مواهب الفتّاح في شرح تلخيص المفتاح - ج ١

أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن محمّدابن يعقوب المغربي

مواهب الفتّاح في شرح تلخيص المفتاح - ج ١

المؤلف:

أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن محمّدابن يعقوب المغربي


المحقق: الدكتور خليل إبراهيم خليل
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-3820-0
ISBN الدورة:
978-2-7451-3820-0

الصفحات: ٦٨٨
الجزء ١ الجزء ٢

ذلك فنزل أحدهما منزلة الآخر ، وقولنا على وجه يثبت حكم كل منهما للآخر ، ليخرج به نحو فى الدار زيد ، وضرب عمرا زيد بتقديم المفعول فإن كلا ، ولو جعل فى محل الآخر باق على حكمه ويدخل فى هذا القلب العكس المستوى عند المناطقة ، وذلك عند تحقق أن القصد إلى الإخبار بالأصل (و) هذا القلب (قبله السكاكى مطلقا) ؛ لأن قلب المراد مما يحوج إلى التنبيه للأصل ، وذلك يورث الكلام ملاحة ، فإن قصد بها المطابقة كان من فن المعانى ، والأصح أن يعد من فن آخر ؛ لذلك يوجد هذا القلب فى التشبيه المعكوس ، وهو من مبادئ علم البيان ، وفى علم البديع ، والسرقات الشعرية على ما يأتى ـ إن شاء الله تعالى ـ وظاهره قبوله عند السكاكى ، ولو أوهم خلاف المراد كقوله :

ثم انصرفت وقد أصبت ولم أصب

جذع البصيرة قارح الإقدام (١)

يقال فلان جذع إذا كان حديث السن ، وقارح إذا كان قديما ، فجذوع البصيرة هى كون القائل لم يجرب الأمور ، وقروح الأقدام كونه مقدما إقدام أهل العقل ، والسن القديم ، والقائل يمكن اتصافه بالأمرين وهو عكس المراد ؛ لأن المقصود وصفه ببصيرة القارح ، وإقدام الجذع ؛ لأن ذلك هو المدح ، ولذلك يتمدح بإقدام الغرور أى : المجرب فالأصل على هذا أن يقال ثم انصرفت قارح البصيرة جذع الإقدام والحال أنى أصبت أى : جرحت ، ولم أجرح فهو قلب يوهم خلاف المراد ، ويحتمل أن يكون جذع البصيرة وقارح الإقدام متعلقين بقوله ، ولم أصب بمعنى لم أوجد ، فيكون الكلام على ظاهره أى : لم أوجد موصوفا بجذوع البصيرة ، وقروح الإقدام ، بل وجدت بالعكس (ورده) أى : القلب (غيره) أى : غير السكاكى (مطلقا) أى : سواء تضمن اعتبارا لطيفا زائدا على مجرد ملاحة القلب المحوج للتنبه ، أو لم يتضمنها أوهم خلاف المراد أم لا ؛ لأن الكلام إنما وضع ؛ لإفادة ما يصح لا ؛ لإفادة ما لا يصح (والحق) أى : المختار عندنا

__________________

(١) البيت لقطرى بن الفجاءة في شرح عقود الجمان ١ / ٩٩.

٣٠١

(أنه) أى : القلب (إن تضمن اعتبارا لطيفا) زائدا على مجرد ملاحة القلب العامة (قبل) وذلك (كقوله ومهمه) (١) أى : ورب مهمه أى : مفازة (مغبرة) أى : مملوءة بالغبرة (أرجاؤه) أى : أطرافها ونواحيها ، والأرجاء جمع رجا بالقصر (كأن لون أرضه سماؤه) فقد شبه لون أرض المهمه بلون سمائه أى : جوه ، والأصل كأن لون سمائه لون أرضه ؛ لأن الأرض هى الأصل فى الغيرة فهو المشبه به ، وقد تضمن هذا التشبيه المقلوب اعتبارا لطيفا زائدا على لطافة مجرد القلب ، وهو الإشعار بكثرة الغبرة فى سمائه حتى صار هو الذى ينبغى أن يكون مشبها به ، فيكون أصلا والأرض هو المشبه ، فيكون هو الفرع (وإلا) أى : وإن لم يتضمن ذلك القلب اعتبارا لطيفا (رد) ولم يقبل ؛ لأنه عكس المراد ، وعدول عن الظاهر بلا نكتة يعتد بها ، وذلك (كقوله) ، وهو يصف الناقة بالسمن

(فلما أن جرى سمن عليها

كما طينت بالفدن السياعا) (٢)

فقد شبه الناقة فى سمنها بالفدن ، وهو القصر المطين بالسياع ، وهو الطين بالتبن فصار متينا أملس ، لا حفرة فيه ، ولا ضعف ، وقد عكس فجعل المطين هو السياع ، وهو الطين والمطين به هو الفدن ، وهو القصر ، ولم يتضمن مبالغة كما فى المصراع الثانى فى البيت الأول ، لكن يمكن تحقيق المبالغة ههنا ـ أيضا ـ فإن جعل الطين هو المطين بالفدن يقتضى النهاية ، والمبالغة فى كثرة الطين حتى كأنه الأصل ، والفدن هو الفرع ، وإذا كان المشبه به فى هذه المنزلة من المبالغة انجرت المبالغة إلى الناقة ، حيث شبهت بقصر مطين بالسياع العظيم الذى بلغ فى قوته منزلة الفدن ، وهو ظاهر فليفهم.

__________________

(١) البيت لرؤبة فى ديوانه ص (٣) ، المصباح ص (٤٢) ، والإشارات والتنبيهات ص (٥٩) ، والمفتاح ص (١١٣) ، وشرح المرشدى على عقود الجمان (١ / ١١٣).

(٢) البيت للقطامي في ديوانه ص ٤٠ وجمهرة اللغة ص ٨٤٥.

٣٠٢

أحوال المسند

أى : الأمور العارضة للمسند ، التى بها يطابق الكلام مقتضى الحال ، بدأ منها بالترك ، الذى هو : عبارة عن عدم الإتيان به ؛ لأن العدم فى الجملة سابق على أحوال الحادث ، وقد تقدم مثل هذا ، فقال :

حذف المسند وأغراض الحذف :

(أما تركه فلما مر) فى بحث المسند إليه من أن حذفه يكون للاحتراز عن العبث ، بناء على الظاهر ، ولتخييل العدول إلى أقوى الدليلين ونحو ذلك ، كضيق المقام ، واتباع الاستعمال وغير ذلك ، وقد تقدم وجه التعبير هنا بالترك وهنالك بالحذف وذلك (كقوله) :

ومن يك أمسى بالمدينة رحله

(فإنى وقيار بها لغريب) (١)

وأراد بالرحل : المأوى والمنزل ، وقيار اسم فرس ، أو جمل للشاعر ، وهو ضابئ بن الحارث ، وهذا الاسم مأخوذ من ضبأ بالأرض إذا اختفى فيها ، وجواب الشرط محذوف ، أقيم مقامه قوله : فإنى الخ ، وتقديره ومن يك أمسى بالمدينة رحله فقد حسن حاله ، فليطب نفسا ولينعم بالا ، وأما أنا وقيار فلا نطب نفسا لغربتنا ، وكربتنا بها ، ولهذا المعنى كان الكلام ، ولو كان خبرا لفظا توجعا وتحسرا معنى على تلك الغربة ، ومقاساة شدائد تلك الكربة ، وقدم قيار على قوله لغريب للإشارة إلى أن قيار ولو لم يكن من جنس العقلاء ، بلغه هذا الكرب ، واشتدت عليه هذه الغربة حتى صار مساويا للعقلاء فى التشكى منها ، ومقاساة شدائدها بخلاف ما لو أخره ، فلا يدل الكلام على التساوى ؛ لأن فى التقديم أثرا فى الأدلية ، وهذا الكلام يحتمل إعرابين.

