لم تقو على الطيران ، لم يغذها اللبن لأن العقاب لا لبن لها ، ولا أيسارها : يريد أنها لم تأخذ من اللحم الذي يتقامر عليه الأيسار ، إنما لحمها مما تصيد من الصحراء ، وطري اللحم : يعني به ما تصيده عند حاجتها الى اللحم ، واستجزارها : أخذها الصيد وتقطيعها لحمه. ومثله : (فتركته جزر السباع) (١) يريد به أن السباع تقطّع لحمها.

[العطف ب (أو)]

٤١٠ ـ قال سيبويه (١ / ٤٨٦) : «وتقول : ما أدري هل تأتينا أو تحدثنا ، وليت شعري هل تأتينا أو تحدثنا ، ف (هل) هاهنا بمنزلتها في الاستفهام إذا قلت هل تأتينا أو تحدثنا». وإنما يريد أن (أو) يعطف بها في هذه المواضع ، لأنه قد يجوز الاقتصار على الكلام الأول لو قلت : ليت شعري هل تأتينا ، جاز.

وقول سيبويه «فهل ها هنا بمنزلتها في الاستفهام» يريد أنك إذا استفهمت فقلت : هل تأتيني أو تحدثني ، عطفت ب (أو) ، وأم لا تكون عاطفة لما بعدها ـ من اسم أو فعل ـ على ما قبلها ، وإنما تكون (أم) عاطفة على ما بعد الألف ، ولا يكون هذا في (هل).

ثم قال سيبويه : «فإنما دخلت (هل) ها هنا ، لأنك إنما تقول : أعلمني ، كما أردت ذلك حين قلت : هل تأتينا أو تحدثنا».

__________________

(١) جزء بيت لعنترة من معلقته. وهو قوله :

فتركته جزر السباع ينشنه

ما بين فلّة رأسه والمعصم

في شرح القصائد السبع .. لأبي بكر الأنباري ص ٣٤٧

١١١

يريد : إنما تأتي بقولك (ليت شعري) وبعده (هل تأتينا) لأنك تريد : ليت علمي بالشيء الذي أستفهم عنه ـ إذا أردت استعلامه بقولي : هل تأتينا أو تحدثنا ـ واقع أو كائن وما أشبه ذلك. وهذا كثير في الكلام. ومثله : أعلم هل قام زيد ، أي أعلم الشيء الذي تعلمه إذا استعلمت بقولك : هل قام زيد.

ثم قال سيبويه (١ / ٤٨٦) : «فجرى هذا مجرى قوله [عز وجل](١)(هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ ، أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ)(٢). وقال زهير :

(ألا ليت شعري هل يرى الناس ما أرى

من الأمر أو يبدو لهم ما بداليا) (٣)

يبدو : يظهر. يقول : ليت شعري ، هل يرى الناس ـ من أحوال الدنيا وتغيرها ، وزوال النعم عن الملوك ـ ما أراه أنا. وأرى : من رؤية القلب. وقوله : ما أرى من الأمر (ما) بمعنى الذي ، والعائد إليه ضمير محذوف هو والمفعول الأول ، تقديره : ما أراه من الأمر. يريد من أمور الدنيا وأحوالها. والمفعول الثاني في قوله : (هل يرى الناس) محذوف ، كأنه قال : هل يرى الناس من الأمور ما أراه منها؟ فاكتفى بالمفعول الثاني في قوله : (ما أرى من الأمر) عن ذكر المفعول الثاني في الفعل الأول.

أو يبدو لهم ما بداليا : أي يظهر لهم من معرفة الدنيا ما يظهر لي.

__________________

(١) تتمة من الكتاب. ليست في الأصل والمطبوع.

(٢) سورة الشعراء ٧٢ ـ ٧٣

(٣) البيت في : شعر زهير ص ١٦٣ وهو مطلع القصيدة. وجاء في «المعمرون» ص ٨٣ ـ ٨٤ أن الأصمعي كان يزعم أن هذه القصيدة لأنس بن زنيم ، وقيل بل كان يقول : هي لصرمة بن أنس الأنصاري. وقد رويت لزهير في شرح ديوانه لأبي العباس ثعلب ص ٢٨٤ وذكر أنه قالها يذكر حال النعمان في لجوئه الى القبائل واحتمائه بها حين طلبه كسرى ليقتله.

وقد ورد الشاهد في : الأعلم ١ / ٤٨٦ والكوفي ٢٤١ / أ.

