شرح الكافية البديعية

صفي الدين الحلّي

شرح الكافية البديعية

المؤلف:

صفي الدين الحلّي


المحقق: الدكتور رشيد عبد الرحمن العبيدي
الموضوع : الشعر والأدب
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٦

١
٢

٣
٤

الإهداء

أيها الهائمون بحب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم

هذه بديعية تزيد في هيامكم ، وتحكم تمسككم به.

فهي مهداة إليكم

للهائمين بحب طه الهادي

اهدي بديع الشعر والإنشاد

نظم الصفي المستفيض بلاغة

وردا يسوغ لأطيب الوراد

رشيد عبد الرحمن العبيدي

٥
٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدمة في تحقيق هذا الشرح

الحمد لله ، والصلاة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا حول ولا قوة إلّا بالله

هذا السفر الجميل من كتب البديعيات الكثيرة ، التي وضعها ناظموها في مدح الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأسفار التي تقدّم لقارئها متعة فنية ، وفوائد جمة ، وحلاوة مسوغة في العقول والأسماع من الشعر الجميل المنظوم في شخصية النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ولقد زادها قيمة ، ومكانة أن ناظمها هو صفي الدين عبد العزيز بن سرايا الطائي السنبسي الحلي ، وأنه ـ هو نفسه ـ قام بشرح أبياتها ، وبيان ما تضمنته من أنواع البديع وأصنافه بأسلوب الأديب الناقد العالم المقتدر على فن البديع بضروبه ومناحيه ، فهو يحلل البيت ، ثم يفسر معناه ، ثم يسرد الأمثلة المتنوعة من آيات الكتاب العزيز ، وحديث النبي الكريم ، والشعر العربي ، وأقوال الفصحاء والبلغاء ، ولا استغراب في ذلك ، إذا ما عرفنا قدرات المؤلف الحلي ، فهو شاعر فارس وخطيب بارع ، ومنشئ مبدع ، فضلا عن كونه عالما بفنون المعارف.

لقد رأيت وأنا أتصفح مكتبة الأوقاف العامة أن ثمة مخطوطات في اللغة والأدب وعلوم القرآن ، ما تزال تنتظر من ينفض عنها الغبار ، وينشرها لينتفع بها معنيو الأدب العربي وتراثه ، من تلك المخطوطات ، كتاب فنون الأفنان لابن الجوزي (٥٩٧ ه‍) الذي حرصت في ذلك

٧

الوقت ـ عام ١٩٧٥ م على انتساخه بخط يدي ، والاحتفاظ بنسخة جيدة منه ، قابلتها بنسخة أخرى خطية فيها بعض النقص ، تحتفظ بها المكتبة المذكورة ، حتّى إذا وقعت في يدي نسخة المغرب حققتها تحقيقا علميا ، ونشرتها وطبعها المجمع العلمي العراقي ، وكان من بين تلك المخطوطات التي أعجبني نسخها ، مخطوطة شرح الحلي لقصيدته البديعية ، ومع علمي بأن هذه المخطوطة قد طبعت ونشرت ، وجدت أن تحقيقها مهم ومفيد لما اتصفت به هذه النسخة المخطوطة من زيادات على المطبوع وفوائد مزيدة على حواشي النسخة ، تضيف الشيء الكثير من الدلالات والمعاني والتوضيحات على المتداول بين أيدي النّاس. ومن المعلوم أن المطبوع المتداول قليل ، وأن في نشر هذا الكتاب النافع خدمة نؤديها للمسلمين وللنبي العظيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإظهار خصائصه الخلقية والخلقية ، والتغني بحبه ، والافتخار بسنته ، والاستمتاع بعظاته وإرشاداته ، فضلا : عن كونه نبي الأمة الذي اختاره الله ـ تعالى ـ (هاديا (وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً* ، وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً).

لقد حاولت جاهدا ـ أن أقرن بين هذه النسخة المخطوطة ، والديوان الذي تضمن القصيدة كاملة ، والنسخة المطبوعة مع الشرح ، ليكون العمل متتاما كاملا ، يسند بعضه بعضا ، وتتعالج بذلك كل المشكلات التي وقعت في هذه النسخ من تحريف أو تصحيف ، أو نقص وزيادة ، أو تعليقات أوقعها النساخ على حواشي المخطوط والمطبوع ، فأصبح بذلك النسخ الجديد من هذا الكتاب نصا أكثر دقة وأقرب إلى الكمال :

وكان من منهجي في تحقيق هذه النسخة أني :

٨

أ. قابلت بين النصوص ، فأثبتّ ما رأيته أقرب إلى مراد الصفي الحلي ، وأوضح في المعنى ، وأكثر سدادا في سلامة العبارة.