أحدهما : أن يكون قيار مبتدأ وخبره محذوف ، وهو وخبره جملة معطوفة على جملة قوله فإنى لغريب ، والتقدير فإنى لغريب وقيار غريب أيضا وعلى هذا التقدير يكون الكلام من حذف المسند ، وهو خبر قيار للاحتراز عن العبث ، بناء على الظاهر مع ضيق

__________________

(١) البيت من الطويل لضابئ بن الحارث البرجمي في الأصمعيات ص : ١٨٤ ، وخزانة الأدب ٩ / ٣٢٦ ، ١٠ / ٣١٢ ، ٣١٣ ، والدرر ٦ / ١٨٢.

٣٠٣

المقام للوزن وللشكاية والتوجع والتحسر ، ويكون فيه وجه الشاهد ، ولكن يلزم عليه العطف قبل تكميل المعطوف عليه.

والثانى : أن يكون قيار معطوفا على محل اسم إن وهو الرفع ؛ لأن خبر إن وهو لغريب فى تقدير التقديم ، فيكون من العطف بعد استكمال الخبر تقديرا ، ولا يجوز أن يكون لغريب خبره ، ويكون المحذوف خبر إن ، لاتصاله بلام الابتداء ، بل خبره محذوف ، وهو معطوف على خبر إن ، فإذا جعلته من عطف المفردات لزم فيه كون الحذف من باب حذف المعطوف ، لكن لما كان المعطوف على الخبر خبرا صح خرطه فى سلك هذا الباب ، وإن جعلناه من عطف الجمل ـ على بعد وتكلف ـ فهو من هذا الباب ، وينبغى تقدير الخبر المحذوف بعد قوله لغريب ، لئلا يلزم تقديم المعطوف على المعطوف عليه اللازم على جعله من عطف الجمل ، أو المفردات ، وعلى كل حال فيلزم العطف على معمولى عاملين مختلفين ، وهما الابتداء وإن ، وإنما لم نجعل لغريب خبرا عنهما معا ـ مع صحة الإخبار بفعيل عن اثنين فيكون الكلام كقولنا إن زيدا وعمرو لذاهبان ـ لأن رفع قيار بالعطف على المحل ، ويلزم من جعل قوله لغريب خبرا عنهما عمل إن والابتداء فى الخبر المرفوع ، وهو فاسد ؛ ولذلك جعل مما حذف فيه خبر الثانى ، فيكون من عطف الجمل ، أو المفردات ـ كما تقدم ـ وهو صحيح ؛ لأن بتقدير خبر إن مقدما يكون من عطف الجمل بعد تقدير الاستكمال ، مثل : إن زيد أو عمرو لذاهب وهو صحيح ، كما لو أخر عمرو لأن الخبر فى تقدير التقديم ؛ لأن العطف قبل الاستكمال ممنوع ، مثل إن زيدا وعمرو لذاهبان ؛ لأن قولنا لذاهبان لا يصح جعله خبرا عن الأول فقط فيقدر تقديمه ـ تأمل هذا المقام.

(و) ك (قوله نحن بما عندنا وأنت بما

عندك راض والرأى مختلف) (١)

أى : نحن راضون بما عندنا ، وأنت راض بما عندك من الرأى ، أى : فرأينا مختلف ، فليتبع كل رأيه ، فخبر نحن محذوف ـ كما ترى ـ للاحتراز عن العبث ، مع ضيق

__________________

(١) البيت من المنسرح وهو لقيس بن الخطيم في ملحق ديوانه ص : ٣٢٩ وتخليص الشواهد ص : ٢٠٥ ، والدرر ٥ / ٣١٤ ، ولعمر بن امرئ القيس الخزرجي في الدرر ١ / ١٤٧.

٣٠٤

مقام الوزن ، وهذا الشاهد عكس الأول فى الحذف ، فالأول حذف فيه خبر المبتدأ الثانى ، وهذا حذف فيه خبر الأول جزما ، ولا عبرة بتكلف تأويل نحن بقوم ، فيصح الإخبار عنه براض ، وهو ظاهر ؛ لأن الحذف جائز فى التقديم كالتأخير ولهذا زاد هذا الشاهد ، فلا فائدة فى التكلف.

(و) ك (قولك زيد منطلق وعمرو) والأصل وعمرو منطلق فحذف خبر عمرو للاحتراز بناء على الظاهر من غير ضيق وزن أو غيره ، ولهذا الاعتبار زاد هذا المثال. (و) ك (قولك خرجت فإذا زيد) أى : بالباب أو موجود أو حاضر أو ما أشبه ذلك ، فحذف الخبر لما مر من الاحتراز عن العبث أو العدول إلى أقوى الدليلين مع اتباع الاستعمال ، وقد علم مما مر أن الحذف لا بد له من قرينة ، ولكن لا تكفى فى باب البلاغة حتى يعتبر الغرض ، وعلم ـ أيضا ـ أن اتباع الاستعمال يكون غرضا بيانيا من جهة التنبه ، لكون خلافه خروجا عما يطابق مقام إيراد الكلام ، وإلا فاتباع الاستعمال معلوم من النحو ، وإذا علم إنه لا بد من القرينة ، فالقرينة فيما فيه إذا الفجائية كونها دالة على مطلق الوجود ؛ لأن مفاجأة الشيء تدل على وجوده ، حينئذ فلا يحذف الخبر معها ، إن كان وجودا خاصا إلا بدليل آخر كما فى المثال ، فإن الخروج يدل على الكون بالباب والحضور فيه ، والفاء فى هذا الكلام يحتمل أن تكون للدلالة على السببية المقتضية للزوم ما بعدها لما قبلها ، فيكون المعنى على هذا أن مفاجأة زيد لازمة للخروج ، أو تكون لعطف المرتب على الشيء ، فيقدر فعل من معنى المفاجأة أى : خرجت ففاجأت وقت خروج زيد ، وقد قيل بكل من الاحتمالين ، وأما إذا قلنا : إنها حرف وهو المرجوح لم تتعلق بشيء ، وإذا قلنا : إنها اسم فإن جوزنا خروجها عن الظرفية صح كونها مفعولا بالفعل المعطوف المقدر ، وإن لم نجوز كانت ظرفا للخبر ، وتكون إضافتها حينئذ إلى غير الجملة المذكورة ، إذ لا ينبغى أن يعمل بعض المضاف إليه فى المضاف ، ثم على تقدير كونها ظرفا إن قدرت ظرف زمان فلا إشكال ، وإلا جاز كونها نفس الخبر ، فإذا قيل مثلا إذا زيد كان التقدير فى المكان زيد ويجعل بالباب

٣٠٥

فى نحو قولنا فإذا زيد بالباب بدلا منها ، وإنما التزم تقديمها ـ مع كونها خبرا ـ لشبهها فى اللفظ بإذا الشرطية.

