الشيخ عبد الله الحسن
المحقق: الشيخ عبد الله الحسن
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٨٤
المناظرة الرابعة والثلاثون
مناظرة
الأمير أبي الفوارس مع الوزير يحيى بن هبيرة
في إيمان أبي طالب عليهالسلام
عن سلار بن حبيش البغدادي ، عن الأمير أبي الفوارس الشاعر قال : حضرت مجلس الوزير يحيى بن هبيرة ومعي يومئذ جماعة من الأماثل وأهل العلم ، وكان في جملتهم الشيخ أبو محمّد بن الخشّاب اللغوي ، والشيخ أبو الفرج ابن الجوزي وغيرهم ، فجرى حديث شعر أبي طالب ابن عبد المطلب ، فقال الوزير : ما أحسن شعره لو كان صدر عن إيمان!
فقلت : والله لأجيبن الجواب قربة إلى الله ، فقلت : يا مولانا! ومن أين لك أنّه لم يصدر عن إيمان؟
فقال : لو كان صادراً عن إيمان لكان أظهره ولم يخفه.
فقلت : لو كان أظهره لم يكن للنبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ناصر.
قال : فسكت ولم يحر جواباً ، وكانت لي عليه رسوم فقطعها ، وكانت لي فيه مدائح في مسودات فغسلتها جميعاً (١).
__________________
١ ـ بحار الأنوار ، المجلسي : ٣٥ / ١٣٤ ح ٧٩.
المناظرة الخامسة والثلاثون
مناظرة
إمرأة مع ابن الجوزي
قال ابن الجوزي يوماً على المنبر : سلوني قبل أن تفقدوني ، فسألته امرأة عمَّا روي أن عليّاً عليهالسلام سار في ليلة إلى سلمان فجهَّزه ورجع.
فقال : روي ذلك.
قالت : وعثمان تمَّ ثلاثة أيام منبوذاً في المزابل ، وعليُّ عليهالسلام حاضر؟
قال : نعم.
قالت : فقد لزم الخطأ لأحدهما.
فقال : إن كنت خرجت من بيتك بغير إذن بعلك فعليك لعنة الله ، وإلاَّ فعليه.
فقالت : خرجت عائشة إلى حرب عليٍّ بإذن النبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أو لا؟ (١)
فانقطع ولم يحر جواباً (٢).
__________________
١ ـ روى الموفّق الخوارزمي في المناقب : ١٧٦ ـ ١٧٧ ح ٢١٤ بالإسناد عن شهر بن حوشب قال : كنت عند أم سلمة رضي الله عنها ، فسلَّم رجل ، فقيل : من أنت؟ قال : أنا أبو ثابت مولى أبي ذر ، قالت : مرحباً بأبي ثابت ، ادخل ، فدخل فرحَّبت به ، فقالت : أين طار قلبك حين طارت القلوب مطايرها؟ قال : مع علي بن أبي طالب عليهالسلام ، قالت : وفِّقت ، والذي نفس أم سلمة بيده لسمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : علي مع القرآن والقرآن مع علي ، لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ، ولقد بعثت ابني عمر ، وابن أخي عبدالله ـ أبي أميَّة ـ وأمرتهما أن يقاتلا مع علي من قاتله ، ولو لا أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أمرنا أن نقرَّ في حجالنا أو في بيوتنا ، لخرجت حتى أقف في صفِّ عليٍّ عليهالسلام.
٢ ـ الصراط المستقيم ، علي بن يونس العاملي : ١ / ٢١٨ ، بحار الأنوار ، المجلسي : ٢٩ / ٦٤٧.
المناظرة السادسة والثلاثون
مناظرة
رجل مع قاضي بغداد في تصدُّق أميرالمؤمنين عليهالسلام بالخاتم
قال السيِّد نعمة الله الجزائري عليه الرحمة : حكى لي بعض إخواني ، قال : كنت جالساً في بعض الأيَّام عند قاضي بغداد الحنفي ، فسمعنا سائلا يقرأ قصيدة التصدُّق بالخاتم ، فقال لي : اسمع هؤلاء الروافض كيف نظموا القصائد في مدح علي بن أبي طالب عليهالسلام على تصدُّقه بخاتم ما تبلغ قيمته أربعة دراهم ، وأبو بكر الصدّيق تصدَّق بجميع ماله ، ولم يذكره أحد في نظم ولا نثر.
فقلت له : أصلح الله القاضي ، ليس للروافض ذنب في هذا المعنى ، إن كان شيءٌ فهو من عالم الملكوت ، لأنه أنزل في ذلك الخاتم قرآناً يتلى إلى يوم القيامة (١) ، ولم ينزل في شأن أبي بكر آية ولا سورة مع تصدُّقه بالمال الجزيل (٢).
__________________
١ ـ روى ابن عساكر بالإسناد عن علي عليهالسلام قال : نزلت هذه الآية على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) : فدخل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم المسجد ، والناس يصلّون بين راكع وقائم يصلّي ، فإذا سائل ، فقال : يا سائل! هل أعطاك أحد شيئاً؟ فقال : لا إلاَّ هذاك الراكع ـ لعلي ـ أعطاني خاتمه. تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : ٤٢ / ٣٥٦ ـ ٣٥٧.
