الدرّ المنظوم في ذكر محاسن الأمصار والرسوم

المؤلف:

السيد أمجد حمود بن أحمد بن سيف البوسعيدي


المحقق: محمّد المحروقي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: عاصمة الثقافة العربية
الطبعة: ١
الصفحات: ١١٩

١
٢

مقدمة المراجع

وحده المسافر يختبر جمال الانتماء وأهمية الأرض الأولى ، ويتغلغل بعيدا في اكتشاف ذاته. وبعيدا عن السائد حول مدرسة السفر وفوائدها السبعة التي يمكن أن يجنيها المسافر والمتمثلة في تفريج الهم واكتساب المعيشة وتحصيل العلم وصحبة الأماجد ، فإن في السفر تأصيل للانتماء الأول بما يثيره من أشواق إليه عند ما تبعد بنا المسافات ، وبما يتوفر لنا من فرصة لتأمل بعض أشياء الوطن لم نكن لنتأملها ونحن نرتع في مرابعه أو سهوبه الخضراء أو أراضيه القاحلة ، لا فرق بينها جميعا من جهة الانتماء.

هذه الأشياء قد تكون وجبة غذائية اعتدنا عليها بطقس خاص أو جلسة مع أصدقاء يمنحون اللقاء خصوصية أو شجرة أو نهرا أو وقتا ما أو نسمة بواد معين أو رائحة كرائحة طلع النخيل أو صوتا كصوت هدير الفلج ، أو غير ذلك من تجارب شديدة الخصوصية.

استحضر هذه المعاني وأنا أقرأ هذه المادة الفريدة المتصلة بأدب الرحلة الذي هو من أمتع الأجناس الأدبية وأقربها إلى المتلقين جميعا باختلاف ثقافاتهم ومعارفهم ، لما يبرزه من خصوصية وذاتية هي أسمى ما في الأعمال الأدبية. إضافة إلى الجانب الشائق في السرد

٣

ومتعته في استقصاء العجيب والجميل ، ربما لا يقترب جنس آخر إلى هذا الفن سوى أدب السيرة الذاتية. ومخطوطة «الدرّ المنظوم في ذكر محاسن الأمصار والرسوم» للسيد حمود بن أحمد بن سيف ابن محمد البوسعيدي لا تخيب ظن قارئها وتوقعاته بأن يجد مادة بها من الفائدة والتسلية ما يدفعه لمواصلة القراءة حتى الكلمة الأخيرة. وعلى مستوى أسلوب السرد ولغته فإن القارئ سيجدها بحق فريدة في بابها وانعكاسا لثقافات عربية أفريقية صيغت معا لتبرز الهوية السواحلية بامتياز.

١ ـ كتاب الدرّ المنظوم.

انطلقت الرحلة من ميناء بندر زنجبار يوم ٢٥ من شوال سنة ١٢٨٨ ه‍ ، بعد صلاة الصبح الموافق ٨ يناير ١٨٧٢ م. وكان الكاتب برفقة السلطان برغش بن سعيد بن سلطان البوسعيدي (١٨٧٠ ـ ١٨٨٨) حاكم زنجبار آنذاك ، متوجهين إلى الحجاز لأداء فريضة الحج. وهدف الرحلة ـ كما يؤكد الكاتب ـ هو إحياء شعيرة السياحة التي هي «من سنن الأنبياء والسادة الأتقياء ، وفيها تضرب الأمثال والعبر» ، وهذا هو السبب الديني.

٤

وثمة سبب آخر يتصل بفوائد السفر المعروفة مما أشرنا إليه آنفا في صدر هذه المقدمة من الفوائد العلمية والنفسية التي تعود على السائح. والكاتب يقول فيما يضمّن من شعر إن التنقّل اللذيذ الذي يشير إليه الشعراء عادة لا يقتصر على التنقّل بين محبوبات عديدات بل يمكن أن يتوسع في مفهومه ليشمل التنقّل بين الأماكن ، أي السفر ، والعبّ من ملذات كل مكان :

تنقّل فلذات الهوى في التنقّل

ورد كلّ صاف لا تقف عند منهل

ففي الأرض أجناب وفيها منازل

فلا تبك من ذكرى حبيب ومنزل

وبعد سفر ثمانية عشر يوما ، أي في ١٤ من ذي القعدة يصلون إلى ميناء بندر جدة بأرض الحجاز ، ثم منها إلى مكة المكرمة لأداء شعيرة الحج. ثم إن السلطان برغش يسافر إلى المدينة المنوّرة لزيارة قبر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عائدا إلى جدة فزنجبار.