(و) ك (قوله إن محلا وإن مرتحلا)

وإن فى السفر إذ مضوا مهلا (١)

(أى) إن (لنا فى الدنيا) حلولا (وإن) لنا (عنها) مرتحلا إلى الآخرة ، فقوله محلا ومرتحلا مصدران ميميان بمعنى الحلول والارتحال ، والسفر : اسم جمع لسافر كالركب لراكب ، والمهل بمعنى الإمهال ، وطول الغيبة ، والبعد عن الرجوع ، بمعنى أن المسافرين إلى الآخرة أى : الموتى الذاهبين إليها طالت غيبتهم عنا فلا رجوع لهم ؛ لأن المفقود بعد طول الغيبة لا رجوع له عادة ، وما لم تطل غيبته كغيره إذ سببهما معا واحد ، وهو الفقد ، واللازم لهم لازم لنا فلا بد لنا من ذهاب كما ذهبوا ، فكما أنهم حلوا فى الدنيا وارتحلوا عنها ، فنحن كذلك ، فقد حذف الخبر فى إن محلا وإن مرتحلا ، وهو جار ومجرور قطعا هنا ، إذ لا معنى لغير ذلك ، بخلاف قولنا : خرجت فإذا زيد ، فيحتمل أن يكون من تقدير الظرف أى : فإذا زيد بالباب ، أو من تقدير غيره ـ كما تقدم ـ أى : حاضر والحذف هنا للاحتراز ، أو العدول إلى الأقوى مع اتباع الاستعمال ومع ضيق الوزن ، وإنما قلنا مع اتباع الاستعمال ، ومع ضيق الوزن لأنه طرد حذف الخبر مع تكرار إن وتعداد اسمها سواء كانا نكرتين ـ كما مثل ـ أو معرفتين ، كقولك : إن زيدا وإن عمرا ، ولو حذفت إن لم يحسن الحذف ، أو لم يجز كما نص عليه أهل الفن ، ولوجود الخصوصية فى ذلك لإن ، وتكرارها بوب له سيبويه فقال : باب إن مالا وإن ولدا فإن قيل إذا وجدت القرينة ، صح الحذف بدون إن ، وإن لم توجد لم يصح ، ولو مع تكرارها قلت لفرق على مقتضى كلامهم ـ إنه يقل أو لا يصح تكرارها ، إلا مع القرينة ، بخلاف غير ذلك تأمل.

(وقوله تعالى (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي)(٢)) فأنتم فى قوله : قل لو أنتم فاعل بفعل محذوف ، يفسره قوله تعالى : تملكون ، والتقدير : قل لو تملكون

__________________

(١) البيت من المنسرح وهو للأعشى في ديوانه ص : ٢٨٣.

(٢) الإسراء : ١٠٠.

٣٠٦

تملكون فحذف الفعل الأول ؛ لوجود مفسره احترازا عن العبث ، بناء على الظاهر وارتكب هذا التركيب المؤدى إلى حذف لما فيه من التأكيد مع الإيجاز ، فالفعل المذكور فى أصله تأكيد ، وبعد الحذف تفسير لكنه متضمن للتأكيد من جهة المعنى ؛ لأن لو تقتضى المحذوف ، ولما حذف الفعل انفصل الضمير ، لعدم وجدان ما يتصل به ، ولا يصح جعل أنتم مبتدأ وجعله تملكون بعده خبره ؛ لأن لو لا تدخل إلا على الفعل ، ولم يجعل ـ أيضا ـ تأكيدا لضمير يقدر حذفه مع الفعل ؛ لأنه يلزم عليه حذف الجملة جميعا ، وحذف بعضها أيسر مع ما فيه من حذف المؤكد وعامله ، وبقاء التأكيد وذلك غير معهود ، فهذا المثال المسند المحذوف فيه فعل جزما ، وفى قوله إن محلا وإن مرتحلا ، يحتمل أن يكون مقدرا بالفعل ، فيكون جملة ، أو اسم الفاعل فيكون مفردا غير فعل ، ولهذا زاد هذا المثال ، وتقديمه على ما بعده من تقديم المفصل على المجمل ، وهو المشار إليه بقوله : (وقوله تعالى) (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ)(١) يحتمل الأمرين) أى : هذا القول يحتمل أن يكون من باب حذف المسند ، أو من باب حذف المسند إليه ، وأشار إلى تفسير المحذوف على التقدير الأول بقوله (أى) فصبر جميل (أجمل) لى من الصبر غير الجميل ، وهو الذى تكون معه الشكاية إلى الخلق ، فأحرى كونه أجمل من الجزع ، وتفضيل الشيء على ما لا يشاركه فى أصل الفعل واقع فى الكلام ؛ لغرض من الأغراض الموجبة لإخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر ، كدفع ما يتوهم على الغرض ، والتقدير ، وأشار إلى المحذوف على التقدير الثانى بقوله : (أو فأمرى) أى : فشأنى الذى ينبغى لى أن أتصف به (صبر جميل) ، ويحتمل أن يكون من حذفهما معا أى : فلى صبر وهو جميل ، ولما كان فى الحذف احتمالات كل منها يناسب المقام ، والقرينة يتجه معها كل منها ، كان الحذف أوسع ؛ إذ فيه تكثير للفائدة الحاصلة بكل من المحتملين ، بخلاف الذكر فإنه معين لأحدها لنصوصيته ، فيكون أضيق ، فلا يرد أن يقال المقدر واحد فى نفس الأمر فلا كثرة ؛ لأنا نقول الاحتمال يكفى فى التوسعة والكثرة هنا ، ولا أن يقال القرينة متى لم تعين فليست دليلا ، فلا حذف ؛ لأنا نقول

__________________

(١) يوسف : ١٨.

٣٠٧

يكفى فى دلالتها صلاحية مقامها لأحدها لا بعينه ، ورجح كونه من حذف المسند إليه بكونه أكثر وقوعا ، وبغير ذلك مما يذكر فى المطولات ، ومما يحتمل الأمرين قوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ)(١) لاحتمال أن يكون التقدير ، ولا تقولوا لنا آلهة ثلاثة ، أو يكون ولا تقولوا الله وعيسى ومريم آلهة ثلاثة ، ففى الحذف تكثير فائدة التوسعة بالاحتمال.

(ولا بد له) أى : للحذف (من قرينة) دالة عليه ، وإلا لم يفهم المعنى أصلا ، وهذا ولو كان لا يختص بالمسند للزوم مثله فى باب المسند إليه ، لكن ذكره ليفصل القرينة السؤالية إلى المحققة والمقدرة ولهذا قال (كوقوع الكلام) أى : الذى حذف فيه المسند (جوابا لسؤال محقق) بأن يذكر السؤال ، ولو على وجه الفرض (نحو) قوله تعالى ((وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ)) (٢) فقوله : الله جواب لسؤال محقق الذكر أى : مقدر الصورة ، فعلى تقدير وقوع هذا السؤال بأن يقال من خلق السموات والأرض يكون قوله : الله جوابا عنه ، وقد حذف فيه المسند والأصل خلقهن الله. وبهذا يعلم أن حمل التحقق ـ على معنى تحقق ما فرض من السؤال الذى هو صدور قوله من خلق السموات والأرض والجواب الذى هو أن يقولوا الله ـ يكون هذا الكلام جوابا لسؤال محقق تغميض بلا طائل ، مع أن مثله يلزم فى المقدر ، فيقال فيه عند تحقق ما قدر من السؤال يكون هذا الكلام جوابا عنه ، فإذا كان يسمى محققا لكون ما ذكر يكون جوابا عنه عند تحقق وقوعه ، لم يظهر فرق بين المقدر والمحقق بذلك ـ فتأمل.