١١٢

وقال مالك بن الريب :

(ألا ليت شعري هل تغيّرت الرّحى

رحى الحزن أو أضحت بفلج كما هيا (١)

الحزن : موضع. ويروى : رحى المثل.

والرحى : موضع عال فيه استدارة ، وفلج : موضع بعينه ، والحزن : موضع بعينه. والحزن : المكان الغليظ ، فأراد الحزن الذي عند فلج ، فلذلك قال : أو أوضحت بفلج. وفي (أضحت) ضمير يعود إلى الرحى.

[النصب بعد فاء السببية]

٤١١ ـ قال سيبويه (١ / ٤٤٧) : «وسألته (٢) عن قول ابن زهير :

(ومن لا يقدّم رجله مطمئنة

فيثبتها في مستوى الأرض يزلق)

أكفّ لساني عن صديقي فإن أجأ

إليه فإني عارق كلّ معرق (٣)

فقال ـ يعني الخليل ـ : «النصب في هذا جيد». يريد نصب (يثبتها) على الجواب بالفاء (٤) ، ويكون معناه : من لا يقدم رجله مثبتا لها.

__________________

(١) البيت في الكتاب ١ / ٤٨٧ لمالك بن الريب ، وكذا في اللسان (مثل) ١٤ / ١٣٨ وفيه في عجز البيت (.. رحى المثل أو أمست بفلح ..).

ـ وقد ورد الشاهد في : الأعلم ١ / ٤٨٧ والكوفي ٢٤١ / أ.

(٢) أي الخليل.

(٣) أورد سيبويه البيت الأول ونسبه كذلك إلى كعب بن زهير. ولا وجود لهذا الشعر في ديوان كعب. والبيتان لزهير في شرح ديوانه ص ٢٥٠ من قصيدة جاء في تقديمها أن زهيرا وكعبا اشتركا فيها ، فإن صح هذا فهو علة جنوح بعضهم إلى جعلها لكعب.

(٤) ورد الشاهد في : المقتضب ٢ / ٢٣ و ٦٧ والنحاس ٩٥ / أوالأعلم ١ / ٤٤٧ والكوفي ٢٢ / أو ٢٤١ / أوأشار النحاس إلى أنه لو لم ينصب بإضمار (أن) لجزم على العطف.

١١٣

وقول سيبويه : «لأنه أراد من المعنى ما أراد في قوله : لا (١) تأتينا إلا لم تحدثنا. أي من لا يقدم إلا لم يثبت ، زلق». معناه : ما تأتينا إلا غير محدث. وقوله : إلا غير محدث مثل معنى : ما تأتينا محدثا.

يريد : من / لا يضع رجله إذا مشى في موضع يتأمله قبل أن يضعها يزلق. وهذا على طريق المثل. يريد : من لم يتأمل ما يريد أن يفعله قبل أن يفعله ، لم يأمن أن يقع في أمر يكون فيه عطبه ، ومعنى أجاء : ألجأ ، يقال : أجأته إلى كذا وكذا أي ألجأته. والعارق : الذي يأخذ اللحم عن العظم بفمه.

يقول : أنا أكف لساني عن ذكر صديقي بالقبيح وهجوه ، فإن اضطررت إليه ـ لشيء فعله بي من القبيح ـ لم أبق عليه ، وتناهيت في انتقامي منه.

[حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه]

٤١٢ ـ قال سيبويه (١ / ٣٧٦) في الاستثناء ، قال ابن مقبل :

(وما الدهر إلا تارتان فمنهما :

أموت ، وأخرى أبتغي العيش أكدح) (٢)

الشاهد (٣) فيه أنه حذف الموصوف وأقام الصفة مقامه. والمعنى : فمنهما تارة أموت فيها ، وتارة أخرى أبتغي فيها المعاش.

وتارتان : مرتان. يريد أن الانسان بين حالتين كلتاهما فيها له أذى وعليه

__________________

(١) كذا في الكتاب. وفي الأصل والمطبوع (ما).