وروى الحاكم الحسكاني بالإسناد عن ابن عباس في قوله تعالى : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ
فحرَّك يده وقال : يا أخي! خطر هذا في بالي أيضاً ، ولكن كيف الحيلة؟! (١)
__________________
وَالَّذِينَ آمَنُواْ ) قال : نزلت في علي بن أبي طالب عليهالسلام. شواهد التنزيل ، الحاكم الحسكاني : ١ / ٢٠٩ ح ٢١٦.
وراجع ـ أيضاً ـ من المصادر : أسباب النزول ، الواحدي : ١٣٣ ، المناقب ، الموفّق الخوارزمي : ٢٦٤ ح ٢٤٦ و ٢٦٦ ح ٢٤٨ ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ١٣ / ٢٧٧ ، وراه أيضاً الحافظ أبو نعيم الإصبهاني في كتابه : ما نزل من القرآن في علي عليهالسلام ، زاد المسير ، ابن الجوزي : ٢ / ٢٩٢ ، تفسير القرطبي : ٦ / ٢٢١ ، تفسير ابن كثير : ٢ / ٧٤ ، الدرّ المنثور ، السيوطي : ٢ / ٢٩٤ ، نظم درر المسطين ، الزرندي : ٨٦ ـ ٨٨.
وقال شرف الدين الحسيني عليه الرحمة في تأويل الآيات : ١ / ١٥٣ ح ١١ : ونقل ابن طاووس : أن محمّد بن العباس روى حكاية نزول الآية الكريمة ، والولاية العظيمة من تسعين طريقاً ، بأسانيد متّصلة ، كلّها من رجال المخالفين لأهل البيت عليهمالسلام ، ثم عدَّد الرواة وسمَّاهم.
ومما اشتهر ـ أيضاً ـ في هذه المنقبة الشريفة ما أنشده حسان بن ثابت ، قال :
أبا حسن تفديك
نفسي ومهجتي |
|
وكل بطيء في الهدى
ومسارع |
أيذهب مدحي
والمحبر ضائعا |
|
وما المدح في جنب
الإله بضائع |
فأنت الذي أعطيت
إذ كنت راكعاً |
|
فدتك نفوس القوم
يا خير راكع |
فأنزل فيك الله
خير ولاية |
|
فبيَّنها في
محكمات الشرائع |
المناقب ، الموفّق الخوارزمي : ٢٦٥ ، شواهد التنزيل ، الحاكم الحسكاني : ١ / ٢٣٦ ، نظم درر السمطين ، الزرندي الحنفي : ٨٨.
٢ ـ ويروى ـ أيضاً ـ أن عمر تصدَّق بأربعين خاتماً رجاء أن ينزل فيه شيءٌ فلم ينزل ، وروي أن عمر بن الخطاب قال : والله لقد تصدَّقت بأربعين خاتماً وأنا راكع ، لينزل فيَّ ما نزل في علي بن أبي طالب عليهالسلام فما نزل. الأمالي ، الصدوق : ١٨٦ ، مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : ٢ / ٢٠٩.
وفي رواية أخرى عن عمر أنه قال : أخرجت من مالي صدقة يتصدَّق بها عنّي وأنا راكع أربعاً وعشرين مرّة على أن ينزل فيَّ ما نزل في علي عليهالسلام فما نزل. تأويل الآيات ، شرف الدين الحسيني : ١ / ١٥٣.
١ ـ زهر الربيع ، الجزائري : ٢٨ ـ ٢٩.
المناظرة السابعة والثلاثون
مناظرة
السيِّد الفندرسكي مع سلطان الهند في شتم معاوية
حكي : أن الأمير فندرسكي في أثناء سياحته وصل إلى الهند ، فطلب السلطان منه لقاءه ، فامتنع السيِّد لكون السلطان سنّياً ، وبعد الإصرار قبله بشرط عدم مذاكرات مذهبيّة ، ولكن بعد اللقاء قال السلطان : وإن كان شرط اللقاء عدم البحث في المذهب ولكنّي أسألكم سؤالا واحداً في سبّ معاوية لأيِّ جهة هو؟
قال السيِّد : لو فرضنا أنّك كنت في الحرب بين علي عليهالسلام ومعاوية موجوداً ، بأمر أيِّهما كنت ممتثلا؟
قال السلطان : كنت أطيع أمر علي عليهالسلام ; لكونه خليفة بالإجماع ، وكون مخالفته كفراً.
قال السيِّد : لو أمرك عليٌّ عليهالسلام بمبارزة معاوية ، تطيعه أو تعصيه؟
قال السلطان : لقد كنت أطيعه ; لكون خلافه كفراً.
قال السيِّد : فحينئذ لو سلَّ معاوية سيفه وأراد قتلك ، هل كنت تقتله ، أو تهرب من الجهاد ، أو كنت تقتل نفسك؟
قال السلطان : كنت أقتله قطعاً.
قال السيِّد : تعدُّ قتله طاعة أو معصية؟
قال السلطان : أعدُّه طاعة ; لكونه طاعة لعليٍّ عليهالسلام.
قال السيِّد : فمن كنت تقتله وتستبيح دمه تسألني عن سبِّه أنه يجوز أو لا يجوز؟! (١).
__________________
١ ـ روضة المؤمنين : ١٢٥ ، زهر الربيع ، الجزائري : ٣٢٣ ، مواقف الشيعة ، الأحمدي : ٣ / ٢٤٧ ـ ٢٤٨.
