مواهب الفتّاح في شرح تلخيص المفتاح - ج ١

أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن محمّدابن يعقوب المغربي

مواهب الفتّاح في شرح تلخيص المفتاح - ج ١

المؤلف:

أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن محمّدابن يعقوب المغربي


المحقق: الدكتور خليل إبراهيم خليل
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-3820-0
ISBN الدورة:
978-2-7451-3820-0

الصفحات: ٦٨٨
الجزء ١ الجزء ٢

الأجزاء ما فيه ترتيب بسبب التفاوت بالضعف والقوة إلى أن ينته إلى أقواها أو أدناها وهو المعطوف ، ففى العطف بها ترتيب وهمى بحسب استحقاق الاتصاف باعتبار القوة أو الضعف لا بحسب ما فى نفس الأمر ، فيجوز الاصطحاب فى الحكم فيه كقولك : جاءنى الآن بنو عمى حتى خالد ، ويجوز كون المعطوف قبليا كقولك : مات كل أب لى حتى آدم أو أثنائيا كقولك : مات الناس حتى الأنبياء أو تأخريا نحو قولك : مات كل أب لى حتى أبى عمرو ، وإن تأخر موته عن الجميع ، وههنا نكتة وهو أن التفصيل فى الحكم لا يخلو عن تفصيل المسند إليه إذ متى بينا تعلق الحكم على الوجه المخصوص فقد بينا كل مسند إليه بلفظ يفصله فكان الأحق على هذا أن يقول المصنف : أو لتفصيل المسند إليه والمصنف إنما لم يقل ذلك لأن الخصوصية متى وجدت فى الكلام انصرف النفى والإثبات لها غالبا ههنا لما وجدت الخصوصية التى هى كون حكم هذا قبل هذا أو بعده بمهلة أو لا ، كان الغرض تلك الخصوصية بعينها ، ولا تعتبر فى الغالب حتى يكون مطلق الاتصاف بالحكم معلوما إنما الكلام مثلا والنزاع فى أن الحكم على وجه كذا أو على وجه كذا ، ولو تسلط النفى لم يتسلط إلا عليها فإذا قال القائل : ما جاء زيد فعمرو فالنفى خصوص كون مجيء عمرو عقب مجيء زيد لا حصوله فى الجملة فلهذا لم يقل : أو لتفصيلهما نعم إذا قصدا معا على وجه الندور أتى بالعطف المذكور لتفصيلهما فتأمله والله أعلم.

(أورد السامع إلى الصواب) أى يكون العطف على المسند إليه لرد السامع عن الخطأ الواقع فى اعتقاده إلى الصواب ، والمراد بالاعتقاد هنا الظن فما فوقه ولا عبرة بالوهم فى الرد بالعطف ، وكذا الشك على ظاهر عبارة المصنف ؛ لأنه لا خطأ معه حتى يرد إلى الصواب فقصر التعيين على هذا الظاهر لا يجرى فى العطف وسيأتى إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك ، وإنما يجرى فيه قصر أفراد أو قصر قلب (نحو : جاءنى زيد لا عمرو) ردا على من زعم أن عمرا جاءك دون زيد فترده إلى الصواب ببيان أن الأمر بالعكس ، ويسمى هذا قصر قلب على ما سيجيء تحقيقه إن شاء الله تعالى ، أو ردا على من زعم أنهما جاآك معا فترده إلى الصواب ببيان انفراد زيد بالمجيء دون عمرو ، ويسمى هذا

٢٤١

قصر أفراد ، ويأتى هذا أيضا إن شاء الله تعالى هنالك ، ومما يستعمل للرد إلى الصواب من حروف العطف لكن فهى فى قصر القلب كلا إلا أنها تعاكسها فى الاستعمال فلا للنفى بعد الإثبات كما تقدم فى نحو : جاء زيد لا عمرو ولكن للإثبات بعد النفى كما جاء زيد لكن عمرو ردا على من زعم أن زيدا جاء دون عمرو ، وأما استعمالها لقصر الأفراد فلا قائل به فى الإيجاب فلا يصح أن يقال : جاء زيد لكن عمرو بمعنى أن الجائى زيد وحده دون عمرو ، ردا على من اعتقد اشتراكهما كما لا يصح فى الإثبات لقصر القلب كما تقدم من أنها تعاكس فى الاستعمال لا ، وأما فى السلب ففى كلام النحويين ما يشعر باستعمالها فيه بل باختصاصها به فيقال : ما جاء زيد لكن عمرو لمن اعتقد نفى مجيئهما معا فكأنه يقال : زيد ما جاء كما زعمت وأما عمرو فقد جاء لا كما تزعم ، (أو صرف الحكم) عن محكوم عليه (إلى) محكوم عليه (آخر) سواء حكم على الأول بالإثبات (نحو : جاءنى زيد بل عمرو) قيل لما كانت للإضراب أفادت صرف الحكم الذى هو المجيء عن زيد وأثبتته لعمرو ، ويكون زيد فى حكم المسكوت عنه محتملا للإثبات أو النفى وهذا هو المشهور وقيل يجزم بنفى الحكم عن زيد (أو) حكم عليه بالسلب (نحو : ما جاءنى زيد بل عمرو) فتفيد بل فى النفى أيضا صرف الحكم الذى هو نفى المجيء عن زيد ، وثبت ذلك النفى لعمرو ويكون زيد فى حكم المسكوت عنه ، أو محقق المجيء على سبيل ما تقدم فى الإثبات ، وهذا مذهب المبرد ، وعليه يجرى كلام المصنف ، وأما على مذهب الجمهور وهو أن مفاد : ما جاءنى زيد بل عمرو تحقيق المجيء لعمرو مع تقرر نفيه لزيد أو احتمال نفيه أو ثبوته لزيد ، فلا يصح كلام المصنف فى النفى إذ لا صرف للحكم الذى هو النفى لتقرره أو بقاء أمره مجملا مع ثبوت ضده للتابع ، وهو ظاهر اللهم إلا أن يراد بالحكم المجيء وهو تعسف ، (أو للشك) أى : يكون العطف على المسند إليه للشك من المتكلم كقولك : حصل لى عشرة أو اثنا عشر إذا شككت فى الحاصل ، (أو التشكيك للسامع) أى : ويكون لتشكيك المتكلم السامع أى إيقاعه فى شك كقولك : لمن اعتقد أن ليس له إلا الربح يأتيك الربح أو الخسارة ، فإن العادة جارية بكل ذلك ، ويكون أيضا للإبهام أى : إخفاء الواقع عن السامع من غير

٢٤٢

قصد إلى إيقاعه فى شك وشبهة بل لمجرد إخفاء الواقع لغرض قطع اللجاج ، أو لكون المخاطب لا يواجه من المتكلم أو كونه يزداد بعدا بالتصريح ، أو نحو ذلك كقوله تعالى (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(١) خبرين مستقلين وأو فيهما للتنويع فى الخبر كأن الإبهام فى أو إياكم وكأن الكلام جملتان فكأنه يقال : وإنا أو إياكم لعلى هدى وإنا أو إياكم لفى ضلال مبين ، والخبران متلازمان وإن كانت أو فى الموضعين لمعنى واحد ، وإنهما من عطف المفرد اشتمل الكلام على إبهام فى المسند إليهما والمسندين معا فكأنه يقال : أحدنا ثبت له أحد الأمرين ، وهذا أشد إبهاما والله أعلم.

وقد يكون للتخيير كقولك : لتكن لك هند أو ابنتها زوجة ، وللإباحة كقولك : ليدخل الدار زيد أو عمرو والفرق بين التخيير ، والإباحة أن الأول لا يصح معه الجمع بين المتعاطفين ، والثانى يصح معه الجمع بينهما.