وقدرنا اسم الجلالة فاعلا لا مبتدأ ؛ ليطابق ما صرح به فى مثل هذا السؤال ، كقوله تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ)(٣) وكذا قوله تعالى : (قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ* قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي

__________________

(١) النساء : ١٧١.

(٢) لقمان : ٢٥.

(٣) الزخرف : ٩.

٣٠٨

أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ)(١) ولكن هذا يعارض بقوله تعالى (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ)(٢) إلى قوله تعالى : (قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها) اللهم إلا أن يقال وقوع الأول أكثر ، أو يقال حمل المذكور على الفاعل ؛ لكونه أقوى العمد أحق (أو) وقوعه جوابا لسؤال (مقدر) فهو معطوف على قوله محقق وذلك (نحو) قول ضرار بن نهشل يرثى أخاه يزيد بن نهشل ـ ليبك) بالبناء للمجهول وقوله (يزيد) نائب الفاعل ، وتعدى إليه يبكى بنفسه لأنه يستعمل متوصلا بعلى ، ومتعديا بنفسه فيقال : بكيت عليه وبكيته ، ولما حذف الفاعل وقع إبهام فى الكلام ، يسأل عن بيانه فكأنه قيل من يبكيه فقال (ضارع) أى : يبكيه ضارع أى : ذليل (ل) أجل (خصومة) نالته مما لا طاقة له على خصومته ، وإنما أمر الذليل ببكائه ؛ لأنه كان دافعا عن الأذلاء والضعفاء ما ينالهم ، فهو ملجأ لهم ؛ فحقهم بكاؤه وتمام البيت.

ومختبط مما تطيح الطوائح (٣)

فقوله : مختبط ، معطوف على ضارع أى : يبكيه الضارع والمختبط ، وهو الذى يأتى إليك للمعروف من غير وسيلة ، والإطاحة : الإهلاك وإذهاب المال وإتلافه ، والطوائح جمع مطيحة ، والمطيح اسم فاعل من غير الثلاثى ، وهو أطاحه ، لكنه جمع بفواعل على غير قياس كلواقح جمع ملقحة ، وقوله : مما تطيح ، يحتمل أن يتعلق بقوله مختبط ؛ فيكون المعنى أن المختبط أى : السائل من أجل إهلاك الطوائح أى : الوقائع والشدائد ماله ، يبكى يزيد ؛ لأنه كان يكسب المعدوم ، ويحتمل أن يتعلق بيبكى المقدر ، فيكون التقدير ، أن ذلك المختبط يبكى من أجل إهلاك المنايا يزيد ، وعلى هذا التقدير ينبغى أن يجعل يبكى من اللازم ، أى : يوقع البكاء من أجل ما ذكر ، ويصح كونه متعديا ، أى يبكيه من أجل إهلاك المنايا إياه ، ولما كان هنا مظنة سؤال وهو أن يقال لماذا عدل الشاعر إلى هذا التركيب مع إمكان الأصل ويستقيم به الوزن؟ وذلك بأن

__________________

(١) يس : ٧٩.

(٢) الأنعام : ٦٣.

(٣) البيت من الطويل ، وهو للحارث بن نهيك في خزانة الأدب ١ / ٣٠٣ ، وللبيد بن ربيعة في ملحق ديوانه ص ٣٦٢.

٣٠٩

يجعل يزيد مفعولا وضارع فاعل يبكى ، أجاب عنه بأن ما عدل إليه له فضل عما عدل عنه ، فقال (وفضله) أى : وفضل هذا التركيب الذى فيه بناء يبكى للمجهول ، وهو يزيد ، ثم ذكر الفاعل وهو ضارع.

(على خلافه) الممكن وهو أن يجعل يبكى مبنيا للفاعل ، وهو ضارع ، وينصب يزيد على إنه مفعول مع أن هذا الخلاف هو الأصل.

(بتكرر الإسناد) أى : فضل التكرير الأول على الثانى حاصل بتكرر الإسناد ؛ لأن الفعل أسند أولا.

(إجمالا) أى : إسناد إجمال (و) أسند ثانيا (تفصيلا) أى : إسناد تفصيل ، أما الإسناد التفصيلى فظاهر ؛ لأنه ذكر الفاعل المستحق للفعل بالتنصيص ، وهو ضارع ، وذلك معنى التفصيل ، وأما الإسناد الجملى فلأن إسناد الفعل للمفعول مشعر بأن له فاعلا يستحق الإسناد إليه ، ولم يسم ذلك الفاعل أولا ، وهذا معنى الإسناد الجملى ، وهو ولو لم يقع بالفعل لكن لما أشعر به الكلام صار كالواقع ، فإذا تحقق أن فى ذلك التركيب إسنادين فلا شك أن التركيب المشتمل على إسنادين أوكد وأقوى مما ليس فيه إلا إسناد واحد ، وإذا تحقق أن فيه الإجمال ثم التفصيل فلا شك أن الإجمال ثم التفصيل أوقع فى النفس ؛ لأن فى الإجمال تشويقا ، والغرض من الكلام تمكن معناه ، ليقع العمل على مقتضاه.

(و) فضله أيضا على غيره حاصل (بوقوع نحو يزيد) الذى هو نائب الفاعل (غير فضلة) لكونه ركنا أسند إليه الفعل المبنى للمجهول ، وليس مفعولا كما فى التركيب الآخر.

(و) فضله حاصل أيضا (بكون معرفة الفاعل) فيه (كحصول نعمة غير مرتقبة) فهو كرزق من حيث لا يحتسب ، والرزق من حيث لا يحتسب أيسر ، وأغرب ، وإنما كانت معرفة الفاعل كذلك (لأن أول الكلام غير مطمع فى ذكره) أى : فى ذكر الفاعل وإنما كان غير مطمع ؛ لأن الكلام قد تم حيث أسند الفعل للنائب ، فلا يطلب له فاعل يتم به الكلام ، بخلاف ما إذا أسند الفعل للفاعل فهو مقتض للفاعل فينتظر إذ لا بد

٣١٠

للفعل من فاعل ، وإنما قال غير مطمع ولم يقل مؤيس من ذكره ؛ لأنه يجوز أن يذكر الفاعل بعد النائب للبيان ، لكنه لا ينتظر لتمام الكلام بدونه ، فهذه الأوجه يفضل بها هذا التركيب خلافه ، فللبليغ أن يرجحه بها على خلافه ، ولو كان فى خلافه ما يمكن ترجيحه به ـ أيضا ـ وذلك أن فيه إيهام الجمع بين متنافيين من حيث إن كون يزيد فضلة يقتضى أن كون ضارع أهم منه ، وتقديمه كونه أهم من الفاعل ، وهو ضرب من البديع ، وفيه التشويق إلى الفاعل بذكر المفعول أولا مع الإطماع فى ذكره ببناء الفعل له ، وبهذا يعلم أن اختصاص الخلاف بما ذكر لا يقتضى أرجحيته كما قيل ، بل النظر فى ذلك للبليغ ، فيرجح ما اقتضاه نظره فى المقام ـ فليفهم.