المناظرة الثامنة والثلاثون
مناظرة
مع شيخ من أهل الشام جاء لمناظرة
العلامة الحلي رحمهالله في الفرقة الناجية
جاء في كتاب التحفة الشاهية (١) : أنَّه ـ بعد أن ذاع صيت اجتهاد شيخ الطائفة الإمامية في زمانه ، ووجههم ورئيسهم في ذلك الزمان ، وهو جمال الملّة والدين ، الحسن بن المطهَّر الحلي ، روَّح الله روحه ، وأسكنه بحبوحة جنَّاته ـ أنه قدم أحد المشائخ ، وكان ساكناً بأرض الشام ، فحينما سمع بأن العلامة على مذهب الأئمّة الاثني عشر عليهمالسلام ، وأن الأحاديث والأخبار الشريفة تدل على أحقّيّتهم ، وأنهم على سنَّة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم سافر من بلده إلى الحلّة قاصداً مناظرة العلاّمة ـ عليه الرحمة ـ وإفحامه.
وحينما وصل خبر وصوله إلى الحلّة خرج اثنان من تلامذة العلامة لاستقباله ، وليمتحنوا قدرته على مناظرة العلامة ، ومدى معرفته بالعلوم ليخبروا
__________________
١ ـ قد تفضل علينا بهذه المناظرة وترجمها إلى العربية صديقنا فضيلة العلامة المحقق الشيخ محمّد رضا الأنصاري جزاه الله خير الجزاء.
العلامة بذلك.
وحينما التقوا بالشيخ الشامي سألوه عن الحديث المرويّ المشهور : ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ، كلّهم في النار إلاَّ واحدة (١) ، وأنه هل ثبت صحّة هذا الحديث عنده أم لا؟
فقال : نعم.
__________________
١ ـ روى الخزاز القمّي عليه الرحمة في كفاية الأثر : ١٥٥ ، عن يحيى البكا ، عن علي عليهالسلام قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ، منها فرقة ناجية ، والباقون هالكة ، والناجية الذين يتمسَّكون بولايتكم ، ويقتبسون من علمكم ، ولا يعملون برأيهم ، فأولئك ما علهيم من سبيل ، فسألت عن الأئمة ، فقال : عدد نقباء بني إسرائيل.
وجاء في مسند أحمد بن حنبل : ٣ / ١٢٠ ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : إن بني إسرائيل قد افترقت على ثنتين وسبعين فرقة ، وأنتم تفترقون على مثلها ، كلّها في النار إلاَّ فرقة. وجاء في ص ١٤٥ عن أنس أيضاً مثله ، وفيه : فتهلك إحدى وسبعين ، وتخلص فرقة ..
وفي سنن ابن ماجة : ٢ / ١٣٢٢ ح ٣٩٩٢ : عن عوف بن مالك ، عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم والذي نفس محمّد بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ، واحدة في الجنّة ، وثنتان وسبعون في النار.
وراجع أيضاً : المستدرك ، الحاكم : ١ / ١٢٩ ، المصنّف ، عبدالرزاق : ١٠ / ١٥٦ ح ١٨٦٧٤ و ١٨٦٥٧ ، المعجم الصغير ، الطبراني : ١ / ٢٥٦.
وروى البيهقي في السنن : ١٠ / ٢٠٨ ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم .. وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة. قال : قال أبو سلميان الخطابي : قوله : وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ، فيه دلالة على أن هذه الفرق كلّها غير خارجين من الدين ; إذ أن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم جعلهم كلّهم من أمته.
أقول : هذا الكلام غير صحيح وذلك لأنّه : أولا تنافيه الروايتان السابقتان المرويَّتان عن أنس وعوف بن مالك ; إذ هما صريحتان في كون سائر الفرق هالكة وأنها في النار إلاَّ واحدة ، ومعه كيف يصحّ عدّ سائر الفرق غير خارجة من الدين؟ وأيُّ خروج أعظم ممَّا يؤول إلى الهلاك وإلى النار؟
وثانياً : كون الشخص من أمّة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لا يعطيه أماناً من عدم الخروج من الدين ومن الهلاك ومن النار ; إلا إذا كان من أهل الفرقة الناجية ـ بشرطها وشروطها ـ فكون الشخص من الأمة يعني أنه من أهل الإسلام له ما للمسلمين وعليه ما عليهم وأنه محقون الدم والمال والعرض .. الخ.
فسألوه : هل أن الأئمة الاثني عشر عليهمالسلام الذين يعتقد فيهم الشيعة العصمة والطهارة ، وأنهم أئمّة تجب طاعتهم داخلون في هذه الفرقة ، أم أنهم داخلون في الفرقة الهالكة؟
فلم يلتفت إليهم الشيخ الشامي ، ولم يجبهم ، ثم قفل عائداً إلى الشام وتركهم.
ويقال : إنه حينما سألوه عن السبب في عدم إجابتهم قال لهم : لأني كنت عاجزاً عن إجابتهم شِقَّي السؤال ; لأنه لو أجبتهم بدخول هؤلاء في الفرقة الناجية فإنه يستلزم الاعتراف بنجاة الفرقة الإماميّة ، وأدخل نفسي في الفرقة الهالكة ، وإن لم أعترف بدخولهم ـ والعياذ بالله ـ في الفرقة الناجية فإني أدخل في زمرة الكفرة والمخلدين في النار (١).
__________________
١ ـ التحفة الشاهية ، عبدالخالق قاضي زاده : ٣٥ ـ ٣٦.