ب. راجعت كتب البلاغة ، والمحسنات البديعية ، والبديعيات التي وصلت إلينا منذ ظهور هذا الفن ، حتّى العصور المتأخرة فنقلت منها ما زاد توضيحا ، أو أتم نقصا ، أو أضاف شيئا مفيدا في هذا المضمار.

ت. حاولت أن أشير إلى مصادر كل نوع بديعي في أول كل بيت شعري سواء أكانت هذه الأنواع البديعية قد وردت على لسان المتقدمين من علماء البلاغة أم على لسان المعاصرين للصفي ، أم على لسان المتأخرين منهم ، وأشرت إلى ما ذكره المتقدم ولم يذكره الآخر ، أو ما جاء به الصفي وأهمله من جاء بعده ، أو ما جاء به الصفي زيادة على من تقدمه.

ث. وثقت النصوص الواردة في نص الشرح ، وذكرت مظان ذكرها كالأمثال وأقوال الفصحاء والأشعار ، فضلا عن القرآن والحديث.

ج. وضعت رقما لتسلسل أبيات البديعية من البيت الأول منها حتّى نهايتها ، وهو عمل قمت به من أجل التوثيق ومنع الاختلال الذي قد يقع في التقديم والتأخير أو ما أشبه ذلك.

ح. نسبت الأبيات الشعرية المستشهد بها إلى بحورها ، وهذا أعدّه مبدأ مهما من مبادئ تحقيق النصوص الأدبية واللغوية.

خ. حرصت على ضبط المفردات التي تحتاج إلى شكلها بالحركات ، لتعين القارئ على الفهم وصحة القراءة.

٩

أما بعد ..

فهذا كتاب بين أيدي أبناء هذه الأمة المعتزّة بنبيّها ، الحريصة على التمسك بمبادئه وقيمه ، الآخذة في السير على سنّته ، وآثاره ، المعتنقة لدينه القيم ، فيا أيها المسلمون :

(وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)

واعلموا أن نصركم آت ، لأنكم جنده في الأرض

والله الموفق

بغداد

رشيد العبيدي

١٤٢٥ ه‍ / ٢٠٠٤ م

١٠

العناية بالبديعيات وبلاغتها

اتسع نطاق الدراسات في اللغة ، فشمل جوانب اللغة من غير النحو والصرف ، وفقهها ، فعني العلماء بأساليب العربية ، مبينين فصاحتها وبلاغتها ، وأوجه البيان والمعاني فيها.

ومن المعلوم أن أساليب العرب في جاهليتهم وإسلامهم كانت تسير على وفق سجيتهم وطبائعهم ، وسلائقهم العربية ، من غير أن يعتورها وهن أو خطأ أو يتسرب إلى اللسان لحن أو ضعف.

وفي غضون التاريخ الممتد من أول الدعوة الإسلامية حتّى القرن الثاني الهجري كان علماء التفسير والعربية وشراح الشعر والدواوين يقحمون موضوع البلاغة والفصاحة في مقدمة أعمالهم ، ويجتهدون في التفتيش في أنواعها وموضوعاتها المتمثلة في البديع والبيان والمعاني.

ولسنا نريد هنا أن نقدم بين يدي القارئ شيئا عن مبادئ البديع والمعاني والبيان من موضوعات البلاغة ؛ لأن هذه بحوث في كتب البلاغة الخاصة ، ولكننا نريد هنا أن نقدم شيئا عن جهود علماء العربية في هذا الفن.