فصل المسند إليه

(وأما فصله) أى الإتيان بعد المسند إليه بضمير الفصل ، وإنما جعله من أحوال المسند إليه ؛ لأنه يقترن به ويليه وهو فى اللفظ مطابق له ؛ ولأنه على القول بأن له محلا من الإعراب ، وأنه ضمير حقيقة عبارة عن المسند إليه وأما على القول بأنه صورة ضمير ، ولا محل له فلا يتجه هذا لا يقال اقترانه باللام فى نحو قولنا : إن زيدا لهو القائم يدل على أنه من حيز المسند لأنا نقول دخول اللام عليه لكونه توطئة للمسند ، لا لكونه عبارة عنه بدليل أن من أعربه أعربه مبتدأ ، أو لأنه معرفة صورة فلا يناسب الخبر الذى الأصل فيه أن يكون نكرة (فلتخصيصه بالمسند) أى تعقيب المسند إليه بضمير الفصل لتخصيصه أى المسند إليه بالمسند بمعنى جعل المسند مختصا بالمسند إليه بحيث لا يتعداه إلى مسند له آخر كقولنا : زيد هو الساعى فى حاجتك فذكر ضمير الفصل ليفيد أن المسند ، وهو الساعى مخصوص بالمسند إليه ، وهو زيد بحيث لا يتعداه إلى أن يكون غير ساعيا ، فالباء دخلت هنا على المقصور لا على المقصور عليه ، ولو كان الأصل دخولها على المقصور عليه ؛ لأن أهل العرف يدخلونها كثيرا على المقصور يقال

__________________

(١) سبأ : ٢٤.

٢٤٣

خصصتك بهذه الحاجة أى جعلتها لا تتعداك إلى غيرك ، وليس المعنى خصصتك أنت بها فلا تتعداها إلى حاجة أخرى ، ومن هذا الاستعمال قوله (إِيَّاكَ نَعْبُدُ)(١) أى : نخصك بالعبادة أى : نجعل عبادتنا لا تتعدى إلى غيرك ، لا أنك تختص بها فليس لك من الأحوال والأوصاف غيرها ، وإذا تقرر أن ما استعمله المصنف موجودا عرفا لم يرد أن العبارة مقلوبة ، وهو ظاهر والله أعلم.

ولا يذهب عنك أيضا أن هذه المباحث المذكورة فى العطف والفصل ، ولو فصلت فى النحو تذكر فى البيان باعتبار استعمالها لمناسبة الحال ، والمحافظة عليها فى مقاماتها إما لذاتها لأن المقام لا يفيد فيه غيرها أو لأغراض تترتب عليها وقد تقدم نحو هذا غير ما مرة.

تقديم المسند إليه وأغراض ذلك

(وأما تقديمه فلكون ذكره أهم) أى : يقدم المسند إليه على المسند ؛ لأن ذكر المسند إليه أهم والمراد بالتقديم هنا أن لا يحول عن مرتبته بأن ينطق به أولا لا أن له مرتبة التأخير فقدم عنها كالمفعول باعتبار الفاعل ، وكثيرا ما يطلق التقديم على المعنى الأول وهو المراد هنا ثم كون الذكر أهم لا يكفى فى علية التقديم لذاته ؛ لأن الأهمية بنفسها حكم يفتقر إلى علة توجبها إذ الأهمية فى الشيء هى الاعتناء به ، والاعتناء لا بد له من سبب فلذلك لو قيل هذا أهم من ذلك ، كان هذا القائل بصدد أن يقال له : لماذا كان أهم ، ومن أى وجه كانوا به أعنى؟ فلذلك فصل أوجه الأهمية على حسب ما رآه كافيا فى الحال فقال : (إما لأنه) أى تقديم المسند إليه (الأصل) من جهة المعنى ، وفى الخارج بمعنى أن المسند إليه المحكوم عليه من شأنه أن يكون ذاتا خارجية ، ولا يضر خروجها عن ذلك فى بعض الصور ، كالقضايا الذهنية والمحكوم به من شأنه أن يكون وصفا ، ومن شأن الذات المعروضة التقرر قبل الوصف العارض ، ولا يضر الخروج أيضا عن هذا الأصل فى بعض الصور كالأوصاف الملازمة ، وأما حمله على أن تعقل الذات المحكوم عليه سابق عن تعقل الحكم فلا يصح إذ لا يسلم تقدم المسند إليه على المسند

__________________

(١) الفاتحة : ٥.

٢٤٤

فى التعقل ، لأن تعقل الذات من حيث هى لا يجب سبقه على تعقل الوصف من حيث هو فلا يوجب ذلك تقدم أحدهما على الآخر والتعقل من حيث الحكم هما فيه سواء ؛ لأن النسبة الحكمية تتوقف عليهما معا فلا يوجب ذلك تقديم أحدهما على الآخر ، وإذا كان الأصل تقديم المسند إليه على المسند لينبه بالتقديم الذكرى على التقديم المعنوى ، فالمحافظة على ما يوافق الأصل تقتضى أهمية الذكر ، ولكن الجرى على الأصل إنما هو عند انتفاء سبب العدول ؛ لأن معنى الأصالة هنا كون الشيء متمسكا به عند انتفاء جميع العوارض كما تقدم ، ولهذا قال (ولا مقتضى للعدول عنه) أى : عن ذلك الأصل الذى هو التقديم كأن يكون المسند إليه مبتدأ كقولنا : زيد قائم ، وأما لو كان المسند إليه فاعلا لوجب تأخيره عن الفعل أو ما يجرى مجراه لوجوب تقديم العامل عن المعمول ، وكذا إذا استوجب المسند التقديم لكونه له الصدر كأين زيد ، وكيف عمرو فإن قلت أما كون المسند استفهاما ، فقد يتجه كونه مقتضيا للعدول ؛ لأن الغرض مما فيه الاستفهام نفس المستفهم عنه فما دل عليه فهو بالتقدم أحق ، وأما كونه فعلا فتعليل اقتضائه العدول بكونه عاملا تعليل باعتبار اصطلاحى لا سليقى ، فإن العرب لا يدركون أن موجب تقديم الفعل على الفاعل كونه عاملا ، والتعليل فى هذا الباب يجب أن يكون مما يعتبره البلغاء بالسليقة فإن غيرهم لا يعتبر شيئا إلا بالتبع لهم فكيف يصح جعله علة للعدول عن التقديم؟ قلت : الأمر كذلك لكن قولهم يتقدم لكونه عاملا رمز وإشارة إلى أن العرب استعملوه كذلك ونزلوه منزلة تقديم العامل الحسى على المعمول فى وجوب تقدمه عليه ، وأنهم اعتبروه كالسبب فى إيجاد ما بعده لم يرتكب إلا لأجل الفعل المقصود تسليطه عليه ونسبته له ، ولهذا يقال الإخبار فى الجملة الفعلية الأهم فيه الفعل وما بعده لم يؤت به إلا لسببه فصار السبب الذكرى عندهم كالسبب الحسى تأمل.