المناظرة التاسعة والثلاثون
مناظرة
الشيخ حسين بن عبدالصمد الجبعي العاملي
مع بعض فضلاء حلب (١)
قال الشيخ حسين بن عبد الصمد الجبعي العاملي عليه الرحمة : بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله على ما أنعم به فكفى ، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى ، محمَّد النبيِّ الأُمّيِّ وأهل بيته ذوي الكرم والوفاء. أمَّا بعد :
فهذه صورة بحث وقع لهذا الفقير إلى رحمة ربه الغنيّ ، حسين بن
__________________
١ ـ قد ذكرنا في الجزء الأول من المناظرات في العقائد : ص ٤٨١ مناظرة مع بعض فضلاء حلب ، ولم نعرف آنذاك صاحبها ، وهي مخطوطة من مكتبة المرعشي النجفي ، بقلم ناسخها : محمّد بن عبد الإله السلامي ، سنة خمس وتسعين وتسعمائة ، وقد قارنتها بهذه المناظرة التي هي للشيخ حسين بن عبد الصمد والتي وقعت سنة واحد وخمسين وتسعمائة ، فوجدت بينهما بعض الالتقاء في مواضيعهما ، وأقرب الظنّ أنها هي نفسها مع وجود بعض الفوارق ، ويحتمل أن الشيخ حسين بن عبدالصمد قد كتب هذه المناظرة بقلمه الشريف مرّتين ـ مع وجود الزيادة والنقيصة والإطناب والاختصار في بعض بحوثهما والله العالم.
وهذه المناظرة أوسع وأكمل ، والأولى ـ أيضاً ـ تحتوي على بعض البحوث المهمّة التي لا توجد في الثانية ، وقد وجدنا هذه المناظرة مطبوعة بتحقيق شاكر شبع ، جزاه الله خيراً.
عبدالصمد الجبعي ، في حلب ، سنة إحدى وخمسين وتسعمائة ، أضافني بعض فضلاء حلب ، وكان ذكيّاً بحّاثاً ، ولي معه خصوصية وصداقة وكيدة بحيث لا أتّقيه ، وكان أبوه من أعيانها.
فقلت له : إنه يقبح بمثلي ومثلك ـ بعد أن صرف كل منّا عمره في تحصيل العلوم الإسلاميّة وتحقيق مقدماتها ـ أن يقلِّد في مذهبه الذي يلقى الله به ، والتقليد مذموم بنصّ القرآن ، وليس حجَّةً منجية ; لأن كل أحد يقلِّد سلفه ، فلو كان حجَّةً كان الكل ناجين ، وليس كذلك.
فقال : هلمَّ حتى نبحث.
البحث في اتباع المذاهب الأربعة
فقلت : هل عندكم نصٌّ من القرآن ، أو من الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم على وجوب اتّباع أبي حنيفة؟
فقال : لا.
فقلت : هل أجمع أهل الإسلام على وجوب اتّباعه؟
فقال : لا.
فقلت : فما سوَّغ لك تقليده؟
فقال : إنّه مجتهد وأنا مقلِّد ، والمقلِّد فرضه أن يقلِّد مجتهداً من المجتهدين.
فقلت : فما تقول في جعفر بن محمّد الصادق عليهالسلام؟ هل كان مجتهداً من المجتهدين؟
فقال : هو فوق الاجتهاد ، وفوق الوصف في العلم والتقى والنسب وعظم الشأن ، وقد عدَّ بعض علمائنا من تلاميذه نحو أربعمائة رجل ، كلّهم علماء فضلاء مجتهدون ، وأبو حنيفة أحدهم.
فقلت : قد اعترفت باجتهاده وتقواه ، وجواز تقليد المجتهد ، ونحن قد قلَّدناه ، فمن أين تعلم أنَّا على الضلالة وأنَّكم على الهداية؟! مع أنّا نعتقد عصمته ، وأنّه لا يخطئ ، بل ما يحكم به هو حكم الله ، ولنا على ذلك أدلّة مدوَّنة ، وليس كأبي حنيفة يقول بالقياس والرأي والاستحسان ويجوز عليه الخطأ ، وبعد التنزُّل عن عصمته ، والاعتراف بأنه يقول بالاجتهاد كما تزعمون ، فلنا دلائل على وجوب اتّباعه ليس في أبي حنيفة واحد منها.
أحدها : إجماع كل أهل الإسلام ـ حتى الأشاعرة والمعتزلة ـ على غزارة علمه ، ووفور تقواه ، وعدالته ، وعظم شأنه ، بحيث إني إلى يومي هذا ـ مع كثرة ما رأيت من كتب أهل الملل ، والتواريخ والسير ، وكتب الجرح والتعديل ، ونحو ذلك ـ لم أرَ قطّ طاعناً عليه بشيء من مخالفيه ، وأعداء شيعته ، مع كثرتهم ، وعظم شأنهم في الدنيا ; لأنهم كانوا ملوك الأرض ، والناس تحبُّ التقرُّب إليهم بالصدق والكذب ، ولم يقدر أحد أن يفتري عليه كذباً في الطعن ليتقرَّب به إلى ملوك عصره ، وما ذاك إلاَّ لعلمه أنه إن افترى كذباً كذَّبه كل من سمعه ، وهذه مزيَّة تميَّز هو وآباؤه وأبناؤه الستّة بها عن جميع الخلق.