والمعروف أن البديع ـ وهو وجه من وجوه تحسين الكلام بعد رعاية المطابقة لمقتضى المقام ، ووضوح الدلالة على المرام ـ قد ورد منه صور في القرآن الكريم بشكل معجز ، لأنّه جاء غير متكلف ، بل ولج الآذان من غير استئذان ، وتعلق بالقلب من غير كد ، كما عبر عنه البلاغيون ، وكذلك الحال في حديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكثير من الشعر العربي ، ولكنه بدأ يتكاثر بشكل واضح ، متميز في شعر بضعة شعراء إسلاميين عاشوا في المائة الثانية ، كمسلم بن الوليد في مثل قوله :

١١

موف على مهج واليوم ذو رهج

كأنه أجل يسعى إلى أمل

فجانس وطابق في البيت ، بأسلوب واضح التكلف والصنعة ، واستكثر الشعراء بعده هذا النهج البديعي ، فكان شعر أبي تمام وابن المعتز والبحتري طافحا بالتجنيس والمطابقة والتورية ، مما دفع ابن المعتز (٢٩٦ ه‍) إلى وضع كتاب في (البديع) جمع فيه سبعة عشر نوعا ، وانتهى من تأليفه سنة : ٢٧٤ ه‍ ، وتابعه في هذا المضمار أبو أحمد الحسين بن عبد الله العسكري (٣٨٢ ه‍) فوضع كتابه في (البديع) أيضا ، ثم وضع أسامة بن منقذ (٥٨٤ ه‍) فيه كتابا وجعله (٩٥) بابا.

واتسع علماء البلاغة في أنواع البديع ، وزادوا فيه أنواعا ، بلغ بعضهم إلى أكثر من (١٥٠) نوعا. فلقدامة بن جعفر في نقد النثر عشرون نوعا اتفق في سبعة منها مع ابن المعتز ، وجعلها أبو هلال العسكري (٣٩٥ ه‍) في (الصناعتين) سبعة وثلاثين نوعا ، وجعلها الحسن بن رشيق (٤٥٦ ه‍) في (العمدة) سبعة وثلاثين كذلك ، وتتبعها في الشعر وأغراضه ، وبلغت عند أحمد بن يوسف التيفاشي (٧٠) نوعا وعند ابن أبي الإصبع (٩٠) نوعا في كتابه (التحرير) الذي رجع فيه إلى ما يقرب من أربعين مصدرا في علم البديع ، ثم وجد هذا العلم طريقه إلى قصائد مدح الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسميت القصائد به ، فكانت (بديعية الصفي الحلي) (١) التي أملاها سنة (٧٣٧ ه‍) في (١٤٥) بيتا سماها : (الكافية البديعية) ، وأتى بها على (١٥١) نوعا ، وبديعية ابن حجة الحموي (٨٣٧ ه‍) سماها (التقديم) وهي في (١٣٦) نوعا ، أشاد بها ابن حجر العسقلاني كثيرا.

__________________

(١) ينظر البديعيات وشروحها : خزانة الأدب : ابن حجة الحموي. وقد ذكر فيه : بديعية له باسم التقديم.

١٢

ولكل من شهاب الدين الخوئي (٦٩٣ ه‍) وناصر الدين المطرزي (٦١٠ ه‍) وعبد الرحمن بن أحمد بن علي الحميدي (٦٩٢ ه‍) وشعبان بن محمد القرشي. المصري (٨٢٨ ه‍) والجلال السيوطي (٩١١ ه‍) وغيرهم بديعيات كثيرة رائعة في مدح الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكانت لها أسماء خاصة وضعها لها مؤلفوها كما ترى في (فتح البديع بشرح تمليح البديع بمدح الشفيع) للحميدي الذي نحا فيها منحى الصفي الحلي ، وفي (التوصل بالبديع إلى التوسل بالشفيع للعز الموصلي) (٧٨٩ ه‍) وشهاب الدين العطار في (الفتح الألي في مطارحة الحلي) ، وابن جابر الأندلسي (٧٨٠ ه‍) في (الحلة السّيرا في مدح خير الورى) وأولها : بطيبة أنزل ويمم سيد الأمم وقد شرحت هذه الأخيرة من الرعيني الأندلسي (٧٧٩ ه‍) شرحا مطولا (١).

أما المعاني والبيان ـ وموضوعهما العبارة والأساليب ، ووضوح الدلالة بصورة جلية ـ فقد اجتهد علماء اللغة في بادئ الأمر أن يبحثوهما ضمن موضوعات اللغة العامة ، والدراسات النحوية والأسلوبية ، ولذلك يجد الباحث عن موضوعات علم البيان والمعاني شيئا كثيرا في كتب النحو ، كسيبويه وكتب معاني القرآن والشعر للنضر بن شميل (٢٠٤ ه‍) ومؤرج السدوسي (١٩٥ ه‍) والزجاج (٣١٠ ه‍) وأبي جعفر النحاس (٣٣٨ ه‍) وأبي هلال العسكري (٣٩٥ ه‍) وغيرهم.