(وإما ليتمكن الخبر فى ذهن السامع) أى تتحقق أهمية تقديم المسند إليه ؛ لأن فى ذلك التقديم ما يوجب تمكن الخبر فى ذهن السامع لاشتمال المسند إليه على تطويل ما بحيث يوجب التشوق إلى الخبر ، والحاصل بعد الشوق ألذ وأمكن فى النفس وهذا

٢٤٥

معنى قوله : (لأن فى) تقديم (المبتدأ تشويقا إليه) أى : إلى الخبر لما معه من الوصف الموجب لذلك (كقوله) أى المعرى :

بأن أمر الإله واختلف النا

س فداع إلى ضلال وهادى (١)

(والذى حارت البرية فيه

حيوان مستحدث من جماد)

فكون المسند إليه موصوفا بحيرة البرية فيه يوجب الاشتياق إلى أن الخبر عنه ما هو وقوله : حيوان مستحدث من جماد خبر مسوق بعد التشويق إليه فيتمكن فى ذهن السامع ، والحال قد اقتضى مزيد اهتمام بتمكينه فى أذهان السامعين ، ليحترز المحترز عن الضلال فيه ، ويزداد المهتدى فيه هدى ، ولكونه أمرا عجيبا فى نفسه تفزع النفوس إلى التهمم بتصوره والإيقاف عليه والمراد باستحداث الحيوان من الجماد البعث والمعاد للأجسام الحيوانية يوم القيامة ، ويدل عليه قوله بأن أمر الإله إلخ مع ما تقدم وتأخر عنه ، وقيل المراد بالحيوان المذكور ثعبان موسى ـ على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسّلام ـ وقيل ناقة صالح ، وقيل آدم ـ عليه‌السلام ـ وقيل طائر بالهند يعيش طويلا فإذا انته أجله دخل عشا ونفخ فيه ، فتحدث فى العش أصوات مطربة فيحترق العش بنار تحدث حينئذ ، ويحترق ذلك الطائر فى العش حتى يصير رمادا ثم يخلق الله تعالى من ذلك الرماد ذلك الطائر مرة أخرى ثم إذا انته أجله فعل مثل ما فعل أولا وهلم جرا ، والاحتمالات غير الأول ضعيفة ، وحيرة البرية إما بمعنى الاضطراب والاختلاف ؛ لأن الحيرة فى الشيء يلزمها الاختلاف فى بعض الصور فيكون من إطلاق الملزوم على اللازم ، وإما بمعنى أن مذهب الهادى يحتاج فيه إلى دفع الشبه ، وكذا مذهب الضال ودفع الشبه لا يخلو غالبا من حيرة فيكون إطلاق الحيرة ، واردا على أصله فكأنه يقول : والذى وقع فيه تحير أولا ولم يقع استقرار فى أمره إلا بعد دفع الشبه حيوان فعلى هذا لا يرد أن يقال : قد استقر العالم على مذهبين فلا حيرة تأمله.

__________________

(١) البيت لأبي العلاء المعري في داليته المشهورة بسقط الزند ٢ / ١٠٠٤ ، والمفتاح ص ٩٨ ، وشرح المرشدى ١ / ٥٩.

٢٤٦

(وإما لتعجيل المسرة أو المساءة) أى : يحصل الاهتمام بتقديم المسند إليه لما فى تقديمه من تعجيل المسرة ، أو تعجيل المساءة وذلك (ل) ما فيه من (التفاؤل) فيفيد تقديمه تعجيل المسرة للسامع ، (أو) لما فيه من (التطير) فيفيد تقديمه تعجيل المساءة ، ولأجل هاتين الإفادتين كان لذكر المسند إليه المفيد لإحداهما مزيد اهتمام ، فالأول وهو ما فيه تعجيل المسرة للسامع ؛ لأجل التفاؤل (نحو : سعد فى دارك) ولا يخفى ما فى لفظ سعد من التفاؤل ، (و) الثانى وهو ما فيه تعجيل المساءة للتطير نحو : (السفاح فى دار صديقك) ولا يخفى أيضا ما فى لفظ السفاح الدال على سفح الدماء من التطير لإشعاره بالقتل والإهلاك (وإما لإيهام أنه لا يزول عن الخاطر) أى يحصل الاهتمام بتقديم المسند إليه ؛ لما فى التقديم من إيهام أنه لا يزول عن الخاطر حتى إن الذهن إذا التفت لمخبر عنه لم يجد أولى منه فهو بالنسبة إلى الخاطر كاللازم بالنسبة إلى الملزوم ، وذلك لكونه مطلوبا والمطلوب لا يفارق تصوره الذهن كقولك : العدو أولى ما يسر بقتله أو لا تغفل عن أمره ، وإنما قال : لإيهام لأن عدم زواله عن الخاطر أمر غير ممكن عادة ، وإنما الحاصل إيهام عدم الزوال ، ويدل على عدم الزوال على وجه الإيهام كون المذكور مطلوبا مرغوبا لأن المرغوب من شأنه لا يزول عن التصور (أو) إيهام (أنه يستلذ به) لكونه محبوبا كقولك ليلى أشهى ذكرا من كل كما ، ولهذا يكرر اسم الحبيب للالتذاذ بذكره ، ويخبر عنه باللذاذة فيقال : ليلى ألذ فى ذكرها من العسل ، وليس هذا تكرار مع ما قبله إذ ليس كل مطلوب محبوبا ، (وإما لنحو ذلك) أى يحصل الاهتمام بذكر المسند إليه لنحو ذلك فيجب تقديمه كتعجيل إظهار تعظيمه نحو : رجل فاضل عندنا أو تحقيره كرجل جاهل عندك ، وإنما قلنا : تعجيل ؛ لأن إظهار التعظيم والتحقير حاصل بالتأخير أيضا ، والمختص بالتقديم تعجيل الإظهار أو شبه ذلك كالاحتراز عن أن يحصل فى قلبه تخيل غير المحكوم عليه كقولنا : زيد قائم إذ لو قيل : قائم زيد فربما تخيل من أول وهلة أن المراد بالقائم غير زيد ، والغرض نفى ذلك التخيل ؛ لأنه مظنة الغفلة عن تحقيق المراد قال الشيخ (عبد القاهر) فى كتابه دلائل الإعجاز.

٢٤٧

رأى العلامة عبد القاهر الجرجاني

(وقد يقدم) المسند إليه (ليفيد) ذلك التقديم (تخصيصه) أى تخصيص المسند إليه (بالخبر الفعلى) يعنى بنفيه بمعنى إفادة أن نفى الفعل مخصوص بالمسند إليه على الوجه الذى أثبته المخاطب إن أثبته عاما أفاد النفى تخصيص المسند إليه بنفى الفعل الثابت عاما فيقتضى ثبوت ذلك الفعل للغير عاما فيثبت تخصيص المسند إليه بالسلب والغير بالإثبات على الوجه المدعى وإن أثبته خاصا ويدل على أن المراد التخصيص بالسلب قوله (إن ولى) المسند إليه (حرف النفى) أى وقع المسند إليه بعد حرف النفى بلا فصل بينهما ؛ لأن أصل الولى الاتصال وذلك (نحو : ما أنا قلت هذا) فهذا كلام مع من يعتقد أن هذا القول صدر منك فقط أو منك مع غيرك إن سلمت له ثبوت أصل القول ، وخطأته فى كون الفاعل أنت فقط إذا اعتقد التخصيص فيكون قصر قلب ، أو أنت مع المشارك إذا اعتقد المشاركة فيكون قصر أفراد فالمراد نفى الفاعل عن القائلية بالوحدة أو بالمشاركة على حسب اعتقاد المخاطب دون نفى أصل القول فتقول : ما أنا قلت هذا القول (أى : لم أقله) أنا دون غيرى إذا ادعى المخاطب الانفراد أو لم أقله مشاركا لغيرى إذا ادعى المشاركة (مع أنه مقول لغيرى) أى : لم أقله كما تزعم أيها المخاطب على الوجهين ولكنه مقول لغيرى دونى فاختصصت بالنفى ، فالأول قصر قلب والثانى قصر أفراد ، ولا يلزم من هذا ثبوته لكل من سواك بل يكفى فى اختصاص النفى عند الثبوت للغير أن يكون على حسب اعتقاد المخاطب إن اعتقد أن الغير المشارك أو المنفرد أنت عنه بالفعل معين كان الإثبات لمعين أو غير معين كان الإثبات له فقد تحقق بهذا أن الاختصاص المصرح به اختصاص بالنفى ، وفى ضمنه اختصاص الغير بالإثبات ، (ولهذا) أى : ولأن التقديم مع موالاة النفى يفيد التخصيص بمعنى نفى الحكم عن المذكور ، وثبوته للغير على وجه العموم أو الخصوص (لم يصح) أن يقال : (ما أنا قلت هذا ولا غيرى) ؛ لأن فى ضمن : ما أنا قلت هذا أن الغير قاله ليتحقق الاختصاص بالنفى والتصريح بأن الغير لم يقله ينافيه إذ لا يختص المسند إليه بالنفى حينئذ ، (ولا) صح : (ما أنا رأيت أحدا) ؛ لأن أحدا نكرة فى سياق النفى ، فهو فى قوة : ما أنا رأيت زيدا وعمرا وخالدا إلخ ، واختصاص المسند إليه بسلب الرؤية المتعلقة بجميع الأفراد يقتضى أن ثم من