أما الكاتب فقد بقي في مكة المكرمة «مجاورا لبيت الله الحرام وزمزم والمقام». ثم يزور في الحجاز مدينة الطائف ، ليبدأ بعد ذلك رحلة أخرى تنفتح على بلدان تقع ضمن نفوذ الدولة العثمانية هي مصر التي يزور فيها القاهرة والإسكندرية وبو سعيد ، وما كان يعرف بأرض الشام ، زائرا فيه دمشق والقدس وبيروت.

٥

ويكشف النص عن إعجاب السيد حمود البوسعيدي بما رأى من مظاهر الحياة العصرية في الأماكن التي زارها مما يتصل بالصناعة والاتصالات والنقل والقصور والحدائق والحياة العلمية الزاهرة ، مما يغيب أو يحضر بضعف في البيئة التي قدم منها. وهو يسمي الماكينات عامة بالكرخانة ، فيتحدث عن مشاهدته لكرخانة الكتب في القاهرة أي مطبعة الكتب ، وأن بها عشرة من العلماء لتصحيح الكتب ، ومتحدثا عن صناعة الورق وطريقتي الطبع المختلفتين ؛ بالحجر والرصاص. أما كرخانة السراج فهي المولدات الكهربائية الكبيرة التي راعه كيف أنها تشعل المصابيح في البيوت والطرقات. أما في دمشق فتستوقفه آلة صب الحديد وبرمه ، فيقول : «ورأينا فيها كارخانات تعمل الحديد وآلة مراكب الدخان والكراكات التي تحفر البحر ، والمحل الذي يصلحون فيه المراكب ، وفيها يصبون الحديد مثل الرصاص ، وعندهم آلات تقطع الحديد وتبرمه وتسحله مثل الشمع ليس مثل الخشب بل الخشب أقوى منه وهو بارد بلا إدخال النار. تكفي حكمتهم. ولا تسمع له حسا وقت القطع. وشيء من الآلات تطرق الحديد وتشرخ الأخشاب وتقطعه للنجار ، وهي تعمل بالنار. وهذه الكرخانات للفرنسيس».

وهو يقف مسجلا ما يراه في رحلته من أمور عجيبة كما فعل في

٦

حديثه عن أهرامات مصر وخبر بنائها الذي هو كالأسطورة ينقله عن كتب التاريخ ، نعرض عن سرده هنا حتى يراه القارئ في محله. ثم ينقل بيتين محكمين لأحد الشعراء يصف فيهما الهرمين اللذين قال أنهما منسوبان لشدّاد بن عاد :

خليليّ ما تحت السما من بنيّة

تماثل في إتقانها هرمي مصر

بناء يخاف الدهر منه ، وكلّ ما على

ظاهر الدنيا يخاف من الدّهر

وفي الشام يصل يافا أولا ويروقه تنظيمها إذ هي : «متفردة بشكلها فوق جبل. والبيوت فوق بعضها البعض ، وشيء من الطرق يوصل للغرف العالية. وبنيانها أغلبه بالحجارة المنحوتة». ويشير إلى جودة فواكهها وإلى سكانها من النصارى الذين أثنى كثيرا على أقوالهم وأفعالهم الموافقة للمسلمين ، ويتعرف هناك على الفرق بين القسيسين والرهبان. فالقسيسون يخالطون الناس في الكنائس وغيرها ، والرهبان ينقطعون في الصوامع ولا يخالطون الناس. وتكون بينه وبينهم حوارات عديدة.

ويسافر على الخيل إلى بيت المقدس ، فيجدها مدينة كبيرة عليها سور وأرضها غير مستوية ، وبيوتها قديمة ، وأغلب سكانها نصارى ويهود ، والمسلمون بها قليل. ويقدم وصفا دقيقا للمسجد الأقصى ،

٧

فيقول : «وهو مسجد عظيم لا مثيل له ، يعجز الوصف عن وصفه. وفيه محاريب الأنبياء عليهم‌السلام. ونزلنا أسفله ورأينا بناءه القديم الذي بناه النبي سليمان بن داؤد عليهما‌السلام ، وهو بالحجارة. والبناء الثاني وضع على أساسه السابق ، وكل محراب في محله على أساسه ، هكذا أخبرونا». ثم يستطرد في وصف جمال بنائه وفخامته.