__________________

(١). انظر في البديعيات : الكشف ١ / ٢٣٢ ـ ٢٣٥.

١٣

وكان الجاحظ (٢٥٥ ه‍) قد وضع كتابه في (البيان والتبيين) وضمنه شيئا كثيرا من مبادئ هذا العلم ، ولا سيما الموضوعات المتعلقة بالفصاحة وجودة التعبير وطلاقة اللسان والملكة ، غير أن الجاحظ لم يكن يقصد من ورائه البحث في علم المعاني والبيان ، كما كان هذان العلماء بعده غاية للمعنيين ببلاغة اللسان العربي.

ولقد وضع علماء البلاغة كتبا كثيرة في البيان والمعاني أوضحت المبادئ الأولية والأسس التي استقر عليها ، وكتاب (أسرار البلاغة) لعبد القاهر الجرجاني (٤٧٤ ه‍) يعد أعظم كتاب تتضح فيه الخطوط العريضة للعلوم البلاغية التي تشكل جزءا كبيرا من الأسس التي يستند إليها الناقد العربي ثم اتسع نطاق التأليف في هذه العلوم ، وضيق النظرة إلى موضوعاتها ، فانحسرت عن ميادين النقد الأدبي والدراسات الذوقية فقصد إليها النّاس لذاتها ، فألفت فيها المتون والشروح على المتون والأراجيز وشروحها ، والمختصرات وشروحها ، ومن ذلك كتاب (الإيضاح) في المعاني والبيان للقزويني (٧٣٩ ه‍) وعليه شروح جمة وحواش (١). ومنه (مفتاح العلوم) لسراج الدين السكاكي (٦٢٦ ه‍) الذي عقد فيه بابا عن علمي البيان والمعاني ، وعلى هذا الكتاب شروح كثيرة ، ومنه كتاب (مصباح الزمان في المعاني والبيان) لمحمد بن محمد المقدسي (٨٠٨ ه‍) ، ومنه (المصباح في اختصار المفتاح في المعاني والبيان) لبدر الدين بن مالك (٦٨٦ ه‍) ، وقد نظمه رجزا محمد بن عبد الرحمن المراكشي ، واختصره ابن النحوية ثم شرح المختصر.

__________________

(١) الكشف : ١ / ٢١٠.

١٤

ولخص القزويني المفتاح ، ووضع العلماء شروحا على التلخيص (١) وشرحوا شواهده ، كما فعل عبد الرحيم بن أحمد العباسي (٩٦٣ ه‍) في كتاب (معاهد التنصيص) وقد طبع الكتاب وهو متداول ، وغير هذه الكتب مما يطول سردها هنا.

وإنما أوردنا جزءا منها لندل على جهود العلماء العرب في علوم البلاغة وموضوعاتها ، ويستطيع المرء أن يرجع إلى بعض هذه المتون فيما طبع منها في (مجموع مهمات المتون في مختلف الفنون والعلوم) (٢).

شخصية الحلي :

إتماما للبحث والتحقيق في بديعية الحلي وشخصيته الشاعرة لا بد لنا ـ هنا ـ من أن نمر على شيء مما يتعلق بحياة هذا الرجل واتجاهه الشعري ، في عصره.

فالحلي ، هو عبد العزيز بن سرايا بن علي بن أبي القاسم بن أحمد بن نصر بن أبي العز بن سرايا بن باقي بن عبد الله بن العرّيض السنبسي الطائي صفي الدين (٣).

فهو عربي أرومة من سنبس الطائية.

__________________

(١) إيضاح المكنون : ١ / ٣١٩. وللدكتور أحمد مطلوب دراسة نال بها الدكتوراه عن شروح التلخيص.

(٢) مجموع مهمات المتون (ط : ١٣٦٩ ه‍) ، متون البيان والأدب : ص ٥٨٥.