ذكر المسند

(وأما ذكره) أى : ذكر المسند (فلما مر) فى باب المسند إليه منها كون ذكره الأصل ، ولا مقتضى للعدول عنه. كقولك ابتداء زيد صالح ، ومنها الاحتياط لضعف التعويل على القرينة ، كقولك فى جواب من قال : من أكرم العرب فى الجاهلية وأشجعهم؟ عنترة أشجع وحاتم أجود ، لضعف التعويل على القرينة ، كما إذا كان الغرض إسماع غير السائل أيضا ، والسؤال أخفاه المتكلم فخفت أن لا يسمعه وقد مثل هنا بقوله تعالى : (خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ)(١) وورد عليه أن السؤال هنا كهو فى قوله تعالى : (لَيَقُولُنَّ اللهُ)(٢) فكيف يضعف التعويل على القرينة فى أحدهما دون الآخر مع اتحاد السؤال والمسئول والسائل؟ بل ذكر المسند لزيادة التقرير ، وأجيب بما لا تظهر صحته ، ولا مناسبة لهذا المقام ، ولك أن تقول فى الجواب لما كان المسئولون أغبياء الاعتقاد لكفرهم ، جاز أن يتوهموا أن السائل ممن تجوز عليه الغفلة عن السؤال ، أو تجوز على من معه ممن يقصد إسماعه ، أو ينزلوه منزلة من تجوز عليه ، فيأتون بالجواب تاما ؛ لقصد التقرر الذى أصله ضعف التعويل ، بل بزعمهم الفاسد ووهمهم الكاسد ،

__________________

(١) الزخرف : ٩.

(٢) لقمان : ٢٥.

٣١١

فيذكرونه بالمنصوصية ، ولو كان السائل ليس كذلك فذكر عنهم الجواب مختلفا باعتبار ما عسى أن يخطر لهم عند المحاورة والسؤال ـ فتأمله.

ومنها التعريض بغباوة السامع ، مثل قولنا : سيدنا محمد نبينا ، فى جواب من قال : من نبيكم؟ تعريضا بالسامع ، وأنه لو كان له ميز لم يسأل عن نبينا ؛ لأنه أظهر من أن يتوهم خفاؤه ، فيجاب بذكر أجزاء الجملة إعلاما بأن مثل هذا لا يكفى معه إلا التنصيص ، لعدم فهمه بالقرائن الواضحة (أو) لأجل (أن يتعين) بذكره (كونه) أى : المسند (اسما) فيفيد الثبوت لما تقرر أن الاسم مفيد فى الأصل مطلق الثبوت بخلاف غيره (أو) كونه (فعلا) فيفيد التجدد ؛ لأن أصل وضع الفعل الدلالة على ذلك لتضمنه الزمان الموصوف بعدم الاستقرار والتجدد ، وإنما يقصد معنى كل منهما إذا اقتضاه المقام وسيأتى الآن تفصيل هذا

إفراد المسند وأغراض ذلك :

(وأما إفراده) أى : إفراد المسند بجعله غير جملة (فلكونه) أى : فلاقتضاء المقام كونه (غير سببي) وذلك لأن السببى فى هذا الاصطلاح جملة أخبر بها عن مبتدأ بعائد ليس مسند له فى تلك الجملة ، وستأتى الآن مفاهيم هذه القيود ، فلو كان سببيا كان جملة ، كقولك : زيد أبوه منطلق (مع عدم إفادة التقوى) أى : يكون مفردا عند عدم إفادته التقوى بنفس إسناده ، إذ لو أفاد التقوى بنفسه كان جملة كقولك : زيد قام ، فكونه مفردا يتحقق بنفى شيئين السببية المفسرة بما ذكر ، وإفادة التقوى بنفس الإسناد فيدخل فى الإفراد نحو : زيد منطلق أبوه مما أسند فيه الوصف إلى المبتدأ رفعا لظاهر ذى سبب ؛ لأنا فسرنا السببى بالجملة ، ويدخل فيه نحو إن زيد قائم ؛ لأنه لا يفيد التقوى ، بل هو قريب من إفادته كما تقدم ، ويدخل فيه نحو عرفت مما أفاد التقوى بالتكرار ، ونحو إن زيدا قائم ، مما أفاده بالحرف ؛ لأنا قيدنا التقوى بكونه مفادا بنفس الإسناد فى التركيب ، نحو زيد قام مما كان فيه الفعل مسندا لضمير المبتدأ ؛ لأنه كما تقدم مشتمل على الإسناد مرتين ، وذلك لأن المبتدأ يطلبه بالإسناد إليه ، لكونه خبرا عنه ، ولكونه فعلا يطلب ضمير ذلك المبتدأ ، ليسند إليه ، لكونه فعليا لا سببيا ، فوقع الإسناد فيه

٣١٢

مرتين ، فأفاد التقوى بهذا الوجه ، وهو الإسناد مرتين ، ويحتمل أن لا يحتاج إلى القيد السابق ، وهو قولنا : بنفس إسناده ، وذلك بأن تجعل الألف واللام للعهد السابق ، وهو التقوى المفاد بهذا الطريق ، وهو الإسناد فى تركيب واحد مرتين ، ويدخل فيما أفاد التقوى بهذا الوجه ؛ فيكون جملة نحو قولنا : أنا عرفت ، وأنت ما سعيت فى حاجتى ، مما كان فيه الفعل مسندا لضمير المبتدأ مع قصد إفادة التخصيص ـ كما تقدم ، أن مثل هذا التركيب يقصد به التخصيص ؛ لأن التقوى موجود فيه ، لوجود الإسناد مرتين ، ولو لم يقصد ذلك التقوى بالذات لأنا لم نشترط إلا نفى إفادة التقوى ، فمتى انتفى نفى الإفادة ، فإن وجدت الإفادة كان جملة ، ولو لم تقصد تلك الإفادة ، نعم لو شرطنا نفى قصد التقوى ، دخل فى الإفراد ما قصد به التخصيص على تقدير تسليم أن هذا التركيب عند قصد التخصيص لا يقيد التقوى ، فلا يلزم دخوله في الإفراد ؛ لأن المقصود نفى أن السببية والتقوى يكون علة للإفراد ولا يلزم اطراد العلة فيصح وجود ذلك النفى مع نفى الإفراد ، كما فى نحو : أنا سعيت فى حاجتك ، وقولنا : لم يقصد إفادة التقوى بالذات ، إشارة إلى أن الإفادة لا بد فيها تبعا إذ ما يفاد بلا قصد أصلا لا يعد من خواص تراكيب البلغاء ، فلا عبرة به أصلا ، وقولنا : لأن السببى فى هذا الاصطلاح نعنى به اصطلاح السكاكى ، وإياه تبع المصنف فى إطلاق السببى على ما ذكر ، كإطلاقه الفعلى على خلافه ، كما أشرنا إليه بقولنا : فيما تقدم لكونه فعليا لا سببيا ، أما اصطلاحه فى السببى فكأنه مأخوذ من قول النحاة : إن نحو مررت برجل كريم أبوه نعت سببي ، لكن على اعتباره ينبغى أن يسمى نحو قولك : زيد منطلق أبوه مسندا سببيا ، وهو لا يقول به ، والتفريق بينه وبين قولنا زيد أبوه منطلق ، بأن الأول المسند فيه مفرد ، والثانى المسند فيه جملة لا يفيد وجها لتخصيص الثانى بتسميته سببيا دون الأول ، وأما اصطلاحه فى الفعلى فلا يعرف له سلف فيه ، وقد أطلق السببى فى النعت على ما أطلقه عليه النحويون ، نحو مررت برجل كريم أبوه ، وأطلق الفعلى فيه على ما أطلقوا عليه الحقيقى نحو : مررت برجل كريم ، وحول هذا الاصطلاح إلى المسند ، لكنه خصصه بالجملة كما أشرنا إليه قبل ، فعلم أن مجموع اصطلاحه فى