كما يقدم وصفا آخر عن كنيسة القيامة التي تعود إلى زمن الجاهلية ، وما بها من زينة وزخرف وأواني ذهب وفضة وتماثيل ، وينقل ما رأى بأسلوبه الفريد في التصوير : «وزعمهم (أي النصارى) أنه الموضع الذي قتل فيه سيدنا عيسى عليه‌السلام ، ما تركوا شيئا من ذلك حتى الدم مصور ، وموضع ما دفن صورة قبر على حجر مثل الكهرب وعليه شيء كثير مما ذكرته. وصورة سيدتنا مريم في صباها وعليها من اللباس والحلي والجواهر ما لا يوصف. الحاصل أن العقل لا يسع ما رأينا ويعجز الواصف عن وصفه».

كما يشير إلى أمر غريب رآه وتأكّد منه بنفسه ، وهو أن قرب قبر النبي موسى كليم الله في الجبال لا يتيسّر الحطب والناس يشعلون الحجر فيوقد نارا ويطبخون عليه. وقد جرّب الكاتب ذلك الأمر فوجده

٨

صحيحا ، وذلك كرامة من الله لأن تلك الجبال عديمة الشجر. وينقل الكاتب أن هذا الحجر إذا خرج من القدس بطل عمله.

ومن القدس يذهب إلى بيروت التي لا يقيم بها طويلا ويصفها وصفا سريعا ، فهي «مدينة طيبة فيها من المأكل الفاخر من الفواكه وغيرها شيء كثير. وأكثر سكانها نصارى ويهود ، وبقدر الربع المسلمون فيها ، والثلاثة الأرباع كفرة. وفيها جملة أسواق وبيوت فاخرة وبساتين ، وأغلب طرقها مفروشة بالحجر. الحاصل أنها بلد حسنة وهواؤها صحيح». ويبدو أن بيروت لم تكن سوى محطة في طريقه إلى دمشق.

وفي عربة تجرها الخيل ، يسميها الكروسة ، سافر السيد حمود البوسعيدي إلى دمشق ، فوجدها «... مدينة عظيمة ، وفيها جملة أسواق ومساجد وحمامات ، شيء كثير. وفي أسواقها شيء كثير من بضائع وغيرها من المآكل والمشارب والفواكه الفاخرة شيء لا يوصف. وحولها البساتين ، والجبل دائر عليها محدق بها كلجّة البحر. ويدور الجبل حول البساتين كالسور. وتسقيها سبعة أنهار كبار وتتفرق على جملة أنهار أصغر. وما رأيت بلدا مثلها ، كثيرة المياه في كل بيت بركة أو بركتان ...». ثم يذكر قدم البلد والجامع

٩

الأموي فيها ، مقدما وصفا تفصيليا عن بنائه. وهي عنده جنة الدنيا ، كما يقول ، ويصدق فيها قول القائل :

عرّج ركابك عن دمشق لأنّها

بلد تذل لها الأسود وتخضع

ما بين جانبها وباب بريدها

بدر يغيب ، وألف بدر يطلع

ولا يخفى الغزل في نساء دمشق في البيت الثاني.

ومن الشام يعود المؤلف إلى مصر فالحجاز حيث يبلغ بندر جدة في الأول من شعبان سنة ١٢٨٩ ه‍ ، الموافق ٤ أكتوبر ١٨٧٢ م ، ومنها إلى مكة المكرمة حيث ينتهي سرد أحداث رحلته. ولا يذكر كم مدة بقي في جدة ، ولا يذكر متى غادر إلى مكة ، ولكننا نرجّح أن مقامه بجدة لم يطل ، وما كانت إلا نقطة وصوله البحرية للعبور إلى الديار المقدسة. وقد سبق أن زارها من قبل ولم يطل المكث فيها. ووجدنا من عادته في تأليفه هذا أن يذكر مدة الإقامة حين تزيد وإن قليلا.