٢٤٨

رأى جميع الأفراد ويثبت اختصاص المسند إليه بالسلب ؛ لأن الفعل فى هذا الباب يسلب كما أثبته المخاطب إن عاما فعام وإن خاصا فخاص ، لكن هذه المادة غير صحيحة فى نفسها ، وهو أن يكون ثم من رأى كل أحد فاستعمال هذا اللفظ لنفيها عن بعض الناس وإثباتها للبعض فاسد ، ولو قيل : ما أنا رأيت رجلا لم يصح أيضا لاقتضائه أن ثم من رأى كل رجل ولو مثل المصنف بقولنا : ما أنا رأيت كل أحد كان أصرح ؛ لأن الصيغة الأولى فى إفادتها هذا المعنى نوع خفاء حتى وقع فيها الغلط لكثير من الناس ، وذلك ؛ لأنهم سووا بين ما تقدم فيه المسند إليه على حرف السلب وما تأخر وجعلوا قول القائل : أنا ما رأيت أحدا كقوله : ما أنا رأيت أحدا وليس كذلك بل الأول خطاب مع من اعتقد أن غيرك فقط ما رأى أحدا وقصدت الرد عليه باختصاصك بأنك لم تر ولو واحدا ، ويتحقق ذلك بأن الغير دونك رأى ولو واحدا والثانى خطاب مع من اعتقد أنك فقط رأيت كل أحد فسلمت له أصل الفعل وخطأته فى الفاعل ، وبينت أنه غيرك بمعنى أن الذى رأى كل أحد غيرك هذا فى قصر القلب فيهما ، ومثله يجيء فى قصر الأفراد فيهما ، ووجه إفادة ما أنا رأيت أحدا ما ذكر أنه فى قوة : ما أنا رأيت زيدا ولا عمرا ولا خالدا ولا بكرا إلى آخرها كما تقدم ، وبهذا يعلم أن صيغة النفى لا يجب أن يتسلط النفى فيها على صيغة الإثبات ، وقد تبين الفرق بين العبارتين ، وأن مفاد الأولى وهى ما تأخر فيها السلب الاختصاص بالسلب العام ، ويكفى فى ذلك الاختصاص الثبوت فى الجملة للغير ، وأن مفاد الثانية الاختصاص بالسلب المتعلق بالثبوت العام أو الخاص ولا يكفى فيه إلا بثبوت ذلك العام بعمومه أو ذلك الخاص بخصوصه لغير المختص بالنفى والشاهد على الفرق استعمال البلغاء هكذا حرر هذا المحل ، والحق أن إفادة الاختصاص بالسلب المتعلق بالإثبات العام إنما يتبادر بحكاية صيغة الإثبات كأن يقال : ما أنا رأيت كل أحد وأما ما رأيت أحدا فإفادته ما ذكر بعيد عن الطبع ولو تؤول بما ذكر ؛ لأن القضية فيه من باب الكلية ، ويكفى فى نقضها الموجب للاختصاص بالسلب ثبوت جزئية بأن يرى الغير البعض ، نعم لو تعلقت الرؤية بالكل المجموعى لم ينقض نفيها المختص إلا ثبوت المجموع لصيرورته كالفرد الواحد فتأمل.

٢٤٩

(ولا) صح أيضا : (ما أنا ضربت إلا زيدا) لأن الاستثناء يقتضى أن قبله مقدرا عاما فيكون معنى الكلام : ما أنا رأيت أحدا إلا زيدا وهو فى قوة : ما أنا رأيت عمرا ولا خالدا إلى آخر الأفراد ما سوى زيد ، وقد تقدم أن النفى فى هذا الباب يتسلط على المثبت المسلم للمخاطب ثبوته للغير ، وإنما خطأ فى ثبوته للمسند إليه على الوجه الذى أثبته من عموم وخصوص ، فالمثبت على هذا التقدير هو : رأيت كل أحد إلا زيدا وعليه تسلط النفى ، وهذا المعنى فاسد فى نفسه على وجه الحصر ؛ لأن المعنى حينئذ أنا اختصصت بسلب الرؤية المتعلقة بكل أحد إلا زيدا ، وغيرى اختص بثبوت رؤية كل أحد إلا زيدا لا كما زعمت من أنها لى ؛ لأن الفعل هنا مسلم عموما أو خصوصا ، وإنما نفى الفاعل عن الاتصاف به فقط ولهذا لو قيل : ما أنا قرأت سورة إلا الفاتحة صح ؛ لأن غايته أن ثم من قرأ كل سورة إلا الفاتحة ، وهو صحيح فليتأمل.

(وألا) يلى المسند إليه المقدم على الفعل حرف نفى وهو صادق بأن لا يكون فى الكلام حرف نفى أصلا أو يكون ولكنه متأخر عن المسند إليه (فقد يأتى) تقديم المسند إليه على الفعل الذى هو المسند (للتخصيص) أى لتخصيص مضمون الفعل بالمسند إليه ؛ (ردا على من زعم انفراد غيره) أى غير المسند إليه (به) أى بمضمون ذلك الخبر الفعلى (أو) ردا على من زعم (مشاركته) أى مشاركة الغير للمسند إليه (فيه) أى فى مضمون الخبر الفعلى ، ويسمى الرد على الأول بذلك التخصيص قصر قلب كما تقدم وسيأتى أيضا ـ إن شاء الله تعالى ـ ويسمى الرد على الثانى به قصر أفراد ، وذلك (نحو : أنا سعيت فى حاجتك) بمعنى أنا اختصصت بالسعى فى حاجتك فإن كان خطابا مع من زعم أن الغير هو الساعى دونك كان قصر قلب وإن كان خطابا مع من زعم أن الغير مشارك لك فى السعى كان قصر أفراد (ويؤكد على) التقدير (الأول) وهو أن يكون الكلام للرد على من زعم انفراد الغير بالسعى دونك (بنحو : لا غيرى) ، ولا سواى ولا زيد ولا عمرو ، ولا من تزعم ونحو ذلك ؛ لأنه دال بالمطابقة على نفى الحكم عن الغير الذى جعل مستقلا به دونك ، والدلالة على نفى المعتقد بالمطابقة أنفى للشبهة وأدفع للظن الفاسد المخالج للقلب ، (و) يؤكد (على) التقدير (الثانى) وهو أن يكون