(٢) ديوان ابن مقبل ق ٤ / ٩ ص ٢٤ وروي للشاعر في : حماسة البحتري ق ٦١٢ ص ١٢٣ الباب ٧٠ وفي اللسان (كرتح) ٣ / ٤٠٥ وبلا نسبة في (تير) ٥ / ١٦٤

(٣) ورد الشاهد في : معاني القرآن ٢ / ٣٢٣ والكامل للمبرد ٣ / ١٧٩ والمقتضب ٢ / ١٣٨ والنحاس ٨٤ / ب والأعلم ١ / ٣٧٦ والخزانة ٢ / ٣٠٨

١١٤

مشقة : إما أن يكون جلدا قويا شابا فهو يكدح ويكد في طلب المعاش ، وإما أن يكون شيخا فانيا لا يمكنه التصرف فهو بمنزلة الميت.

و (الدهر) مبتدأ و (تارتان) خبره و (أموت) في موضع رفع لأنه قام صفة مبتدأ. وتقديره : فمنهما تارة أموت فيها. و (منهما) خبر المبتدأ.

[في فتح همزة (أنّ)]

٤١٣ ـ قال سيبويه (١ / ٤٦٧) في أبواب (إنّ) : «وزعم الخليل أن مثل ذلك قوله عز وجل : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ)(١).

قدم سيبويه قبل هذه الحكاية عن الخليل ، أنّ (أنّ) قد تكون بدلا في قوله تعالى : (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ)(٢).

ذكر أن (أنكم) الثاني بدل من (أنكم) الأول ، وذكر مسائل فيها مثل هذا الحكم. ثم قال : وزعم أن مثل ذلك ـ يريد : مثل مجيء (أنّ) المفتوحة المشددة بعد تقدم (أنّ) المشددة التي هي مثلها ـ قوله تعالى : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ) وليس يريد أن قوله تعالى : (فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ) بدل من قوله (أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ) وإنما يريد أنّ (أنّ) جاءت مفتوحة بعد (أنّ) المفتوحة التي تقدمتها من قبل أن يتم الكلام الذي فيه (أنّ) الأولى.

ولا يجوز أن تكون (أنّ) في هذه الآية بدلا ، لأن الفاء فيها ، ولا تكون (أنّ) التي بعد الفاء بدلا من (أنّ) التي قبلها ، لأنها لو كانت بدلا ،

__________________

(١) سورة التوبة ٩ / ٦٣

(٢) سورة المؤمنون ٢٣ / ٣٥

١١٥

ما دخلت الفاء عليها. ومع هذا (أنّ) التي تكون بدلا ، يكون اسمها هو اسم (أنّ) التي قبلها ، وهنا (١) : (فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ) ليس من هذا في شيء.

وإنما أتى به سيبويه لأجل أنّ (أنّ) مفتوحة بعد فتح (أنّ) الأولى من قبل أن يتم الكلام الذي فيه (أنّ) الأولى. و (أنّ) التي بعد الفاء ، في موضع رفع بالابتداء وخبرها محذوف وتقديره : فله أنّ له نار جهنم.

ثم قال سيبويه : «ولو قال (فإنّ) (٢) كانت عربية جيدة». يريد ولو قال : فإنّ له نار جهنم ، بالكسر.

وجودة هذا الوجه واضحة ، لأن الفاء وما بعدها جواب الشرط ، وهو في حكم كلام مستأنف ، والفاء في جواب الشرط تدخل على المبتدأ وخبره ، كقولك : إن تأتني فأنت محسن ، و (إنّ) المكسورة تدخل في الموضع الذى يدخل فيه الابتداء.

وأنشد لابن مقبل :

وعلمي بأسدام المياه فلم تزل

قلائص تحدى في طريق طلائح

(وأني إذا ملّت ركابي مناخها

فإني على حظي من الأمر جامح) (٣)

الشاهد (٤) فيه كسر (إنّ) التي بعد الفاء.

__________________

(١) في الأصل والمطبوع (وهو) ولا يستقيم بها المراد.

(٢) كذا في الكتاب ، وفي الأصل والمطبوع (إنّ).

(٣) ديوان ابن مقبل ق ٥ / ١٩ ـ ٢٠ ص ٤٥ وجاء في البيت الأول (وعاودت أسدام المياه .. قلائص تحتي ..) وعجز الثاني (ركبت ولم تعجز عليّ المنادح).

(٤) ورد الشاهد في : الكامل للمبرد ٤ / ٤٢ والنحاس ٩٧ / ب والأعلم ١ / ٤٦٧ والكوفي ٢٤١ / أوذكر الأعلم أنه لو فتح الهمزة هنا ـ حملا على (أنّ) الأولى تأكيدا وتكريرا ـ لجاز. قلت : وأراه رديئا من حيث أداء المعنى إذ يدعه مبتورا بلا جواب.