وعند ما نحاول التعرف على شخصية الكاتب من خلال رحلته فأول وأبرز سمة هي سمة الالتزام الديني. فبين أيدينا نص لفقيه وقور ممتثل لأوامر الشريعة فيما يأتي ويترك. وقد رأينا أن أهم سبب لرحلته هذه كان سببا دينيا ، إذ هو «... إحياء سنة من سنن الأنبياء والسادة الأتقياء» ، كما قال. وهنا نشير إلى أن بداية الرحلة الحقيقية

١٠

هي الأراضي المقدسة انطلاقا من مكة المكرمة ، وكذلك كانت نهايتها في مكة المكرمة. فهي بشكل تقريبي سياحة روحية لكسب المعرفة وتعزيز الشعور الديني ، ولذا فإنه يهتم كثيرا بزيارة قبور الأنبياء عليهم‌السلام والصحابة والأولياء الكرام ، ذاكرا مشاهداته بتفصيل محب في ثنايا عرضه لخط رحلته. ودلالة على الأهمية المركزية لهذه المزارات نجده يعود ويفرد لها فصل خاصا يجمع فيها تلك المزارات وأماكنها تسهيلا للمطالع للكتاب. وعند ما لا يتمكن من الوصول إلى بعض المزارات في الشام ، نجده يعتذر بشدة عن تقصير اضطر إليه بسبب عارض المواصلات ، يقول : «وما بين بيروت ودمشق يذكرون قبور أنبياء منهم إلياس وشيث عليهما‌السلام وهما في ناحية من الطريق ، هكذا أخبرونا لأننا مررنا بعيدا عنها ، ولم يمكن لنا الوصول إليها لحثّ (١) أهل الكروسة لا يمكنهم الانتظار ، ولأجل ذلك صحّ لنا مانع ، وقرأنا لهم الفاتحة من بعد ، ونرجو من الله القبول».

وملمح آخر من ملامح شخصية الكاتب مما يفهم من هذه الرحلة هو حب الاستطلاع والنزوع إلى المغامرة المحسوبة في بعض المواقف مما يعطي النص بعدا شائقا إضافيا. ومن بين تلك المواقف ما يحكيه

__________________

(١) الحثّ : العجلة.

١١

عن زيارته لقلعة بمصر والبئر التي يذكر أن سيدنا يوسف عليه‌السلام أجلس فيها. وهو لا يكتفي بمشاهدتها من الخارج بل ينزل إلى طريقها المظلمة للتحقّق ، يقول : «ورأينا ضرب خانة القروش في القلعة ، وكذلك سجن النبي يوسف عليه‌السلام وهي بئر كبيرة عميقة في القلعة ونزلنا إلى بعضها ، ورأينا الموضع الذي كان يجلس فيه النبي يوسف عليه‌السلام ، وهو في جانب من البئر. وطريقها مظلمة ينزلون إليها بالشموع ، وهم يجذبون الماء منها للقلعة على راسين من الخيل ، لأنها بئر عظيمة هائلة ، وماؤها عذب».

ومن ذلك أيضا أنه في كنيس يهودي عرف أنه في بطن محراب من محاريبه صورة للنبي موسى عليه‌السلام فتقدم محاولا كشفها فمنعوه ، لأنهم يكشفونها يوم السبت عند عبادتهم فقط.

كما أن الكاتب مولع بالدقة ومقارنة ما يراه في رحلته بما يعهده ويعهده ـ ربما ـ قارئه المتخيّل في زنجبار. ففي وصف خط رحلته نجده حريصا على ذكر الزمن الذي احتاجه للتنقل بين نقطتين وذكر الوسيلة وقيمة الأجرة التي أنفقها. ثم إنه إلى جانب ذكره ذلك في تضاعيف رحلته نجده يعود في آخر كتابه فيفرد فصلا يجعله خاصا لما : «يتعلق بنول البوابير وشروطها وكراء الدواب». ومن بين هذه

١٢

المواقف الدالة هو نقله لشروط النقل البحري التسعة وإجراءاته الدقيقة والرسوم الموضوعة للنقل والصحة والجمارك بحذافيرها حتى تكون بين يديّ قارئه.