فكيف يجوز ترك تقليد من أجمع الناس على علمه وعدالته وجواز تقليده ، ويقلَّد من وقع فيه الشك والطعن؟! مع أن الجرح مقدَّم على التعديل كما تقرَّر في موضعه ، وهذا إمامكم الغزالي صنَّف كتاباً سمَّاه : المنخول ، موضوعه الطعن على أبي حنيفة ، وإثبات كفره بأدلّة يطول شرحها ، وصنَّف بعض فضلاء الشافعية كتاباً سمَّاه : النكت الشريفة في الردّ على أبي حنيفة ، رأيته في مصر ، ذكر فيه جميع ما ذكره الغزالي وزاد أشياء أخر.
ولا شبهة في وجوب تقليد المتّفق على علمه وعدالته ; لأن ظنّ الصواب
معه أغلب ، ولا يجوز العمل بالمرجوح مع وجود الراجح إجماعاً ، والجرح مقدَّم على التعديل كما تقرَّر.
ثانيها : أنَّه ـ عندنا ـ من أهل البيت المطهَّرين عليهمالسلام بنصّ القرآن ، والتطهُّر هو : التنزُّه عن الآثام ، وعن كل قبيح ، كما نصَّ عليه ابن فارس في مجمل اللغة ، وهذا نفس العصمة التي يدّعيها الشيعة ، وأبو حنيفة ليس منهم إجماعاً ، ويتحتَّم تقليد المطهَّر بنصّ القرآن ، لتيقُّن النجاة معه.
قال : نحن لا نسلِّم أنه من أهل البيت عليهمالسلام ; إذ قد صحَّ في أحاديثنا أنهم خمسة.
فقلت : سلَّمنا أنه ليس من الخمسة ، ولكن حكمه حكمهم في العصمة ، ووجوب الاتّباع لوجهين :
الأول : إن كل من قال بعصمة الخمسة قال بعصمته ، ومَنْ لا فلا ، وقد ثبتت عصمة الخمسة بنصّ القرآن ، فثبتت عصمته ; لأنه قد وقع الإجماع على أنّه لا فرق بينه وبينهم ، فالقول بعصمتهم دونه خلاف إجماع المسلمين.
الثاني : إنه اشتهر بين أهل النقل والسير أن جعفر الصادق وآباءه عليهمالسلام لم يتردَّدوا إلى مجالس العلماء أصلا ، ولم ينقل أنهم تردَّدوا إلى مخالف ولا مؤالف ، مع كثرة المصنِّفين في الرجال ، وطرق النقل ، وتعداد الشيوخ والتلاميذ ، وإنّما ذكروا أنه أخذ العلم عن أبيه محمّد الباقر عليهالسلام ، وهو أخذه عن أبيه زين العابدين عليهالسلام ، وهو أخذه عن أبيه الحسين عليهالسلام ، وهو من أهل البيت عليهمالسلام إجماعاً.
وقد صحَّ عندنا أنهم عليهمالسلام لم يكن قولهم بطريق الاجتهاد ، ولهذا لم يسأل أحد قط صغيراً ولا كبيراً عن مسألة فتوقَّف في جوابها ، أو احتاج إلى مراجعة ، وقد صرَّحوا عليهمالسلام أن قول الواحد منهم كقول آبائهم ، وقول آبائهم كقول
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وثبت ذلك عندنا بالطرق الصحيحة المتّصلة بهم ، فقوله عليهالسلام هو قول المطهرَّين بنصّ القرآن.
وثالثها : ما ثبت في صحاح أحاديثكم بالطرق الصحيحة المتكثِّرة ، المتّحدة المعنى ، المختلفة اللفظ ، من قوله عليهالسلام : إنّي مخلِّف فيكم ما إن تمسَّكتم به لن تضلوا بعدي ، الثقلين : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي ، وإنهما لن يتفرَّقا حتى يردا عليَّ الحوض (١).
وفي بعض الطرق : إني تارك فيكم خليفتين : كتاب الله وعترتي (٢) ، فصرَّح صلىاللهعليهوآلهوسلم بأن المتمسِّك بكتاب الله وعترته لن يضلَّ ، ولم يتمسَّك بهما إلاَّ الشيعة كما لا يخفى ; لأن الباقين جعلوا عترته كباقي الناس ، وتمسَّكوا بغيرهم ، ولم يقل : مخلِّف فيكم كتاب الله وأبا حنيفة ، ولا الشافعي.
فكيف يجوز ترك التمسُّك بمن تتحقَّق النجاة بالتمسُّك به ، ويتمسَّك بمن لم تعلم النجاة معه؟! إن هذا إلاَّ لمحض السفه والضلال ، وهذا يقتضي العلم بوجوب اتّباعهم ، وإن نوزع فيه فلا ريب في اقتضائه ظنَّ وجوب الاتّباع ، وذلك
__________________
١ ـ مسند أحمد بن حنبل : ٤ / ٣٦٧ ، فضائل الصحابة ، أحمد بن حنبل : ٢٢ ، صحيح مسلم : ٧ / ١٢٢ ـ ١٢٣ ، المستدرك ، الحاكم النيسابوري : ٣ / ١١٠ ، السنن الكبرى ، البيهقي : ٢ / ١٤٨ و ٧ / ٣٠ ، السنن الكبرى ، النسائي : ٥ / ٥١ ، مسند أبي يعلى الموصلي : ٢ / ٢٩٧ ح ٤٨ و ٣٠٣ و ٥٤ ، والمعجم الكبير ، الطبراني : ٥ / ١٥٤ ح ٤٩٢٣ وص ١٦٦ ، ذيل تاريخ بغداد ، ابن النجار البغدادي : ٥ / ١٤ ، المناقب ، الموفق الخوارزمي : ٢٠٠ ، ينابيع المودة ، القندوزي : ١ / ١٢١ ح ٤٩.