١١٦

واسدام المياه : جمع سدم وهو الماء المندفن ، والطلائح : المعيية ، الواحدة طليح.

و (علمي) معطوف على شيء قبله ، ويجوز أن يكون مبتدأ وخبره محذوف كأنه قال : وعلمي بأسدام المياه علم بيّن لا لبس فيه. يريد أنه يعرف الفلوات ، ومجاهيل الأرض ، والمياه المندفنة ، لكثرة أسفاره.

وقوله : فلم تزل قلائص ، يريد قلائصه التي يسير عليها ، تحدى : يحدوها هو. و (أني إذا ملت ركابي) معطوف على ما عملت فيه الباء من قوله (بأسدام المياه) كأنه قال : علمي بأسدام المياه وبأني إذا ملّت ركابي.

والركاب : الإبل ، ومناخها : الموضع الذي أنيخت فيه. يريد أن إبله إذا كرهت المقام في موضع رحلت عنه ، وجعل كراهته للمقام في موضع ، كأنه كراهة لإبله. يريد أنه يفعل ما عنده أنه صواب.

والجامح : الممتنع / يريد أنه يمتنع من فعل ما لا يرى أنه صواب. وقد فسرت الشعر على ما وجدته في الكتاب.

وفي ديوان ابن مقبل :

نبا ما نبا عني من الدهر ماجدا

أكارم من آخيته وأسامح

وإني إذا ملّت ركابي مناخها

ركبت ولم تعجز عليّ المنادح

وإني إذا ضنّ الرّفود برفده

لمختبط من تالد المال جازح

وعاودت أسدام المياه فلم تزل

قلائص تحتي في طريق طلائح (١)

__________________

(١) ديوان ابن مقبل ق ٥ / ١٧ ـ ١٨ ـ ١٩ ـ ٢٠ ص ٤٥ باتفاق مع النص في الرواية والترتيب وروي الثالث للشاعر في : اللسان (جزح) ٣ / ٢٤٧ و (خبط) ٩ / ٥٣

١١٧

نبا ما نبا عني من الدهر : يريد أنه ذهب عنه من الدهر ما ذهب وهو ماجد والمنادح : جمع منتدح وهو المتسع من الأرض ، والرّفود : الذي يعطي الناس ويزيدهم ، والمختبط : الطالب والسائل ، وأصله الرجل الذي يخبط الشجر ، يضربها ليسقط ورقها فيعلفه إبله. وتالد المال : قديمه ، والجازح : القاطع قطعة من المال ، يقال : جزحت له من المال جزحا أي قطعت ، وعاودت أسدام المياه : قصدتها في سفري مرة بعد مرة.

واعلم أن خلاف الإنشاد إذا وقع في مثل ذا الموقع ، لا ينبغي أن ينسبه أحد إلى اضطراب سيبويه ، وإنما الرواية تختلف في الإنشاد ، ويسمعه سيبويه ينشد على بعض الروايات التي له فيها حجة ، فينشده على ما سمعه. ويرويه راو آخر على وجه آخر لا حجة فيه ، والرواة المختلفون إنما أخذوه من أفواه العرب الذين يحفظون الأشعار فالتغيير في الإنشاد واقع من جهتهم.

والشواهد في كل رواية صحيحة ، لأن العربي الذي غيّر الشعر ـ وأنشده على وجه دون وجه ـ قوله حجة ، ولو كان الشعر له لكان يحتج به. ألا ترى أن الحطيئة راوية زهير ، وكثيّرا راوية جميل .. والراوي والمروي عنه كلاهما حجة.

[رفع الفعل في جواب (إذا)]

٤١٤ ـ قال سيبويه (١ / ٤٣٤) في الجزاء. قال كعب بن زهير :

(وإذا ما أشاء أبعث منها

مغرب الشمس ناشطا مذعورا)

ذا وشوم كأنّ جلد شواه

في ديابيج أو كسين نمورا (١)

__________________

(١) شرح ديوان كعب ص ١٦١ ـ ١٦٢ وقد وردا متتاليين في ثنايا القصيدة.

١١٨

الشاهد (١) فيه أنه لم يجزم الفعل ب (إذا ما) وجعل الفعل بعدها مرفوعا وهذا هو الوجه.

والضمير في (منها) يعود إلى ناقته ، والناشط : الثور الوحشي الذي يجيء من بلد إلى بلد. وأراد أنه إذا بعث ناقته للسير ، فكأنه بعث ببعثه إياها ثورا وحشيا قد خرج من أرض إلى أرض لشيء خافه ، فهو يعدو أشد العدو.