٣١٣

السببى والفعلى مبتكر له ، ولما كان تعريفه السببى فيه انغلاق وصعوبة ـ حسبما يظهر عند الوقوف عليه فى المفتاح ومعلوم إنه يلزم من انغلاقه انغلاق مقابله وهو الفعلى ـ عدل المصنف إلى المثال فى السببى ليعرف منه الفعلى. فقال : (والمراد بالسببى) خبر هو (نحو) الخبر فى قولك (زيد أبوه منطلق) ومعلوم أن تعريف الحقائق بمجرد المثال لا يخلو من خفاء ؛ لأن أوجه التماثل كثيرة ، ومثل هذا قولك ـ مثلا : زيد انطلق أبوه مما كان فيه الخبر جملة علقت على مبتدأ بعائد لا يكون مسندا إليه فى تلك الجملة ، فيستفاد حد السببى مما ذكر من المثالين ، لاشتمالهما على أجزائه ، فيخرج عنه المسند فى نحو زيد منطلق أبوه ، إذ ليس منطلق أبوه بجملة كما تقرر ، والمسند فى نحو (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ)(١) مما هو جملة أخبر بها عن ضمير الشأن ؛ لأن تعليقها بالمبتدأ بنفسها لا بعائد ، وفى نحو قولنا : زيد قام ؛ لأن العائد فى قام مسند إليه ، ويدخل فى ذلك الحد المستفاد من المثالين. (والمراد بالسببى نحو زيد أبوه منطلق) ش : المسند على أقسام :

الأول : أن يكون سببيا ، والمراد بالسببى أن يكون إثبات المسند للمسند إليه لمتعلقه لا لنفسه ، وذلك إما بأن يتقدم السببى نحو : زيد أبوه منطلق ، أو يراد حدوث المسند ، وهو سببي مثل : زيد انطلق أبوه ، وفى هذين القسمين يكون جملة ، أو زيد منطلق أبوه ، وهو مفرد سببي.

الثانى : أن لا يكون سببيا ، ولكن يراد تقوى الحكم بتكرر الإسناد كقولك : زيد قام فإنه وقع الإسناد إلى زيد مرتين ، أحدهما : إلى لفظ زيد ، والثانى : لضميره ، وهو فاعل قام.

الثالث : أن لا يكون سببيا ، ولا يراد به التقوية ، مثل : زيد منطلق ، فحاصله إنه إن أريد به التقوية ؛ كان جملة ، وإن لم يرد فإما أن يكون سببيا أو لا إن لم يكن فهو مفرد ، وإن كان فإما أن يتأخر السببى ، ولا يراد الحدوث أولا ، فإن تأخر ولم يرد

__________________

(١) الإخلاص : ١.

٣١٤

الحدوث ، فهو مفرد ، مثل : زيد قائم أبوه ، إذا عرفت ذلك ، ورد على المصنف أن كلامه يقتضى إنه متى كان سببيا كان جملة ، وليس كذلك لأجل زيد منطلق أبوه.

(تنبيه) مراد المصنف بغير السببى ، هو ما أراده السكاكى بالمسند الفعلى ، ولو لم يذكره السكاكى الذى كلامه هو العمدة فى معنى السببى هنا ، لعدم تقدم سلف لغيره فى معناه على هذا الوجه نحو : زيد مررت به ، وزيد ضربت عمرا فى داره ، وزيد أكرمت ذلك المحسن ؛ لأن العائد لم يشترط فيه كونه ضميرا ، ثم إن ما ذكر من عد السببى بما فيه ذكر الجملة ، يرد عليه أن السببى ذكر حكمه بكون المسند جملة ، فيقتضى ذلك العلم بالسببية أولا ؛ ليكون العلم بها حاملا على إيراد المسند جملة ؛ لأن العلة الموجبة للإتيان بالشيء يجب سبقها عليه ، وحد السببى بالجملة يقتضى أن يكون التقدير إذا كان المسند سببيا ، بأن يكون جملة إلى آخره أتى به جملة ، ففى تعريف السببية بما فيه ذكر الجملة نظر ، وقد أجيب عن هذا بما هو غير مرضى ـ فليتأمل.

كون المسند فعلا وأغراض ذلك

(وأما كونه فعلا) أى وأما الإتيان بالمسند فعلا (ف) يكون (للتقييد) أى :

لتقييد المسند (بأحد الأزمنة الثلاثة) عند تعلق الغرض بذلك ، كما إذا كان المخاطب معتقدا لعدم الوقوع فى أحد الأزمنة على الخصوص ، والواقع بالعكس ، فيؤتى بالفعل الدال على أحدها وهى الماض : الذى هو زمان قبل زمانك الذى أنت فيه ، والاستقبال : وهو زمان من شأنه أن يرتقب حصوله بعد زمانك ، والحال : وهو أجزاء من أواخر الزمان الماضى ، وأوائل المستقبل ، بشرط تعاقبهما بلا مهلة ولا تأخر ، واحترزنا من التعاقب بلا مهلة من الأجزاء التى وقع بينها فصل ، كما إذا اعتبر جزء مع الثالث منه أو الرابع فما فوق فلا يسمى حالا ، ثم تلك الأجزاء المسماة بالحال لم تبن على التضييق حتى لا يسمى منها حالا إلا ما صادفه النطق فقط ، بل يبنى الأمر على عرف أهل العربية ، كما يقال : زيد يصلى ، ويكون حالا إذا كان فى أثناء الصلاة المتعاقبة ، ولو كان قد فرغ منها شطر وبقى شطر ، فعلم مما ذكر إنه ليس المراد بنفى المهلة والتراخى نفى الاتساع عن تلك الأجزاء رأسا ، بل المراد نفى الفصل بين أجزاء المعتبرة حالا ومقدارها

٣١٥

حينئذ في الاتساع بعد نفى الفصل بينها يعتبر عرفا. (على أخصر وجه) أى : يكون المسند فعلا للتقييد بأحد الأزمنة على أخصر وجه ، وذلك لأن الفعل يدل على أحد تلك الأزمنة الثلاثة بصيغته من غير حاجة إلى قرينة تعين أحدها ، بخلاف الاسم فإنها إنما يعين أحدها بقرينة فإذا قلت : زيد قائم ، لم يعين أحدها إلا بقولك : الآن أو أمس ، أو غدا ، والتعيين فى الفعل بالنسبة إلى المضى وما يقابله ظاهر ، وأما تعيين الحال عن الاستقبال فى المضارع فمحل نظر ، وكذا التعيين مطلقا فى الاسم مع تصريحهم بأن أصله الدلالة على الحال ، وعليه إنما يحتاج إلى القرينة فيه بالنسبة إلى المضى ، أو الاستقبال فقط ، كما يحتاج إليها فى المضارع بالنسبة لأحد مدلوليه من حال أو استقبال ، وقد يجاب فى الاسم بأن دلالته إنما هى على الحدث الحالى بالأصالة على الزمان الحالى ، فلا يدل على الزمان إلا باللزوم لا بالصراحة إلا بالقرينة ، بخلاف الفعل بالنسبة إلى المضى وغيره ، ولا يخفى ضعف الجواب إذ تعقل الحدث الحالى بلا زمان الحال كالمحال ـ فتأمله.