٢ ـ مسند أحمد بن حنبل : ٥ / ١٨١ ـ ١٨٢ ، المعجم الكبير ، الطبراني : ٥ / ١٥٣ ـ ١٥٤ ح ٤٩٢١ و ٤٩٢٢ ، كنز العمال ، المتقي الهندي : ١ / ١٧٢ ح ٨٧٢ و ١٨٦ ح ٩٤٧ و ٣٨٤ ح ١٦٦٧ ، الدرّ المنثور ، السيوطي : ٢ / ٦٠ ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : ١ / ١٧٠ ، وقال : رواه الطبراني في الكبير ورجاله موثقون ، وذكره أيضاً في : ٩ / ١٦٢ ـ ١٦٣ وقال : رواه أحمد وإسناده جيّد.
كاف لوجوب العمل بالراجح ، واختيارهم عليهمالسلام بهذه المرجِّحات على غيرهم من المجتهدين ، فلا يكون العدول عنهم إلاَّ اتّباعاً للهوى والتقليد المألوف.
فقال : أنا لا أشك في اجتهادهم ، وغزارة علمهم ، ونجاة مقلِّدهم ، ولكن مذهبهم لم ينقل ولم يشتهر ، كما نقلت المذاهب الأربعة.
فقلت : إن كان مرادك أن الحنفيّة والشافعيّة لم ينقلوه ، فمسلَّم ، ولكن لا يضرُّنا ; لأنَّا لم ننقل مذهبهما أيضاً ، والشافعيَّة لم ينقلوا مذهب أبي حنيفة ، وبالعكس ، وكذا باقي المذاهب ، وليس ذلك طعناً فيها عندكم.
وإن كان مرادك أنه لم ينقله أحد من المسلمين ، فهذه مكابرة محضة ; لأن شيعتهم ، وكثيراً من أهل السنة وباقي الطوائف قد نقلوا أقوالهم وآدابهم وعباداتهم ، واعتنى الشيعة بذلك أشدَّ الاعتناء ، وبحثوا عن تصحيح الناقلين وجرحهم وتعديلهم أشدَّ البحث ، وهذه صحاح أحاديثهم وكتب الجرح والتعديل عندهم مدوَّنة مشهورة بينهم ، لا يمكن إنكارها.
وعلماء الشيعة وإن كانوا أقلَّ من علماء السنة ، ولكن ليسوا أقلَّ من فرقة من فرق المذاهب الأربعة ، خصوصاً الحنابلة والمالكيّة ، فإن الشيعة أكثر منهم يقيناً ، ولم يزل ـ بحمد الله ـ علماء الشيعة في جميع الأعصار أعلم العلماء وأتقاهم ، وأحذقهم في فنون العلوم ، أمَّا في زمن الأئمّة الاثني عشر عليهمالسلام فواضح أنه لم يساوهم أحد في علم ولا عمل ، حتى فاق تلاميذهم ، واشتهروا بغزارة العلم ، وقوّة الجدال ، كهشام بن الحكم ، وهشام بن سالم ، وجميل بن درّاج ، وزرارة بن أعين ، ومحمّد بن مسلم ، وأشباههم ممّن عرفهم مخالفوهم في المذهب ، وأثنوا عليهم بما لا مزيد عليه.
وأمَّا بعد زمان الأئمَّة فمنهم مثل ابن بابويه ، والشيخ الكليني ، والشيخ
المفيد ، والشيخ الطوسي ، والسيِّد المرتضى ، وأخيه ، وابني طاووس ، والخواجة نصير الدين الطوسي ، وميثم البحراني ، والشيخ أبي القاسم المحقِّق ، والشيخ جمال الدين ابن المطهَّر الحلي ، وولده فخر المحقِّقين ، وأشباههم من المشايخ المشاهير ، الذين قد ملأوا الخافقين بمصنَّفاتهم ومباحثهم ، ومن وقف عليها علم علوَّ شأنهم ، وبلوغهم مرتبة الاجتهاد وقوَّة الاستنباط ، وإنكار ذلك إمَّا لتعصُّب أو جهل.
فقد لزمك القول بصحّة مذهبنا ، وأرجحيَّة من قلَّدناه ، بل يلزم ذلك كل من وقف نفسه على جادّة الإنصاف ، ولا يلزمنا القول بصحّة مذهبك ; لأنّا قد شرطنا في المتَّبع العصمة ، فنكون نحن الفرقة الناجية إجماعاً ، وأنتم وإن لم تقولوا بصحّة مذهبنا ، ولكن يلزمكم ذلك بحسب قواعدكم ; للدليل المسلَّم المقدّمات عندكم ; إذ سبب نجاتكم أنكم قد قلَّدتم مجتهداً ، وهذا بعينه حاصل لنا باعترافكم ، مع ترجيحات فيمن اتّبعناه لا يمكنكم إنكارها.