وقوله : مغرب الشمس ، يريد أنه يبعث منها في ذلك الوقت. والوشوم : الخطوط التي في قوائم الثور ، والشوى : أطرافه ، يداه ورجلاه. والديابيج : جمع ديباج. شبّه جلد قوائمه بالديباج للخطوط التي فيها ، أو كسين نمورا : أي جلد نمور. يعني أن جلد قوائمه يشبه ألوان النمور للنقط التي فيها من السواد.

وقال ذو الرمة (١ / ٤٣٣) :

(تصغي إذا شدّها بالرّحل جانحة

حتى إذا ما استوى في غرزها تثب) (٢)

الشاهد (٣) فيه أنه لم يجزم الفعل في جواب (إذا) وهو الوجه الجيد. والجزم ب (إذا) يجوز في ضرورة الشعر. وفي (تصغي) ضمير يعود إلى الراحلة.

وتصغي : تميل رأسها كأنها تستمع. يريد أنها مؤدبة ليست بنفور ، ولا تضجر إذا شدّ الرحل عليها. والكور : الرحل والجمع أكوار ، والغرز للناقة

__________________

(١) ورد الشاهد في : المقتضب ٢ / ٥٧ والأعلم ١ / ٤٣٤ والكوفي ٢٤٢ / أ.

(٢) ديوان ذي الرمة (مجمع) ق ١ / ٣٤ ص ٤٨ وجاء في صدره (بالكور جانحة) وروي البيت للشاعر في : اللسان (عجل) ١٣ / ٤٥٣ و (صغا) ١٩ / ١٩٤ وبلا نسبة في : المخصص ٧ / ١٢٨ واللسان (طبق) ١٢ / ٨٢

(٣) ورد الشاهد في : النحاس ٩٣ / أوالأعلم ١ / ٤٣٣ والكوفي ٢٠ / أو ٢٤٢ / أ.

١١٩

بمنزلة الركاب للدابة ، والجانحة : المائلة. يعني أنها قد مالت إلى ناحية الراكب. وأراد أن راكبها إذا وضع رجله اليسرى في الغرز ، وثبت من قبل أن يستوي على ظهرها. عنى بذلك أنها نشيطة حديدة الفؤاد.

وقد عيب عليه هذا المعنى. وزعموا أن أعرابيا سمعه ينشد القصيدة ، فلما انته إلى قوله. (حتى إذا ما استوى في غرزها تثب) قال : سقط والله الرجل ، وحكوا أن أبا عمرو (١) بن العلاء قال له : أتنشدني :

ما بال عينيك منها الماء ينسكب (٢)

 ......

فأنشده حتى انته إلى قوله : (حتى إذا ما استوى في غرزها تثب) فقال أبو عمرو : ما قال عمك الراعي / الحسن :

وهي إذا قام في غرزها

كمثل السفينة أو أوقر

ولا تعجل المرء قبل الركو ..

ب وهي بركبته أبصر (٣)

__________________

(١) اسمه زبّان بن عمار التميمي المازني ، إمام البصرة في اللغة والنحو والرواية وأحد القراء السبعة ، مدحه الفرزدق (ت ١٥٤ ه‍). ترجمته في : البيان والتبيين ١ / ٣٢١ والمعارف ٥٣١ و ٥٤٠ وأخبار النحويين البصريين ٢٢ وثمار القلوب ١٦٧ وسرح العيون ١٨١ والمزهر ١ / ١٧٤ و ٢٤٩ وبغية الوعاة ٢٣١

(٢) البيت مطلع قصيدة طويلة لذي الرمة في النسيب ، ما تمنى جرير من شعر غيره غيرها : انظر الخزانة ١ / ٣٧٨ والبيت في ديوانه (مجمع) ق ١ / ١ ص ٩ وتتمته : (كأنه من كلى مفريّة سرب).

(٣) ديوان الراعي ص ٧٢ وهما فيه بلا ثالث. وجاء في صدر الثاني (البروك) بدل الركوب. وروي أولهما للشاعر في : شرح المرزوقي ٣ / ١٢٥٧ واللسان (طبق) ١٢ / ٨٢ وكلاهما للراعي في : المخصص ٧ / ١٢٨ واللسان (عجل) ١٣ / ٤٥٣

١٢٠