٢٥٠

الخطاب للرد على من زعم مشاركة الغير للمسند إليه فى الحكم (بنحو : وحدى) ومنفردا وغير مشارك ، وليس معى غيرى ونحو ذلك ؛ لأن الانفراد المدلول لما ذكر ينفى الاشتراك المتوهم إذ لا واسطة بينهما ، وما يقتضى نفى المشاركة باللزوم البين أنسب فى الاستعمال لأن الغرض نفى الشبهة المخالجة أى المخالجة لقلب السامع ، وما هو فى دفعها أصرح كالانفراد أولى بالتأكيد به بخلاف ما لو قيل فى الأول وحدى ، وفى الثانى لا غيرى ولو كان ذلك يفيد ما ذكر فليس كما ذكر فى الصراحة ، (وقد يأتى) تقديمه (لتقوى الحكم) هو مقابل قوله فقد يأتى للتخصيص ومعنى تقوى الحكم تقرير نسبة الفعل الذى هو الخبر فى ذهن السامع ، وتحقيقها فيه دفعا لتوهم كون النسبة مظنة النفى وكونها مما يرمى بها من غير تحقق ، ولا يلزم من هذا التقوى وجود التخصيص إذ ليس فى تحقق النسبة على الوجه المذكور ما يقتضى انتفاءها عن غير المسند إليه ، وذلك (نحو) قول القائل : (هو يعطى الجزيل) بمعنى أن إعطاء الجزيل أمر محقق من المسند إليه ، وإنما أفاد مزيد التقرر ؛ لأن المبتدأ طالب للخبر ، فإذا ذكر الفعل بعده صرفه لنفسه فيثبت له ثم الخبر لما كان فعلا ينصرف لضميره المتضمن له وهو عائد على المبتدأ فيثبت له مرة أخرى فصار الكلام بمثابة أن يقال : يعطى زيد الجزيل يعطى زيد الجزيل هذا إذا كان الفعل مثبتا (وكذا إذا كان الفعل منفيا) بحرف مؤخر عن المسند إليه فقد يأتى أيضا التقديم للتخصيص ، وقد يأتى للتقوى فتقديم التخصيص نحو : أنت ما سعيت فى حاجتى إذا قصد المتكلم تخصيص المخاطب بعدم السعى فى حاجته وأن غيره هو الساعى فى حاجته ، وتقديم التقوى (نحو : أنت لا تكذب) حيث لا يقصد المتكلم تخصيص المخاطب بنفى الكذب بمعنى إن غيره هو الكاذب دونه بل قصد تقرير الحكم وتحقيقه لما فيه من الاشتمال على الإسناد مرتين على ما تقدم (فإنه) حيث يقصد التقوى دون التخصيص (أشد لنفى الكذب) عن توهم السامع (من) قول القائل (لا تكذب) يا زيد لأن الأول قد اشتمل على الإسناد مرتين أحدهما إلى المبتدأ والآخر إلى الفاعل على ما تقدم ، بخلاف الثانى فلم يشتمل إلا على إسناد واحد ، وهذا المثال ولو كان صالحا للاختصاص لكن الغرض منه هو التقوى ليتفرع عليه بيان الفرق بين التأكيد للنسبة

٢٥١

والتأكيد للمحكوم عليه كما أشار إلى ذلك بقوله (وكذا) أى : وكما أن أنت لا تكذب أشد لنفى الكذب من لا تكذب ، فهو أيضا أشد لنفى الكذب (من) قول القائل (لا تكذب أنت) وإنما كان أشد منه مع أن فيه التأكيد فى الجملة (لأنه) أى : لأن مفيد التأكيد ، وهو لفظ أنت من لا تكذب أنت إنما سيق (لتأكيد المحكوم عليه) ، وتقريره حتى لا يتوهم أنه غير ضمير المخاطب ، وأنه أسند الحكم للضمير تجوزا أو سهوا أو نسيانا (لا) لتأكيد (الحكم) لعدم اشتماله على تكرر الإسناد على الوجه السابق وإنما فيه تقرير المسند إليه لئلا يتوهم أن المحكوم عليه غيره ، وليس فيه التعرض للنسبة التى هى الحكم إلا مرة واحدة وقد فهم من بيان علة التقوى أن التخصيص لا يخلو عن التقوى ؛ لأنه مشتمل على الإسناد مرتين لكن فرق بين أن يكون الشيء مقصودا بالذات ، وأن يكون حاصلا بالتبع وهذا التفصيل وهو أن ما لم يتقدم فيه حرف النفى على المسند إليه تارة يفيد التقديم فيه التخصيص ، وتارة يفيد التقوى بحسب قصد المتكلم إنما هو إذا بنى الفعل على معرف مضمرا كان ، أو مظهرا (وإن بنى) الفعل (على منكر) أى : أخبر به عن منكر (أفاد) التقديم حينئذ (تخصيص الجنس) بالخبر الفعلى دون الجنس المقابل لجنس المسند إليه (أو) أفاد تخصيص (الواحد) من ذلك الجنس (به) أى : بالخبر الفعلى دون اثنين أو ثلاثة من ذلك الجنس ، وذلك (نحو رجل جاءنى أى : لا امرأة) حيث يقصد المتكلم أن الجائى من جنس الرجال لا من جنس النساء ، فيكون من تخصيص الجنس (أو) نحو رجل جاءنى (لا رجلان) حيث يقصد أن الجائى واحد من جنس الرجال لا اثنان منه ، فيكون من تخصيص الوحدة ، وإنما صح التخصيصان فيما فيه البناء على منكر ؛ لأن اسم الجنس مشعر بمعنيين عند استعماله فى الماصدقات سواء قلنا إنه موضوع للحقيقة ، أو لفرد مبهم منها الجنسية ، والعدد فإن كان مفردا ففيه الجنسية والوحدة ، أو مثنى ففيه الاثنينية والجنس ، أو جمعا ففيه الجمعية والجنس ، فإذا حكم عليه على وجه تخصيص الفعل به فقد ينصرف التخصيص إلى الجنسية فيكون ما انتفى عنه الفعل هى الجنسية المقابلة للمحكوم عليها فيقال فى المفرد رجل جاءنى أى : لا امرأة ، وفى المثنى رجلان جاآنى أى : لا امرأتان ، وفى جمع رجال جاءونى أى : لا نساء إذا كان

٢٥٢

اعتقاد المخاطب أن الجائى من جنس المرأة فقط ، فيكون التخصيص قصر قلب ، أو هو مع جنس الرجل ، فيكون قصر إفراد وقد ينصرف إلى العدد فيقال فى المفرد رجل جاءنى أى : لا اثنان أو رجلان جاآنى أى : لا واحد ولا جماعة أو رجال جاءونى أى : لا واحد ولا اثنان إذا كان اعتقاد المخاطب عددية مخصوصة دون غيرها ، والواقع بخلافه ويجرى فيه قصر القلب والإفراد على حسب الاعتقاد ، كما تقدم إلا أن ظاهر عبارة المصنف أن الفعل متى بنى على منكر تعين فيه التخصيص ، والذى يشعر به كما قيل كلام الشيخ فى دلائل الإعجاز صحة جريان التقوى فيه كالمعرفة وقد علم من هذا التقرير أن العبارة الشاملة للمراد أن يقال بدل الواحد العدد ، وقيدنا بقولنا عند استعماله فى الماصدقات ؛ لأن إفادة المنكر للعدد عند ذلك الاستعمال وأما عند الاستعمال فى الحقيقة بناء على وضع المنكر لها فلا يتصور تخصيص العدد ، فإن قلت متى استعمل فى الماصدقات لم يخل عن إفادة العدد ، فمتى قوبل بمستعمل فى المصدوق لقضاء حق القصر يفيد القصر باعتبار العدد وظاهر العبارة أن الحصر أعنى الجنسى والعددى يفترقان قلت : فرق بين أن يكون الشيء مقصودا ، وبين أن يكون موجودا ، فالقصر الجنسى ، ولو كان لا يخلو عن العددى بذلك الاستعمال لكن المقصود بالذات الإشعار بالتخصيص الجنسى للرد على المخاطب والتخصيص العددى موجود غير مقصود بالذات ، وكذا العكس ، وقد تقدم مثل هذا فليتأمل.