البحث في عدالة الصحابة
فبهت ، ولم يجب بشيء.
ولكن عدل عن سوق البحث ، وقال : إني أسألكم عن سبِّكم أكابر الصحابة ، وأقربهم من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، الذين نصروه بأموالهم وأنفسهم ، حتى ظهر الدين بسيوفهم ، في حياته وبعد موته ، حتى فتحوا البلاد ، ونصروا دين الله بكل ما أمكنهم ، والفتوحات التي فتحها عمر لم يقع مثلها في زمن النبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم كمصر والشام ، وبيت المقدس ، والروم والعراق وخراسان ، وعراق العجم ، وتوابع ذلك مما يطول شرحه ، ولا يمكن إنكاره ، كما لا يمكن إنكار قوَّته في الدين
وسطوته ، وشدّة بأسه ، وإني إذا نظرت في أدلّتكم وجدتها واضحة قويَّة ، وإذا رأيت من مذهبكم سبّ أكابر أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وخواصّه ، الذين سبقوا في الإسلام ، وكانوا من المقرَّبين عنده حتى تزوَّج بناتهم ، وزوَّجهم بناته ، ومدحهم الله في كتابه بقوله : ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً ) (١) إلى آخر الآية ، فإذا رأيت ذلك نفرت نفسي ، وجزمت بفساد مذهبكم.
فقلت له : ليس في مذهبنا وجوب سبِّهم ، وإنَّما يسبُّهم عوام الناس المتعصِّبون ، وأمَّا علماؤنا فلم يقل أحد بوجوب سبِّهم ، وهذه كتبهم موجودة ، وأقسمت له أيماناً مغلَّظة بأنّه لو عاش أحد ألف سنة وهو يتديَّن بمذهب أهل البيت عليهمالسلام ويتولاَّهم ، ويتبرَّأ من أعدائهم ، ولم يسبَّ الصحابة قط ، لم يكن مخطئاً ، ولا في إيمانه قصور ، فتهلَّل وجهه ، وأنس بذلك ; لأنه صدَّقني فيه.
فقلت له : إذا ثبت عندك غزارة علم أهل البيت عليهمالسلام ، واجتهادهم ، وعدالتهم ، وترجيحهم على غيرهم ، فهم أولى بالاتّباع ، فتابعهم.
فقال : أشهد على أني متابع لهم ، ولكني لا أسبُّ الصحابة.
فقلت : لا تسبَّ أحداً منهم ، ولكن إذا اعتقدت عظم شأن أهل البيت عليهمالسلام عند الله ورسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم فما تقول فيمن عاداهم وآذاهم؟
فقال : أنا بريء منهم.
فقلت : هذا يكفيني منك ، فأشهد الله ورسوله وملائكته أنه محبٌّ لهم ومتابع ، وبريء من أعدائهم ، وطلب منّي كتاباً في فقههم ، فدفعت إليه النافع ،
__________________
١ ـ سورة الفتح ، الآية : ٢٩.
وتفرَّفنا.
ثم رأيته بعد ذلك في غضب وتكدُّر من التشيُّع ، بواسطة ما رسخ في قلبه من عظم شأن الصحابة ، واعتقاده أن الشيعة تسبُّهم.
فقلت له في ليلة أخرى : إن عاهدت الله على الإنصاف ، وكتم الأمر عليَّ ، بيَّنت لك أمر السبِّ ، فعاهد الله على ذلك ما دمت حيّاً بأيمان مغلَّظة ، ونذور مؤكَّدة ، وسألته : ما تقول في الصحابة الذين قتلوا عثمان؟
فقال : إن ذلك وقع باجتهادهم ، وإنهم غير مأثومين ، وقد صرَّح أصحابنا بذلك.
فقلت : وما تقول في عائشة وطلحة والزبير وأتباعهم ، الذين حاربوا عليّاً عليهالسلام يوم الجمل ، وقتل في حربهم من الفريقين نحو ستة عشر ألفاً؟ وما تقول في معاوية وأصحابه ، الذين حاربوا في صفّين ، وقتل من الفريقين ( نحو ) ستين ألفاً؟
فقال : كالأول.
فقلت : هل جواز الاجتهاد مقرٌّ على فرقة من المسلمين دون فرقة؟
قال : لا ، كل أحد له صلاحيَّة الاجتهاد.
فقلت : إذا جاز الاجتهاد في قتل أكابر الصحابة ، وقتل خلفاء المؤمنين ، وحرب أخي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وابن عمّه ، وزوج فاطمة سيِّدة نساء العالمين ، أعلم الخلق ، وأزهدهم ، وأقربهم من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ووارث علمه ، الذي قام الإسلام بسيفه ، ومن أثنى عليه الله ورسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم بما لا يمكن إنكاره ، حتى جعله الله وليَّ الناس كافّة بقوله تعالى : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ ) (١) يعني
__________________
١ ـ سورة المائدة ، الآية : ٥٥.
عليّاً عليهالسلام بالإجماع ، وقال النبيُّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : من كنت مولاه فعليٌّ مولاه (١) ، أنا مدينة العلم وعلىٌّ بابها (٢) ، اللَّهُمَّ أئتني بأحبِّ خلقك إليك (٣) ، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى (٤) ، وأشباه ذلك ممَّا يطول تعداده ، فلم لا يجوز الاجتهاد في سبِّ بعض الصحابة؟!