(٣) انظر في ترجمته : في الدرر الكامنة : ٢ / ٣٦٩ ـ ٣٧١ والبلغة : ٩٠ ـ ١٠٠ ، وفوات الوفيات : ١ / ٥٧٩ ـ ٥٩٤ والنجوم الزاهرة : ١٠ / ٢٣٨ وريحانة الأدباء : ٣ / ٣١٢ وسفينة البحار : ٢ / ٧ وشعراء الحلة : ٣ / ٢٧٠ وروضات الجنات : ٥ / ٨٠ ـ ٨٣ وغيرها.

١٥

ولد صفي الدين الحلي ـ كما يقول الكتبي ـ : «يوم الجمعة خامس شهر ربيع الآخر سنة سبع وسبعين وستمائة» في مدينة الحلة ـ في العراق ـ في أسرة من (سنبس) فرع من قبيلة طيء العربية ، وكان أعمامه وأخواله ممن يتزعمون في سنبس ، ولهم مواقع ومعارك مشهورة كانوا يبلون فيها البلاء الحسن ، ولذلك تغنى الشاعر بمفاخر أخواله وكان على رأسهم جلال الدين بن المحاسن الذي نظم فيه وهو صبي جملة من القصائد يحرضه على خوض المعارك ، ومن ذلك قوله ـ وهو في صباه ـ يحرض خاله الصدر جلال الدين بن محاسن على أخذ ثأره من أعدائه في إحدى الوقائع :

ألست ترى ما في العيون من السقم

لقد نحل المعنى المدفق من جسمي

وأضعف ما بي بالحضور من الضنا

على أنها من ظلمها غصبت قسمي

ثم يقول بعد هذا الغزل متخلصا :

ألم تشهدي أني أمثل للعدى

فتسهر خوفا أن تراني في الحلم

فكم طمعوا في وحدتي فرميتهم

بأضيق من سمّ وأقتل من سمّ

ولو جحدوا فعلي مخافة شامت

لتمّ عليهم في جباههم وسمي

١٦

فكيف ولم ينسب زعيم لسنبس

إلى المجد إلّا كان خالي أو عمي

ملاذي جلال الدين نجل محاسني

حليف العفاف الطلق والنائل الجمّ

فتى خلقت كفاه للجود والسطا

كما العين للأبصار والآنف للشمّ

وهي قصيدة طويلة (١) في أربعين بيتا ، تدلّ على عمق التجربة الشعرية ، وهو بعد لم يزل صبيا في عنفوان أيام شبابه وعلى الرغم من هذا الحماس المتأجج في نفس الشاعر رأينا أنه لم ترق له هذه الحال ، من الحروب والوقائع والصدامات العنيفة بين قبيلته وأعدائها ، مما اضطرّه إلى التفكير في ترك الحلة ، وانتجاع مواطن غيرها لعله يرى فيها راحته واطمئنانه بعيدا عن النزاعات والصدامات المسلحة.

وكان الحافز الكبير في دفع الشاعر إلى الهجرة عن دياره في العراق قتل خاله صفي الدين بن محاسن غيلة وهو في صلاته. وحدوث فتن وقلاقل بين طيء وسائر القبائل المجاورة ، يشير إلى ذلك بقوله : ثم جرت بالعراق حروب ومحن ، وطالت خطوب وأحن ، أوجبت بعدي عن عريني ، وهجر أهلي ، وقريتي بعد أن تكمل لي من الأشعار ، ما سبقني إلى الأسفار ، وحدث به الركبان في الأسفار .. (٢). وعبارته الأخيرة تشير بوضوح إلى التفكير في نيل الشهرة بالشعر ، في مطلع حياته ، وكان يومئذ قد نيّف على عشرين عاما من عمره ، أي : في حدود سنة (٧٠٠ ه‍)

__________________

(١) انظرها في ديوانه : ط : العراق : ص ١١ ـ ١٣.

(٢) مقدمة ديوانه : ط : العلمية : ص ٦.