موافقة السكاكي لرأى عبد القاهر

(ووافقه) أى : الشيخ عبد القاهر (السكاكى على ذلك) أى : على أن التقديم يفيد الاختصاص ، لكن خالفه فى معنى التخصيص ، وفى جواز التقوى ، فإن الشيخ عبد القاهر معنى التخصيص عنده هو تقديم حرف النفى من غير تفرقة بين معرف ومنكر ، ولا بين مظهر ولا مضمر وغير ما تقدم فيه حرف النفى يجوز فيه التقوى والتخصيص ، والسكاكى معنى التخصيص عنده هو كون المسند إليه يجوز تأخيره على أنه فاعل معنى مع تقدير أنه قدم عن تأخير مع شرط أن لا يمنع من التخصيص مانع استعمالى ، أو عقلى إن كان المسند إليه منكرا ، وأما غيره فلا يستعمل مقدما إلا حيث

٢٥٣

لا يمنع من التخصيص فإذا انتفى هذا الوجه وجب التقوى ، فليس عنده ما يجوز فيه إرادة التقوى والتخصيص فقد تبين بهذا أن الشيخ حاصل مذهبه التفصيل إلى ما يجب فيه التخصيص ، وإلى ما يجوز فيه التقوى والتخصيص وشرط فى الأول تقديم النفى فقط ، والسكاكى حاصل مذهبه التفصيل إلى ما يجب فيه التخصيص ، وإلى ما يجب فيه التقوى ، وشرط فى الأول كون المسند إليه فاعلا معنى فقدر التقديم عن تأخير ، مع كون النكرة بلا مانع فالسكاكى خالف الشيخ فى التفصيل وفى شروط تحقيق طرفى ذلك التفصيل ، وإلى هذا أشار بقوله (إلا أنه قال) أى : السكاكى (التقديم) للمسند إليه عن الخبر الفعلى (يفيد الاختصاص) أى : اختصاص المسند إليه بذلك الخبر الفعلى (إن جاز تقدير كونه) أى : المسند إليه (فى الأصل مؤخرا على أنه فاعل معنى فقط) لا لفظا بمعنى أنه إذا قدر مؤخرا لا يكون فاعلا فى الاصطلاح ؛ بل تأكيد كما إذا كان ضميرا منفصلا ، والفعل متصل بمرادفه فهو فاعل من جهة المعنى ؛ لأن مدلوله هو مدلول مرادفه وذلك (نحو أنا قمت) فإنه يجوز أن يقدر أن أصله قمت أنا ، وعليه يكون أنا فاعلا من جهة المعنى ؛ لأنه مرادف للفاعل وهو التاء لكنه فى الاصطلاح توكيد لا فاعل ، والسر فى إفادة هذا التقديم للاختصاص أن تأخير الضمير فى نحو هذا الكلام مصحح للعطف ، والعطف يقتضى المشاركة والتقديم ينفى صحة المشاركة التى تحصل بالعطف ونفى المشاركة تخصيص ، ولا يخفى أن هذه ملحة تحسينية لا تحقيقية فإن المنفى بالتخصيص هو الاشتراك فى الاعتقاد ، أو هو الانفراد بالحكم فى الاعتقاد لا الاشتراك الذى يوجبه العطف ، وإلا اختص القصر بالإفراد تأمله.

(وقدر) معطوف على قوله جاز بمعنى أن إفادة التخصيص تتوقف على شيئين : أحدهما : جواز تقديره مؤخرا على أنه فاعل معنى ، والآخر : حصول ذلك التقدير من المتكلم ، ومتى لم يجز التقدير أو جاز وغفل المتكلم عن التقدير لم يفد التخصيص ، بل يفيد التقوى ، وإلى هذا أشار بقوله (وإلا) يجوز تقديره مؤخرا على أنه فاعل معنى ، أو جاز ولم يحصل ذلك التقدير قصدا أو غفلة (فلا يفيد) التقديم حينئذ (إلا تقوى الحكم) كما مر من اشتماله على الإسناد مرتين ، فالتقوى متى انتفى أحد الأمرين متعين (سواء

٢٥٤

جاز) تقدير التأخير على أنه فاعل معنى (كما مر) فى نحو : أنا قمت (إلا أنه لم يقدر) ذلك التأخير (أو لم يجز) تقدير التأخير على أنه فاعل أصلا (نحو زيد قام) فإنه لا يجوز أن يقدر أن أصله قام زيد ، وسنبين ذلك ، ثم إن مقتضى هذا الكلام أن نحو رجل جاءنى لا يفيد التخصيص ؛ لأن السبب عند السكاكى على هذا ، هو تقدير التقديم عن الفاعلية المعنوية ، ورجل فى رجل جاءنى لو قدر تأخيره جاء فاعلا لفظا مع أنه لا يسلم جواز تقدير تأخيره أصلا كما فى زيد قام ، فحاول السكاكى حيث اقتضى الاستعمال عنده كون المنكر مفيدا للتخصيص إلا لمانع واقتضى التعليل كونه لغير تخصيص جعله منخرطا فى سلك الفاعل المعنوى بتمحل ، وإلى هذا أشار المصنف بقوله (واستثنى المنكر) أى : أخرج المبتدأ النكرة الذى أسند إليه الفعل عن حكم ما لو أخر كان فاعلا لفظا ؛ لأن الحكم فيه وجوب تحقق التقوى فقط ، والحكم فى المنكر وجوب تحقق التخصيص بالتقديم (ف) لذلك (جعله) أى : المنكر المسند إليه فعل (من باب) ما يعرب مؤخرا على أنه فاعل معنى فقط لا لفظا أيضا ليتحقق الفرق بينه وبين ما يفيد التقوى ، وذلك كقوله تعالى ((وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا)) (١) فإن فيه أعاريب فقيل الذين ظلموا مبتدأ ، وأسروا النجوى خبر ، وقيل فاعل أسروا ، والواو علامة الجمعية ، فالذين ظلموا على هذا فاعل لفظا ، وقيل بدل من الضمير موضحا له ، فيكون على هذا القول فاعلا معنى لا لفظا ، وعلى إعراب هذا القول الأخير يقع إلحاق المنكر به على أنه فاعل معنى فقط ، وهذا معنى قوله أى : على القول (بالإبدال) أى : إبدال الذين ظلموا (من الضمير) فى وأسروا وإنما جعل المبتدأ النكرة الذى أسند إليه فعل من باب وأسروا النجوى الذين ظلموا على القول بإبدال الذين ظلموا من الضمير (لئلا ينتفى التخصيص) عن الكلام الذى ابتدئ فيه بالنكرة مخبرا عنها بفعل ؛ لأنه لو لم يكن كذلك انتفى عنه التخصيص (إذ لا سبب له) أى : للتخصيص (سواه) أى : سوى تقدير التقديم عن تأخير كان فيه فاعلا معنى لا لفظا ، لكن التخصيص لا بد منه فتجب مراعاة موجبه الذى هو تقدير التقديم المذكور ؛ لأنه لا وجه للابتداء بالنكرة فى نحو ذلك

__________________

(١) الأنبياء : ٣.