فإنّا لا نسبُّ إلاَّ من علمنا أنه أظهر العداوة لأهل البيت عليهمالسلام ، ونحبُّ المخلصين منهم ، الحافظين وصيَّة الله ورسوله فيهم ، كسلمان ، والمقداد وعمَّار ، وأبي ذر ، ونتقرَّب إلى الله بحبِّهم ، ونسكت عن المجهول حالهم ، هذا اعتقادنا
__________________
١ ـ سوف يأتي الحديث مع تخريجاته في مناظرة الدكتور أسعد القاسم الفلسطيني.
٢ ـ تقدَّمت تخريجاته.
٣ ـ روى النسائي ، عن أنس بن مالك أن النبيَّ صلىاللهعليهوآلهوسلم كان عنده طائر ، فقال : اللهم ائتني بأحبِّ خلقك إليك ، يأكل معي من هذا الطير ، فجاء أبو بكر فردَّه ، وجاء عمر فردَّه ، وجاء عليٌّ فأذن له.
راجع : السنن الكبرى ، النسائي : ٥ / ١٠٧ ح ٨٣٩٨ ، خصائص أميرالمؤمنين عليهالسلام ، النسائي : ٥١ ـ ٥٢ ، مسند أبي يعلى الموصلي : ٧ / ١٠٥ ح ٤٠٥٢ ، أسد الغابة ، ابن الأثير : ٤ / ٣٠.
وروى الترمذي بالإسناد عن أنس بن مالك ، قال : كان عند النبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم طير فقال : اللهم ائتني بأحب خلقك إليك ، يأكل معي هذا الطير ، فجاء عليٌّ فأكل معه.
راجع : سنن الترمذي : ٥ / ٣٠٠ ح ٣٨٠٥ ، التاريخ الكبير ، البخاري : ١ / ٣٥٨ ، رقم : ١١٣٢ ، تاريخ بغداد ، الخطيب البغدادي ٣ / ٣٩٠ ، رقم : ١٥٣١ ، مناقب أميرالمؤمنين عليهالسلام ، الكوفي : ٢ / ٤٨٩ ح ٩٩٣ ، تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : ٤٢ / ٢٤٥ ، البداية والنهاية ، ابن كثير : ٧ / ٣٨٧ ، المناقب ، الموفق الخوارزمي : ١٠٧ ـ ١٠٨ ح ١١٤ ، المعجم الأوسط ، الطبراني : ٢ / ٢٠٦ ـ ٢٠٧ ، المعجم الكبير ، الطبراني : ١ / ٢٥٣ ح ٧٣٠ ، ذخائر العقبى ، أحمد بن عبدالله الطبري : ٦١ ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : ٩ / ١٢٦ ، وقال : رواه البزار والطبراني باختصار ، ورجال الطبراني رجال الصحيح غير فطر بن خليفة ، وهو ثقة ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ١٨ / ٢٤ ، نظم درر السمطين ، الزرندي الحنفي : ١٠١ ، كنز العمال ، المتقي الهندي : ١٣ / ١٦٦ ح ٣٦٥٠٥.
٤ ـ تقدَّمت تخريجاته.
فيهم.
وهذا معاوية قد سبَّ عليّاً وأهل بيته عليهمالسلام ، واستمرَّ ذلك في زمن بني أميَّة ثمانين سنة ، ولم ينقص ذلك من قدره عندكم ، وكذلك الشيعة اجتهدوا في جواز سبِّ أعداء أهل البيت منهم ، ولو كانوا مخطئين فيهم غير مأثومين.
ومدح الله تعالى لهم في القرآن نقول به ; لأنهم ممدوحون بقول مطلق ; لأن فيهم أتقياء أبراراً ، وليس كلّهم كذلك جزماً ، وحديث الحوض يوضح ذلك (١).
وأيضاً فيهم منافقون بنصّ القرآن ، فلا يمنع مدح الله لهم فسق بعضهم أو كفره ، واجتهادنا في جواز سبِّ ذلك البعض.
فقال كالمتعجِّب : أو يجوز الاجتهاد بغير دليل؟!
فقلت : أدلّتهم في ذلك كثيرة واضحة.
فقال كالمستبعد : بيِّن لي منها واحداً.
فقلت : سأذكر لك ما لا يمكنك إنكاره ، وذلك أنه قد ثبت عندكم وعندنا أن النبيَّ صلىاللهعليهوآلهوسلم لمَّا جعل أسامة بن زيد أميراً ، وجهَّزه إلى الشام أمر الصحابة عموماً باتّباعه ، وخصَّص أبا بكر وعمر وأمرهما باتّباعه ، وقال : جهِّزوا جيش أسامة ، لعن الله من تأخَّر عن جيش أسامة (٢) ، وقد تخلَّف الرجلان بإجماع المسلمين ، فكانا مشمولين بنصّ الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ونصّ الله ; لأنه لم ينطق عن الهوى.
فقال : إنما تخلَّفا باجتهاد ، وشفقة على الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم والمسلمين ، وقالا : كيف نمضي ونترك نبيَّنا مريضاً ، نسأل عنه الركبان؟! ورأيا صلاح المسلمين في
__________________
١ ـ سوف يأتي قريباً.
٢ ـ السقيفة وفدك ، الجوهري : ٧٧ ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ٦ / ٥٢ ، وراجع المصادر الأخرى في الجزء الثالث : ٤٢٣.