وفيما يتصل بالمقارنة نجده غالبا يقارن ما يراه بما يعرفه في زنجبار. ومن ذلك وصفه لمدينة القاهرة كما تبدوله من فوق تلة القلعة وعظمتها وكثرة بيوتها ، وأن زنجبار في السعة والقيمة عن محلة واحدة في القاهرة التي يسميها ـ كما جرت العادة ـ مصرا ، يقول البوسعيدي : «ونظرنا البلد كلها من القلعة فوجدناها بلدة عظيمة على الوصف وزيادة. وزنجبار كلّها ببيوتها في السعة والقيمة عن محلة من مصر على القياس. والحاصل أنها بلدة يكلّ البليغ عن وصفها ، وليس الخبر كالعيان». وهذه المقارنة بزنجبار ليست ناتجة عن أن المؤلف يقارن ما لا يعرف بما يعرف فقط ، بل إضافة إلى ذلك أنه يتوجه مباشرة إلى قارئ معين من زنجبار. وربما كان هذا الكتاب موجّه إلى سلطان زنجبار آنذاك السيد برغش بن سعيد بن سلطان كما جرت العادة مما نجده في مؤلفات مشابهة أخرى مثل «تنزيه الأبصار والأفكار» ، حيث يقول جامعه ومرتّبه القس يحيى لويس صابونجي : «وسلكت في تصنيفه مسلكا سهل المطالعة قريب المناولة ، وجلوته بتصاوير بهيّة تشخّص مناظر البلاد وصور الرجال ذوي المناصب والأمجاد ،

١٣

عسى يحوز القبول بأعين سعادة السيد برغش أعزّه الله» (١). ولا بد من التذكير هنا أن المؤلف رافق السلطان في بداية الرحلة من زنجبار إلى مكة المكرمة ثم اختلف سيرهما حيث عاد السلطان لمقر حكمه وواصل السيد حمود البوسعيدي أسفاره في الحجاز أولا ثم إلى مصر والشام ، فكأنّه يقدم للسلطان الجزء الآخر من الرحلة الذي لم يشهده.

وهذا الاهتمام بالشأن الزنجباري لا يقتصر على مظهر المقارنة وإنما نجده يبرز خلال نقاشات البوسعيدي مع قساوسة النصارى الذين التقى بهم في يافا ، وأعجب أيّما إعجاب بسيرتهم والتزامهم بدينهم التي وجدها موافقة لمقتضيات الشريعة الإسلامية ، يقول : «والمذكورون نصارى الشام من العرب ليس بينهم افرنج بل إنهم ملة واحدة ، ولباسهم مثل المسلمين. ويتعجب الإنسان من أقوالهم وأفعالهم أغلبها موافقة للمسلمين. واطلعت على تفسير كتبهم ؛ بها أحوال كثيرة موافقة للشريعة ، وبها مواعظ وحكم». ويسجل بفرح تعرّفه على طبقاتهم المختلفة والفوارق بينها القساوسة والرهبان والبطارقة. ثم إنه يجري معهم حوارا حول تحريم الرقيق وموقف

__________________

(١) زاهر بن سعيد ، تنزيه الأبصار والأفكار في رحلة سلطان زنجبار ، (وزارة التراث القومي والثقافة : مسقط ١٩٨١ م) ، ط ١ ، رتبه وصوبه لويس صابونجي ، ص ٢٣٣ ..

١٤

الدين المسيحي منه. يقول في نص تكشف أجواؤه عن تقدير لهم ، ويختص ـ أي النص ـ بطائفة منهم لهم مذهب في الاغتسال من النجاسة يقترب مما عند المسلمين : «والنصارى المذكورون يذكرون أنهم يستنجون من البول والغائط وكذلك الجنابة لها استنجاء خاص وليس غسل تام. وهم ينكرون على باقي النصارى ويخطئونهم لأنا اجتمعنا بواحد من المتفقهين في دينهم ورأينا منه الإحسان التام ، ليته كان مسلما. ورأينا عندهم جواري سود ، وسألناهم عن ذلك ، فقالوا : معنا جائز البيع والشراء في الرقيق. قلنا : كيف يمنع الإنجليز ذلك؟ قالوا : فعلهم مخالف للإنجيل ، لأن الإنجيل محلل بيع الرقيق ، بل الذي يدخل في ديننا نكره بيعه لأنه قد دخل في الدين وصار مثلنا ، وذلك لا يخرجه من الرق بل نكره بيعه ، وهو ليس بحرام مطلقا».

وهذه المناقشة تأتي على خلفية المعاهدات التي وقعها السلطان برغش بن سعيد لمنع تجارة الرقيق ، مما ترتب على ذلك من خسائر مادية كبيرة على حكومة زنجبار وأتباعها.