٢٥٥

التركيب إلا ذلك التخصيص المتوقف على تقدير كونه مؤخرا على أنه فاعل معنى (بخلاف المعرف) المخبر عنه بالفعل ؛ فإنه يجوز وقوعه مبتدأ من غير رعاية التخصيص المتوقف على ذلك الوجه البعيد الذى هو تقدير كونه مؤخرا على أنه فاعل معنى بإجرائه على طريق وأسروا النجوى الذين ظلموا كما تقدم ، فلزم رعاية ذلك الوجه البعيد فى المنكر ؛ ليصح الابتداء به دون المعرف لصحة الابتداء به دون ذلك ، ومعنى جعل المنكر من هذا الباب أن قول القائل رجل جاءنى مثلا يقدر فيه أن الأصل جاءنى رجل على أن رجلا فاعل معنى بجعله بدلا من الضمير المقدر استتاره فى جاء كما أن الذين ظلموا على ذلك القول بدل من الضمير فى أسروا ، وهو فاعل معنى لكونه بدلا من الفاعل الحقيقى ثم يجب أن يعلم أن مراده أن هذا التركيب أعنى رجل جاءنى بعد وجوده على هيئته يقدر أن الأصل فيه كون رجل مؤخرا على أنه فاعل معنى كما تقدر المستحيلات لا أنه يقع مؤخرا على أنه فاعل معنى فقط إذ لا قائل بأن رجلا فى نحو جاءنى رجل فاعل معنى والإلزام إبراز الضمير فى نحو رجلان جاءا ، ورجال جاءوا عند التأخير بأن يقال جاآنى رجلان ، وجاءونى رجال ، ولا قائل بوجوب الإبراز إلا على لغة أكلونى البراغيث ، وهذا التقدير ولو انتفى به ما يتوهم من جواز وقوع تأخيره على أنه فاعل معنى فقط لكن يرد عليه أن التخصيص إن كان يستفاد بتقدير المحال الذى لا يوجد أصلا فلا مانع من اعتباره فى المعرف عند عروض مقام إرادة التخصيص ، والتفريق بين المنكر والمعرف بأن المنكر يفتقر فى الابتداء به إلى هذا التقدير المفيد للتخصيص لا يوجب منع التقدير فى المعرف ؛ لأن المحوج فى الحقيقة إلى ذلك التقدير فى المنكر إنما هو كون المقام مقام الابتداء المفيد للتخصيص ، والمعرف ، والمنكر فيه سواء فليتأمل.

ثم لما اقتضى جعل المنكر عند الابتداء به منخرطا فى سلك ما يكون مقدما عن الفاعلية المعنوية كون كل منكر مخبر عنه بالفعل للتخصيص ، وعند السكاكى أن بعض الجزئيات منه خارجة عن ذلك لمانع أشار إلى تقييد السكاكى بنفى المانع بقوله (ثم قال) أى : السكاكى (وشرطه) أى : وشرط كون المنكر المسند إليه الفعل مقدر التقديم عن

٢٥٦

التأخير الذى يكون على أنه فاعل معنى لإفادة التخصيص (أن لا يمنع من التخصيص مانع) من معنى الكلام فى مقام استعماله مثلا وإلا لم يرتكب فيه ذلك الوجه البعيد ؛ لأن الموجب له قصد التخصيص المصحح للابتداء على ما سنقرر فيه من البحث ، وذلك (كقولك رجل جاءنى على ما مر) من أنه يجوز أن يكون لتخصيص الجنس فيكون معناه رجل جاءنى لا امرأة أو الإفراد فيكون معناه رجل جاءنى لا رجلان مثلا ، فهذا المثال ونحوه لا مانع فيه من التخصيص (دون قولهم شر أهر ذا ناب) فإن فيه مانعا من التخصيص (أما) المانع من التخصيص (على التقدير الأول) وهو إرادة تخصيص الجنس (ف) لانتفاء فائدته للعلم به من كل عاقل فلا يرده أحد (لامتناع أن يراد المهر) أى : الحامل للكلب ، وهو ذو الناب على الهرير (شر لا خير) إذ من المعلوم أنه لا يهره إلا الشر دون الخير ، والحصر لا يكون إلا فيما يمكن فيه الإنكار دون المعلوم لكل أحد ، وفيه نظر ؛ لأن التخصيص قد يكون فى المنزل منزلة المجهول ، وقد يكون لمجرد التأكيد (وأما) المانع (على) التقدير (الثانى ف) مقام استعماله إذ لا يستعمل هذا الكلام فى مقام تخصيص الوحدة (لنبوه) أى : لارتفاع تخصيص الوحدة وبعده (عن مظان استعماله) أى : عن مواضع استعمال هذا الكلام ، فإنه لو استعمل فيه كان معناه المهر شر واحد لا شران ، فيكون كلاما مقتضيا للتراخى فى اتخاذ الحذر من مهر الكلب ، حيث كان شرا واحدا لا شرين ، وهذا الكلام أصله أن يستعمل للأخذ بالحزم فى الحذر والتهيؤ للتحافظ فلا يستعمل فى معنى شر لا شرين ، ولو كان هذا المعنى مما يمكن أن يجهل لكن ليس مما يمكن أن يقصد ؛ لأن الغرض جنس الشر الصادق بالقليل والكثير لا إفراده وإلا كان ذكر الفرد الواحد مفترا عن الحذر ، كما ذكرنا ، وهو ظاهر هذا إذا أريد هريرة مخصوصة ، وهى هريرة تكون عند رؤية الكلب ما يعاديه على قرب ساحة أربابه وتكون مقدمة لنباحه ، وأما إذا أريد الهريرة التى هى صوته لبرد أصابه ، وإذاية نالته عند عجزه عن دفاعهما ، كما قيل إن ذلك معناها لغة ، فالعلم بأنها شر باعتبار الكلب أمر ضرورى ، فيكون المانع حينئذ كما تقدم فى الوجه الأول وقد تقدم ما فيه ، وعلى كلا الاحتمالين فهو كلام يضرب مثلا لوجود دليل الشر.

٢٥٧

ثم قال السكاكى (وإذ قد صرح الأئمة) أى : ولأجل أن أئمة البيان صرحوا (بتخصيصه) أى : بإفادته التخصيص (حيث تأولوه) أى : بينوا مفاده (ب) قولهم إن معناه (ما أهر ذا ناب إلا شر) فلا بد من إبداء وجه يقع به الجمع بين حكمنا بامتناع تخصيص الجنس ، والفرد فيه ، وحكمهم بوجود التخصيص بالتأويل السابق (والوجه) فى ذلك (تفظيع شأن الشر) أى : جعل شأن الشر مدلولا على فظاعته وشناعته (بتنكيره) ؛ لأن التنكير يفيد التعظيم ، والتهويل ، فإذا كان المراد وصف الشر بالعظمة كان التقدير شر عظيم أهر ذا ناب لا شر حقير ، فيكون فى هذا الكلام التخصيص النوعى المستفاد من الوجه المصحح للابتداء من غير حاجة إلى تكلف تقدير التقديم ، والمانع إنما كان من تخصيص الجنس ، والفرد اللذين لا سبيل إليهما إلا بتقدير التقديم ، ولا يخفى ما فى هذا الكلام من التحكم فى التزام تقدير التقديم فيهما دون النوعى فإن اعتبار تقدير الوصف ليتحقق جواز الابتداء مع التخصيص الوصفى هو المغنى عن تقدير التقديم فى النوعى دونهما ، فتجويز الابتداء يمكن بتقدير الوصف أو الموصوف فيهما أيضا بأن يكون المعنى فى الإفراد مثلا رجل واحد جاءنى وفى الجنس مثلا واحد من جنس الرجال جاءنى وسيأتى ما يستلزم هذا المعنى فى كلام المصنف ومع ذلك فلا يفيد ما ذكر توفيقا بين كلام السكاكى ، والأئمة ، فإن حاصل كلامه بيان تخصيص يسوغ به الابتداء ، وعلى تقدير وجود معنى الحصر فيه فمن مفهوم الوصف الذى يكون مع التقديم والتأخير أيضا وكلام الأئمة صريح فى أن تخصيصه تخصيص التقديم المطابق للحصر بما وإلا كما ذكر السكاكى حكاية عنهم فتأمل.