(مع إفادة التجدد) أى يكون المسند فعلا للتقييد المذكور مع زيادة إفادة تجدد الحدث المدلول لذلك الفعل عند اقتضاء المقام لذلك ، وهذا التجدد المفاد للفعل إنما أفاده لدلالته على الزمان الذى هو كم أى : عرض قابل للقسمة لذاته غير قار الذات بحيث لا تجتمع أجزاؤه فى الوجود ، فالحدث المقارن لذلك الزمان فى دلالة الفعل يناسب أن يعتبر فيه التجدد كمقارنة لكن التجدد المعتبر في الحدث تجدد مطلق وقوعه لا التجدد بمعنى الحصول على وجه الاستمرار شيئا فشيئا وهو الآتى فى المثال ، فإنه إنما يدل عليه الفعل بقرينة السياق وعلى هذا فلقائل أن يقول : فما المانع من اعتبار ذلك فى الاسم بالقرينة أيضا اللهم إلا أن يجاب بأن أكثر إفادة هذا التجدد ، ولو بالقرينة فى الفعل لمناسبة مقارنة الزمان ، الذى تحقق فيه ذلك المعنى ، فصح تخصيصه بالفعل وذلك (كقوله) (١) أى : طريف بن تميم (أو كلما) أى أحضروا وكلما (وردت) أى جاءت

__________________

(١) البيت من الكامل وهو لطريف بن تميم العنبرى في الأصمعيات ص : ١٢٧ ، ولسان العرب (ضرب) و(عرف) ، وبلا نسبة فى أدب الكاتب ص : ٥٦١.

٣١٦

(عكاظ قبيلة) منهم ، وعكاظ : اسم لسوق للعرب ، كانوا يردونه ، ويجتمعون فيه ، ويتناشدون الأشعار ، ويتفاخرون (بعثوا) جواب كلما (إلى عريفهم) وعريف القوم : رئيسهم ، ومتولى البحث والكلام فى شئونهم ، حتى اشتهر بذلك ، وعرف به (يتوسم) أراد إنه يصدر منه ذلك التوسم أى : يتفرس الوجوه طالبا لى ؛ لأن لى جناية فى كل قوم ، ونكاية لهم ، فيبعثوا عريفهم ليعيننى بذلك التوسم فيطلبوا ثأرهم منى ، فقوله : يتوسم ، أراد إنه يصدر منه ذلك التوسم متجددا شيئا فشيئا ، وقد تقدم أن دلالة الفعل على هذا المعنى ليست بالأصالة ، بل بقرينة السياق ، كما فى الشاهد ؛ لأن تعيين المطلوب إنما يحصل بعد التفرس المتجدد كثيرا فى السوق.

كون المسند اسما وأغراض ذلك

(وأما كونه اسما) أى : وأما الإتيان بالمسند اسما (ف) يحصل (لإفادة عدمهما) أى : لدلالة الاسم على عدم التقييد والتجدد المذكورين ، وعدمهما هو : إفادة الدوام المقابل للتقييد بزمن مخصوص ، وإفادة مطلق الثبوت المقابل للتجدد ، وذلك لأغراض يقتضيها المقام : ككمال المدح ، أو الذم ؛ لأنهما بالدائم الثابت أكمل ، أما دلالة الاسم على مطلق الثبوت فهى على أصل وضع الاسم ، فقول من قال يدل اسم الفاعل على الحدوث ، بخلاف الصفة المشبهة ، يحمل على أن ذلك بعروض الاستعمال ، وهو كثير لا فى أصل الوضع ، وإلا كان كالفعل ، وأما دلالته على الدوام فبالقرينة والسياق ، لا فى أصل الوضع جزما ، وذلك (كقوله : لا يألف الدرهم المضروب صرتنا) (١) وهى : وعاء جمع الدراهم (لكن يمر عليها وهو منطلق) فتعبيره بمنطلق للإشعار بأن انطلاق الدرهم على الصرة أمر ثابت دائم لا يتجدد ، مبالغة فى مدحهم بالكرم ، وأن الدرهم ليس له استقرار ما فى الصرة أصلا ، وقد علم مما ذكرنا أن الدوام بالسياق ، والقرينة الموجبة لذلك ، وإلا فأصل الدلالة مطلق الثبوت كما قال الشيخ عبد القاهر : موضوع الاسم على أن يثبت به الشيء للشيء من غير اقتضاء أنه يتجدد ويحدث شيئا فشيئا ، فلا تعرض فى قولك : زيد منطلق لأكثر من إثبات الانطلاق بالفعل له ، كما فى زيد طويل ، وعمرو قصير ، فعلم من كلامه أن دلالة الاسم على الدوام خلاف الأصل ، كما أن

__________________

(١) البيت للنضر بن جؤية في الإشارات والتنبيهات ٦٥ ، ودلائل الإعجاز ١٧٤ ، ومعاهد التنصيص ١ / ٢٠٧ ، وشرح الواحدي على ديوان المتنبي ١٥٧.

٣١٧

دلالة اسم الفاعل منه على الحدوث كذلك ـ كما تقدم. وأما قولهم يدل الفعل المضارع فى قولك : زيد ينطلق على الاستمرار ، فالمراد استمرار التجدد لا الدوام.

تقييد الفعل بمفعول ونحوه وأغراض ذلك

(وأما تقييد الفعل) حيث يكون هو المسند (وما يشبهه) أى : وما يشبه الفعل حيث يكون ذلك المشبه هو المسند ، كاسم الفاعل ، واسم المفعول ، وغيرهما ، كالصفة المشبهة ، واسم التفضيل ؛ لأنها تشبه الفعل فى الاشتقاق ؛ فيكون لها متعلقات مثله (بمفعول) متعلق بتقييد أى : تقييد ما ذكر بالمفعول المطلق ، أو المفعول به ، أو المفعول فيه وهو : الظرف ، أو المفعول معه ، أو المفعول له وهو : المفعول من أجله ، فلفظ المفعول يتناولها جميعا ، لاشتراكها فى مطلق المفعولية. (ونحوه) عطف على مفعول أى : وأما تقييد ما ذكر بمفعول ، وبنحو المفعول كالحال ، والتمييز ، والاستثناء (ف) يكون (لتربية) أى : تنمية (الفائدة) وإحداث زيادتها مع المسند كقولك : أكرمت إكرام أهل الحسب ، وحفظت حديث البخارى ، وقرأت بمكة ، وجلست أمام الروضة الشريفة ، وسرت وطريق المدينة ـ على ساكنها أفضل الصلاة والسّلام ـ وتطهرت تعظيما للحديث ، وتصدقت مخلصا ، وطبت نفسا بالتوفيق ، ولا أحب إلا الصالحين ، وإنما كان التقييد المذكور لتربية الفائدة ؛ لأن الحكم المطلق لا يزيد على فائدة مطلق نسبة المحمول ، وهو المسند إلى الموضوع وهو المسند إليه ، وأما المقيد ففيه تلك الفائدة مع زيادة ملابسة لذلك الغير ، بل ربما لم يفد الحكم المطلق أصلا ؛ لأن العلم بالمعلومات كثير ، فربما كان ذلك الحكم المطلق معلوما عند السامع ، فلا يفيد ، والعلم بالخصوصيات قليل ، فإن الخصوصيات كلما كثرت ازداد الحكم بها غرابة ، والحكم الغريب مستلزم للإفادة للجهل به غالبا ، وكلما كثرت غرائبه بكثرة القيود ، فقد كثرت فوائده ، ويظهر ذلك بالنظر إلى قولنا : شيء ما موجود ، فإنه معلوم بالضرورة ، فهو خلو عن الفائدة ، وقولنا : فلان بن فلان حفظ التوراة فى سنة كذا فى بلد كذا فى سن كذا رواية عن كذا ففيه غرابات بكثرة القيود ، وبذلك كثرت فرائده وفوائده ، كما لا يخفى ، ثم لما ذكر المصنف أن التقييد بالمفعول ونحوه لتربية الفائدة ، فربما يتوهم أن خبر كان لانتصابه يكون نحو