وقد بحثنا فلم نجد للسيد حمود البو سعيدي مؤلفا غير هذا الذي بأيدينا. وحسبنا أن نشير في هذه العجالة إلى ملاحظة لا بد وأن قارئنا الكريم أدركها حتى الآن ، من خلال ما أوردناه من نماذج وإن كانت قصيرة من هذه الرحلة ، إلى أن لغة الكاتب بعدت كثيرا

١٥

عن لغة المصنفات الفقهية ومالت إلى التسهيل وإلى الاقتراب من العامية في كثير من المظاهر اللغوية مما يتصل بالألفاظ وما يتصل بالتراكيب. فالكاتب يستعير ألفاظا من لهجات الأمصار التي يمرّ بها ويستخدمها بسلاسة ودون تردد ، ومنها على سبيل التمثيل فقط : البرتقان / البرتقال ، المزيقة / الموسيقى ، الكرنتينة / الحجر الصحي ، اللوكانته / المقهى أو المطعم ، وهكذا. كما يستخدم ألفاظا من اللغة السواحلية مما قد يكون له أصول عربية أحيانا ، مثل : الحل / زيت الوقود ، الماشوة / السفينة ، الشامبة / البستان ، البندر / المدينة. وتأتي بعض التراكيب من اللهجة العمانية من مثل : ما يحتاج طبيخ ونفيخ / سهل الاشتعال ، لا سوجة ولا موجة / البحر هادئ. وهناك ظواهر تركيبية أخرى في النفي والتقديم والتأخير مما يستحق دراسة مفردة. وقد حرصت أن أبقي أسلوب الكاتب دون تغير يذكر إلا أن يكون خطأ نحويا. ولغته ، على الرغم من عدم ألفتها أحيانا ، وربما لضعفها اللغوي أحيانا أخرى ، إلا أنها تحمل قيمة تاريخية لتبدّل اللغة وتطورها تأثّرا بالعوامل الجغرافية والسياسية ، وهي بقدر ما تكشف عن الكاتب تكشف عن المجتمع وتنبئنا عنه.

١٦

٢ ـ التعريف بالمؤلّف.

وقد عرف عن السيد حمود بن أحمد البوسعيدي اهتمامه الشديد بأعمال الخير والصلاح في خدمة المسلمين مدفوعا بعاطفة الفقيه التقي الجيّاشة ، فما يكاد يذكر اسمه إلا وتبادرت إلى الأذهان أوقافه الكثيرة في المصالح العامة وأبرزها بيت الرباط الذي أوقفه للحجاج العمانيين بمكة المكرمة. وهكذا كان أخوه السيد هلال بن أحمد الذي أوقف الأوقاف العديدة للمصالح العامة في عمان ، ومن بينهما مسجد الخور بمسقط ، الذي كانت تقام فيه الدروس التعليمية. (١)

وقد أخبرني السيد سعود بن حمد بن حماد البوسعيدي (٢) عن مدّ السيد المترجم له هنا أنابيب الماء العذب من منطقة في زنجبار تسمى «مبوبو» على بعد ثمانية أميال إلى المدينة ، وأنه أوقف بيوتا كثيرة لشارع بأكمله في منطقة «درجاني» في زنجبار أيضا لصيانة هذه الخدمة الجليلة ؛ خاصة وأن زنجبار جزيرة يشحّ فيها الماء العذب. ويذكر السيد سعود أن من أعماله الخيرية أيضا بناء مسجد في «ماليندي فرضاني» بزنجبار. وقد وقفت على هذا

__________________

(١) كما أخبرني بذلك الشيخ أحمد بن سعود السيابي في زيارتي له بمكتبه بوزارة الأوقاف والشؤون الدينية ، في يوليو ٢٠٠٦ م.

(٢) في لقاء معه بمنزله العامر بمرتفعات القرم ، بمسقط مارس ٢٠٠٦ م.

١٧

المسجد أثناء رحلتي الأخيرة لزنجبار في شهر يونيو سنة ٢٠٠٦ م. وهو مسجد عامر قبالة شاطئ البحر المسمّى «فرضاني». وسألت القائمين على المسجد وهما الشيخ سليمان بن خلف بن سنان الجابري والشيخ حميد بن سعيد بن عبد الله بن حميد البحري عن أوقافه إن كانت معلومة لديهم ، فقالوا إنهم سمعوا بها ولكنها ضاعت بعد الاضطرابات السياسية العنيفة التي مرت بها زنجبار ، (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ). (١)