(وفيه) أى : وفيما ذهب إليه السكاكى (نظر إذ الفاعل اللفظى والمعنوى سواء) أى : متساويان (فى امتناع التقديم ما بقيا على حالهما) فإن الفاعل المعنوى هو ما يكون تأكيدا ، أو بدلا عند التأخير ، فيكون تابعا والتابع مادام تابعا كالفاعل مادام فاعلا ، بل امتناع التابع مادام تابعا أولى ؛ لأن المراد بالتقديم هنا التقديم على العامل وتقديم الفاعل إنما فيه التقديم على العامل فقط وتقديم التابع فيه التقديم على المتبوع ، وعلى العامل فى المتبوع الذى هو فى الحقيقة عامل فى التابع فإن غيره كان مجازا كما يشعر به قوله قد

٢٥٨

المستعملة للتقليل غالبا ، ويحتمل أن يريد أنه حقيقة فى التخصيص حيث ورد ، وأما ما يشعر به قد من عدم اللزوم ، فهو عائد إلى التقديم لا إلى إفادة الاختصاص معناه أنه قد يقدم ، وقد لا يقدم وإذا قدم كان تقديمه مفيدا للاختصاص أبدا لا مجازا ، وهذا أظهر ويشهد له ما سيأتى ، وقوله إن ظاهر كلام الشيخ أن المعرف المثبت هو وخبره قد يفيد الاختصاص ، وقد يفيد التقوية صحيح ، ثم يحتمل أن يريد أن ذلك يستعمل تارة للاختصاص ، وأخرى للتقوية مطلقا ، ويحتمل وهو ظاهر كلامه أنه إن قصد الرد على من زعم انفراد غيره أو مشاركته كان للاختصاص جزما وإلا كان للتقوية جزما ، وقوله إن ظاهر كلام عبد القاهر فى المعرفة المثبت إذا كان خبره منفيا أنه قد يفيد الاختصاص فيه نظر ؛ لأن الشيخ قال فى المثبت هو وخبره أنه قد يفيد الاختصاص ، وقد يفيد التقوية ، ثم قال وكذا إذا كان الفعل منفيا مثل أنت لا تكذب فإنه أشد لنفى الكذب من قولك لا تكذب ومن قولك لا تكذب أنت ؛ لأنه لتأكيد المحكوم عليه لا الحكم ، وعليه قوله تعالى (وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ)(١) اه فهو كالصريح فى أن قوله وكذا الخبر المنفى يعود إلى أنه يقدم للتقوية ، لا أنه يكون كالمثبت ، فتارة للاختصاص ، وتارة للتقوية وإن كان الذى يظهر من جهة المعنى أنه لا فرق ، وأما ما نقله المصنف عن السكاكى ففيه أيضا نظر فإن السكاكى لا ينفى الاختصاص عن نحو زيد قام بل يبعده ويقول الغالب عليه إرادة التقوية فقط والطيى تبع المصنف فنقل عن السكاكى أن هذا لا يحتمل التخصيص أصلا ذكره فى سورة الرعد ، وكذلك فى جانب النفى أطلق أنه إذا ولى المسند إليه حرف النفى أفاد التخصيص ، ولم يفرق بين معرفة ، ونكرة ولا بين مضمر ، ومظهر وإن كان إنما مثل بالمضمر كما فعل الجرجانى غير أن الفرق الذى فرق به بين الظاهر والمضمر ، والمعرفة والنكرة يقتضى هذا الفرق فلذلك تكلم المصنف معه فأورد عليه أن الفاعل اللفظى والمعنوى سواء فى امتناع التقديم كما يمتنع زيد قام على أن يكون زيد فاعلا يمتنع أنا قمت على أن يكون أنا تأكيدا فكلاهما ماداما فاعلا وتأكيدا ممتنع التقديم فإن خرجا من ذلك جاز تقديم كل منهما ، فتجويز

__________________

(١) المؤمنون : ٥٩.

٢٥٩

تقديم أحدهما دون الآخر ترجيح من غير مرجح (قلت) للسكاكى أن يفرق بأن الفاعل المعنوى إذا قدم لا يبقى الفعل بلا فاعل ، ولا يتغير عن حاله بخلاف زيد قام إذا قدم بقى الفعل بلا فاعل فاحتاج إلى ضمير مفسوخ التابعية بأن يصير مبتدأ ، فتجويز الفسخ فيه دون تجويزه فى الفاعل بأن يكون هو حال التقديم مبتدأ لا تابعا ، كما كان حال التأخير تحكم أيضا إذ لا مانع من أن يدعى أن أصل زيد قام قام زيد ، فقدم فصار مبتدأ كما قيل فى سحق عمامة إن أصل سحق النعتية ، فقدم فصار مضافا مبتدأ أو غيره وإنما قلنا بالأولوية فى المنع فى التابع ؛ لأن ثبوت انتقاد الإجماع على منع تقديم التابع غير المعطوف محقق ، ولم يحقق ثبوته فى الفاعل ؛ لأن الكوفيين صرحوا بجوازه ، كذا قيل لكن يجب تقييده بتقدم التابع حتى على عامل المتبوع ، وأما بدون التقديم على العامل ؛ بل على المتبوع فقط ، فقد حكى فى البدل والتأكيد كما وقع فى العطف ضرورة فتدبره ..

ومن اقتصر لترجيح المنع فى تقديم الفاعل على المنع فى تقديم التابع بأن التقديم فى الفاعل عن الفعل ملزوم لخلو الفعل حالة التقديم عن الضمير ، وهو محال بخلاف التابع فليس فى تقديمه الخلو عما يستحيل الخلو عنه كما فى تقديم الفاعل لا عبرة باعتباره المحض ، وتقديره المفروض ؛ لأن الاعتبارات الوهمية المحضة لا تجرى فى الأحكام العربية المبنية على القواعد الاستقرائية اللفظية دون الاعتبارات الوهمية فيدعى أن امتناع خلو الفعل عن الفاعل إنما هو عند التركيب اللفظى ، والخلو فى هذه الحالة غير لازم لا عند التقدير الوهمى ، فإنه لا يناسب الأحكام على أنا لا نسلم الخلو لحظة ما ؛ بل فى لحظة التحويل يحصل وجود الضمير كما فى لحظة وجود الممكن عند انتفاء عدمه إن كنا نتنزل لهذه الاعتبارات ، فلا يعرج على مثل هذا المقال (ثم لا نسلم انتفاء التخصيص) الموقوف على جواز الابتداء عند السكاكى فى نحو رجل جاءنى (لو لا تقدير التقديم) عن رتبة الفاعلية المعنوية حتى يرتكب ذلك الوجه البعيد فى الابتداء بالنكرة ، وإنما نسلمه (لحصوله) أى : حصول التخصيص (بغيره) أى : بغير تقدير التقديم عن الفاعلية المعنوية (كما ذكره) السكاكى فى بيان وجه الخصوص فى قولهم شر أهر ذا ناب من التهويل والتفظيع ، ومثله التحقير والتكثير والتقليل ، فإذا كان التخصيص يحصل

٢٦٠