١٧

وكان لحادثة قتل خاله صفي الدين المذكور أثر كبير في نفسية الشاعر الشاب ، فنظم قصيدته (سل الرماح) يفتخر بقومه الذين أخذوا بثأر خاله الصفي بن محاسن من آل أبي الفضل سنة (٧٠١ ه‍) يقول :

سلي الرماح العوالي عن معالينا

واستشهدي البيض هل خاب الرجا فينا

وسائلي العرب والأتراك ما فعلت

في أرض قبر عبيد الله أيدينا

لما سعينا فما رقت عزائمنا

عما نروم ولا خابت مساعينا

يا يوم وقعة زوراء العراق وقد

دنا الأعادي كما كانوا يدينونا

بضمر ما ربطناها مسومة

إلّا لنغزو بها من بات يغزونا

ثم يمدح قومه بقوله :

قوم إذا استخصموا كانوا فراعنة

يوما وإن حكموا كانوا موازينا

تدرعوا العقل جلبابا فإن حميت

نارا لوغى خلتهم فيها مجانينا

إذا دعوا جاءت الدنيا مصدقة

وإن دعوا قالت الأيام آمينا

إنا لقوم أبت أخلاقنا شرفا

أن نبتدي بالأذى من ليس يؤذينا

بيض صنائعنا سود وقائعنا

خضر مرابعنا حمر مواضينا

لا يظهر العجز منا دون نيل منى

ولو رأينا المنايا في أمانينا

كم من عدوّ لنا أمسى بسطوته

يبري الخصوم لنا ختلا وتسكينا

١٨

كالصل يظهر لينا عند ملمسه

حتّى يصادف في الأعضاء تمكينا

 .... الخ (١)

ولم يكف الشاعر عن ذكر هذه الواقعة وذكر خاله المقتول في قصائد أخرى ، كقصيدته اللامية في (وقعة الزوراء) التي ذكرها في الأبيات المتقدمة ، يقول :

لمن الشوازب كالنعام الجفل

كسيت جلالا من غبار القسطل

يبرزن في حلل العجاج عوابسا

يحملن كل مدرّع ومسربل

فيذكر خلالها الصدر بقوله :

مازال صدر الدست صدر الرتبة ال

علياء صدر الجيش صدر المحفل

لو أنصفته بنو محاسن إذ مشوا

كانت رؤوسهم مكان الأرجل

بينا تراه خطيبهم في محفل

رحب تراه زعيمهم في جحفل (٢)

وظل الحلي يذكر خاله هذا في قصائده ، كقصيدته التي عارض فيها قصيدة قطري بن الفجاءة :

أقول لها وقد طارت شعاعا

من الأبطال ويحك لا تراعي

وقصيدته النونية :

سلوا بعض تسآلي الورى عنكم عني

فقد شاهدوا ما لم يروا منكم مني (٣)

__________________

(١) الديوان (ط : العراق) : ١٣ ـ ١٤.

(٢) الديوان : ١٥.

(٣) الديوان : ١٨.

١٩

وأخرى كتب بها إلى صديق يعاتبه على خلف وعده في إشراكه بهذه المعركة (١).

وبذلك تكون هذه الواقعة (الزوراء) و (أخذ الثأر) من أهم المحفزات في حياة الشاعر لنظم القصائد الحماسية في الفخر والاعتزاز بأمجاد قومه (السنبسيين الطائيين) غير أن هذه الأوضاع والقلاقل والمحن التي واكبت حياته وهو في ريعان شبابه قد فرضت على نفسه الطامحة أن يرحل عن أهله وأقرانه ، وأن ينتجع مكانا آخر كما سبق أن أشرنا إلى ذلك ، فقصد (ماردين) ، وهي قلعة فتحت في زمن عمر بن الخطاب رضى الله عنه وكان عليها السلطان الملك المنصور نجم الدين أبو الفتح غازي بن أرتق.

وكان الصفي الحلي قد تعرّف هذه الديار عن طريق اشتغاله بالتجارة ، فكان يرحل إلى مصر والشام وماردين وغيرها ، ثم يرجع إلى العراق ، وكان في غضون هذه الرحلات يمتدح سلاطين هذه البلدان وملوكها وأعيانها.

ويبدو أنه وجد في أمراء ماردين بغيته التي كان ينشدها ، وإلا فقد مدح غيرهم ، كالسلطان الناصر بن قلاوون (٢) ، كما مدح ابن الأثير كاتب السر في مصر (٣).

ومن مدحه للناصر قوله :

أسبلن من فوق النهود ذوائبا

فتركن حبات القلوب ذوائبا

وجلون من صبح الوجوه أشعة

غادرن فود الليل منها شائبا

__________________

(١) الديوان : ١٩.

(٢) فوات الوفيات : ١ / ٥٨١ والنجوم الزاهرة : ٦ / ٢٧٥.

(٣) الفوات : ١ / ٥٨٠.

٢٠