٣١٨

المفعول فيدخل فيما ذكر ، ويكون الإتيان به لتربية الفائدة ، وليس كذلك ، فإنه لا فائدة بدونه ، ولما استشعر السؤال الناشئ عن ذلك التوهم أشار إلى الجواب فقال (والمقيد نحو) قولك (كان زيد منطلقا هو) الخبر الذى هو (منطلقا لا كان) إذ ليست كان مسندا من جهة المعنى ، بل المسند هو منطلقا ، فيقيد بمفاد كان ، وهو الزمان الماضى ، فأفاد الكلام أن الإنطلاق كان فيما مضى ، حتى كأنك قلت زيد منطلق فى الزمان الماضى ، وهذا بناء على أن كان انسلبت عن معنى الحدث ، ولم يبق فيها إلا الزمان ، وأما إن قلنا إنها تدل على الحدث ـ أيضا ـ ويدل على ذلك وجود المصدر منها كقوله :

ببذل وحلم ساد فى قومه الفتى

وكونك إياه عليك يسير (١)

فالتقييد إنما هو بالاتصاف بمضمونها ، فكأنك قلت : زيد موصوف بالانطلاق الموصوف بأنه كان فى الزمان الماضى ، ولهذا قيل إذا قلت : كان زيد ، أفاد أن زيدا كان له شيء ما ، وإذا قلت : منطلقا ، فقد عينت ذلك الكائن ، فأول الكلام إجمال ، وآخره تفصيل ، فيستفاد منه أن ذلك الانطلاق كان لزيد فى الزمان الماضى ، والتحقيق أن معنى التركيب أن زيدا كان موصوفا بالانطلاق فى الزمان الماضى ، لا أن الانطلاق كان وصفا لزيد فى الزمان الماضى ، ولو كان هذا لازما للأول وإيراد التقييد هنا بالمفعول وشبهه ، ولو كان من باب متعلقات الفعل مناسب لرجوع ذلك لأحوال المسند المنظور فيه هنا ، ولم يتعرض المصنف هنا لتقييد المسند بنحو الإضافة والنعت حيث لا يكون فعلا ، والسر فيه نحو ما ذكر من تربية الفائدة ، ويمكن أخذه بعطف قوله : ونحوه ، على تقييده ، وهو ظاهر.

ترك تقييد المسند وأغراض ذلك

(وأما تركه) أى : ترك تقييد المسند إن كان فعلا أو ما يشبهه (ف) يكون (لمانع منها) أى : تربية الفائدة ؛ كخوف فوات الفرصة ، مثل أن يقول الصياد : الصيد محبوس لصيد محبوس ، من غير أن يقول : محبوس فى شرك ، أو للجوارح مثلا ؛ لينتهز

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة في أوضح المسالك ١ / ٢٣٩ ، وتلخيص الشواهد ص ٢٣٣ ؛ والدرر ١ / ٥٦ ، وهمع الهوامع ١ / ١٦٤.

٣١٩

فرصة التأكيد المقتضى لمبادرة المخاطب لانتهاز فرصة إدراكه قبل فواته بالموت حتف أنفه مثلا ، وكإرادة أن لا يطلع الحاضرون على الزمان المخصوص للفعل ، أو مكانه كذلك ، فيقول مثلا : جئت أو أجئ ، ومراده أمس ليلا ، أو غدا صباحا ، لئلا يعلم الحاضرون الوقت المخصوص للمجئ ، لئلا يتوهم فى المجيء ليلا بالأمس بسوء أو يتعرض له فى المجيء غدا بمكروه ، وإنما قيدنا الزمن بالمخصوص ؛ لأن المسندان كان فعلا يدل على زمان المضى ، أو الاستقبال بلا قيد ، أو يقول : جلست يعنى مع فلان ، والمخاطب يعلم فيسقط الظرف للإبهام على الحاضرين ؛ لغرض من الأغراض ، أو أن لا يعلم الحاضرون مفعوله ، فيقول : بايعت ، ويريد زيدا فأسقطه ؛ لئلا يغار الحاضرون من مبايعته ، وقد يكون المانع عدم العلم بالفضلات المقيدة ، أو نحو ذلك : كمجرد الاختصار ، حيث يقتضيه المقام ، كالضيق ، والضجر ، أو لإظهار أن ذكر الفضلة كالعبث ، لدليل حاضر عند السامع ، ثم التقييد بالشرط لما كان محتاجا إلى بسط ما أخره عن الترك ، ولو كان المناسب ذكره مع ما قبله ، وإليه أشار بقوله

تقييد الفعل بالشرط إن وإذا ولو :

(وأما تقييده) أى : تقييد الفعل (بالشرط) أى : بجملة الشرط (ف) يكون (لاعتبارات) أى : لحالات تعتبر لكون المقام يقتضى التقييد بما يفيدها (لا تعرف) تلك الاعتبارات بخصوصها (إلا بمعرفة ما بين أدواته) أى : أدوات الشرط (من التفصيل) الحاصل ببيان ما بينهما من الفرق المعنوى ، فيعتبر فى كل مقام ما يناسبه من معانى تلك الأدوات. (وقد بين ذلك) التفصيل (فى علم النحو) وأراد بالأدوات حروف الشرط ، وأسماءه ، فإذا كان المخاطب مثلا ، يعتقد أنه إن كرر المجيء إليك مللت منه ، واستثقلته فتقول ـ نفيا لذلك : كلما جئتنى ازددت فيك حبا ، وكذا إذا كان يعتقد أن الجائى فى وقت كذا ، لا يصادف طعاما عند زيد ـ مثلا ـ قلت : متى جئت زيدا وجدت عنده طعاما ، أو يعتقد أنك لا تجالسه إلا بالمسجد ـ مثلا ـ قلت : أينما تجلس جلست معك ، أو يعتقد أنك لا تكرم إلا من كان من بنى فلان قلت : من جاءنى أكرمته ، أو أنك لا تشترى إلا الحاجة الفلانية ، ولو اشترى هو غيرها قلت : ما تشتره أشتره ، وعلى هذا

٣٢٠