وقد أسهب الشيخ سعيد بن علي المغيري في ذكر مناقب السيد حمود وخصص له فصلا في كتابه المهمّ «جهينة الأخبار في تاريخ زنجبار» ، بعد أن ذكر السلطان برغش بن سعيد وأعماله الجليلة. يقول المغيري : «إن من أحسن ما ينبغي لنا نزيّن به صفحات هذا التاريخ هو ذكر السيد المحسن الجليل حمود بن أحمد بن سيف البوسعيدي. ويناسب أن نخلّد ذكره بجوار ذكرى مآثر هذا السلطان العظيم ، ربّ المحامد والمكارم السيّد برغش بن سعيد ، حيث إن السيد برغش هو نادرة سلاطين زنجبار فكذلك السيّد حمود بن

__________________

(١) جلست إليهما في المسجد المذكور ، وسألت الشيخ الجابري عن عمره فقال : ثمانون سنة ، وهكذا بدا لي عمر الشيخ البحري. يجد القارىء صورا في آخر الكتاب لهذا المسجد.

١٨

أحمد نادرة رعاياه عرب زنجبار». (١) ثم يذكر المغيري مآثر السيد البوسعيدي وهي وقف بيت الرباط بمكة المكرمة ، وأوقاف أخرى بها لخدمة هذا الوقف ، ومدرسة لتعليم القرآن ، ومسجد جامع بمنطقة بو بو بو ، (٢) وقصر فاخر تتصل به أرض واسعة بها معصرة حديد لعصر قصب السكر ومطاحن للدقيق تدور دواليبها بقوة جري ماء أجراه من عين موينايا. ومن أعماله الجليلة عتق ألف ومائتي مملوك.

ويشير المغيري إلى هذه الرحلة التي بين أيدينا قائلا : «وفي عام ١٢٨٨ ه‍ صاحب السيد حمود بن أحمد السيد برغش بن سعيد إلى مكة المشرفة لأداء فريضة الحج ، وجاور فيها ، وزار الطائف ، ومصر ، والشام ، وفلسطين القدس الشريف». ثم يذكر طرفا عن أسرته فيقول : «وتزوج بالسيدة زمزم بنت سعيد بن سلطان بن الإمام. ووالدة السيد سعيد غنى بنت سيف عمّة السيد حمود هذا».

وحول موته يذكر المغيري : «وقد زهد في آخر أيامه ولازم سكنى بو بو بو ، وبالأخصّ البيت الذي كان قرب المسجد. ولزم المحراب إلى أن توفاه الله تعالى باليوم العاشر من ربيع الأول سنة ١٢٩٨

__________________

(١) سعيد بن علي المغيري ، جهينة الأخبار في تاريخ زنجبار ، (وزارة التراث القومي والثقافة : مسقط ١٩٧٩) ، تحقيق عبد المنعم عامر ، ص ص ٢٥٥ ـ ٧.

(٢) تبعد عن مركز زنجبار حوالي ثلاثة أميال ، وبها كانت محطة للقطار فسماها الناس بو بو بو ، محاكاة لصوت القطار البخاري.

١٩

ه [١٨٨١ م] ، ودفن بجوار مسجده في بو بو بو. أقول مات ولكنه حي بآثاره الجميلة وغيره ميت وإن كان حيا».

٣ ـ نسخ المخطوط وضبط العنوان

وأثناء إعدادي لنشر هذه الرحلة الفريدة عثرت على مخطوطة قديمة لها ، وهي من جملة تركة الشيخ المؤرخ سعيد بن علي المغيري صاحب جهينة الأخبار ، بيد حفيده الأخ علي بن سعيد بن علي المغيري (١). والمخطوطة من القطع الصغير وملحق بها قصيدة شعرية جيدة غير القصيدتين اللتين وردتا في النسخة الأخرى التي سيشار إليها لاحقا. كما تتميز هذه المخطوطة إضافة إلى قدمها بوجود صفحة العنوان. ولكن ـ وللأسف ـ عدت عليها الأرضة فمخرت وسطها من بداية المخطوطة إلى قرب نهايته التي سلمت. وأورقها مفككة وضعيفة وتحتاج إلى ترميم سريع.

ويظهر من العنوان التالي : [هذا كتاب الدّر المنظوم في ذكر محاس ... الرسو ... تأليف السيد الأمجد حمود بن أحمد بن سيف بن محمد البوسعيدي نفع الله به المسلمين وجزاه عنا خيرا ، أمين]. ونون كلمة محاسن التي في العنوان لا تظهر بدقة وكذلك لام

__________________

(١) زيارة لمنزله في ولاية بوشر بمحافظة مسقط ، ابريل ٢٠٠٦ م.

٢٠